التفسير المنير - ج ٧

الدكتور وهبة الزحيلي

المناسبة :

لما ذكر الله تعالى أن مهمة الرسول مجرد البلاغ ، ومهمة المبلّغين هي تنفيذ التكاليف والانقياد له ، دون أن يكثروا عليه السؤال عما لم يبلغه لهم ، ناسب أن ينهاهم صراحة عن السؤال فيما لا تكليف فيه ، لئلا يكون ذلك سببا للإلزام بتكاليف ثقيلة ، ومطالب جديدة شديدة.

التفسير والبيان :

يا أيها الذين صدّقوا بالله ورسوله : لا تسألوا عن أشياء غيبية أو خفية أو لا فائدة منها ، أو عن أمور دقيقة في الدين ، أو عن تكاليف سكت عنها الوحي ، فيشق التكليف بها على بقية المؤمنين ، فيكون السؤال سببا في التشديد والإساءة والكثرة.

وإن تسألوا عن جنس تلك الأشياء المسكوت عنها أو المعقدة والشائكة أو التكاليف الصعبة حين ينزل القرآن ، يظهرها الله لكم على لسان رسوله. وقال ابن كثير : لا تسألوا عن أشياء تستأنفون السؤال عنها ، فلعله قد ينزل بسبب سؤالكم تشديد أو تضييق ، وقد ورد في الحديث الذي رواه مسلم عن عامر بن سعد عن أبيه : «إن أعظم المسلمين جرما من سأل عن شيء لم يحرم ، فحرّم من أجل مسألته» ولكن إذا نزل القرآن بها مجملة ، فسألتم عن بيانها ، بينت لكم حينئذ لاحتياجكم إليها.

أي أن المسؤول عنها إما التكاليف الصعبة المنهي عن السؤال فيها ، أو عن غيرها مما فيه لكم حاجة وقد نزل بها الوحي.

وروى مسلم عن المغيرة بن شعبة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن الله حرّم عليكم عقوق الأمهات ، ووأد البنات ، ومنعا وهات ، وكره لكم ثلاثا : قيل

٨١

وقال ، وكثرة السؤال ، وإضاعة المال» ورواه مسلم أيضا عن أبي هريرة بلفظ آخر. قال كثير من العلماء : المراد بقوله : «وكثرة السؤال» التكثير من السؤال في المسائل الفقهية تنطّعا ، وتكلفا فيما لم ينزل ، والأغلوطات ، وتشقيق المولدات ، وقد كان السلف يكرهون ذلك ويرونه من التكلّف.

يفهم من ذلك أن السؤال لإيضاح المجمل الغامض من القرآن مباح ، مثل السؤال عن البيان الشافي في تحريم الخمر بعد نزول آية البقرة. أما السؤال عما لا يفيد أو عن حكم مسألة لم تحرّم أو لم يكلف بها المسلمون ، أو عما لا حاجة إلى السؤال فيه وكان في الإجابة عنه زيادة كلفة ومشقة ، فهو حرام.

(عَفَا اللهُ عَنْها وَاللهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ) أي عفا الله عما لم يذكره في كتابه فهو مما عفا الله عنه وسكت عليه ، فاسكتوا أنتم عنها كما سكت عنها ، والله غفور لمن أخطأ في السؤال وتاب ، حليم لا يعاجلكم بالعقوبة على ما فرطتم أو قصّرتم فيه. روى الدار قطني وغيره عن أبي ثعلبة الخشني جرثوم بن ناشر رضي الله تعالى عنه عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «إن الله تعالى فرض فرائض فلا تضيعوها ، وحدّ حدودا فلا تعتدوها ، وحرّم أشياء فلا تنتهكوها ، وسكت عن أشياء ، رحمة لكم غير نسيان ، فلا تبحثوا عنها».

ثم بيّن الله تعالى حالة بعض الأقوام السابقين مثل قوم صالح الذين سألوا عن مسائل ثم أهملوا حكمها ، فقال : (قَدْ سَأَلَها قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ..) أي قد سأل هذه المسائل المنهي عنها قوم من قبلكم ، فأجيبوا عنها ، ثم لم يؤمنوا بها ، فأصبحوا بها كافرين ، أي بسببها ، والمعنى : أني بينت لهم ، فلم ينتفعوا بها ؛ لأنهم لم يسألوا على وجه الاسترشاد ، بل على وجه الاستهزاء والعناد. روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة : عبد الرحمن بن صخر رضي الله تعالى عنه قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «ما نهيتكم عنه فاجتنبوه ، وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم ، فإنما أهلك الذين من قبلكم كثرة مسائلهم ، واختلافهم على أنبيائهم».

٨٢

وأخرج أحمد ومسلم والنسائي وابن ماجه عن أبي هريرة أن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ذروني ما تركتكم ، فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم ، فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم ، وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه».

فقه الحياة أو الأحكام :

الآية تنهى وتحرم كل أنواع الأسئلة (١) ما عدا السؤال عما ينفعهم أو يحتاجون إليه أو عن توضيح المجمل في القرآن أثناء تنزل الوحي ، وقد نزلت جوابا عن جميع الأسئلة التي سئل عنها النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إما امتحانا له ، وإما استهزاء.

وقد التزم الصحابة بعدئذ هذا الأدب فامتنعوا عن السؤال ، واقتصروا على ما يبلغهم إياه النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال ابن عباس : ما رأيت قوما كانوا خيرا من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ما سألوه إلا عن ثلاث عشرة مسألة حتى قبض ، كلهن في القرآن ، منهن : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ) [البقرة ٢ / ٢١٧] (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ) [البقرة ٢ / ٢٢٢] وشبهه ، ما كانوا يسألون إلا عما ينفعهم.

أما الأسئلة الشرعية اليوم فجائزة للعلم والبيان ، قال ابن عبد البر : السؤال اليوم لا يخاف منه أن ينزل تحريم ولا تحليل من أجله ، فمن سأل مستفهما راغبا في العلم ، ونفى الجهل عن نفسه ، باحثا عن معنى يجب الوقوف في الديانة عليه ، فلا بأس به ، فشفاء العيّ السؤال ؛ ومن سأل متعنتا غير متفقة ولا متعلم ، فهو الذي لا يحلّ قليل سؤاله ولا كثيره (٢)

__________________

(١) وهي السؤال عما لا ينفع في الدين مثل : من أبي؟ والسؤال الزائد عن الحاجة كالسؤال عن الحج : أكل عام؟ والسؤال عن صعاب المسائل كما جاء في النهي عن الأغلوطات ، والسؤال عن علة الحكم في التعبدات كالسؤال عن قضاء الحائض الصوم دون الصلاة ، وسؤال التكلف والتشدد في الدين كسؤال بني إسرائيل عن أحوال البقرة ، وسؤال التعنت والإفحام ، والسؤال عن المتشابهات مثل السؤال عن استواء الله.

(٢) تفسير القرطبي : ٦ / ٣٢٣

٨٣

ومن أمثلة الأسئلة عما كانوا بحاجة إليه : أنه تعالى بيّن عدة المطلقة والمتوفى عنها زوجها والحامل ، ولم يذكر عدة المرأة التي لا حيض لها ولا حامل ، فسألوا عنها فنزل : (وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ) [الطلاق ٦٥ / ٤] فالنهي إذن في شيء لم يكن بهم حاجة إلى السؤال فيه ، فأما ما مسّت الحاجة إليه فلا. وبهذا يوفق بين أول الآية : (لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ ..) وبين الجملة التالية : (وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ) فأول الآية نهي عن السؤال ، والجملة التالية تبيح السؤال ، والمعنى : وإن تسألوا عن غيرها فيما مسّت الحاجة إليه. فحذف المضاف ، ولا يصحّ حمله على غير الحذف. قال الجرجاني : الكناية في (عَنْها) ترجع إلى أشياء أخر ؛ كقوله تعالى : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ) [المؤمنون ٢٣ / ١٢] يعني آدم ، ثم قال : (ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً) [المؤمنون ٢٣ / ١٣] أي ابن آدم ؛ لأن آدم لم يجعل نطفة في قرار مكين ، لكن لما ذكر الإنسان وهو آدم ، دل على إنسان مثله ، وعرف ذلك بقرينة الحال. والمعنى : وإن تسألوا عن أشياء مما أنزل القرآن من تحليل أو تحريم أو حكم ، أو مسّت حاجتكم إلى التفسير ، فإذا سألتم فحينئذ تبد لكم (١).

وقد عفا الله عن الأسئلة التي سلفت منهم قبل هذا النهي ، فضلا من الله ورحمة ، وإن كرهها النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلا تعودوا لأمثالها.

وتغلب المقارنة والتذكير والعبرة في آي القرآن وسرد أحكامه كما فعل هنا بقوله : (قَدْ سَأَلَها قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ..) أخبر تعالى أن قوما من قبلنا قد سألوا آيات مثلها ، فلما أعطوها وفرضت عليهم كفروا بها ، وقالوا : ليست من عند الله ، وذلك كسؤال قوم صالح الناقة ، وقوم موسى رؤية الله جهرة ، وأصحاب عيسى المائدة. وهذا تحذير مما وقع فيه من سبق من الأمم.

__________________

(١) المرجع والمكان السابق.

٨٤

والتوفيق بين ما ذكر من كراهية السؤال والنهي عنه وبين قوله تعالى : (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) [النحل ١٦ / ٤٣] : أن النهي منصب على ما لم يتعبد الله به عباده ولم يذكره في كتابه ، والأمر موجه لما ثبت وتقرر وجوبه مما يجب العمل به.

ما حرّمه الجاهليون من الماشية والإبل

(ما جَعَلَ اللهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (١٠٣) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قالُوا حَسْبُنا ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ (١٠٤))

المفردات اللغوية :

(ما جَعَلَ) ما شرع شيئا من هذه الأحكام التي كان العرب يفعلها في الجاهلية ، ولا أمر بالتبحير والتسبيب وغير ذلك ، ولكنهم يفترون ويقلدون في تحريمها كبارهم.

البحيرة هي الناقة التي كانوا يبحرون أذنها ، أي يشقونها شقا واسعا ، إذا نتجت خمسة أبطن إناثا آخرها أنثى وكانت حراما على النساء لحمها ولبنها. فإن كان آخرها ذكرا نحروه تأكله الرجال والنساء. وقيل : غير ذلك بأن آخرها ذكر.

والسائبة الناقة التي كانت تسيّب بنذرها لآلهتهم الأصنام ، فتعطى للسدنة ، وترعى حيث شاءت ، ولا يحمل عليها شيء ، ولا يجزّ صوفها ولا يحلب لبنها إلا لضيف.

والوصيلة الشاة أو الناقة التي تصل أخاها ، فإذا بكرت في أول النتاج بأنثى كانت لهم ، وإذا ولدت ذكرا كان لآلتهم ، وإن ولدت ذكرا وأنثى قالوا : وصلت أخاها ، فلم يذبحوا الذكر لآلهتهم. وقيل : غير ذلك.

والحامي : الفحل الذي يضرب في مال صاحبه فيولد من ظهره عشرة أبطن ، فيقولون : حمى ظهره ، فلا يحمل عليه ، ولا يمنع من ماء ولا مرعى.

٨٥

روى البخاري عن سعيد بن المسيب قال : البحيرة : التي يمنع درّها للطواغيت ، فلا يحلبها أحد من الناس. والسائبة : التي كانوا يسيبونها لآلهتهم ، فلا يحمل عليها شيء. والوصيلة : الناقة البكر تبكر في أول نتاج الإبل بأنثى ثم تثني بعد بأنثى ، وكانوا يسيبونها لطواغيتهم إن وصلت إحداهما بأخرى ، ليس بينهما ذكر. والحام : فحل الإبل يضرب الضراب المعدود ، فإذا قضى ضرابه ، ودعوه للطواغيت وأعفوه من الحمل عليه ، فلا يحمل عليه شيء ، وسموه الحامي.

(يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ) أي يختلقون الكذب في ذلك ، وفي نسبته إلى الله. (وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ) أن ذلك افتراء ؛ لأنهم قلدوا فيه آباءهم. (إِلى ما أَنْزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ) أي إلى حكمه من تحليل ما حرمتم. (حَسْبُنا) كافينا. (ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا) من الدين والشريعة. (أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ) استفهام إنكاري. (وَلا يَهْتَدُونَ) إلى الحق.

المناسبة :

كما نهى تعالى ومنع الناس من السؤال والبحث عن أمور ما كلفوا بالبحث عنها ، كذلك منعهم عن التزام أمور ما كلفوا التزامها ، وبيّن ضلال أهل الجاهلية فيما حرموه على أنفسهم وما شرعوه بغير إذن ربهم ، وأن ذلك باطل ، وأن التقليد باطل أيضا مناف للعلم والدين.

التفسير والبيان :

ما شرع الله أصلا تحريم هذه الأشياء الأربعة ، وما حرّم البحيرة ولا السائبة ، ولا الوصيلة ، ولا الحامي ، ولكن أهل الجاهلية بتحريمهم ما حرموا يفترون على الله الكذب ، حيث ما كانوا يفعلون ما يفعلون ، وينسبونه إلى شرع الله ، وأكثرهم لا يفعلون أن ذلك افتراء على الله ، وتعطيل للعقل والفكر ، وكفر ووثنية وشرك ، والله لا يأمر بالكفر ولا يرضاه لعباده.

وكان أول من حرم هذه المحرمات ، وشرع للعرب عبادة الأصنام هو عمرو بن لحيّ الخزاعي ، فهو الذي غيّر دين إبراهيم ، وبحر البحيرة ، وسيّب السائبة وحمى الحامي.

٨٦

روى البخاري من حديث عائشة رضي‌الله‌عنها قالت : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «رأيت جهنم يحطم بعضها بعضا ، ورأيت عمرا يجرّ قصبه ـ أمعاءه ـ وهو أول من سيّب السوائب»(١).

وروى الطبري عن أبي هريرة قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول لأكثم بن الجون : «يا أكثم ، رأيت عمرو بن لحيّ بن قمعة بن خندف يجرّ قصبه ـ أمعاءه ـ في النار ، فما رأيت رجلا أشبه برجل منك به ولا به منك ، فقال أكثم : أخشى أن يضرّني شبهه يا رسول الله ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لا ، إنك مؤمن ، وهو كافر ، إنه أول من غيّر دين إسماعيل ، وبحر البحيرة ، وسيب السائبة ، وحمى الحامي» (٢).

ثم ناقشهم القرآن بقوله تعالى : (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا ..) أي إذا قيل للمشركين : تعالوا إلى العمل بما أنزل الله من الأحكام المؤيدة بالبراهين ، وإلى الرسول المبلّغ لها والمبين لمجملها ، أجابوا : يكفينا ما وجدنا عليه آباءنا ، فهم لنا أئمة قادة مشرّعون ، ونحن لهم تبع.

فردّ الله عليهم مستفهما استفهاما إنكاريا : أيكفيهم ذلك ، ولو كان آباؤهم لا يعلمون شيئا أبدا من الشرائع ، ولا يهتدون إلى مصلحة أو خير أصلا في الدين والدنيا ، فهم يتخبطون في ظلمات الوثنية وخرافة المعتقدات ، ويشرعون لأنفسهم بحسب أهوائهم ، من وأد البنات ، وشرب الخمور ، وظلم الأيتام والنساء ، وارتكاب الفواحش والمنكرات ، وشن الحروب لأتفه الأسباب ، وإثارة العداوة والبغضاء.

وهذا تنديد بالتقليد الأعمى والتعصب الموروث من غير وعي ولا إدراك ،

__________________

(١) تفسير ابن كثير : ٢ / ١٠٧.

(٢) تفسير الطبري : ٧ / ٥٦ ، ابن كثير ، المكان السابق.

٨٧

كما قال تعالى في آيات كثيرة منها : (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ : اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللهُ قالُوا : بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا ، أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً ، وَلا يَهْتَدُونَ) [البقرة ٢ / ١٧٠]

فقه الحياة أو الأحكام :

الله تعالى خالق الخلق هو مصدر الشرائع والأنظمة كلها للناس ، وكل شرع لم يشرعه الله فهو مرفوض ، وقد نفى الله تعالى في هذه الآيات تشريع أهل الضلال في الجاهلية ، وأعلن لهم : ما سمّى الله ، ولا سنّ ذلك حكما ، ولا تعبّد به شرعا ، وإن علم به وأوجده بقدرته وإرادته خلقا ، فإن الله خالق كل شيء من خير وشر ، ونفع وضرّ ، وطاعة ومعصية.

ولو عقل الجاهليون لما فعلوا أصل الكفر والوثنية والشرك ، ولما ضللوا أنفسهم بتحريم ما حرموا ، فأي هدف يرتجى ، وأي نفع يؤمّل ، وأي مصلحة تعود عليهم من عبادة حجر لا يضرّ ولا ينفع ، ومن تحريم أشياء لا فائدة ولا جدوى من تعطيل منافعها ، وحجرها للأصنام؟!!

ولو عقلوا أيضا لنظروا وفكروا فيما ورثوه ، فاختاروا الصالح ، وأعرضوا عن الفاسد ، ولكنه التقليد الأعمى للآباء والأسلاف من غير روية ولا إمعان ، ولا دراية ولا تفكير ، فالتقليد أمر ضار ، مناف للعلم والدين ، مناقض للعقل والمصلحة.

وفضلا عن ذلك إنهم يحرمون بأهوائهم ويقلدون آباءهم ، ويزعمون أنهم يفعلون ذلك لإرضاء ربهم وإطاعة خالقهم ، من دون دليل ولا برهان على ما يقولون ، وإنما هو محض الكذب والافتراء على الله ، كما قال تعالى : (وَقالُوا : هذِهِ أَنْعامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لا يَطْعَمُها إِلَّا مَنْ نَشاءُ بِزَعْمِهِمْ ، وَأَنْعامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها ، وَأَنْعامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللهِ عَلَيْهَا ، افْتِراءً عَلَيْهِ ، سَيَجْزِيهِمْ بِما كانُوا يَفْتَرُونَ.

٨٨

وَقالُوا : ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا ، وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا ، وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكاءُ ، سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ ، إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) [الأنعام ٦ / ١٣٨ ـ ١٣٩] حقا إنه تعالى حكيم عليم بالتحريم والتحليل ، ولكن المشكلة تكمن في إهمال العقل وتعطيل الفكر ، إنها آفة العقل المعطل لدى زعماء الجاهلية وأتباعها!!

والخلاصة : لقد حرموا على أنفسهم من الأنعام ما لم يحرمه الله ، اتباعا منهم خطوات الشيطان ، فوبخهم الله تعالى بذلك ، وأخبرهم أن كل ذلك حلال ، فالحرام من كل شيء : ما حرمه الله تعالى ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بنص أو دليل ، والحلال منه : ما أحله الله ورسوله كذلك.

وقد استدل أبو حنيفة رضي‌الله‌عنه بهذه الآية في منعه الأحباس ورده الأوقاف ، بأن الله تعالى عاب على العرب ما كانت تفعل من تسييب البهائم وحمايتها وحبس أنفاسها عنها ، وقاس على البحيرة والسائبة. غير أن هناك فرقا بيّنا بين الأوقاف الإسلامية للأراضي والدور ونحوها ، وبين هذه الأحباس التي لا معنى لها ، وقد عابهم الله أن تصرفوا بعقولهم بغير شرع توجه إليهم ، وعطلوا المنافع والمصالح للناس في تلك الإبل من غير فائدة.

لذا قرر جمهور العلماء القول بجواز الأحباس والأوقاف ؛ لما روي أن ابن عمر في رواية النسائي استأذن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في أن يتصدق بسهمه بخيبر ، فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «احبس الأصل وسبّل الثمرة» أي اجعلها وقفا وأبح ثمرتها لمن وقفتها عليه ، وهو حديث صحيح. وقد أجمع الصحابة على مشروعية الوقف ، وذلك أن أبا بكر وعمر وعثمان وعليا ، وعائشة وفاطمة ، وعمرو بن العاص ، وابن الزبير ، وجابرا كلهم وقفوا الأوقاف ، وأوقافهم بمكة والمدينة معروفة مشهورة. وروي أن أبا يوسف قبل أن يرجع عن قول أبي حنيفة في ذلك قال

٨٩

لمالك بحضرة الرشيد : إن الحبس لا يجوز ، فقال له مالك : هذه الأحباس أحباس رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم بخيبر وفدك وأحباس أصحابه.

وأما قول شريح : «لا حبس عن فرائض الله» فليس الوقف حبسا عن الفرائض ، قال الطبري : الصدقة التي يمضيها المتصدق في حياته ، على ما أذن الله به على لسان نبيه ، وعمل به الأئمة الراشدون رضي‌الله‌عنهم ، ليس من الحبس عن فرائض الله ، ولا حجة في قول شريح ، ولا في قول أحد يخالف السنة ، وعمل الصحابة الذين هم الحجة على جميع الخلق.

والمجيزون للوقف لا يجيزون أن ينتفع الواقف بوقفه ؛ لأنه أخرجه لله وقطعه عن ملكه ، فانتفاعه بشيء منه رجوع في صدقته ؛ وإنما يجوز له الانتفاع إن شرط ذلك في الوقف ، أو افتقر هو أو ورثته ، فيجوز لهم الأكل منه كسائر الفقراء.

وهل حق التصرف في منافع الموقوف للواقف أو لغيره؟ قال الشافعي وأبو يوسف : يحرم على الواقف ملكه ، إلا أنه يجوز له أن يتولى صدقته ، فيفرّقها ويوزعها بين المستحقين ؛ لأن عمر رضي‌الله‌عنه لم يزل يلي صدقته ، حتى قبضه الله عزوجل ، وكذلك علي وفاطمة كانا يليان صدقاتهما.

وقال مالك : لا يتم الوقف حتى يتولاه غير الواقف ، فيقبضه ويتصرف بمنافعه من كراء وقسمة بين المساكين المستحقين ، ما عدا الخيل والسلاح.

٩٠

التفويض إلى الله تعالى

بعد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٠٥))

الإعراب :

(عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ) : (أَنْفُسَكُمْ) : منصوب على الإغراء ، أي : احفظوا أنفسكم ، كما تقول : عليك زيدا. (لا يَضُرُّكُمْ) : في موضع الجزم ، لأنه جواب : (عَلَيْكُمْ). وكان ينبغي أن يفتح آخره ، إلا أنه أتى به مضموما تبعا لضم ما قبله.

المفردات اللغوية :

(عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ) أي احفظوها وقوموا بصلاحها (فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي فيخبركم بأعمالكم ويجازيكم عليها.

سبب النزول :

ذكر الواحدي عن ابن عباس : كتب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى أهل هجر وعليهم منذر بن ساوى ، يدعوهم إلى الإسلام ، فإن أبوا فليؤدوا الجزية ، فلما أتاه الكتاب عرضه على من عنده من العرب واليهود والنصارى ، والصابئين والمجوس ، فأقروا بالجزية وكرهوا الإسلام ، وكتب إليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أما العرب فلا تقبل منهم إلا الإسلام أو السيف ، وأما أهل الكتاب والمجوس فاقبل منهم الجزية ، فلما قرأ عليهم كتاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أسلمت العرب ، وأما أهل الكتاب والمجوس فأعطوا الجزية ، فقال منافقو العرب : عجبا من محمد يزعم أن الله يبعثه

٩١

ليقاتل الناس كافة حتى يسلموا ، ولا يقبل الجزية إلا من أهل الكتاب ، فلا نراه إلا قبل من مشركي أهل هجر ما ردّ على مشركي العرب ، فأنزل الله تعالى : (عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ) يعني من ضل من أهل الكتاب (١).

هذه رواية ، وقيل : المراد غير أهل الكتاب ، لما روى الإمام أحمد قال : قام أبو بكر الصديق رضي‌الله‌عنه ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : أيها الناس ، إنكم تقرؤون هذه الآية ، وإني سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «إن الناس إذا رأوا المنكر ولا يغيرونه ، يوشك الله عزوجل أن يعمهم بعقابه» قال : وسمعت أبا بكر يقول : يا أيها الناس : إياكم والكذب ، فإن الكذب مجانب الإيمان.

وقد روى هذا الحديث أيضا أصحاب السنن الأربعة وابن حبان في صحيحة وغيرهم من طرق كثيرة عن جماعة كثيرة عن إسماعيل بن أبي خالد به متصلا مرفوعا ، ومنهم من رواه عنه به موقوفا على الصّديق ، وقد رجح رفعه الدار قطني وغيره.

ولما روى الترمذي عن أبي أمية الشعباني قال : «أتيت أبا ثعلبة الخشني ، فقلت له : كيف تصنع في هذه الآية؟ قال : أيّة آية؟ قلت : قول الله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ) قال : أما والله ، لقد سألت عنها خبيرا ، سألت عنها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «بل ائتمروا بالمعروف ، وتناهوا عن المنكر ، حتى إذا رأيت شحا مطاعا ، وهوى متبعا ، ودنيا مؤثرة ، وإعجاب كل ذي رأي برأيه ، فعليك بخاصة نفسك ، ودع العوام ، فإن من ورائكم أياما : الصابر فيهن مثل القابض على الجمر ، للعامل فيهن مثل أجر خمسين رجلا ، يعملون كعملكم» وزيد في رواية : «قيل : يا رسول الله ،

__________________

(١) أسباب النزول للواحدي : ص ١٢١

٩٢

أجر خمسين رجلا منا أو منهم؟ قال : بل أجر خمسين منكم» ثم قال الترمذي : هذا حديث حسن غريب صحيح.

المناسبة :

لما بيّن الله تعالى أنواع التكاليف والشرائع والأحكام ، ثم قال : (ما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ) ثم نعى على المشركين تقليدهم الآباء : (قالُوا : حَسْبُنا ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا) وندّد بإعراضهم عن الإعذار والإنذار والترغيب والترهيب ، وبقوا مصرين على جهلهم مقيمين على ضلالهم ، لما بيّن كل ذلك قال الله للمؤمنين : (لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ) فلا تبالوا أيها المؤمنون بجهالتهم وضلالهم ، بل أصلحوا أنفسكم ، ونفذوا تكاليف الله ، وأطيعوا أوامره ونواهيه.

والخلاصة : وجه اتصال هذه الآية بما قبلها التحذير مما يجب التحذير منه.

التفسير والبيان :

يأمر الله عباده المؤمنين أن يصلحوا أنفسهم ، ويفعلوا الخير بجهدهم وطاقتهم ، ويخبرهم أنه من أصلح أمره لا يضره فساد من فسد من الناس ، سواء كان قريبا منه أو بعيدا.

يا أيها الذين صدقوا بالله ورسوله ، احفظوا أنفسكم من المعاصي ، وتقربوا إلى ربكم بخالص الأعمال ، وخلّصوها من العقاب ، ولا يضركم ضلال غيركم إذا اهتديتم إلى الحق ، وإلى الله رجوعكم ، فيخبركم بأعمالكم ، ويجازي كل عامل بعمله : إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر.

وليس في هذه الآية دليل على ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إذا كان فعل ذلك ممكنا ، بل توجب الآية أن المطيع لربه لا يكون مؤاخذا بذنوب

٩٣

العاصي ، فهي تقرر مبدأ المسؤولية الشخصية مثل قوله تعالى : (كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ) [المدثر ٧٤ / ٣٨] (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) [الأنعام ٦ / ١٦٤].

فقه الحياة أو الأحكام :

ظاهر هذه الآية يدل على أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليس بواجب إذا استقام الإنسان ، وأنه لا يؤاخذ أحد بذنب غيره : (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) [الأنعام ٦ / ١٦٤] لو لا ما ورد من تفسيرها في السنة وأقاويل الصحابة والتابعين ، كما تقدم في سبب النزول.

وعلى كل حال يمكن فهم الآية بغير الرجوع إلى السنة ، فهي تطالب المؤمن أولا ببناء الذات والتسلح بفضائل الأعمال والاعتماد على النفس في كل أنواع القربات ، واجتناب المعاصي والسيئات.

وذلك لأن هناك آيات كثيرة تطالب بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ولا تعارض بين الموضوعين ، فهذه الآية في تكوين الشخصية والذات المسلمة ، وآيات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في النطاق الاجتماعي فهي توجب التناصح والتعاون على الخير وإقرار الفضيلة ، ومقاومة الشر ومحاربة الرذيلة والمنكر.

قال سعيد بن المسيب : معنى الآية : لا يضركم من ضل إذا اهتديتم بعد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وأما إن كانت الآية نازلة في حق غير المسلمين فلا إشكال والمعنى : عليكم أهل دينكم ولا يضركم من ضل من الكفار.

والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب متعين متى وجد رجاء القبول ، أو رد الظالم ولو بعنف ، فإن خاف الآمر ضررا في خاصته ، أو فتنة يدخلها على المسلمين ، أو الوقوع في التهلكة بأن يعلم يقينا أو يظن ظنا قويا بعدم جدوى نصحه إذا أمر بالمعروف أو نهى عن المنكر ، سقطت هذه الفريضة.

٩٤

ودلت الآية على توجيه إنذار عام ؛ إذ قال تعالى : (إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي إن مصير الخلائق جميعا واحد ، مصير المؤمنين ومصير المخالفين ، وهو تعالى يجازيكم بأعمالكم.

الشهادة على الوصية حين الموت

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمانِ بِاللهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللهِ إِنَّا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ (١٠٦) فَإِنْ عُثِرَ عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً فَآخَرانِ يَقُومانِ مَقامَهُما مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيانِ فَيُقْسِمانِ بِاللهِ لَشَهادَتُنا أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما وَمَا اعْتَدَيْنا إِنَّا إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (١٠٧) ذلِكَ أَدْنى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها أَوْ يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ بَعْدَ أَيْمانِهِمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَاسْمَعُوا وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (١٠٨))

الإعراب :

(شَهادَةُ بَيْنِكُمْ) مبتدأ ، و (إِذا حَضَرَ) ظرف له ومعمول له ، ولا يجوز أن يكون العامل فيه (الْوَصِيَّةِ) لوجهين : أحدهما ـ أنه مضاف إليه ، والمضاف إليه لا يعمل فيما قبل المضاف.

والثاني ـ أنه مصدر ، والمصدر لا يعمل فيما قبله.

(حِينَ الْوَصِيَّةِ) بدل من (إِذا) وقيل : العامل فيه (حَضَرَ).

(اثْنانِ) خبر المبتدأ ، وتقديره : شهادة بينكم شهادة اثنين ، ولا بد من هذا التقدير ؛ لأن شهادة لا تكون هي الاثنين.

٩٥

(أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ) معطوف على قوله : (اثْنانِ). (تَحْبِسُونَهُما) جملة فعلية في موضع رفع لأنها صفة (آخَرانِ).

(إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ) : اعتراض بين الصفة والموصوف ، واستغنى عن جواب (اثْنانِ) بما تقدم من الكلام : لان معنى (اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ) في معنى الأمر ، وإن كان لفظه لفظ الخبر. واستغنى عن جواب (إِذا) أيضا بما تقدم من الكلام وهو قوله : (شَهادَةُ بَيْنِكُمْ) لأن معناه : ينبغي أن يشهدوا إذا حضر أحدكم الموت. (فَيُقْسِمانِ بِاللهِ) الفاء فيه لعطف جملة على جملة ، ويجوز أن يكون جواب شرط ؛ لأن (تَحْبِسُونَهُما) في معنى الأمر ، فهي جواب الأمر الذي دل عليه الكلام ، كأنه قال : «إن حبستموهما أقسما».

(لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً) جواب لقوله : (فَيُقْسِمانِ) لأن أقسم يجاب بما يجاب به القسم. والهاء في (مُصِيبَةُ) تعود على الشهادة ، إلا أنه عاد الضمير بالتذكير ، لأنها في المعنى : قول ، والحمل على المعنى كثير في كلامهم.

(فَآخَرانِ) : إما خبر مبتدأ مقدر وهو الأوليان ، وتقديره : فالأوليان آخران. ويقومان : صفة (فَآخَرانِ). وإما خبر مبتدأ محذوف تقديره : فالشاهدان آخران ، و (الْأَوْلَيانِ) بدل من ضمير (يَقُومانِ). وإما مبتدأ ، و (يَقُومانِ) : صفة له ، و (الْأَوْلَيانِ) : خبره. ومعنى (الْأَوْلَيانِ) : الأقربان إلى الميت.

(لَشَهادَتُنا) اللام : جواب لقوله : (فَيُقْسِمانِ بِاللهِ) ؛ لأن أقسم يجاب بما يجاب به القسم.

(أَنْ يَأْتُوا) : في موضع نصب على تقدير حذف حرف الجر ، وتقديره : أدنى بأن يأتوا.

البلاغة :

(شَهادَةُ بَيْنِكُمْ) جملة خبرية لفظا ، إنشائية معنى ، يراد بها الأمر ، أي ليشهد بينكم.

المفردات اللغوية :

(شَهادَةُ) هي إخبار عن علم بواقعة بواسطة الحس البصري (المشاهدة) أو السمعي (إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ) أي أسبابه ، وقوله : (شَهادَةُ بَيْنِكُمْ ... اثْنانِ) خبر بمعنى الأمر اي ليشهد اثنان عدلان ، وإضافة شهادة لبين على الاتساع (أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ) أي من غير ملتكم (ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ) سافرتم ؛ لأن المسافر يضرب الأرض برجليه (تَحْبِسُونَهُما) توقفونهما ، وهي صفة : (آخَرانِ مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ) صلاة العصر واعتبارها للتغليظ (فَيُقْسِمانِ) يحلفان (إِنِ

٩٦

ارْتَبْتُمْ) شككتم فيهما أي في صدقهما فيما يقران به (لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً) أي ويقولان : لا نشتري بالله عوضا نأخذه بدله من الدنيا ، بأن نحلف به أو نشهد كذبا لأجله.

(وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى) أي ولو كان المقسم له أو المشهود له ذا قرابة منا. (إِنَّا إِذاً) إن كتمناها (الْآثِمِينَ) العاصين (عُثِرَ) اطلع بعد حلفهما (اسْتَحَقَّا إِثْماً) أي ارتكبا فعلا يوقع في الإثم من خيانة أو كذب في الشهادة ، بأن وجد عندهما مثلا ما اتهما به وادعيا أنهما ابتاعاه من الميت أو وصى لهما به (فَآخَرانِ يَقُومانِ مَقامَهُما) في توجه اليمين عليهما (مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ) الوصية ، وهم الورثة (الْأَوْلَيانِ) بالميت ، أي الأقربان إليه لأنهم أعلم بأحوال الميت وهم به أشفق وبورثته أرحم (فَيُقْسِمانِ بِاللهِ) على خيانة الشاهدين ويقولان : (لَشَهادَتُنا) يميننا (أَحَقُ) أصدق (مِنْ شَهادَتِهِما) يمينهما (وَمَا اعْتَدَيْنا) تجاوزنا الحق في اليمين.

(ذلِكَ) الحكم المذكور من رد اليمين على الورثة (أَدْنى) أقرب إلى (أَنْ يَأْتُوا) أي الشهود أو الأوصياء (بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها) الذي تحملوها عليه من غير تحريف ولا خيانة ، أو أقرب إلى ان (يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ بَعْدَ أَيْمانِهِمْ) على الورثة المدعين ، فيحلفوا على خيانتهم وكذبهم ، فيفتضحوا ويغرموا فلا يكذبوا (وَاتَّقُوا اللهَ) بترك الخيانة والكذب (وَاسْمَعُوا) ما تؤمرون به سماع قبول (الْفاسِقِينَ) الخارجين عن طاعته. والله لا يهديهم إلى سبيل الخير.

سبب النزول :

روى البخاري والدار قطني والطبري وابن المنذر عن عكرمة عن ابن عباس قال : «كان تميم الداري وعدي بن بدّاء رجلين نصرانيين ، يتّجران إلى مكة في الجاهلية ويطيلان الإقامة بها ، فلما هاجر النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حوّلا متجرهما إلى المدينة ، فخرج بديل السهمي مولى عمرو بن العاص تاجرا حتى قدم المدينة ، فخرجوا جميعا تجارا إلى الشام ، حتى إذا كانوا ببعض الطريق اشتكى بديل ، فكتب وصية بيده ، ثم دسّها في متاعه وأوصى إليهما ، فلما مات فتحا متاعه فأخذا منه شيئا (إناء من فضة منقوشا بالذهب) ثم حجراه كما كان ، وقدما المدينة على أهله ، فدفعا متاعه ، ففتح أهله متاعه ، فوجدوا كتابه وعهده وما خرج به ، وفقدوا شيئا فسألوهما عنه ، فقالوا : هذا الذي قبضنا له ودفع إلينا.

٩٧

فقالوا لهما : هذا كتابه بيده ، قالوا : ما كتمنا له شيئا ، فترافعوا إلى النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فنزلت هذه الآية : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ ..) إلى قوله : (إِنَّا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ).

فأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يستحلفوهما في دبر صلاة العصر : بالله الذي لا إله إلا هو ، ما قبضنا غير هذا ولا كتمنا ، فمكثا ما شاء الله أن يمكثا ، ثم ظهر معهما إناء من فضة منقوش مموّه بالذهب ، فقال أهله : هذا من متاعه ، قالا : نعم ، ولكنا اشتريناه منه ونسينا أن نذكره حين حلفنا ، فكرهنا أن نكذب نفوسنا ، فترافعوا إلى النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فنزلت الآية : (فَإِنْ عُثِرَ عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً) فأمر النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم رجلين من أهل البيت أن يحلفا على ما كتما وغيّبا ويستحقانه.

ثم إن تميما الداري أسلم وبايع النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكان يقول : صدق الله ورسوله ، أنا أخذت الإناء (١).

والخلاصة : اتفق المفسرون على أن سبب نزول هذه الآية هو تميم الداري وأخوه عدي النصرانيان حين خرجا إلى الشام للتجارة ومعهما بديل بن أبي مريم من بني سهم مولى عمرو بن العاص ، وكان مسلما مهاجرا.

المناسبة :

حكم سبحانه في الآية السابقة أن المرجع والمصير إليه بعد الموت ، وأنه يحاسب الناس ويجازيهم على أعمالهم يوم القيامة ، فناسب أن يذكر ما تتطلبه الوصية قبل الموت من إشهاد ، حفاظا عليها وإثباتا لها لتنفيذها.

التفسير والبيان :

يا من صدقتم بالله ورسوله ، ليشهد المحتضر على وصيته اثنين عدلين من

__________________

(١) تفسير الطبري : ٧ / ٧٥

٩٨

الرجال المسلمين ، فقوله (مِنْكُمْ) أي من المؤمنين وقوله : (إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ) أي اقترب منه وظهرت أمارات الموت ، أو يشهد للضرورة اثنين آخرين من غير المؤمنين في حال السفر ، وذلك يدل على تأكيد الوصية والإشهاد عليها.

وهناك في الكلام حذف تقديره : إن أنتم ضربتم في الأرض فأصابتكم مصيبة الموت ، فأوصيتم إلى اثنين عدلين في ظنكم ، ودفعتم إليهما ما معكم من المال ، ثم متم وذهبا إلى ورثتكم بالتركة ، فارتابوا في أمرهما ، وادعوا عليهما خيانة ، فالحكم أن تحبسوهما بعد الصلاة.

ووقت الشهادة : بعد صلاة العصر ؛ لأنها كانت معهودة للتحليف عندها وكان ذلك وقت القضاء وفصل الدعاوي ، وكونها عقب الصلاة للتغليظ والتهويل ؛ لقوله تعالى : (تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ) أي تقفونهما وتستوثقون منهما وتقدمونهما للحلف بعد العصر ، كما فعل النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مع تميم وأخيه. وروي عن ابن عباس أن الشاهدين إذا كانا غير مسلمين ، فالمراد بالصلاة : صلاة أهل دينهما. ورجح الطبري أنها صلاة بعينها من صلوات المسلمين ؛ لأن الله تعالى عرّف هذه الصلاة بالألف واللام ، ولا يكون ذلك عند العرب إلا في معروف إما في جنسه أو عينه ، وأما اليهود والنصارى فلهم صلوات عديدة غير واحدة ، فيكون معلوما أنها المعنية بذلك في عرف القضاء والناس.

وإن شككتم في صدق الشاهدين وإقرارهما فيحلفان بقولهما : لا نشتري بيمين الله عوضا نأخذه من الدنيا بأن نحلف به كذبا ، والمراد بالثمن عند الأكثرين : المثمون وضمير (مُصِيبَةُ) يعود إلى القسم المفهوم من (فَيُقْسِمانِ) والمعنى : لا نستبدل بصدق القسم بالله وصحته عرضا من الدنيا ، ولو كان المقسم له أو المشهود له من أقاربنا ، أي لا نحلف بالله كاذبين لأجل المال ، ولو كان من نقسم له قريبا منا ، على معنى أن هذه عادتهم في صدقهم وأمانتهم أبدا ، وأنهم داخلون

٩٩

تحت قوله تعالى : (كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ)(١). أما الأمين فيصدق بلا يمين.

والخلاصة : أن يحلف الشاهد بأن يقول الحق ، ويشهد بالعدل ، ولا يتأثر بعوض مالي يأخذه عوضا عن يمينه ، ولا بمراعاة قريب له إن كانت الشهادة له. (وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللهِ ..) أي ويقولون في يمينهما أيضا : لا نكتم الشهادة التي أوجبها الله وأمر بحفظها وإظهارها من وقت التحمل إلى الأداء ، كما قال : (وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ) فإنا إن فعلنا ذلك ، واشترينا بالقسم ثمنا أي عوضا أو راعينا به قريبا ، أو كتمنا شهادة الله ، كنّا من العاصين المتحملين إثما كبيرا نعاقب عليه.

(فَإِنْ عُثِرَ) أي اطلع على أمارة كذبهما أو خيانتهما وكتمانهما وأنهما فعلا ما أوجب الإثم ، فترد اليمين إلى الورثة ، فيحلف رجلان يقومان مقام الشاهدين ، الأوليان بالميت أي من أقاربه الذين هم أحق بالإرث إن لم يوجد مانع شرعي ، فيحلفان بالله لشهادتنا أي يميننا أحق وأصدق من أيمانهما ، وما اعتدينا في طلب هذا المال وفي الحكم على الشاهدين بالخيانة ، إنا إذا اعتدينا أو خوناهما وهما ليسا بخائنين لمن الظالمين ، أي المبطلين الكاذبين. فالمراد بقوله : (لَشَهادَتُنا) اليمين ، كما قال تعالى : (فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللهِ) [النور ٢٤ / ٦] ، والمراد بقوله : (مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ) أي من الذين استحقت عليهم الوصية أو استحق عليهم الإيصاء ، والأوليان بالميت : الأقربان منه.

وتخصيص الحلف في الآية باثنين من أقرب الورثة لخصوص الواقعة التي نزلت لها.

__________________

(١) الكشاف : ١ / ٤٨٨

١٠٠