التفسير المنير - ج ٧

الدكتور وهبة الزحيلي

روى البخاري والنسائي عن جابر بن عبد الله قال : لما نزلت هذه الآية : (قُلْ : هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ) قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أعوذ بوجهك». (أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ) قال : «أعوذ بوجهك». (أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ) قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «هذه أهون ـ أو : أيسر».

وإنما كان التفريق والاقتتال أهون ؛ لأن ما قبله أشد وهو عذاب الاستئصال.

وروى الإمام أحمد عن أبي بصرة الغفاري صاحب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «سألت ربي عزوجل أربعا ، فأعطاني ثلاثا ومنعني واحدة ، سألت الله أن لا يجمع أمتي على ضلالة فأعطانيها ، وسألت الله أن لا يظهر عليهم عدوا من غيرهم فأعطانيها ، وسألت الله أن لا يهلكهم بالسنين كما أهلك الأمم قبلهم فأعطانيها ، وسألت الله عزوجل أن لا يلبسهم شيعا ، وأن لا يذيق بعضهم بأس بعض ، فمنعنيها».

ويؤيده ـ مع بعض الفارق ـ ما رواه الحافظ أبو بكر بن مردويه عن ابن عباس أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «دعوت ربي عزوجل أن يرفع عن أمتي أربعا ، فرفع الله عنهم اثنتين ، وأبي علي أن يرفع عنهم اثنتين ، دعوت ربي أن يرفع الرجم من السماء ، والغرق من الأرض ، وأن لا يلبسهم شيعا ، وأن لا يذيق بعضهم بأس بعض ، فرفع الله عنهم الرجم من السماء والغرق من الأرض ، وأبى الله أن يرفع اثنتين : القتل والهرج» فجعل الأمرين الأخيرين اثنين ، وفي رواية أحمد : واحدا.

وروى مسلم ما يؤيد رواية أحمد ، وهي رواية أخرى لأحمد من حديث

٢٤١

ثوبان قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الله زوي (١) لي الأرض ، فرأيت مشارقها ومغاربها ، وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوي لي منها ، وأعطيت الكنزين : الأحمر والأبيض ، وإني سألت ربي لأمتي ألا يهلكها بسنة عامة (٢) ، وألا يسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم يستبيح بيضتهم (٣) ، وإن ربي قال : يا محمد ، إذا قضيت قضاء فإنه لا يرد ، وإني أعطيتك لأمتك ألا أهلكهم بسنة عامة ، وألا أسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم ، فيستبيح بيضتهم ، ولو اجتمع عليهم من بأقطارها ، حتى يكون بعضهم يهلك بعضا ، ويسبي بعضهم بعضا».

وقد تحقق خبر النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في اتساع أرجاء البلاد الإسلامية إلى المشارق والمغارب ، وفي وقوع بأسهم بينهم بالتفرق والاقتتال. أما تسلط عدوهم عليهم فمرهون بوحدتهم واجتماع كلمتهم ، وما حدث من زوال ملكهم عن بعض البلاد كالأندلس وفلسطين فكان بسبب تفرقهم وتشتت وحدتهم وتمزق صفوفهم وتفرق جمعهم ، بدليل ما روى أبو داود والبيهقي أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «يوشك أن تداعى عليكم الأمم ، كما تداعى الأكلة إلى قصعتها ، فقال قائل : من قلة نحن يومئذ؟ قال : بل أنتم يومئذ كثير ، ولكنكم غثاء كغثاء السيل ، وسينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم ، وليقذفنّ الله في قلوبكم الوهن. قال قائل : يا رسول الله ، وما الوهن؟ قال : حب الدنيا وكراهية الموت».

ثم أمر الله تعالى بالنظر في الدلائل والبينات ، فقال : (انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ) أي انظر أيها الرسول كيف نبين ونوضح الدلائل بوجوه مختلفة ، إما بطريقة الحس ، وإما بطريقة العقل ، وإما بالإخبار بالغيب ، لعلهم يفهمون

__________________

(١) زوي : جمع.

(٢) السنة العامة : البلاء العام كالجماعة والقحط والغرق والصيحة والرجفة والريح العاتية.

(٣) البيضة : العزة ومستقر الملك أو كيان البلاد واستقلالها.

٢٤٢

ويتدبرون عن الله آياته وحججه وبراهينه ، فتحدث عندهم العبرة والعظة وتصحيح أحوالهم.

ولكن قوم النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهم قريش كذبوا بالقرآن الذي جئتهم به والهدى والبيان أو بالعذاب الذي هدوا به ، والحال أنه الحق الصدق أي الذي ليس وراءه حق ، فالقرآن حق ثابت لا شك فيه ، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، والعذاب لا بد أن ينزل بهم ، فكل منهما يثبته الحس والعقل والوجدان.

ثم لا سبيل إلى إجبارهم على الإيمان ، فقل لهم أيها الرسول : إنني لست عليكم بحفيظ ولا رقيب (وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ) [الأنعام ٦ / ١٠٤] أي أحفظ عليكم أعمالكم ، ولست بموكل بكم ، كقوله : (وَقُلِ : الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ ، فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ ، وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ) [الكهف ١٨ / ٢٩] وقوله : (فَذَكِّرْ ، إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ ، لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ) [الغاشية ٨٨ / ٢١ ـ ٢٢].

وقوله : (نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ ، وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ ، فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ) [ق ٥٠ / ٤٥] أي إنما علي البلاغ ، وعليكم السمع والطاعة ، فمن اتبعني سعد في الدنيا والآخرة ، ومن خالفني شقي في الدنيا والآخرة.

وأخيرا جاء التهديد والوعيد على التكذيب بالقرآن أو بالعذاب ، فقال تعالى : (لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ ..) أي لكل خبر يخبر به وقت استقرار ووقوع وحصول لا بد منه ولو بعد حين ، قال ابن عباس وغيره : «لكل نبأ حقيقة» أي لكل خبر وقوع ولو بعد زمن ، كقوله تعالى : (وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ) [ص ٣٨ / ٨٨] وقوله : (لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ) [الرعد ١٣ / ٣٨]. هذا تهديد ووعيد أكيد ، أتبعه بتهديد آخر فقال :

وسوف تعلمون صدق الخبر وحقيقة الوعد والوعيد ، وعد رسوله بالنصر

٢٤٣

عليهم ، ووعيده لهم بالعذاب في الدنيا والآخرة.

فقه الحياة أو الأحكام :

قدرة الله تعالى شاملة لجانبي الرحمة والفضل ، والعذاب والعقاب ، فهو قادر على إمداد خلقه بمختلف أنواع السعة والرزق والسلامة والنجاة ، كما أبان في الآيات السابقة ، وهو قادر أيضا على إنزال مختلف أنواع العذاب كما ذكر في هذه الآيات ، ومثل العذاب من فوق الرجم بالحجارة والطوفان والصيحة والريح ؛ كما فعل بعاد وثمود وقوم شعيب وقوم لوط وقوم نوح ، ومثل العذاب من تحت الزلزال والبركان ، والخسف والرجفة ؛ كما فعل بقارون وأصحاب مدين ، ومثل العذاب الشديد الدائم : أن يخلط عليكم الأمر ، فيفرق صفوفكم ، ويجعلكم مختلفي الأهواء ، ويفرق بين الأمراء على طلب الدنيا ، وإيقاع الحرب والقتل في الفتنة.

والآية عامة في المسلمين والكفار ، وقد تحقق كل ذلك في الوجود ، فاستولى العدو على ديارنا وأنفسنا وأموالنا ، واستولت الفتنة علينا بقتل بعضنا بعضا ، واستباحة بعضنا أموال بعض. وما أسوأ حال العرب والمسلمين منذ تخلّوا عن تعاليم دينهم ، وأصبحوا تبعا للأعداء ، وجسّدوا فيما بينهم الفرقة والخلاف.

وأما مصير الذين كذبوا بالقرآن ، وهو القصص الحق ، فليس أمرهم منوطا بنبيّ الله ، فما هو إلا منذر وقد بلّغ ما أمره به ربه ، وإنما أمرهم راجع إلى الله ، ولكل إنذار وقت ، ولكل خبر حقيقة ، ولكل شيء وقت يقع فيه من غير تقدّم وتأخر. وهذا شامل للعذاب في الدنيا والعذاب في الآخرة.

وهذا وعيد من الله تعالى للكفار ، لأنهم كانوا لا يقرّون بالبعث ، ووعيد لهم في الدنيا ، كما حدث لهم في بدر وغيرها من المعارك الحربية التي استأصلت الكفر والشرك من الحجاز.

٢٤٤

ولا يفرحنّ المسلمون بهذا الوعيد ؛ فإنهم يستحقون العقاب أيضا إذا تخلوا عن قرآنهم ؛ لأن التخلي عنه قريب من التكذيب به ، فيشملهم الوعيد والإنذار : (قُلْ : أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ ، مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ بَعِيدٍ. سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ ، حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ، أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) [فصلت ٤١ / ٥٢ ـ ٥٣].

الإعراض عن مجالس المستهزئين بالقرآن وعذابهم

(وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٦٨) وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلكِنْ ذِكْرى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (٦٩) وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِما كَسَبَتْ لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْها أُولئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِما كَسَبُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ (٧٠))

الإعراب :

(وَلكِنْ ذِكْرى) يجوز فيها النصب والرفع ، فالنصب على المصدر وتقديره : ذكّركم ذكرى. والرفع على أنه مبتدأ ، وخبره محذوف ، وتقديره : ولكن عليهم ذكرى.

(أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ) مفعول لأجله ، وتقديره : لئلا تبسل أي لئلا تسلّم نفس للهلاك وترهن بسوء عملها.

٢٤٥

البلاغة :

(فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) وضع الظاهر. (مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) موضع الضمير. معهم لتسجيل شناعة ما ارتكبوا عليهم ، حيث كذبوا واستهزءوا بدلا من التصديق والتعظيم. (لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ) فيه ما يعرف بالسجع.

المفردات اللغوية :

(يَخُوضُونَ) المراد به هنا الاسترسال في الحديث ، وقد استعمله القرآن أيضا في المشاركة في الباطل مع أهله ، وأصل الخوض : الدخول في الماء سيرا أو سباحة. (يَخُوضُونَ فِي آياتِنا) أي يتكلمون في القرآن استهزاء. (فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ) انصرف عنهم ولا تجالسهم. (وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ) أي ينسيك وجوب الإعراض عنهم ، فقعدت معهم. (بَعْدَ الذِّكْرى) المراد هنا التذكر. (وَلكِنْ ذِكْرى) المراد هنا التذكير والموعظة. (لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) الخوض.

(وَذَرِ) اترك ولا تتعرض لهم. (لَعِباً وَلَهْواً) باستهزائهم به. (وَذَكِّرْ بِهِ) عظ بالقرآن الناس. (أَنْ تُبْسَلَ) لئلا تبسل نفس ، أي تسلّم إلى الهلاك ، وتحبس في النار ، وتمنع من الثواب. والبسل : حبس الشيء ومنعه بالقوة ، ومنه شجاع باسل ، أي يحمي نفسه ويمنعها. (بِما كَسَبَتْ) عملت. (لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللهِ) أي غيره. (وَلِيٌ) ناصر. (وَلا شَفِيعٌ) يمنع عنها العذاب. (وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ) تفد كل فداء. (لا يُؤْخَذْ مِنْها) ما تفدى به. (شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ) ماء بالغ نهاية الحرارة ، أي شديد الحرارة. (وَعَذابٌ أَلِيمٌ) شديد الألم أو مؤلم. (بِما كانُوا يَكْفُرُونَ) بكفرهم.

سبب النزول :

روى الطبري عن السدي في آية (وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ ...) قال : كان المشركون إذا جالسوا المؤمنين وقعوا في النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والقرآن ، فسبوه واستهزءوا به ، فأمرهم الله أن لا يقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره. وروي مثل ذلك عن سعيد بن جبير وابن جريج وقتادة ومقاتل.

وروى الطبري أيضا عن سعيد بن جبير ومجاهد أنهما قالا في قوله تعالى : (وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ ...) : الذين يكذبون بآياتنا (١).

__________________

(١) تفسير الطبري : ٧ / ١٤٨ ، تفسير الرازي : ١٣ / ٢٥

٢٤٦

وروى عن ابن عباس وابن سيرين : أنها نزلت في أهل الأهواء والبدع من المسلمين الذين يؤولون الآيات بالباطل ، لتأييد ما استحدثوا من المذاهب والآراء.

ولما قال المسلمون : إن قمنا كلما خاضوا ، لم نستطع أن نجلس في المسجد وأن نطوف ، فنزل : (وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسابِهِمْ) أي يتقون الله من حساب الخائضين من شيء أي إثم إذا جالسوهم. و (مِنْ) : صلة زائدة.

المناسبة :

بعد أن بيّن الله تعالى في الآيات السالفة أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليس عليه أن يكون حفيظا رقيبا على أعمال المكذبين بآيات الله ، وإنما هو مبلّغ ، وأن الزمان سيخبرهم بعاقبة تكذيبهم ، أبان في هذه الآيات وجوب إعراض الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين عن مجالس المشركين إن ضموا إلى كفرهم وتكذيبهم الاستهزاء بالدين والطعن في القرآن والرسول.

التفسير والبيان :

وإذا رأيت يا محمد وكل سامع مسلم الذين يخوضون في آيات القرآن بالتكذيب والاستهزاء ، فانصرف عنهم ولا تجالسهم ، حتى يخوضوا في غير حديث الكفر والاستهزاء والتكذيب. ومثلهم من يخوض في القرآن بتأويله تأويلا باطلا نابعا من البدع والأهواء والآراء الفاسدة ، لا تجالسهم واتركهم. وهذا مروي عن ابن عباس رضي‌الله‌عنهما.

وكذلك لا تجالس كل من يحرف القرآن ويؤول آياته لتكفير مسلم وتضليل مهتد.

فإذا خاضوا في حديث آخر ، فلا مانع من مجالستهم والتحدث إليهم.

٢٤٧

وإن أنساك الشيطان أيها المسلم النهي والمنع ، فجلست مع الخائضين ناسيا ، فلا تقعد بعد التذكر مع القوم الظالمين أنفسهم بالتكذيب والاستهزاء.

والخطاب للرسول وكل سامع مسلم.

ويجوز وقوع النسيان على النبي بغير وسوسة الشيطان ؛ لقوله تعالى : (وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ) [الكهف ١٨ / ٢٤] وقد وقع النسيان من آدم عليه‌السلام : (فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً) [طه ٢٠ / ١١٥] ومن موسى عليه‌السلام : (قالَ : لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ) [الكهف ١٨ / ٧٣] وثبت في الكتب الستة أن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم سها في الصلاة وقال : «إنما أنا بشر مثلكم أنسى كما تنسون ، فإذا نسيت فذكّروني».

أما في تبليغ الوحي والدين المنزل من الله ، فإن الأنبياء معصومون عن نسيان شيء مما أمرهم الله بتبليغه من حلال أو حرام ؛ لقوله تعالى : (لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ ، إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ ، فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ، ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ) [القيامة ٧٥ / ١٦ ـ ١٩].

وإنساء الشيطان للإنسان بعض الشيء ليس من قبيل التصرف فيه ، والسلطان عليه ؛ لقوله تعالى : (إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ. إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ ، وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ) [النحل ١٦ / ٩٩ ـ ١٠٠].

فإن تجنبوا مجالسة الخائضين ، فلا يحاسبون على خوضهم ، وبرئوا من عهدتهم ، وتخلصوا من إثمهم. وقال آخرون (مجاهد والسدي وابن جريج) : بل معناه : وإن جلسوا معهم ، فليس عليهم من حسابهم من شيء ، وزعموا أن هذا منسوخ بآية النساء المدنية وهي قوله : (إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ) [٤ / ١٤٠].

٢٤٨

(وَلكِنْ ذِكْرى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) أي أمرناكم بالإعراض عنهم حينئذ تذكيرا وموعظة ، لعلهم يتقون الخوض في آياتنا ، ويذكرون الله.

وعلى التفسير الثاني لمجاهد ومن وافقه : يكون المراد هذه الآية : أمرناكم بالإعراض عنهم حينئذ تذكيرا لهم عما هم فيه ، لعلهم يتقون ذلك ، ولا يعودون إليه. وقال الزمخشري : ولكن عليهم أثناء مجالستهم أن يذكروهم ذكرى إذا سمعوهم يخوضون ، بالقيام عنهم ، وإظهار الكراهة لهم وموعظتهم ، لعلهم يجتنبون الخوض حياء ، أو كراهة لمساءتهم. وروي أن المسلمين قالوا : لئن كنا نقوم كلما استهزءوا بالقرآن ، لم نستطع أن نجلس في المسجد الحرام ، وأن نطوف ، فرخص لهم.

ثم أكد الله تعالى ترك المستهزئين بقوله : (وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ ..) أي دع أيها الرسول ومن تبعك من المؤمنين وأعرض عن هؤلاء المشركين الذين يتلاعبون بدينهم بعبادة الأصنام ، يصنعونها ثم يأكلونها ، فقد أضاعوا عمرهم فيما لا يفيد وهذا هو اللعب ، وشغلوا أنفسهم عن العمل المفيد وهذا هو اللهو ، وغرتهم الدنيا الفانية ، وآثروها على الحياة الباقية ، واشتغلوا بلذات الدنيا الحقيرة ، فخاضوا في آيات الله بدلا عما كان يجب عليهم من فهمها وتدبرها وامتثالها. وهو كقوله تعالى : (ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا ، وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ ، فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) [الحجر ١٥ / ٣].

وذكّر الناس بالقرآن وعظهم به لئلا تحبس عن الخير ، وتمنع في جهنم نفس بما عملت ، وتسلم إلى الهلاك ، وترتهن بعملها الذي صدر منها في الدنيا ، كقوله تعالى : (كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ ، إِلَّا أَصْحابَ الْيَمِينِ) [المدثر ٧٤ / ٣٨ ـ ٣٩].

وقوله : (لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ) أي والحال لا قريب ولا أحد يشفع فيها ، ولا ناصر ينصرها ، كقوله تعالى : (ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ

٢٤٩

وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ) [غافر ٤٠ / ١٨] وقوله : (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ ، وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ) [البقرة ٢ / ٢٥٤].

وكما لا تنفع الشفاعة والوساطة ، لا ينفع بذل الفداء : (وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْها) أي وإن بذلت كل فداء أو مبذول ، ما قبل منها ، كقوله تعالى : (وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً ، وَلا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ ، وَلا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ ، وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) [البقرة ٢ / ١٢٣].

وهذا إبطال لمبدأ من مبادئ الوثنية : وهو رجاء النجاة في الآخرة كما في الدنيا بتقديم الفدية الى لله تعالى ، أو بشفاعة الشفعاء ووساطة الوسطاء عند الله تعالى.

وهذا الإبسال والإهلاك والعذاب في النار كان بسوء صنعهم ، قال تعالى : (أُولئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِما كَسَبُوا ..) أي أولئك المتخذون دينهم لعبا ولهوا هم الذين جوزوا وعذبوا بسبب عملهم في الدنيا ، وجزاؤهم شراب من حميم ، أي ماء شديد الحرارة يحرق البطون ويقطع الأمعاء ، كقوله تعالى : (وَسُقُوا ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ) [محمد ٤٧ / ١٥].

فقه الحياة أو الأحكام :

أرشدت الآيات الكريمة إلى ما يلي :

١ ـ وجوب الإعراض عن مجالس المستهزئين بالقرآن أو بالنبيّ أو بأحكام الإسلام ، ومجالس المتأولين آيات القرآن بغير حق ، وتحريفها عن مواضعها. قال ابن خويز منداد : من خاض في آيات الله ، تركت مجالسته وهجر ، مؤمنا كان أو كافرا.

٢ ـ إذا علم الرجل من الآخر منكرا ، وعلم أنه لا يقبل منه وعظا

٢٥٠

ولا نصحا ، فعليه أن يعرض عنه إعراض منكر ولا يقبل عليه ، كما قال القرطبي (١).

٣ ـ قال ابن العربي : وهذا دليل على أن مجالسة أهل الكبائر لا تحل (٢). ومنع المالكية الدخول إلى أرض العدو ودخول كنائسهم والبيع ، ومجالسة الكفار وأهل البدع ، وألا تعتقد مودّتهم ، ولا يسمع كلامهم ولا مناظرتهم (٣).

٤ ـ لا يطرأ النسيان أصلا على الأنبياء فيما يجب عليهم تبليغه من أحكام الشرع ، لعصمتهم عن ذلك ، وإنما يمكن طروء النسيان عليهم في الأمور العادية كالسهو أثناء الصلاة ونحو ذلك.

وليس النسيان من قبيل وجود السلطة والتصرف من الشيطان على الإنسان ، فتسلطه محصور في المشركين والكافرين ، لا في المؤمنين.

٥ ـ الأظهر أن آية (وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسابِهِمْ ...) ليست منسوخة ، ومعناها الدائم : ليس عليكم شيء من حساب المشركين ، وعليكم بتذكيرهم وزجرهم ، فإن أبوا فحسابهم على الله.

٦ ـ الاستهزاء في الدين ليس مسوّغا في أي شرع أو ملة ، والمستهزئون ما هم إلا لاعبون لاهون غرتهم الحياة الدنيا أي لم يعلموا إلا ظاهرا من الحياة الدنيا ، وإن تأصل الكفر فيهم أفسد عليهم فطرتهم ، فحجب عنهم كل خير.

٧ ـ القرآن خير مذكر للإنسان من تعريض نفسه للهلاك والعذاب في نار جهنم ، والمسلم الحق : من اتخذ القرآن إماما وسنة النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم منهجا ، لا من اغترّ بالأماني والأوهام.

__________________

(١) تفسير القرطبي : ٧ / ١٢

(٢) أحكام القرآن للقرطبي : ٢ / ٧٣١

(٣) تفسير القرطبي : ٧ / ١٣

٢٥١

٨ ـ لا يقبل في الآخرة فداء ولا نصرة ناصر ولا شفاعة شفيع إلا بإذن الله وإرادته ، لقوله تعالى : (يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً) [طه ٢٠ / ١٠٩] وقوله تعالى : (وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ ..) [سبأ ٣٤ / ٢٣] وقوله : (وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى) [الأنبياء ٢١ / ٢٨].

مزايا الإيمان بالله ومخازي الشرك

(قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُنا وَلا يَضُرُّنا وَنُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا بَعْدَ إِذْ هَدانَا اللهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرانَ لَهُ أَصْحابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنا قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدى وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (٧١) وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٧٢) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (٧٣))

الإعراب :

(حَيْرانَ) حال من هاء (اسْتَهْوَتْهُ) وهو ممنوع من الصرف كعطشان ، وهو لا ينصرف معرفة ولا نكرة ؛ لأن فعلان فعلى أشبه ما في آخره ألف التأنيث الممدودة ، وما في آخره ألف التأنيث الممدودة لا ينصرف معرفة ولا نكرة ، فكذلك ما كان على : فعلان فعلى. وجملة التشبيه حال من ضمير (نُرَدُّ).

(وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ) أن في موضع نصب بتقدير حذف حرف جر ، وتقديره : وبأن أقيموا.

(وَيَوْمَ يَقُولُ : كُنْ فَيَكُونُ يَوْمَ) : منصوب من أربعة أوجه : إما لأنه معطوف على

٢٥٢

السموات ، أو على الهاء في (وَاتَّقُوهُ) ، أو لأنه ظرف وقع خبرا عن المبتدأ وهو : (قَوْلُهُ الْحَقُ) وتقديره : قوله الحق يوم يقول. و (قَوْلُهُ) : مبتدأ و (بِالْحَقِ) : صفته ، و (يَوْمَ يَقُولُ) : خبره أي مستقر يوم يقول ، أو منصوب بتقدير فعل هو : واذكر يوم يقول. وكن فيكون ، أي : فهو يكون ، ولهذا كان مرفوعا.

(يَوْمَ يُنْفَخُ) في نصبه وجهان : إما بدل من قوله : (يَوْمَ يَقُولُ) ، أو متعلق بقوله : (وَلَهُ الْمُلْكُ) أي وثبت له الملك يوم ينفخ.

(عالِمُ الْغَيْبِ) مرفوع لأنه صفة (الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ) أو على تقدير مبتدأ محذوف تقديره : هو عالم الغيب ، أو حملا على المعنى ، وتقديره : ينفخ فيه عالم الغيب ، كأنه قال : يوم ينفخ. ويجوز الجرّ بدلا من هاء (قَوْلُهُ).

البلاغة :

(أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ) الاستفهام للإنكار. (وَنُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا) عبر بالرد على الأعقاب عن الشرك لزيادة تقبيح الفعل وتشنيعه.

(وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ) بينهما جناس اشتقاق.

(ما لا يَنْفَعُنا وَلا يَضُرُّنا) و (عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) بينهما طباق.

المفردات اللغوية :

(أَنَدْعُوا) أنعبد. (ما لا يَنْفَعُنا) بعبادته. (وَلا يَضُرُّنا) بتركها وهو الأصنام. (وَنُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا) نرجع مشركين ، والمقصود بهذا التعبير كل رجوع وتحول مذموم. (اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ) أضلته وذهبت بعقله وهواه ، وكانت العرب تزعم أن الجنون من تأثير الجن ، وأن الجن تظهر لهم في القفار وتتلون بألوان مختلفة وتذهب بالعقل ، فيهيم على وجهه حتى يهلك ، وهذه الشياطين التي تتلون تسمى الغيلان والأغوال والسعالى. (حَيْرانَ) متحيرا تائها لا يدري أين يذهب. (لَهُ أَصْحابٌ) رفقة. (يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى) أي ليهدوه الطريق ، يقولون له : (ائْتِنا) فلا يجيبهم فيهلك. (هُدَى اللهِ) هو الإسلام وما عداه ضلال. (لِنُسْلِمَ) بأن نسلم أو أمرنا كي نسلم ، والإسلام : الإخلاص. (وَأَنْ) أي بأن أقيموا الصلاة. (تُحْشَرُونَ) تجمعون يوم القيامة للحساب. (وَيَوْمَ يَقُولُ : كُنْ فَيَكُونُ) هو يوم القيامة يقول للخلق : قوموا فيقوموا. (قَوْلُهُ الْحَقُ) الصدق الواقع لا محالة. (الصُّورِ) لغة : القرن وهو كالبوق ينفخ فيه فيصعق من في السموات والأرض ، ثم ينفخ فيه أخرى ، فإذا هم قيام ينظرون. والمراد هنا النفخة الثانية من

٢٥٣

إسرافيل. (عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) ما غاب وما شوهد. (الْحَكِيمُ) في خلقه. (الْخَبِيرُ) ببواطن الأشياء كظواهرها.

سبب النزول :

قال السدي : قال المشركون للمسلمين : اتبعوا سبيلنا واتركوا دين محمد ، فأنزل اللهعزوجل : (قُلْ : أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُنا وَلا يَضُرُّنا ، وَنُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا).

المناسبة :

المقصود من هذه الآية : (قُلْ : أَنَدْعُوا ...) الردّ على عبدة الأصنام ، وهي مؤكدة لقوله تعالى قبل ذلك : (قُلْ : إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ).

التفسير والبيان :

قل لهم أيها الرسول : أنعبد من دون الله النافع الضارّ ما لا يقدر على نفعنا ولا على ضرنا ، ونرد على أعقابنا إلى الشرك والكفر ، بعد أن أنقذنا الله منه ، وهدانا للإسلام؟ فيكون مثلنا مثل الذي استهوته الشياطين في الأرض وذهبت بعقله ، وأصبح حيران تائها لا يدري كيف يسير؟ والحال أن له أصحابا على الجادة المستقيمة يدعونه إلى طريق الهدى ، قائلين له : (ائْتِنا).

ويقال لكل من أعرض عن الحق إلى الباطل : إنه رجع إلى الخلف ، ونكص على عقبيه ، ورجع القهقرى. والسبب : أن الأصل في الإنسان هو الجهل ، ثم إذا ترقى وتكامل حصل له العلم ، قال تعالى : (وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً ، وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ) [النحل ١٦ / ٧٨] فإذا رجع من العلم إلى الجهل مرة أخرى ، يقال له : ردّ على عقبيه.

٢٥٤

والمقصود بالآية ضرب مثل مفاده : أن من يرتد مشركا بعد الإيمان ، كمن جعله الجنون هائما على وجهه ، ضالا في الطرقات ، حيران لا يهتدي ، تاركا رفاقه على الطريق المستقيم ، وهم ينادونه : ائتنا ، وعد إلينا ، فإنا على الطريق الصحيح ، فلا يستجيب لهم. فهذا مثل من يتبع آلهة الأصنام ويعبدها من دون الله ، فإنه يرى أنه في شيء ، حتى يأتيه الموت ، فلا يجد إلا الندامة والهلاك ، علما بأن له صاحبا مخلصا وهو محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم يدعوا إلى الطريق الحق وهو الإسلام.

قال الزمخشري : وهذا مبني على ما تزعمه العرب وتعتقده أن الجن تستهوي الإنسان ، والغيلان تستولي عليه ، كقوله : (كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِ) [البقرة ٢ / ٢٧٥] فشبه الضال عن طريق الإسلام بالتابع لخطوات الشيطان ، والمسلمون يدعونه إلى الدين الحق ، فلا يلتفت إليهم (١).

وقوله : (كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ فِي الْأَرْضِ) أي أضلته في الأرض ، والشياطين: هم الغيلان يدعونه باسمه واسم أبيه وجده ، فيتبعها ، وهو يرى أنه في شيء ، فيصبح وقد رمته في هلكة.

أدعهم أيها الرسول لدين الحق ، وقل لهم : إن هدى الله في قرآنه هو الهدى ، وطريق الإسلام هو الحق ، وهو الصراط المستقيم ، لا ما تدعون إليه من أهوائكم.

وقل لهم : وأمرنا بأن نسلم لله رب العالمين ، أي نخلص له العبادة وحده لا شريك له ، فأسلمنا.

وأمرنا بأن أقيموا الصلاة ، أي أمرنا بالإسلام وبإقامة الصلاة : وهي الإتيان بها على الوجه الأكمل الذي شرعت من أجله ، وهو تزكية النفس بمناجاة الله ، والنهي عن الفحشاء والمنكر.

__________________

(١) الكشاف : ١ / ٥١٢

٢٥٥

وأمرنا أيضا بالتقوى : وهي اتقاء ما يترتب على مخالفة دين الله وشرعه ، أي نحن مأمورون بأمور ثلاثة : هي الإخلاص لله دون إشراك ، وإقامة الصلاة وعبادة الله وحده دون غيره ، والتقوى في جميع الأحوال ، سرا وعلنا ، فهو الذي إليه تحشرون أي تجمعون يوم القيامة ، وإليه وحده المرجع والمآب ، فيحاسبكم على أعمالكم ، ويجازيكم عليه ، فليس من العقل ولا من الحكمة ولا من المصلحة أن يعبد غيره.

والله هو خالق السموات والأرض ومالكهما ومدبرهما ومن فيهما ، وخلقه قائم على الحق والعدل والحكمة : (وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ ، ما خَلَقْناهُما إِلَّا بِالْحَقِ) [الدّخان ٤٤ / ٣٨ ـ ٣٩] ، (رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً) [آل عمران ٣ / ١٩١].

وقوله هو الحق أي قضاؤه هو الحق ، حين يقول للشيء يوم القيامة : (كُنْ فَيَكُونُ) وأمره كلمح البصر أو هو أقرب. ويوم يقول : منصوب إما عطفا على قوله : (وَاتَّقُوهُ) وتقديره : واتقوا يوم يقول : (كُنْ فَيَكُونُ) وإما على قوله : (خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) أي وخلق يوم يقول : (كُنْ فَيَكُونُ).

وأمره التكويني : (كُنْ) وأمره التكليفي سواء : (أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ) [الأعراف ٧ / ٥٤]. ومن كان أمره التكويني مطاعا ، كان أمره التكليفي كذلك واجب الطاعة ، فالخلق حق ، والأمر حق.

ولله الملك المطلق والتصرف التام في ملكه. وقوله تعالى : (قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ) جملتان محلهما الجر ، على أنهما صفتان لرب العالمين.

ويوم ينفخ في الصور يصعق كل من في السموات والأرض ، ويهلك حتى

٢٥٦

الملك الذي نفخ فيه ، ثم ينفخ فيه مرة أخرى ، فإذا الكل قيام ينظرون ، أي ينتظرون ما سيفعل بهم ، فالنفخة الأولى للإماتة ، والثانية للنشر والحشر.

وقوله : (يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ) إما بدل من قوله : (وَيَوْمَ يَقُولُ : كُنْ فَيَكُون يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ) وإما ظرف لقوله : (وَلَهُ الْمُلْكُ) كقوله تعالى : (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ، لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ) [غافر ٤٠ / ١٦] أي أن الملك يوم الحشر والنشر من القبور يوم النفخ في الصور لله تعالى وحده.

أما الصور فالمراد به ما جاء في الأخبار الصحيحة ، روى أحمد عن عبد الله بن عمرو قال : قال أعرابي : يا رسول الله ما الصور؟ قال : «قرن ينفخ فيه». وروى مسلم عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «إن إسرافيل قد التقم الصور ، وحنى جبهته ينتظر متى يؤمر ، فينفخ». وقال ابن مسعود : «الصور كهيئة القرن ينفخ فيه».

والنفخات ثلاث كما جاء في حديث الصور عن أبي هريرة : «ينفخ فيه ثلاث نفخات : النفخة الأولى : نفخة الفزع ، والثانية : نفخة الصعق ، والثالثة : نفخة القيام لرب العالمين.» (١).

ومن صفاته تعالى : أنه عالم الغيب (أي ما غاب عنا) والشهادة (عالم الحس الذي نراه) وعن ابن عباس : الغيب والشهادة : السرّ والعلانية. وهو الحكيم في خلقه ، فلا يفعل ولا يشرع لعباده إلا ما فيه الحكمة والمصلحة ، وهو الخبير بأحوالهم المطلع على سرائرهم أو نياتهم أو ضمائرهم ، وأقوالهم.

وإذا كان الله هو المتصف بهذه الصفات : خالق السموات والأرض ، وقوله الحق تكوينا وتكليفا ، وله الملك وحده في الدنيا والآخرة يوم يحشر الخلائق ،

__________________

(١) تفسير ابن كثير : ٢ / ١٤٦

٢٥٧

وهو عالم الغيب والشهادة ، وهو الحكيم الذي يضع الأشياء مواضعها ، وهو الخبير بدقائقها وخفاياها ، إذا كان كذلك فهو الأجدر بالعبادة ، ولا ينبغي لعاقل أن يدعو أو يعبد غيره : (فَلا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَداً) [الجن ٧٢ / ١٨] ، (بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ ، فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ) [الأنعام ٦ / ٤١].

فقه الحياة أو الأحكام :

دلّت الآيات على ما يأتي :

١ ـ الثبات على الحق والهداية بعد معرفتهما ، والبعد عن الضلال والشرك بعد تفنيد ما فيهما من زيغ وانحراف.

٢ ـ هدى الله في آيات قرآنه هو الهدى الحق ، والمسلم مأمور بإخلاص العبادة لله صاحب الهدى ورب العوالم كلها من إنس وجن ، وبإقامة الصلاة وإتمامها على وجهها الأكمل ، وبالتقوى ، أي امتثال المأمورات واجتناب المنهيات المحظورات.

٣ ـ العبادة لا تكون إلا لمن يملك النفع والضر ، وهو الله وحده ، والله هو الخالق بالحق ، والرازق ، والآمر أمرا تكوينيا وتكليفيا ، فأمره مطاع ، وهو المالك ملكا مطلقا لكل تصرف في خلقه في الدنيا والآخرة ، وهو عالم الغيب (ما غاب عنا) والشهادة (عالم الحس المشاهد) وهو الحكيم في خلقه ، الخبير بأحوالهم الدقيقة والعظيمة.

قال أهل السنة في تفسير الحق : الله تعالى مالك لجميع المحدثات ، مالك لكل الكائنات ، وتصرف المالك في ملكه حسن وصواب على الإطلاق ، فكان ذلك التصرف حسنا على الإطلاق وحقا على الإطلاق.

وقال المعتزلة : معنى كونه حقا : أنه واقع على وفق مصالح المكلفين ، مطابق لمنافعهم.

٢٥٨

٤ ـ دلّ قوله تعالى : (كُنْ فَيَكُونُ) على سرعة الخلق والتكوين ، وسرعة الحساب والبعث.

٥ ـ دلّت الآيات التي ذكرت أوصاف الله تعالى المتقدمة على أنه لا معبود بحق إلا الله وحده.

٦ ـ ثبت بالإجماع أن الذي ينفخ في الصور إسرافيل عليه‌السلام ، فهو النافخ ، والله عزوجل يحيي النفوس. قال أبو الهيثم : من أنكر أن يكون الصور قرنا فهو كمن ينكر العرش والميزان والصراط ، وطلب لها تأويلات. وقال ابن فارس : الصور الذي في الحديث كالقرن ينفخ فيه.

الجدال بين إبراهيم عليه‌السلام وبين آزر وسبب ترك الشرك

(وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً إِنِّي أَراكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٧٤) وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (٧٥) فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ (٧٦) فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (٧٧) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبِّي هذا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قالَ يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (٧٨) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٧٩))

٢٥٩

الإعراب :

(لِأَبِيهِ آزَرَ) آزر : بدل مجرور من (لِأَبِيهِ) كأنه اسم له ، وهو ممنوع من الصرف للعجمة والتعريف ، وهو أيضا على مثال (أفعل) نحو : أحمد ، ومن قرأ بالضم جعله منادى مفردا وتقديره : يا آزر أتتخذ أصناما آلهة استفهام توبيخ.

(وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ) : (وَلِيَكُونَ) : معطوف على مقدر ، تقديره : ليستدل وليكون من الموقنين ، واللام تتعلق بفعل مقدر تقديره : ليستدل وليكون من الموقنين أريناه الملكوت.

(بازِغَةً) منصوب على الحال ؛ لأن (رَأَى) هنا بصرية من رؤية العين ، لا قلبية.

البلاغة :

(وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ) حكاية حال ماضية ، أي أريناه.

(لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ) فيه تعريض بضلال قومه.

(وَجَّهْتُ وَجْهِيَ) بينهما جناس اشتقاق.

المفردات اللغوية :

(إِبْراهِيمُ) خليل الرحمن ، أبو الأنبياء ، العاشر من أولاد سام ، جد العرب ، وأبو إسماعيل ، المولود في بلدة «أور» أي النور من بلاد الكلدان ، وهي المعروفة الآن باسم «أورفة» جنوب الحدود التركية المجاورة للحدود السورية. (آزَرَ) أبو إبراهيم ، وهو لقبه واسمه تارح ، أو تارخ ، ومعناه متكاسل. (أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً؟) تعبدها ، والاستفهام للتوبيخ. (إِنِّي أَراكَ وَقَوْمَكَ) باتخاذها. (فِي ضَلالٍ) عن الحق ، والضلال : العدول عن الطريق الموصل إلى الهدف. (مُبِينٍ) بيّن واضح. (وَكَذلِكَ) أي كما أريناه ضلال أبيه وقومه نري إبراهيم. (مَلَكُوتَ) ملك وسلطان وعظمة ، أراه الله عظمة السموات والأرض ليستدل بذلك على وحدانية الله. وجملة (وَكَذلِكَ) وما بعدها اعتراض وعطف على : قال.

(جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ) أظلم أو ستره بظلمته. (رَأى كَوْكَباً) نجما مضيئا ، قيل : هو الزهرة أو المشتري. (أَفَلَ) غاب بعد ظهوره. (لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ) أن أتخذهم أربابا ؛ لأن الرب لا يجوز عليه التغير والانتقال ؛ لأنهما من شأن الحوادث ، فلم ينجع فيهم ذلك. (بازِغاً) طالعا ، وبزوغ القمر : ابتداء طلوعه. (يَهْدِنِي رَبِّي) يثبتني على الهدى. (مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ) تعريض لقومه بأنهم على ضلال ، فلم يؤثر فيهم ذلك. (هذا أَكْبَرُ) من الكوكب والقمر. (إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ) بالله من الأصنام والأجرام المحدثة المحتاجة إلى محدث ، فقالوا له : ما تعبد؟

٢٦٠