التفسير المنير - ج ٧

الدكتور وهبة الزحيلي

عند انقراض الحياة إلا الحسرة والندامة ، كاللهو واللعب يلتذ به ، ثم بعد انتهائه لا يبقى منه إلا الندامة.

وأومأ قوله تعالى : (وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ) بصدد مقارنتها بالحياة الدنيا إلى أن خيرات الآخرة أفضل من خيرات الدنيا ، وأن خيرات الدنيا خسيسة وخيرات الآخرة شريفة.

ونتيجة المقارنة بين الدنيا والآخرة يتبين منها أن سعادات الدنيا وخيراتها مشوبة بعيوب كثيرة ونقصانات عديدة ، وأن سعادات الآخرة مبرأة عنها ، مما يدل قطعا على أن الآخرة أكمل وأفضل وأبقى وأحرى وأولى.

حزن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لإعراض قومه وبيان تكذيب الرسل المتقدمين

(قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللهِ يَجْحَدُونَ (٣٣) وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللهِ وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ (٣٤) وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّماءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ (٣٥))

الإعراب :

(فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ) بالتشديد ، أراد به : لا ينسبونك إلى الكذب ؛ لأنهم لا يعرفونك بذلك ، وإنما يعرفونك بالصدق ، وكانوا يسمونه «محمدا الأمين» قبل النبوة. وتقرأ بالتخفيف ، ومعناه : لا يصادفونك كاذبا ولا يجدونك كاذبا.

١٨١

(مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ مِنْ) : فيها وجهان : أحدهما ـ أن تكون وصفا لمصدر محذوف وتقديره : ولقد جاءك مجيء من نبأ المرسلين ، ويكون الفعل (جاءَكَ) دالا على المصدر المحذوف ، وهذا مذهب سيبويه. والثاني ـ أن تكون زائدة ، وتقديره : ولقد جاءك نبأ المرسلين ، وهو مذهب الأخفش.

(فَإِنِ اسْتَطَعْتَ) إن : شرط ، وجوابه محذوف ، وتقديره : إن استطعت أن تبتغي نفقا في الأرض فافعل ذلك.

البلاغة :

(كُذِّبَتْ رُسُلٌ) نوّن كلمة (رُسُلٌ) للتكثير والتفخيم.

المفردات اللغوية :

(قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ) قد : للتحقيق ، وإنه : الضمير للشأن (لَيَحْزُنُكَ) الحزن : ألم نفسي يحدث بسبب فقد محبوب ، أو امتناع مرغوب ، أو حدوث مكروه. الذين يقولون لك من التكذيب (فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ) في السر ، لعلمهم أنك صادق ، والتكذيب : الرمي بالكذب.

(بِآياتِ اللهِ) القرآن (يَجْحَدُونَ) الجحود : إنكار ما ثبت في القلب ، أو إثبات ما نفي فيه. (لِكَلِماتِ اللهِ) هي وعده ووعيده ، وعده للرسل بالنصر ، ووعيده لأعدائهم بالخذلان ، كما قال تعالى في إنجاز الوعد : (كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي) [المجادلة ٥٨ / ٢١] وقوله : (وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ ، إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ ، وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ) [الصافات ٣٧ / ١٧١ ـ ١٧٣] وقال عزوجل في إنزال الوعيد : (أَمْ يَقُولُونَ : نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ ، سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ) [القمر ٥٤ / ٤٤ ـ ٤٥] (نَبَإِ) النبأ : هو الخبر ذو الشأن العظيم (كَبُرَ) عظم وشق عليه وقعة (إِعْراضُهُمْ) الإعراض : التولي والانصراف عن الشيء رغبة عنه أو احتقارا له ، والمراد : إعراضهم عن الإسلام ، وقد كبر على الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم إعراضهم لحرصه عليهم (فَإِنِ اسْتَطَعْتَ) صار في مقدورك باستكمال الأسباب التي تمكنك من فعله (أَنْ تَبْتَغِيَ) تطلب ما فيه كلفة ومشقة ، ويكون في الخير كابتغاء رضوان الله ، وفي الشر كابتغاء الفتنة (نَفَقاً) سربا في الأرض ، وهو حفرة نافذة لها مدخل ومخرج (أَوْ سُلَّماً) مصعدا أو مرقاة ، مأخوذ من السلامة ، لأنه الذي يسلمك إلى مكان صعودك ، وتذكيره أفصح من تأنيثه. (بِآيَةٍ) معجزة مما اقترحوا. المعنى : أنك لا تستطيع ذلك ، فاصبر حتى يحكم الله (وَلَوْ شاءَ اللهُ) هدايتهم (لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى) ولكن لم يشأ ذلك ، فلم يؤمنوا (فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ) بذلك ، الجهل هنا : ضد

١٨٢

العلم ، وليس كل جهل عيبا ؛ لأن الإنسان محدود العلم ، وإنما العيب بجهل ما يجب عليه علمه ، أو ما ينبغي عليه معرفته من الكمال في حقه.

سبب النزول :

نزول الآية (٣٣):

(قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ) : روى الترمذي والحاكم عن علي : أن أبا جهل قال للنّبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم : إنا لا نكذبك ، ولكن نكذب بما جئت به ، فأنزل الله : (فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ ، وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللهِ يَجْحَدُونَ). وهذا مروي أيضا عن أبي ميسرة.

وقال السّدّي : التقى الأخنس بن شريق وأبو جهل بن هشام ، فقال الأخنس لأبي جهل : يا أبا الحكم ، أخبرني عن محمد ، أصادق هو أم كاذب؟ فإنه ليس هنا من يسمع كلامك غيري ، فقال أبو جهل : والله إن محمدا لصادق ، وما كذب محمد قط ، ولكن إذا ذهب بنو قصي باللواء والسقاية والحجابة والنّدوة والنبوة ، فما ذا يكون لسائر قريش؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية. وعلى هذا فإن الروايتين متفقتان على أن الآية قد نزلت في أبي جهل.

وقال مقاتل : نزلت في الحارث بن عامر بن نوفل بن عبد مناف بن قصي بن كلاب ، كان يكذب النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في العلانية ، وإذا خلا مع أهل بيته قال : ما محمد من أهل الكذب ، ولا أحسبه إلا صادقا ، فأنزل الله تعالى هذه الآية (١).

المناسبة :

الآيات استمرار في مناقشة الكفار ومشركي مكة ودعوتهم إلى الإسلام ،

__________________

(١) أسباب النزول للواحدي ١٢٣ ، أسباب النزول للسيوطي.

١٨٣

ومحاجتهم في التوحيد والنبوة والبعث. ناقش الله تعالى أولا فريقا من الكفار ينكر نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ لأنه كان ينكر رسالة البشر ، ويطلب أن يكون الرسول من جنس الملائكة. ثم ناقش ثانيا فريقا آخر ينكر البعث والحشر والنشر بعد الموت ، ثم ذكر هنا الرد على من كان يؤذي الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالقول ، متهما إياه بالكذب في الظاهر ، أو أنه ساحر أو شاعر أو كاهن أو مجنون.

التفسير والبيان :

يواسي الله نبيه في تكذيب قومه له ، ومخالفتهم إياه ، وإيلامه بالإعراض عن دعوته ، فيقول : (قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ) أي قد علمنا بتكذيبهم لك وحزنك وتأسفك عليهم ، كما جاء في قوله تعالى : (فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً) [الكهف ١٨ / ٦] و (باخِعٌ نَفْسَكَ) أي مهلكها ، وقوله : (فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ) [فاطر ٣٥ / ٨].

ومنشأ هذا التكذيب في الظاهر : هو العناد والجحود ، كما قال تعالى : (فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ ..) أي لا يتهمونك بالكذب في الواقع ، فأنت الصادق الأمين في نظرهم ، فما جربوا عليك كذبا ولا خيانة ، ولكنهم يعاندون الحق ، ويجحدون بآيات الله ، ويردونها بصدودهم.

روى ابن أبي حاتم عن أبي يزيد المدني : أن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لقي أبا جهل فصافحه ، فقال له رجل : ألا أراك تصافح هذا الصابئ؟ فقال : والله ، إني لأعلم إنه لنبي ، ولكن متى كنا لنبي عبد مناف تبعا؟ وتلا أبو يزيد : (فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ ، وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللهِ يَجْحَدُونَ).

وقال أبو صالح وقتادة : يعلمون أنك رسول الله ويجحدون.

هذا الموقف من المشركين شبيه تماما بموقف اليهود والنصارى المتقدم بيانه ،

١٨٤

كل منهم يعلم حقيقة أن محمدا رسول الله ، ولكنهم يعارضون الحق ويقاومونه عنادا منهم واستكبارا وحفاظا على مراكزهم بين الناس.

لهذا فلا تحزن أيها الرسول عليهم ، واصبر على تكذيبهم وإيذائهم ، كما صبر رسل الله قبلك وكما أوذوا ، حتى يتوج الله جهودك بالفوز والغلبة ، ويكلل مساعيك بتبليغ دعوتك بالنصر والانتقام من أعدائك المكذبين ، كما نصر رسله الكرام السابقين.

ثم أكد تعالى هذا النصر وإنجازه لك كما نصر الرسل ، فقال : (وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللهِ) أي لا تغيير ولا خلف في وعد الله ووعيده ، فوعد الله بالنصر في الدنيا والآخرة نافذ منجز لعباده المؤمنين ، وكذا وعيده لا حق بالكافرين ، كما ذكرت من آيات مماثلة في بيان المفردات.

ونظير هذه قوله تعالى : (وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ) [فاطر ٣٥ / ٤] وقوله : (وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَثَمُودُ) [الحج ٢٢ / ٢].

والآية تسلية للنّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد تسلية ، وإرشاد إلى سنة شائعة في الرسل والأمم ، وما على النبي إلا الصبر على الأذى والإعراض كما قال تعالى : (فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ) [الأحقاف ٤٦ / ٣٥] وقال أيضا : (وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ ، وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً) [المزمل ٧٣ / ١٠].

وقد تحقق فعلا أثر الصبر ، ونجحت دعوة الإسلام ، وانتشرت في المشارق والمغارب ، وظهرت حكمة تكرار التسلية لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأمثال هذه الآيات مع الأمر بالصبر مرارا وتكرارا ؛ لأن التأسي والاصطبار يهوّن المصائب ، ويؤذن بالفرج : (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً ، إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً) [الانشراح ٩٤ / ٥ ـ ٦].

١٨٥

ثم أكدّ لله تعالى عدم تبديل كلماته بقوله : (وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ) أي ولقد أخبرناك من أخبار المرسلين التي تفيد تكذيب الناس لهم وصبرهم ثم نصر الله لهم كما قال : (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ) [غافر ٤٠ / ٥١] وقال أيضا : (وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ) [الروم ٣٠ / ٤٧] والنصر مقيد كما هو واضح في هذه الآية وغيرها بشرط توافر الإيمان الصحيح وصدق المؤمنين ، كما قال تعالى : (وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ ، إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) [الحج ٢٢ / ٤٠] وقال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ ، وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ) [محمد ٤٧ / ٧].

وأراد الله أن يستأصل شدة وقع الحزن والألم على قلب النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بسبب إعراض قومه عن دعوته ، فقال له : (وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ ...) أي إن كان شق عليك إعراضهم عنك ، فإن استطعت أن تطلب لنفسك نفقا في أعماق الأرض ، فتسير فيه ، أو سلّما في أجواء السماء ، فترقى فيها إلى ما فوقها ، فتأتيهم بآية مما اقترحوا عليك ، فأت بها ، ولكنك مجرد رسول من عندنا ، لا تستطيع شيئا إلا بإرادتنا ، وكل رسول لا يقدر على شيء أبدا مما يعجز عنه البشر إلا بدعم من الله عزوجل.

ومن أمثلة اقتراحاتهم الإتيان بمعجزات مادية محسوسة كما طلب اليهود تماما : تفجير ينبوع في الأرض ، أو تنزيل كتاب من السماء ونحو ذلك ، كما قال تعالى حاكيا مطالبهم : (وَقالُوا : لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً. أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ ، فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً. أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً ، أَوْ تَأْتِيَ بِاللهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً. أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ ، وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ ، حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ ، قُلْ : سُبْحانَ رَبِّي ، هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولاً) [الإسراء ١٧ / ٩٠ ـ ٩٣] أي أنك بشر لا تقدر على شيء مما يعجز عنه سائر البشر ، ولا يستطيع إيجاده غير الله تعالى.

١٨٦

كل ذلك مرهون بإرادة الله ومشيئته ، فلو شاء الله تعالى هدايتهم ، لهداهم ، بأن يخلق فيهم الإيمان كالملائكة ، أو بأن يخلقهم مستعدين للإذعان للحق والإقرار بهدايات الرسل وما جاؤوا به من خير للعالم ، ولكن شاء الله اختلافهم وتفاوتهم واختبارهم ، كما قال تعالى : (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً) [يونس ١٠ / ٩٩] وقال : (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً ، وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ. إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ ، وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ ...) [هود ١١ / ١١٨ ـ ١١٩].

قال ابن عباس في قوله : (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى) : إن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يحرص أن يؤمن جميع الناس ويتابعوه على الهدى ، فأخبره الله أنه لا يؤمن إلا من قد سبق له من الله السعادة في الذكر الأول.

وإذا عرفت يا محمد سنة الله في خلق الإنسان ، وأنه لا تبديل لخلق الله ، فلا تكونن أحد الجاهلين لسننه في ذلك ، فتتأمل ما يكون مخالفا تلك السنن التي اقتضتها الحكمة الإلهية.

فقه الحياة أو الأحكام :

الحقيقة المستقرة في أذهان الكفار الذين عادوا دعوة النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه صادق أمين ، ما عرفوا عليه كذبا ولا خيانة ، لذا فإنهم لا ينسبون إليه الكذب في الأمر الواقع نفسه ، ولكنهم يزعمون أن ما جاء به من أخبار الغيب والإيمان بالبعث والجزاء كذب غير واقع. قال الرازي : ظاهر هذه الآية يقتضي أنهم لا يكذبون محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولكنهم يجحدون بآيات الله ، ثم ذكر أربعة وجوه في نفي التكذيب وإثبات الجحود وهي :

١ ـ إنهم ما كانوا يكذبونه في السر ، ولكنهم كانوا يكذبونه في العلانية ، ويجحدون القرآن والنبوة.

١٨٧

٢ ـ إنهم لا يقولون : إنه كذاب ؛ لأنهم جربوه الدهر الطويل ، وما وجدوا منه الكذب البتة ، وسموه بالأمين ، ولكنهم جحدوا صحة النبوة والرسالة ، واعتقدوا أنه تخيل كونه رسولا من عند الله.

٣ ـ إن القوم ما كذبوك ، وإنما كذبوني ، لأن تكذيب الرسول كتكذيب المرسل ، فهم بالرغم من ظهور المعجزات المؤيدة لدعواه ، كذبوه ، فكان تكذيبهم تكذيبا لآيات الله المؤيدة له.

٤ ـ إنهم لا يخصونك بالتكذيب ، بل ينكرون دلالة المعجزة على الصدق مطلقا ، ويقولون في كل معجزة : إنها سحر ، فهم بهذا يكذبون جميع الأنبياء والمرسلين (١).

أما المواساة والتسلية للنبي وأمره بالصبر كما أمر جميع الرسل فهي أمور ضرورية للنجاح والغلبة. وفي الآية بشارة للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم مؤكدة للتسلية بأن الله سينصره على القوم المكذبين الظالمين.

ولا تبديل لوعد الله بالنصر لرسله والمؤمنين ، ووعيده للكافرين والفاسقين والعصاة ، فذلك مبدأ عام اقتضاه العدل والحكمة وضرورة التفرقة بين الطائعين والمخالفين.

وأما محاولات تحقيق مطالب واقتراحات المشركين عن غير طريق الله ، على سبيل الافتراض ، فإنها فاشلة خائبة ؛ لأن كل معجزة تظهر على يد نبي أو رسول تكون بإرادة الله وإذنه ، ولو لا ذلك لما حدثت.

وأمر الهداية مرجعه إلى الله ، فلو شاء لهدى الناس جميعا ، بأن خلقهم مؤمنين وطبعهم عليه ، وكذلك كفرهم بمشيئة الله.

__________________

(١) تفسير الرازي : ١٢ / ٢٠٤ ـ ٢٠٥

١٨٨

فلا تكونن أيها الرسول بحرصك على إسلام قومك ، ومحاولة تلبية مطالبهم وتنفيذ مقترحاتهم من الجاهلين بسنن الله في خلقه ، ولا تحزن على كفرهم فتقارب حال الجاهلين.

ولا يشتد حزنك عليهم إذا كانوا لا يؤمنون ؛ لأنك لا تستطيع هدايتهم.

رفض المشركين دعوة النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومطالبتهم بتنزيل آية

(إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (٣٦) وَقالُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٣٧))

الإعراب :

(وَالْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللهُ) : (الْمَوْتى) : في موضع نصب بفعل مقدر دل عليه (يَبْعَثُهُمُ) وتقديره : يبعث الله الموتى يبعثهم ، كقولهم ، مررت بزيد وعمرا كلمته. أي وكلّمت عمرا كلمته ، فتكون قد عطفت جملة فعلية على جملة فعلية ، فيكون معطوفا على قوله : (إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ). ويجوز أن يكون (الْمَوْتى) في موضع رفع ، كقولهم : مررت بزيد وعمرو كلمته ، والوجه الأول وهو النصب أوجه.

البلاغة :

(وَالْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللهُ) فيه استعارة ؛ لأن الموتى عبارة عن الكفار لموت قلوبهم.

المفردات اللغوية :

(يَسْتَجِيبُ) دعاءك إلى الإيمان ، يقال : أجاب الداعي واستجاب له ، واستجاب دعاءه : لبّاه وقام بما دعاه إليه تدريجيا ، والفرق بين يستجيب ويجيب أن الأول فيه قبول لما دعي إليه والثاني قد يكون بالمخالفة. (الَّذِينَ يَسْمَعُونَ) سماع تفهم واعتبار (وَالْمَوْتى) أي الكفار ، شبههم بهم في عدم السماع (يَبْعَثُهُمُ اللهُ) في الآخرة (ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ) يردون ، فيجازيهم بأعمالهم.

١٨٩

(وَقالُوا) أي كفار مكة (لَوْ لا) هلا وهي تفيد الحث على حصول ما بعدها (آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ) الآية : المعجزة المخالفة لسنن الله في خلقه كناقة صالح ، وعصا موسى ، ومائدة عيسى (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) أن نزولها بلاء عليهم ؛ لأنهم سيهلكون إن جحدوها.

المناسبة :

نزلت هذه الآية بعد وقعة حمراء الأسد بعد وقعة أحد ، ولمّا بيّن الله تعالى في الآيات السابقة أن الناس صنفان متفاوتان في الاستعداد لقبول الهداية الإلهية : صنف يختار الهدى على الضلال ، وصنف بالعكس ، بيّن هنا أن الصنف الأول : هم الذين يسمعون الدلائل والبينات سماع تدبر وفهم ، وأن الصنف الثاني : لا يفقهون ولا يسمعون ، وإنما هم كالأموات.

التفسير والبيان :

لا يكبر عليك إعراض هؤلاء المعرضين عنك وعن الاستجابة لدعائك إذا دعوتهم إلى توحيد ربهم والإقرار بنبوتك ؛ فإنه لا يستجيب لدعائك إلا الذين يسمعون كلام الله سماع فهم وتدبر ووعي ، فيصغون إلى الحق ويتبعون الرشاد.

أما الكفار المعرضون الذين تحرص على أن يصدقوك : فهم في عداد الموتى الذين لا يسمعون صوتا ، ولا يعقلون دعاء ، ولا يفقهون قولا ؛ لأنهم لا يتدبرون حجج الله ، ولا يعتبرون آياته ، ولا يتذكرون ، فالسبب في عدم قبولهم الإيمان وعدم تركهم الكفر أنهم لا يفكرون تفكيرا صحيحا فيما أنزل الله ، فصاروا بمنزلة الموتى الذين لا يسمعون ، أي إنهم موتى القلوب ، فشبههم الله بأموات الأجساد.

والقصد من قوله : (وَالْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللهُ) إيراد مثل لقدرته تعالى على إلجائهم إلى الاستجابة بأنه هو الذي يبعث الموتى من القبور يوم القيامة ، ثم إليه يرجعون للجزاء ، فالله وحده القادر على إحيائهم بالإيمان ، وأنت لا تقدر على هدايتهم.

١٩٠

ومن مظاهر عنادهم : مطالبتهم بإنزال آية من ربهم خارقة للعادة ، كالناقة والعصا والمائدة ، وتفجير الينابيع ، وإنشاء البساتين المخضرة المحفوفة بأشجار النخيل والعنب ، وإسقاط السماء قطعا عليهم ، والإتيان بوفد أو جماعة من الملائكة ، وإيجاد بيت من زخرف ، وإنزال كتاب من السماء.

فرد الله عليهم بقوله : (قُلْ : إِنَّ اللهَ قادِرٌ ...) أي قل لهم أيها النبي : إن الله تعالى قادر على تنزيل آية مما اقترحوا ، ولكن حكمته تقتضي تأخير ذلك ، لأنه لو أنزلها على وفق ما طلبوا ، ثم لم يؤمنوا ، لعاجلهم بالعقوبة ، كما فعل بالأمم السابقة ، كما قال تعالى : (وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ ، وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً ، فَظَلَمُوا بِها ، وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلَّا تَخْوِيفاً) [الإسراء ١٧ / ٥٩] وقال : (إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً ، فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ) [الشعراء ٢٦ / ٤].

ومعنى قوله : (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) : أن الله قادر على أن ينزل تلك الآية ، ولكن حكمته اقتضت صرفه عن إنزالها ، وأكثر هؤلاء القوم لا يعلمون أنهم لما طلبوا ذلك على سبيل التعنت والتعصب ، فإن الله تعالى لا يعطيهم مطلوبهم ، ولو كانوا عالمين عاقلين لطلبوا ذلك على سبيل طلب الفائدة ، وحينئذ يعطيهم الله المطلوب على أكمل الوجوه ، فإنزال آية مما اقترحوا يكون سببا في هلاكهم إن لم يؤمنوا.

يعني أن طلبهم آية مادية مع وجود هذه الآيات البينات القرآنية إنما هو محاولة تعجيز الرسول ، فلو فرض حدوثها لما آمنوا ولقالوا : إنها سحر ، كما قال تعالى : (وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ ، فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ ، لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا : إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) [الأنعام ٦ / ٧] وقالوا : (وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا ، وَيَقُولُوا : سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ) [القمر ٥٤ / ٢].

١٩١

فقه الحياة أو الأحكام :

الاستجابة لدعوة النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم تتطلب سماع آيات القرآن سماع إصغاء وتفهم وإرادة الحق ، وهذا منهج المؤمنين الذين يقبلون ما يسمعون ، فينتفعون به ويعملون.

أما الإعراض عن الدعوة فمنشؤه تعطيل طاقات الحواس ، فهم لا يسمعون سماع تدبر ، ولا يتفهمون الآيات فهم إمعان وروية ، فصاروا كأنهم موتى لموت قلوبهم ، لا موتى أجساد ، وهذا سبيل الكفار.

وأما مطالبتهم تنزيل آية مادية محسوسة من ربهم فليس إلا تعنتا بعد ظهور البراهين ، وإقامة الحجة بالقرآن الذي عجزوا أن يأتوا بسورة مثله ، لما فيه من الإخبار بالمغيبات ، وسلامته من التناقض ، وسمو نظمه.

ولكن أكثرهم لا يعلمون أن الله عزوجل إنما ينزل من الآيات ما فيه مصلحة لعباده ، ولا ينزل آية بسبب الطلب المتعنت المتعصب ، أو لتعجيز الرسول عليه الصلاة والسلام ؛ لأنه لا يقدر على شيء من إنزال الآيات أو غيرها إلا بمشيئة الله وإرادته.

كمال علم الله وتمام قدرته وعدم التفريط بشيء في القرآن

(وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (٣٨) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُماتِ مَنْ يَشَأِ اللهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٣٩))

١٩٢

الإعراب :

(ما مِنْ دَابَّةٍ) و (ما مِنْ شَيْءٍ) من في المكانين : صلة زائدة تفيد التأكيد.

البلاغة :

(يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ) أكد الطيران بالجناحين وهو لا يكون عادة إلا بهما ، لدفع توهم المجاز ، لأن الطائر قد يستعمل مجازا للعمل كقوله : (أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ). (صُمٌّ وَبُكْمٌ) تشبيه بليغ ، أي كالصم البكم في عدم السماع وعدم الكلام ، فحذفت منه الأداة ووجه الشبه.

المفردات اللغوية :

(دَابَّةٍ) الدابة : كل ما يدب على الأرض من إنسان أو حيوان. والدبّ : المشي الخفيف (طائِرٍ) الطائر : كل ذي جناح يطير في الهواء ، وجمعه طير. (أُمَمٌ) جمع أمة ، وهي كل جماعة يجمعهم أمر كدين أو لغة أو صفة أو عمل أو زمان أو مكان. والمقصود من قوله : (أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ) أنها كالإنسان في تدبير خلقها ورزقها وأحوالها (ما فَرَّطْنا) ما تركنا ، التفريط في الأمر : التقصير فيه وتضييعه حتى يفوت (فِي الْكِتابِ) هنا : اللوح المحفوظ (يُحْشَرُونَ) الحشر : الجمع والسّوق ، وبعد الحشر يقضي الله بينهم ، ويقتص للجماء من القرناء ، ثم يقول لأنواع الحيوان : كونوا ترابا. (بِآياتِنا) القرآن (صُمٌ) عن سماعها سماع قبول (وَبُكْمٌ) عن النطق بالحق (فِي الظُّلُماتِ) المراد هنا الكفر (صِراطٍ) طريق ، والطريق المستقيم : هو دين الإسلام.

المناسبة :

بعد أن أبان الله تعالى أنه قادر على إنزال الآيات وسائر المعجزات وأنه لو كان إنزالها مصلحة لهم لفعلها ولأظهرها ، ذكر الدليل على ذلك : وهو رعايته وعنايته ورحمته وفضله على كل ما يدب على الأرض ، فإذا كانت آثار عنايته واصلة إلى جميع الحيوانات ، لم يبخل بإظهار هذه المعجزات لو كان فيها مصلحة للمكلفين.

التفسير والبيان :

لا يوجد نوع من أنواع الدواب والطيور إلا وهي أمم مخلوقة أمثالكم أيها الناس وهي أيضا أصناف مصنفة مثلكم ، لها أرزاقها وآجالها ونظامها وأحوالها

١٩٣

وطبائعها ، والله تعالى يدبرها ويرعى شأنها ويحسن إليها.

وخص دواب الأرض بالذكر ؛ لأنها المرئية للكفار ، أما ملكوت السموات ففيه ما لا يعلمه إلا الله وحده ، وفيه من الكائنات الحية ما لا يدرك حقيقته إلا الله ، كما قال تعالى : (وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ، وَما بَثَّ فِيهِما مِنْ دابَّةٍ ، وَهُوَ عَلى جَمْعِهِمْ إِذا يَشاءُ قَدِيرٌ) [الشورى ٤٢ / ٢٩].

ولم يترك الله شيئا أبدا إلا ذكره في الكتاب : وهو اللوح المحفوظ : (وهو شيء مخلوق في عالم الغيب دوّن فيه كل ما كان وما سيكون من مقادير الخلق إلى يوم القيامة) أي أن علم جميع المخلوقات عند الله ، ولا ينسى واحدا منها من رزقه وتدبيره ، سواء كان في البر أو في البحر أو في الجو ، كقوله : (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُها وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَمُسْتَوْدَعَها كُلٌّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ) [هود ١١ / ٦]. والأظهر عند الرازي وجماعة : أن المراد بالكتاب : القرآن ؛ لأن اللام للعهد السابق ، والمعهود السابق : هو القرآن.

ثم يبعث الله جميع تلك الأمم من الناس والحيوان ويجمعها إليه يوم القيامة ، ويجازي كلا منها ، كما قال : (وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ) [التكوير ٨١ / ٥]. روى الإمام أحمد عن أبي ذر أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم رأى شاتين تنتطحان فقال : «يا أبا ذر هل تدري فيم تنتطحان؟» قال : لا ، قال : «لكن الله يدري وسيقضي بينهما». وذكر عبد الله بن أحمد في مسند أبيه عن عثمان رضي‌الله‌عنه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن الجماء لتقتص من القرناء يوم القيامة». وأخرج عبد الرزاق عن أبي هريرة في قوله : (إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ ، ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ) قال : يحشر الخلق كلهم يوم القيامة ، البهائم والطير وكل شيء ، فيبلغ من عدل الله يومئذ أن يأخذ للجماء من القرناء ، ثم يقول : كوني ترابا ، فلذلك يقول الكافر : (يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً) [النبأ ٧٨ / ٤٠].

١٩٤

أما الكافرون الذين كذّبوا بآيات الله الدالة على الوحدانية وصدق الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فمثلهم في جهلهم وقلة علمهم وعدم فهمهم كمثل أصم : وهو الذي لا يسمع ، أبكم : وهو الذي لا يتكلم ، لا يسمعون دعوة الحق والهدى سماع قبول : ولا ينطقون بما عرفوا من الحق ، وهم يتخبطون في ظلمات : ظلمة الشرك والوثنية ، وظلمة عادات الجاهلية ، وظلمة الجهل والأمية ، فكيف يهتدي مثل الأصم والأبكم إلى الطريق ، أو يخرج مما هو فيه؟ كقوله: (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً ، فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ، ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ ، وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ. صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ ، فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ) [البقرة ٢ / ١٧ ـ ١٨] فهم غافلون عن تأمل ذلك والتفكير فيه.

والله هو المتصرف في خلقه بما شاء ، فمن شاء إضلاله أضله ولم يلطف به ؛ لأنه ليس من أهل اللطف ، ومن شاء هدايته لطف به ، وهداه إلى الصراط المستقيم وهو الإسلام ؛ لأنه من أهل اللطف. والقول باللطف مذهب المعتزلة.

فالإضلال والهداية بمشيئة الله حسب علمه أزلا بالمخلوقات ، فمن أضله فلإعراضه عن دعوة الله الحق ، واستكباره عن النظر في الدلائل الموصلة إلى الرشاد ، ومن هداه ، أي وفّقه إلى التفكير الجادّ واستخدام السمع والبصر والفؤاد أي العقل ، فلأنه نظر نظرة مستقلة ، دون تأثر بعوامل التقليد الموروثة.

فقه الحياة أو الأحكام :

الله قادر على كلّ شيء ، رحيم بالمخلوقات ، فكل الدواب والطيور جماعات مثل الجماعات الإنسانية ، في أن الله خلقهم ، وتكفّل بأرزاقهم ، فلا ينبغي أن تظلموهم ، أو تتجاوزوا فيهم ما أمرتم به ، قال الزجاج في قوله : (إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ) أي في الخلق والرزق والموت والبعث والاقتصاص.

وهذا يرشدنا إلى ضرورة البحث والدرس في طبائع الحيوان ، والاستفادة

١٩٥

منها ، فإن جميع ما في الأرض مخلوق لمصلحتنا ومنفعتنا.

ودل قوله تعالى : (ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ) أي للجزاء على أن البهائم تحشر كما يحشر الناس يوم القيامة ، روى مسلم في صحيحة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لتؤدّن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة ، حتى يقاد للشاة الجلحاء ـ التي لا قرن لها ـ من الشاة القرناء».

ودل قوله : (وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا صُمٌّ وَبُكْمٌ) أن كل أمة من الدواب وغيرها تهتدي لمصالحها ، والكفار لا يهتدون ولا ينتفعون بأسماعهم وأبصارهم ، وهم في ظلمات الكفر يتيهون.

وأرشد قوله : (مَنْ يَشَأِ اللهُ يُضْلِلْهُ ...) إلى أن الضلالة والهداية إلى الإسلام بمشيئة الله ، على وفق علمه وحكمته واطلاعه الأزلي على حال كل إنسان ، والله شاء ضلال الكافر وأراده لينفذ فيه عدله ، ولكن لم يأمره به ، وإنما دعاه إلى الإيمان ، وأراد هداية المؤمن القائم على دين الإسلام ، لينفذ فيه فضله. والمشيئة في الآية راجعة إلى الذين كذبوا ، فمنهم من يضله ومنهم من يهديه.

قال الرازي : وقد ثبت بالدليل أنه تعالى لا يشاء هذا الإضلال إلا لمن يستحق عقوبة ، كما لا يشاء الهدى إلا للمؤمنين. ومشيئة الهدى والضلال ، وإن كانت مجملة في هذه الآية ، إلا أنها مخصصة مفصلة في سائر الآيات ، فيجب حمل هذا المجمل على تلك المفصلات (١) ، أي أن المجمل الغامض يفسر في ضوء الواضح المعلل.

وأما دلالة قوله : (ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ) فهي تختلف باختلاف القولين في تفسير الكتاب ، فعلى القول بأن المراد منه : الكتاب المحفوظ في

__________________

(١) تفسير الرازي : ١٢ / ٢٢١ ، وانظر أيضا : ٢ / ٤٨ ـ ٥٣

١٩٦

العرش ، تكون الآية دالة على إحاطة علم الله بجميع أحوال المخلوقات كلا وتفصيلا تاما ، كما قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما رواه الطبراني : «جف القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة». وعلى القول الثاني الذي استظهره الرازي بأن المراد منه القرآن ، تكون الآية دالة على كمال الشريعة وإحاطة القرآن بجميع أصول الأحكام ومبادئ الإسلام وأخلاق الدين.

اللجوء إلى الله وحده في الشدائد

(قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٤٠) بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ وَتَنْسَوْنَ ما تُشْرِكُونَ (٤١) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْناهُمْ بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (٤٢) فَلَوْ لا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا وَلكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٤٣) فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ (٤٤) فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٤٥))

الإعراب :

(قُلْ : أَرَأَيْتَكُمْ) التاء هنا : ضمير مرفوع متصل في موضع رفع فاعل ، والكاف والميم لمجرد الخطاب ، ولا موضع لهما من الإعراب.

(مِنْ قَبْلِكَ مِنْ) : صلة زائدة.

١٩٧

البلاغة :

(بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ) فيه قصر صفة على موصوف ، أي لا تدعون غيره لكشف الضر.

(فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ) كناية عن إهلاكهم بعذاب الاستئصال.

المفردات اللغوية :

(أَرَأَيْتَكُمْ) أي أخبروني ، وهو أسلوب عربي يفيد التعجب والاستغراب مما يأتي بعده (السَّاعَةُ) القيامة المشتملة على العذاب بغتة (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) في أن الأصنام تنفعكم فادعوها.(فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ) أي يزيل ما تدعونه إلى أن يكشفه عنكم من الضر ونحوه (إِنْ شاءَ) كشفه (وَتَنْسَوْنَ) تتركون (ما تُشْرِكُونَ) به من الأصنام فلا تدعونه. (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ) رسلا فكذبوهم (بِالْبَأْساءِ) بالشدة والعذاب والقوة وشدة الفقر ، وتطلق أيضا على الحرب والمشقة ، والبأس : الشدة في الحرب (وَالضَّرَّاءِ) من الضر : ضد النفع ، وهو المرض (يَتَضَرَّعُونَ) يتذللون ، والتضرع : إظهار الضراعة والخضوع بتكلف (مُبْلِسُونَ) متحسرون يائسون من النجاة (دابِرُ الْقَوْمِ) آخرهم الذي يكون في أدبارهم.

المناسبة :

بعد أن أوضح الله تعالى غاية جهل أولئك الكفار ، وأن علمه تعالى محيط بما في الكون ، أبان شيئا آخر من حال الكفرة وهو أنه إذا نزلت بهم بلية أو محنة ، فإنهم يفزعون إلى الله تعالى ويلجأون إليه ، ولا يتمردون على طاعته ، وذلك تأثرا منهم بالفطرة التي أودع فيها توحيد الله والحاجة إليه.

التفسير والبيان :

يخبر الله تعالى أنه الفعال لما يريد ، المتصرف في خلقه بما يشاء ، وأنه لا معقب لحكمه ، ولا يقدر أحد على صرف حكمه عن خلقه ، بل هو وحده لا شريك له الذي إذا سئل يجيب لمن يشاء.

قل أيها الرسول للمشركين : أخبروني إن أتاكم عذاب الله ، مثل الذي نزل

١٩٨

بأمثالكم من الأمم السابقة كالخسف ، والريح الصرصر العاتية ، والصاعقة ، والطوفان ، أو أتتكم القيامة بأهوالها وخزيها ونكالها ، أتدعون غير الله لكشف ما نزل بكم من البلاء؟ أم تدعون آلهتكم الأصنام التي تفزعون إليها ، إن كنتم صادقين في اتخاذكم آلهة معه؟

ثم أجابهم عن هذا التساؤل الموجّه للتبكيت والإلزام بقوله : (بَلْ) للإبطال لما تقدم. والجواب أنكم في وقت الشدة والمحنة والضرورة لا تدعون أحدا سوى الله ، فأنتم تدعونه لكشف وإزالة ما نزل بكم من الضرر ، وهو يكشف ذلك على وفق حكمته ومشيئته ، وتنسون ما تشركون أي تتركون آلهتكم ، ولا تذكرون في ذلك الوقت إلا الله ، كقوله عزوجل : (وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ) [الإسراء ١٧ / ٦٧] وقوله : (فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ، فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ) [العنكبوت ٢٩ / ٦٥] وقوله : (وَإِذا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ ، دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ، فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ ، فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ ، وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ) [لقمان ٣١ / ٣٢].

وذلك أن الله تعالى أودع في فطرة الإنسان التوحيد والإذعان للخالق الحقيقي ، الباهر القدرة الذي تفوق قدرته كل شيء ، ولا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء. وأما الشرك فهو شيء عارض موروث في الأقوام البدائية ، حتى إذا نزلت المحنة تضرعوا إلى الله : (فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها ، لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ) [الروم ٣٠ / ٣٠].

ثم ضرب الله المثل بالأمم السابقة وعقد قياسا للعبرة ، وللإعلام بأن من سنته التشديد على عباده ، ليرجعوا عن غيهم ، ويعودوا إلى رشدهم فقال : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا ...) أي لقد أرسلنا رسلا إلى أمم قبلك ، فدعوهم إلى التوحيد وعبادة الله ، فلم يستجيبوا لهم ، فاختبرناهم بالبأساء والضراء ، أي بالفقر وضيق العيش ،

١٩٩

والمرض والسقم والألم ، لعلهم يدعون الله ويتضرعون إليه ويخشعون ؛ إذ الشدائد تصقل النفوس ، وتنبت الرجال وتهذب الأخلاق. وهذه الآية متصلة بما قبلها اتصال الحال بحال قريبة منها ؛ لأن المشركين سلكوا في مخالفة نبيهم مسلك من كان قبلهم ، فكانوا متعرضين لأن ينزل بهم من البلاء ما نزل بمن كان قبلهم.

ثم أكد تعالى الحض على التضرع فقال : فهلا تضرعوا إلينا خاشعين تائبين حين جاءهم بأسنا وظهرت بوادر العذاب ، ولكن لم يفعلوا وقست قلوبهم ، أي ما رقّت ولا خشعت ، فهي كالحجارة أو أشد قسوة ، فلم يعتبروا ، وزيّن لهم الشيطان أفعالهم من الشرك والفجور والمعاندة والمعاصي ، ووسوس لهم بان يبقوا على ما كان عليه آباؤهم.

ثم نزل بهم العقاب مقرونا ببيان سببه وحيثياته ، فقال تعالى : (فَلَمَّا نَسُوا (١) ..) أي لما أعرضوا عما ذكّرهم به رسلهم من الإنذار والبشارة ، وتناسوه ، وجعلوه وراء ظهورهم ، وأصرّوا على كفرهم وعنادهم ، فتحنا عليهم أبواب الرزق وألوان رخاء العيش والصحة والأمن وغير ذلك مما يختارون ، وهذا استدراج منه تعالى وإملاء لهم ، حتى إذا فرحوا بما أوتوا من الأموال والأولاد والأرزاق ، أخذناهم على غفلة بعذاب الاستئصال ، فإذا هم آيسون من النجاة ومن كل خير.

فهلك القوم الذين ظلموا أنفسهم بتكذيب الرسل والإبقاء على الشرك واستوصوا ، فلم يبق منهم أحد ، والثناء الخالص لله رب العالمين على إنعامه على رسله وأهل طاعته ، ومعاقبة أهل الكفر والفساد. وهذا يشير إلى أن إبادة المفسدين نعمة من الله ، وأن في الضراء والبأساء عبرة وعظة ، وأن الانغماس في الترف وسعة المعيشة قد يكون استدراجا ومقدمة للعقاب ، وأن ذكر الله واجب في خاتمة كل أمر.

__________________

(١) ليس المراد به النسيان الغالب على الإنسان ، وإنما بمعنى تركوا ما ذكّروا به.

٢٠٠