التفسير المنير - ج ٧

الدكتور وهبة الزحيلي

وأخرج أبو الشيخ ابن حيان عن يعلى بن مسلم قال : سألت سعيد بن جبير عن هذه الآية .. قال : اقرأ ما قبلها فقرأت : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ ..) إلى قوله : (لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ).

المناسبة :

هذه متعلّقة بما قبلها ؛ لأن الله تعالى بعد أن نهى عن تحريم الطّيّبات بسبب قوم أرادوا الزّهد والتّقشّف والتّرهّب في الحياة تقرّبا إلى الله ، سألوا النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عمّا يصنعون بأيمانهم التي حلفوها ، فأجابهم الله عزوجل بإنزال حكم كفارة الأيمان.

التفسير والبيان :

لا مؤاخذة بالأيمان التي تحلف بلا قصد ، ولا يتعلّق بها حكم ، وهي اليمين اللغو : وهي التي تسبق على لسان الحالف من غير قصد ، قالت عائشة : إن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «هو كلام الرحل في بيته : لا والله ، وبلى والله». وهذا مذهب الشافعي ، وقال باقي الأئمة (الجمهور) : هي أن يخبر عن الماضي أو عن الحال على الظّنّ أن المخبر به كما أخبر ، وهو بخلافه ، في النّفي والإثبات. بدليل ما روي عن ابن عباس في لغو اليمين : أن تحلف على الأمر أنه كذلك وليس كذلك ، وهو مروي أيضا عن مجاهد : هو الرجل يحلف على الشيء أنه كذلك ، وليس كما ظنّ.

ولكن يؤاخذكم باليمين المنعقدة : وهي التي يحدث الحلف فيها على أمر في المستقبل بتصميم وقصد أن يفعله أو لا يفعله. وهناك نوع ثالث هي اليمين الغموس : وهي في رأي الحنفية : اليمين الكاذبة قصدا في الماضي أو في الحال. فتصير الأيمان ثلاثة أنواع : يمين لغو ، ويمين منعقدة ، ويمين غموس. أخرج الطبري عن أبي مالك قال : الأيمان ثلاث : يمين تكفر ، ويمين لا تكفر ، ويمين لا يؤاخذ بها صاحبها ، فأما اليمين التي تكفر : فالرجل يحلف على الأمر لا يفعله ثم يفعله ، فعليه

٢١

الكفارة. وأما اليمين التي لا تكفر : فالرجل يحلف على الأمر يتعمد فيه الكذب ، فليس فيه كفارة. وأما اليمين التي لا يؤاخذ بها صاحبها : فالرجل يحلف على الأمر يرى أنه كما حلف عليه ، فلا يكون كذلك ، فليس عليه فيه كفارة ، وهو اللغو (١).

واليمين المنعقدة : هي التي يكون الحلف فيها بالله أو بصفة من صفاته ، لقولهصلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما أخرجه الجماعة (أحمد وأصحاب الكتب الستة) عن ابن عمر : «من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت» ولا تنعقد اليمين بالحلف بغير الله من المخلوقات كنبيّ أو وليّ ، بل إنه حرام.

وقد اختلف الفقهاء في اليمين الغموس على رأيين ، فقال الحنفية والمالكية : لا كفارة فيها ؛ لأن جزاء الغموس الغمس في جهنم. وقال الشافعية وجماعة : تجب الكفارة فيها ؛ لأن الله يقول : (وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ) ومن تعمد الكذب في يمينه فقد كسب بقلبه إثما ، وهو مؤاخذ به ؛ لأنه عقد قلبه على الكذب في اليمين ، وقد قال الله : (فَكَفَّارَتُهُ).

ورأى الحنفية والمالكية أن المؤاخذة بما كسبت القلوب هو عقاب الآخرة ، بدليل قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ) [آل عمران ٣ / ٧٧] ، فذكر الوعيد فيها ولم يذكر الكفارة. وروى البيهقي والحاكم عن جابر عن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «من حلف على منبري هذا بيمين آثمة ، تبوّأ مقعده من النار» ، ولم يذكر الكفارة.

وروى البخاري ومسلم وغيرهما (الجماعة) أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من حلف على يمين صبر (٢) ، وهو فيها فاجر ، يقتطع بها مال امرئ مسلم ، لقي الله ، وهو عليه غضبان».

__________________

(١) تفسير الطبري : ٧ / ١١.

(٢) اليمين الصبر : التي ألزم بها وأكره عليها ، والصبّر : الإكراه.

٢٢

ثمّ بيّن الله تعالى نوع المؤاخذة على اليمين المنعقدة فقال : (فَكَفَّارَتُهُ) الضمير إما عائد على الحنث المفهوم من السياق ، أو على العقد الذي في ضمن الفعل بتقدير مضاف ، أي فكفارته نكثه. والحانث عليه الكفارة سواء أكان عامدا أم ساهيا وناسيا أم مخطئا ، أم نائما ومغمى عليه ومجنونا أم مكرها.

والكفارة على الموسر مخيّر فيها بين ثلاث خصال : إطعام عشرة مساكين لكلّ مسكين في رأي الجمهور مدّ طعام (قمح) والمدّ (٦٧٥ غم) من النوع المتوسط الغالب أكله على أهل البلد ، ليس بالأجود الأعلى ، ولا بالأردإ الأدنى ، وهو أكلة واحدة خبز ولحم ، لقول الحسن البصري ومحمد بن سيرين : يكفيه أن يطعم عشرة مساكين أكلة واحدة خبزا ولحما. وقدّره الحنفية بما يجب في صدقة الفطر وهو نصف صاع من برّ ، أو صاع من تمر أو شعير أو دقيق ، أو قيمة هذه الأشياء (والصاع ٢٧٥١ غم). وهو أكلتان مشبعتان : غداء وعشاء ، لقول علي رضي‌الله‌عنه : يغديهم ويعشيهم.

(أَوْ كِسْوَتُهُمْ) أي بحسب اختلاف البلاد والأزمنة كالطعام ، يعطي لكلّ فقير رداء متوسطا مثل «الجلابية» أو قميصا ؛ أو سروالا أو عمامة في رأي الشافعية ، ولم يجز الحنفية الكسوة بالسروال والعمامة ، لأن أدنى الكسوة عندهم : ما يستر عامة البدن.

(أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ) أي عتق نفس ، إذ كان الرقيق موجودا ، بشرط أن تكون في رأي الجمهور مؤمنة ، مثل كفارة القتل الخطأ والظهار ، حملا للمطلق على المقيد. ولم يشترط الحنفية كونها مؤمنة فيجزئ إعتاق الكافرة ، عملا بإطلاق النّصّ الوارد هنا ، ويجب إبقاء موجب اللفظ في كفارة اليمين على إطلاقه ، ويعمل بكلّ نصّ على حدة ؛ لأن شرط الإيمان في كفارة القتل غير معقول المعنى ، فيقتصر على مورد النّص.

٢٣

(فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ) أي من لم يستطع إطعاما أو كسوة أو عتق رقبة ، أو من لم يجد في ملكه أحد هذه الثلاثة ، فعليه صيام ثلاثة أيام ، متتابعة في رأي الحنفية والحنابلة ، ولا يشترط التتابع في مذهب المالكية والشافعية.

ودليل الرأي الأول : ما أخرج الحاكم وابن جرير الطبري وغيرهم من طريق صحيح أن أبي بن كعب كان يقرأ هكذا «ثلاثة أيام متتابعات» ، وروي هذا أيضا عن ابن مسعود ، وهو ثابت في مصحف الربيع ، كما قال سفيان الثوري. ورواه ابن مردويه عن ابن عباس : «فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام متتابعات».

ورأى الفريق الثاني أن هذه قراءة شاذّة لا يحتجّ بها ، وإنما يحتجّ بالمتواتر.

والاستطاعة : أن يكون مالكا ما يزيد على إطعام أهله يوما وليلة ، وهذا ما اختاره ابن جرير : أنه الذي يفضل عن قوته وقوت عياله في يومه ذلك ما يخرج به كفارة اليمين.

وروى ابن جرير عن سعيد بن جبير والحسن البصري أنهما قالا : من وجد ثلاثة دراهم ، لزمه الإطعام وإلا صام.

ولا وقت للكفارة ، وإنما يستحبّ تعجيلها ، فإن مرض صام عند القدرة ، فإن استمرّ العجز يرجى له عفو الله ورحمته. وللوارث أن يتبرع بالكفارة.

(ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ) أي هذه كفارة اليمين الشرعية إذا حلفتم بالله أو بأحد أسمائه أو صفاته وحنثتم. وترك ذكر الحنث المعروف بأن الكفارة إنما تجب بالحنث في الحلف ، لا بالحلف نفسه ، والتكفير قبل الحنث لا يجوز عند الحنفية ، ويجوز بالمال إذا لم يعص الحانث عند الشافعي.

(وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ) أي فبرّوا بها ولا تحنثوا. وقيل : وهو ما اختاره القرطبي : احفظوها بأن تكفّروها إذا حنثتم ، قال ابن جرير : معناه لا تتركوها

٢٤

بغير تكفير. وأراد الأيمان التي يكون الحنث فيها معصية ومخالفة لما حدث القسم عليه.

(كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ) أي مثل ذلك البيان ، يبيّن الله لكم أعلام شريعته وأحكام دينه ، أي يوضحها ويفسّرها.

(لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) أي ليعدّكم بذلك إلى شكر نعمته فيها يعلمكم ويسهّل عليكم المخرج منه.

ويحرم الحنث في اليمين إذا كانت على فعل واجب أو ترك حرام ، ويندب الوفاء ويكره الحنث إذا تمّ الحلف على فعل مندوب أو مباح ، ويجب الحنث في اليمين والكفارة إذا حلف على معصية أو حرام ، لما رواه أصحاب الكتب الستة إلّا ابن ماجه عن عبد الرّحمن بن سمرة أنّ النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيرا منها ، فائت الذي هو خير ، وكفّر عن يمينك» ، ولحديث عائشة الذي رواه ابن ماجه : «من حلف في قطيعة رحم ، أو فيما لا يصلح ، فبرّه ألا يتمّ على ذلك» أي ألا يوفي به ، ولكن تجب عليه الكفارة.

وتجب الكفارة بالحنث في اليمين ، سواء أكانت في طاعة أم في معصية أم في مباح.

فقه الحياة أو الأحكام :

دلّت الآية على حكم يمين اللغو واليمين المنعقدة.

أما يمين اللغو : وهي الجارية على اللسان دون قصد اليمين ، فلا كفارة فيها ، والحلف بها لا يحرّم شيئا ، إذ لا مؤاخذة فيها بنصّ القرآن ، وهو دليل الشافعي على أنّ هذه اليمين لا يتعلّق بها تحريم الحلال ، وأن تحريم الحلال لغو ، كما أن تحليل الحرام لغو ، مثل قول القائل : استحللت شرب الخمر. روي أن عبد الله بن

٢٥

رواحة كان له أيتام وضيف ، فانقلب من شغله بعد ساعة من الليل ، فقال : أعشيتم ضيفي؟ فقالوا : انتظرناك ؛ فقال : لا ، والله لا آكل الليلة ؛ فقال ضيفه : وما أنا بالذي يأكل ؛ وقال أيتامه : ونحن لا نأكل ؛ فلما رأى ذلك أكل وأكلوا. ثم أتى النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأخبره فقال له : «أطعت الرّحمن وعصيت الشيطان» ، فنزلت الآية.

والأيمان في الشريعة بحسب المحلوف عليه نفيا وإثباتا على أربعة أقسام : يمينان يكفّران: وهو أن يقول الرّجل : والله لا أفعل فيفعل ، أو يقول : والله لأفعلنّ ثم لا يفعل ، وهذان لا اختلاف فيهما بين العلماء ؛ ويمينان لا يكفّران : وهو أن يقول الرّجل : والله ما فعلت وقد فعل ، أو يقول : والله لقد فعلت وما فعل ، وهذان مختلف فيهما بين أهل العلم:

فقال الجمهور : إن كان الحالف حلف على أنه لم يفعل كذا وكذا ، أو أنه فعل كذا وكذا وعند نفسه يرى أنه صادق على ما حلف عليه ، فلا إثم عليه ولا كفارة عليه. وقال الشافعي : لا إثم عليه وعليه كفّارة.

واتّفق العلماء على أن يمين اللغو لغو فيما إذا قال الرجل : لا والله ، وبلى والله ، في حديثه وكلامه غير المنعقد لليمين ولا مريدها. قال الشافعي : وذلك عند اللجاج والغضب والعجلة.

وأما اليمين المنعقدة : وهي التي تحلف عن عمد وقصد وتصميم ، فتوجب الكفارة بالحنث فيها.

وهل اليمين الغموس يمين منعقدة أو لا؟ يرى الجمهور أنها يمين مكر وخديعة وكذب ، فلا تنعقد ولا كفارة فيها ، وإنما فيها الإثم ؛ لقول النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما رواه أحمد ومسلم والترمذي عن أبي هريرة : «من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير ، وليكفّر عن يمينه» وهذا يدلّ على أن الكفارة إنما

٢٦

تجب فيمن حلف على فعل يفعله مما يستقبل فلا يفعله ، أو على فعل ألا يفعله فيما يستقبل فيفعله.

وقال الشافعي : هي يمين منعقدة ؛ لأنها مكتسبة بالقلب ، معقودة بخبر ، مقرونة باسم الله تعالى ، وفيها الكفارة.

ورجّح القول الأوّل ، لأن الأخبار دالّة على أن اليمين التي يحلف بها الرّجل يقتطع بها مالا حراما هي أعظم من أن يكفّرها ما يكفّر اليمين. من هذه الأخبار عدا ما تقدم : حديث البخاري عن عبد الله بن عمرو قال : جاء أعرابي إلى النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا رسول الله ، ما الكبائر ، قال : «الإشراك بالله» قال : ثم ما ذا؟ قال : «عقوق الوالدين» قال : ثم ما ذا؟ قال : «اليمين الغموس» قلت : وما اليمين الغموس؟ قال : «التي يقتطع بها مال امرئ مسلم هو فيها كاذب». وخرّج مسلم عن أبي أمامة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه فقد أوجب الله له النار ، وحرّم عليه الجنّة» ، فقال رجل : وإن كان شيئا يسيرا يا رسول الله؟ قال : «وإن كان قضيبا من أراك».

والمحلوف به : هو الله سبحانه وأسماؤه الحسنى ، كالرّحمن والرّحيم والسّميع والعليم والحليم ، ونحو ذلك من أسمائه وصفاته العليا ، كعزّته وقدرته وعلمه وإرادته وكبريائه وعظمته وعهده وميثاقه وسائر صفات ذاته ؛ لأنها يمين بقديم غير مخلوق ، فكان الحالف بها كالحالف بالذات.

وأما الحلف بحقّ الله وعظمة الله ، وقدرة الله ، وعلم الله ، ولعمر الله ، وايم الله ، ففيه اختلاف ، قال مالك : كلها أيمان تجب فيها الكفارة. وقال الشافعي : في : وحقّ الله وجلال الله وعظمة الله ، وقدرة الله : يمين إن نوى بها اليمين ، وإن لم يرد اليمين فليست بيمين ؛ لأنه يحتمل : وحقّ الله : واجب الله

٢٧

وقدرته النافذة ، وقال في أمانة الله : ليست بيمين ، ولعمر الله وايم الله : إن لم يرد بها اليمين فليست بيمين.

وقال الحنفية : إذا قال : وعظمة الله وعزّة الله وجلال الله وكبرياء الله وأمانة الله ، فحنث ، فعليه الكفارة.

والحلف بالقرآن أو المصحف يمين في المذاهب الأربعة ؛ لأن الحالف إنما قصد الحلف بالمكتوب فيه : وهو القرآن ، فإنه ما بين دفّتي المصحف بإجماع المسلمين.

ولا تنعقد اليمين بغير الله تعالى وأسمائه وصفاته. وقال أحمد بن حنبل : إذا حلف بالنّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم انعقدت يمينه ؛ لأنه حلف بما لا يتمّ الإيمان إلا به ، فتلزمه الكفارة ، كما لو حلف بالله. ويرد عليه بما ثبت في الصحيحين وغيرهما عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه أدرك عمر بن الخطاب في ركب وعمر يحلف بأبيه ، فناداهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ألا إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم ، فمن كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت» وهذا حصر في عدم الحلف بكل شيء سوى الله تعالى وأسمائه وصفاته.

وروى الأئمة واللفظ لمسلم عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من حلف منكم ، فقال في حلفه باللات ، فليقل : لا إله إلا الله ، ومن قال لصاحبه : تعال أقامرك فليتصدق».

وقال أبو حنيفة في الرجل يقول : هو يهودي أو نصراني أو بريء من الإسلام أو من النّبي أو من القرآن ، أو أشرك بالله ، أو كفر بالله : إنها يمين تلزم فيها الكفارة. ولا تلزم فيما إذا قال : واليهودية والنصرانية والنّبي والكعبة ، وإن كانت على صيغة الأيمان.

وأجمع العلماء على أن الحالف إذا قال : أقسم بالله أنها يمين واختلفوا إذا قال :

٢٨

«أقسم ، أو أشهد ليكونن كذا وكذا» ولم يقل : بالله ، فإنها تكون أيمانا عند مالك إذا أراد بالله ، وإن لم يرد بالله ، لم تكن أيمانا تكفّر.

وقال أبو حنيفة : هي أيمان في الموضعين.

وقال الشافعي : لا تكون أيمانا حتى يذكر اسم الله تعالى.

وإذا قال : أقسمت عليك لتفعلنّ كذا ، فإن أراد سؤاله ، فلا كفّارة فيه ، وليست بيمين ، وإن أراد اليمين كان يمينا.

ومن حلف بما يضاف إلى الله تعالى مما ليس بصفة ، كقوله : وخلق الله ورزقه وبيته ، لا شيء عليه ؛ لأنها أيمان غير جائزة ، وحلف بغير الله تعالى.

أنواع الأيمان بحسب المحلوف عليه :

الأيمان باعتبار المحلوف عليه ثلاثة أنواع :

١ ـ يمين بالله تعالى ، كقوله : والله لأفعلنّ كذا ، حكمها أنها يمين منعقدة فيها الكفارة عند الحنث.

٢ ـ يمين بغير الله تعالى ، كالحلف بالمخلوقات نحو الكعبة والملائكة والملوك والآباء ، حكمها أنها يمين غير منعقدة ، ولا كفارة فيها ، بل هي منهي عنها حرام ، كما دلّت الأحاديث المتقدمة.

٣ ـ يمين في معنى الحلف بالله ، يريد بها الحالف تعظيم الخالق ، كالحلف بالنذر والحرام والطّلاق والعتاق ، مثل : إن فعلت كذا فعليّ صوم شهر ، أو الحجّ إلى بيت الله الحرام ، أو الطّلاق يلزمني لا أفعل كذا ، أو إن فعلته فامرأتي طالق أو عبدي حرّ ، أو ما أملكه صدقة أو نحو ذلك ، وحكمها الصحيح أنه يجزئه كفارة يمين في جميع ذلك ، كما قال تعالى : (ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ) ،

٢٩

وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الصحيح عنه : «من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير ، وليكفّر عن يمينه» وهو رأي الشافعي وأحمد. وأوجب مالك وأبو حنيفة تنفيذ المحلوف عليه في حالة اليمين بالمشي إلى مكة ، فمن حلف على ذلك فعليه أن يفي به.

والأيمان في مذهب الحنفية مبنية على العرف والعادة ، لا على المقاصد والنّيّات ، فمن حلف لا يأكل لحما ، لا يحنث بأكل السّمك إلا إن نواه ؛ لأنه لا يسمّى لحما عرفا. وفي مذهب المالكية والحنابلة : المعتبر هو النّيّة ، وفي مذهب الشافعي : المعتبر صيغة اللفظ.

واتّفق الفقهاء على أن اليمين في الدعاوي تكون بحسب نيّة المستحلف ؛ لقولهصلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما رواه مسلم وابن ماجه عن أبي هريرة : «اليمين على نيّة المستحلف».

وقال جمهور العلماء : إذا انعقدت اليمين حلّتها الكفارة أو الاستثناء ، بشرط أن يكون متّصلا منطوقا به لفظا ؛ لما روى النسائي وأبو داود عن ابن عمر أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من حلف فاستثنى ، فإن شاء مضى ، وإن شاء ترك عن غير حنث» فإن نواه من غير نطق أو قطعه من غير عذر لم ينفعه.

ولا خلاف أن الاستثناء إنما يرفع اليمين بالله تعالى ؛ إذ هي رخصة من الله تعالى ، واختلفوا في الاستثناء في اليمين بغير الله ، فقال الشافعي وأبو حنيفة : الاستثناء يقع في كلّ يمين كالطّلاق والعتاق وغير ذلك كاليمين بالله تعالى.

وأجاز جمهور الفقهاء تقديم الكفارة على الحنث ؛ لما خرّجه أبو داود عن أبي موسى الأشعري قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «وإنّي والله إن شاء الله ، لا أحلف على يمين ، فأرى غيرها خيرا منها ، إلا كفّرت عن يميني وأتيت الذي هو خير» ولأن اليمين سبب الكفارة ، لقوله تعالى : (ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا

٣٠

حَلَفْتُمْ) فأضاف الكفارة إلى اليمين ، والمعاني تضاف إلى أسبابها ، وأيضا فإن الكفارة بدل عن البرّ فيجوز تقديمها قبل الحنث.

إلا أنّ الشافعي قال : تجزئ بالإطعام والعتق والكسوة ، ولا تجزئ بالصّوم ، لأن عمل البدن لا يقدم قبل وقته.

وقال الحنيفة : لا تجزئ الكفارة قبل الحنث بوجه ما ؛ لما رواه مسلم عن عدي بن حاتم قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «من حلف على يمين ، ثم رأى غيرها خيرا منها ، فليأت الذي هو خير» زاد النسائي : «وليكفّر عن يمينه» ، ولأن الكفارة إنما هي لرفع الإثم ، وما لم يحنث لم يكن هناك ما يرفع ، فلا معنى لفعلها قبل الحنث ، ومعنى قوله تعالى : (إِذا حَلَفْتُمْ) أي إذا حلفتم وحنثتم ، وأيضا فإن كل عبادة فعلت قبل وجوبها لم تصحّ ، اعتبارا بالصّلوات وسائر العبادات.

ولا خلاف في أن كفارة اليمين على التخيير بالنسبة للموسر ، والطعام أفضل للبدء به ، وكان هو الأفضل في بلاد الحجاز لغلبة الحاجة إليه وعدم شبعهم.

ولا بدّ في رأي الجمهور من تمليك المساكين ما يخرج لهم من الطعام ، ودفعه إليهم حتى يتملكوه ويتصرّفوا فيه ؛ لأنه أحد نوعي الكفارة ، فلم يجز فيها إلا التمليك ، كالكسوة.

وقال الحنفية : لو غداهم وعشاهم جاز ؛ لأن المقصود من الإطعام هو مجرد الإباحة لا التمليك ، والإطعام لغة : هو التمكين من الأخذ ، لا التمليك ، ولأن المسكنة هي الحاجة ، وهو محتاج إلى أكل الطعام دون تملكه.

ولا يجوز أن يطعم غنيّا ولا ذا رحم تلزمه نفقته ، ويجزئ في رأي مالك الإطعام لقريب لا تلزمه نفقته ، ولكنه مكروه.

٣١

ولا يجوز في مذهب مالك والشافعي دفع الكفارة إلى مسكين واحد.

ولا يجوز عند الحنفية صرف الجميع إلى واحد دفعة واحدة ، أما إن صرفها إلى مسكين واحد عشرين يوما ، جاز ؛ لأن المقصود قد حصل.

وأدنى الكسوة في رأي الحنفية : ما يستر جميع البدن ، فيعطى لكل مسكين ثوب وإزار ، أو رداء أو قميص أو قباء أو كساء.

وتقدر الكسوة في مذهب الحنابلة ، بما تجزئ الصلاة فيه.

ويجزئ عند المالكية ما يطلق عليه اسم الكسوة من قميص أو إزار أو رداء أو جبّة أو سراويل أو عمامة.

وتجزئ القيمة عند الحنفية كما تجزئ في الزكاة ؛ لأن الغرض سدّ الخلّة (الحاجة) ورفع الحاجة. ولا تجزئ القيمة عن الطعام والكسوة في رأي الجمهور ، التزاما للنّص.

وأجاز الحنفية دفع الكفارة والنذور لا الزكاة إلى فقراء أهل الذّمّة ؛ لأنّ الذّمي الفقير يتناوله لفظ المسكنة ، ويشتمل عليه عموم الآية. ولا يجوز ذلك عند الجمهور ، كالزكاة.

واشترط الجمهور إعتاق رقبة مؤمنة كاملة ، ليس فيها شرك لغيره ؛ لأنها قربة ، فلا يكون الكافر محلّا لها كالزّكاة ، وأيضا فكل مطلق في القرآن من هذا فهو راجع إلى المقيّد في عتق الرّقبة في القتل الخطأ. وأجاز أبو حنيفة عتق الكافرة ، لأن مطلق اللفظ يقتضيها.

ومن أخرج مالا ليعتق رقبة في كفارة فتلف ، كانت الكفارة عند المالكية باقية عليه ، بخلاف مخرج المال في الزّكاة ليدفعه إلى الفقراء.

واختلفوا في الكفارة إذا مات الحالف ، فقال الشافعي وأبو ثور : كفارات

٣٢

الأيمان تخرج من رأس مال الميت. وقال أبو حنيفة : تكون في الثلث ، وكذلك قال مالك : إن أوصى بها.

والمراعاة في اليسار والإعسار وقت التكفير ، لا وقت الحنث ، فمن حلف وهو موسر ، فلم يكفّر حتى أعسر ، أو حنث وهو معسر ، فلم يكفّر حتى أيسر ، اعتبر وقت الكفارة.

والكفارة بصيام ثلاثة أيام للمعسر ، لا الموسر ، متتابعات عند الحنفية ، ولا يشترط التتابع عند الجمهور ، وإنما يستحبّ.

ومن أفطر في أيام الصيام ناسيا ، فعليه القضاء عند مالك ، ولا قضاء عليه عند الجمهور.

تحريم الخمر والميسر والأنصاب والأزلام

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٩٠) إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (٩١) وَأَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (٩٢) لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا إِذا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (٩٣))

٣٣

البلاغة :

(فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) أريد بالاستفهام الأمر ، أي انتهوا ، وهو من أبلغ ما ينهى به ، لما فيه من الحض على الانتهاء. قال أبو السعود في تفسيره (٢ / ٥٦) : ولقد أكد تحريم الخمر والميسر في هذه الآية الكريمة بفنون التأكيد ، حيث صدّرت الجملة ب (إِنَّما) وقرنا بالأصنام والأزلام ، وسمّيا رجسا من عمل الشيطان ، وأمر بالاجتناب عن عينهما ، وجعل ذلك سببا للفلاح ، ثم ذكر ما فيهما من المفاسد الدنيوية والدينية ، ثم أعيد الحث على الانتهاء بصيغة الاستفهام : (فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ)؟ إيذانا بأن الأمر في الزجر والتحذير قد بلغ الغاية القصوى.

والتعبير بقوله تعالى : (فَاجْتَنِبُوهُ) أبلغ من التعبير بلفظ حرم لأنه يفيد التحريم وزيادة وهو التنفير والإبعاد عنه بالكلية ، كما في قوله تعالى : (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ) [الحج ٢٢ / ٣٠].

المفردات اللغوية :

(الْخَمْرِ) كل شراب مسكر يخامر العقل (الْمَيْسِرِ) القمار (وَالْأَنْصابُ) الأصنام وهي حجارة كانت حول الكعبة يذبحون قرابينهم عندها (وَالْأَزْلامُ) أي قداح الاستقسام : وهي قطع رقيقة من الخشب بهيئة السهام ، كانوا يستقسمون بها في الجاهلية ، تفاؤلا أو تشاؤما (رِجْسٌ) خبيث مستقذر حسا أو معنى ، إما من جهة الطبع أو من جهة العقل ، أو من جهة الشرع كالخمر والميسر ، أو من كل تلك الاعتبارات كالميتة ؛ لأن النفس تعافها طبعا وعقلا ، ويعافها الشرع (مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ) أي من تزيينه (فَاجْتَنِبُوهُ) أي تجنبوا فعل الرجس. (الْعَداوَةَ) تجاوز الحق إلى الأذى (وَيَصُدَّكُمْ) يمنعكم بالاشتغال بهما (وَعَنِ الصَّلاةِ) خصها بالذكر تعظيما لها (فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) عن إتيانها ، أي انتهوا. (وَاحْذَرُوا) المعاصي (فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ) عن الطاعة (الْبَلاغُ الْمُبِينُ) الإبلاغ الواضح (طَعِمُوا) ذاقوا طعمه وتلذذوا بالأكل أو الشرب ، والمراد أكلوا من الخمر والميسر قبل التحريم. (إِذا مَا اتَّقَوْا) المحرمات (ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا) ثبتوا على التقوى والإيمان (وَأَحْسَنُوا) العمل (وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) أي يثيبهم.

سبب النزول :

روى أحمد عن أبي هريرة قال : قدم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المدينة ، وهم يشربون الخمر ، ويأكلون الميسر ، فسألوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عنهما ، فأنزل الله : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ) الآية ، فقال الناس : ما حرم علينا ، إنما قال : إثم كبير ،

٣٤

وكانوا يشربون الخمر ، حتى كان يوم من الأيام ، أمّ رجل من المهاجرين أصحابه في المغرب ، فخلط في قراءته ، فأنزل الله آية أشد منها : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ) [النساء ٤ / ٤٣].

ثم نزلت آية أشد في ذلك : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ) إلى قوله : (فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ). قالوا : انتهينا ربنا ، فقال الناس : يا رسول الله ، ناس قتلوا في سبيل الله وماتوا على فراشهم ، وكانوا يشربون الخمر ، ويأكلون الميسر ، وقد جعله الله رجسا من عمل الشيطان ، فأنزل الله :

(لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا) إلى آخر الآية.

وروى النسائي والبيهقي وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن مردويه عن ابن عباس قال : إنما نزل تحريم الخمر في قبيلتين من قبائل الأنصار شربوا ، فلما أن ثمل القوم عبث بعضهم ببعض ، فلما صحوا جعل الرجل يرى الأثر في وجهه ورأسه ولحيته ، فيقول : صنع في هذا أخي فلان ، وكانوا إخوة ليس في قلوبهم ضغائن ، فيقول : والله لو كان أخي بي رؤفا رحيما ما صنع بي هذا ، حتى وقعت الضغائن في قلوبهم ، فأنزل الله هذه الآية : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ) الآية.

فقال ناس من المتكلفين : هي رجس ، وهي في بطن فلان ، وقد قتل يوم أحد ، فأنزل الله : (لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) الآية.

وروى ابن جرير عن جماعة قالوا : نزلت هذه الآية (آية تحريم الخمر) بسبب سعد بن أبي وقاص ، وذلك أنه كان لاحى رجلا على شراب لهما ، فضربه صاحبه بلحي جمل ، ففزر أنفه أو جرحه ، فنزلت فيهما.

٣٥

وروى ابن جرير أيضا وابن مردويه عن سعد أنه قال : صنع رجل من الأنصار طعاما ، فدعانا ، فشربنا الخمر حتى انتشينا ، فتفاخرت الأنصار وقريش ، فقالت الأنصار : نحن أفضل منكم ، فأخذ رجل من الأنصار لحي جمل (فك جزور) فضرب به أنف سعد ، ففزره ، فكان سعد أفزر الأنف ، فنزلت هذه الآية : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ ..) الآية (١) وروى البخاري عن أنس قال : كنت ساقي القوم في منزل أبي طلحة ، فنزل تحريم الخمر ، فأمر مناديا ينادي ، فقال أبو طلحة : اخرج فانظر هذا الصوت! قال : فخرجت فقلت : هذا مناد ينادي : ألا إن الخمر قد حرّمت ، فقال : اذهب فأهرقها ـ وكان الخمر من الفضيخ (٢) ـ قال : فجرت في سكك المدينة ، فقال بعض القوم : قتل قوم وهي في بطونهم ، فأنزل الله عزوجل : (لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا) الآية.

المناسبة :

لما نهى الله تعالى فيما تقدم : (لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ) إلى قوله : (وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلالاً طَيِّباً) وكان من جملة الأمور المستطابة : الخمر والميسر ، بيّن عزوجل أنهما غير داخلين في المحللات ، بل في المحرمات (٣).

الحكمة في التدرج بتحريم الخمر : كان العرب في الجاهلية مدمنين الخمر ، متعلقين بها أشد التعلق ، فلو حرمت عليهم دفعة واحدة ، لم يقلع الكثير عنها ، وإنما عرّض تعالى بالتحريم في سورة البقرة ، ثم في سورة النساء في أوقات الصلاة ، فامتنعوا عن شربها نهارا ، وشربوها ليلا. روى ابن جرير عن

__________________

(١) تفسير الطبري : ٧ / ٢٢

(٢) الفضيخ : شراب يتخذ من البسر المفضوخ وحده ، من غير أن تمسه النار ، والمفضوخ : المشدوخ.

(٣) تفسير الرازي : ١٢ / ٧٩

٣٦

أبي الميسرة قال : قال عمر : اللهم بيّن لنا في الخمر بيانا شافيا ، فنزلت الآية التي في البقرة : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ : فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ) [البقرة ٢ / ٢١٩] فدعي عمر فقرئت عليه ، فقال : اللهم بيّن لنا في الخمر بيانا شافيا ، فنزلت الآية التي في النساء : (لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ) [النساء ٤ / ٤٣] وكان منادي النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ينادي إذا حضرت الصلاة : لا يقربن الصلاة السكران ، فدعي عمر فقرئت عليه ، فقال : اللهم بيّن لنا في الخمر بيانا شافيا ، فنزلت الآية التي في المائدة : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ) إلى قوله : (فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) فقال عمر : انتهينا انتهينا. وفي رواية ابن المنذر عن سعيد بن جبير أن عمر قال: أقرنت بالميسر والأنصاب والأزلام؟ بعدا لك وسحقا ، فتركها الناس.

التفسير والبيان :

نهى الله تعالى المؤمنين عن تعاطي الخمر والميسر ، فقال : يا أيها المؤمنون ، إن الخمر وكل شراب مسكر ، والقمار بمختلف أنواعه ، والأصنام التي تذبح القرابين عندها ، والأزلام قداح الاستقسام تفاؤلا وشؤما : قذر سخطه الله وكرهه ، وهو من عمل الشيطان أي تحسينه وتزيينه ، فاتركوا هذا الرجس ، رجاء أن تفوزوا وتفلحوا بتزكية أنفسكم ، وسلامة أبدانكم ، والتوادّ فيما بينكم.

والخمر : النّيء من ماء العنب إذا غلى واشتد وقذف بالزبد ، وهي تطلق في رأي الجمهور على كل شراب مسكر خامر العقل وغطاه ، ويرى الحنفية : أن الخمر حرمت ، ولم يكن العرب يعرفون الخمر في غير المأخوذ من ماء العنب ، فالخمر عندهم اسم لهذا النوع فقط ، وما وجد فيه مخامرة العقل من غير هذا النوع لا يسمى خمرا ؛ لأن اللغة في رأيهم لا تثبت من طريق القياس ، والحرمة عندهم

٣٧

تتعدى إلى المسكر ؛ لأنها معلولة بالإسكار ، لا لأن المسكر خمر (١). وهو رأي ابن عمر.

ويرى الجمهور أن الخمر اسم لكل ما خامر العقل وغلبه (٢) ، فغير ماء العنب حرام بالنص : (إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ) وهذا رأي عمر ، قال : إن الخمر حرمت وهي من خمسة أشياء : من العنب والتمر والعسل والشعير والحنطة ، والخمر : ما خامر العقل. وهو رأي ابن عباس أيضا ، وقال النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما رواه أحمد وأصحاب السنن إلا النسائي عن النعمان بن بشر : «إن من الحنطة خمرا ، وإن من الشعير خمرا ، وإن من الزبيب خمرا ، وإن من التمر خمرا ، وإن من العسل خمرا» وقال أيضا فيما رواه الجماعة إلا البخاري عن أبي هريرة : الخمر من هاتين الشجرتين : النخلة والعنب. وروى أحمد ومسلم وأصحاب السنن إلا ابن ماجه عن ابن عمر : «كل مسكر خمر ، وكل خمر حرام».

ورتب الجمهور على رأيهم أن كل المسكرات نجسة بقوله تعالى : (رِجْسٌ) وأن فيها الحد ، وكذلك يرى الحنفية أن المسكر غير المطبوخ وهو السّكر والفضيخ النيء ، والباذق : أي النصف المطبوخ ، ونقيع الزبيب والتمر غير المطبوخ نجس نجاسة مغلظة كالخمر وهو رأي أبي حنيفة في رواية راجحة عنه ؛ لأنه يحرم شرب قليلها وكثيرها ، فلا يعفى عنها أكثر من قدر الدرهم ، وأما المطبوخ وهو المثلث العنبي أو الطلاء (وهو المطبوخ من ماء العنب إذا ذهب ثلثاه وبقي ثلثه) والجمهوري وهو الطلاء الذي يلقى فيه الماء حتى يرق فغير نجس عند أبي حنيفة وأبي يوسف.

وحرّم محمد الأشربة المسكرة كلها وبرأيه يفتي عند الحنفية ، لقول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما رواه أحمد وأصحاب السنن عن جابر : «ما أسكر كثيره فقليله حرام». واتفق

__________________

(١) أحكام القرآن للجصاص : ٢ / ٤٦٢

(٢) أحكام القرآن لابن العربي : ١ / ١٥٠

٣٨

الحنفية على أنه لا حدّ بشرب الأشربة المسكرة غير الخمر إلا بالإسكار ، لحديث علي فيما رواه العقيلي : «حرمت الخمر بعينها ، والسّكر من كل شراب» إلا أنه حديث معلول ، أو موقوف على ابن عباس.

وإذا صار النبيذ (نبيذ التمر والزبيب) مسكرا صار حراما ، فإن لم يتخمر ولم يسكر كالخشاف الطبيعي بنقعه في فترة يومين مثلا فهو حلال.

والميسر حرام أيضا ، وكل شيء من القمار فهو من الميسر ، حتى لعب الصبيان بالجوز ، وورد عن علي رضي‌الله‌عنه أنه قال : «الشطرنج من الميسر» وكذا النرد إذا كان على مال ، فإذا لم يكن الشطرنج أو النرد على مال فإن الجمهور حرموه أيضا لأنه موقع في العداوة والبغضاء ، وصادّ عن ذكر الله وعن الصلاة ، وكره الشافعي الشطرنج ؛ لما فيه من إضاعة الوقت.

والأنصاب التي هي حجارة حول الكعبة رجس ؛ لأنهم كانوا يعظمونها ويذبحون عندها القرابين.

وكذا الأزلام رجس ؛ لأنهم كانوا يستقسمون بها ، وقد تقدم شرحها في الآية (٣) من سورة المائدة.

والرجس : القذر حسا ومعنى ، عقلا وشرعا ، والخمر وما ذكر بعدها موصوف بهذا الوصف ، مما يقتضي التحريم ، وتأكد ذلك بالأمر باجتناب الرجس ، وبقوله : (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) أي راجين الفلاح بهذا الاجتناب.

وتحريم الخمر والميسر من عدة نواح : صدّرت الجملة بإنما المفيدة للحصر ، وقرنا بالأصنام والأزلام وهي شنيعة قبيحة شرعا وعقلا ، وسميا رجسا من عمل الشيطان ، وذاك غاية القبح ، وأمر باجتناب أعيانهما وهو أشد تنفيرا من مجرد النهي أو لفظ التحريم ، ثم جعل اجتنابهما سببا للفلاح والفوز ، ثم بيّن الله مضار

٣٩

الخمر والميسر المعنوية : الشخصية والاجتماعية ، فقال : (إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ ...) لذا قال النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما رواه النسائي عن عثمان بن عفان موقوفا : «الخمر أم الخبائث» وقال فيما رواه البزار عن عبد الله بن عمرو مرفوعا : «مدمن الخمر كعابد الوثن» أي إن الشيطان لا يريد لكم من تعاطي الخمر والميسر إلا الإيقاع في العداوة بأن يعادي بعضكم بعضا بسبب الشراب ، والبغضاء بأن يزرع الكراهية والحقد والنفرة من بعضكم ، فيتحقق هدفه من التفريق والتشتيت بعد التأليف بالإيمان والجمع بأخوة الإسلام.

ويريد أيضا صرفكم بالسكر المذهب للعقل والاشتغال بالقمار عن ذكر الله الذي تطمئن به القلوب وتسعد به النفوس في الدنيا والآخرة ، وعن الصلاة التي تنهى عن الفحشاء والمنكر ، والتي تزكو بها النفوس ، وتتطهر القلوب.

فالخمر إذا أذهبت العقل ، هانت كرامة الإنسان على غيره ، وفقد القدرة على إدراك الخير والبعد عن الشر ، هذا فضلا عن أضرار الخمر الصحية في كل أعضاء جهاز الهضم والأعصاب ، بل قد يمتد الضرر إلى الأولاد ، فينشأ الواحد منهم معتوها ضعيف المدارك ، وكثيرا ما أدت الخمر إلى الطلاق وتدمير الأسرة.

والميسر الذي يؤدي إلى الربح بلا عمل ولا تجارة ، وخسارة الطرف الآخر يؤجج في النفس نار العداوة والبغضاء ، وكثيرا ما تقاتل المتقامران وحدث بينهما السباب والشتم والضرب الشديد.

والخلاصة : للخمر مضار كثيرة : شخصية صحية ، واجتماعية بزرع العداوة والبغضاء ، ودينية بالصد عن ذكر الله وعن الصلاة ، ومالية بتبديد الأموال في الضار غير النافع. وكذا للقمار أضرار نفسية عصبية بإحداث توتر في الأعصاب وقلق واضطراب ، واجتماعية ودينية ومالية كالخمر تماما.

وقد نزل قوله تعالى : (إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ) كما تقدم في قبيلتين من

٤٠