التفسير المنير - ج ٧

الدكتور وهبة الزحيلي

معرفة أهل الكتاب النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والافتراء على الله

وتبرؤ المشركين من الشرك في الآخرة

(الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٢٠) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (٢١) وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (٢٢) ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ (٢٣) انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٢٤))

الإعراب :

(الَّذِينَ خَسِرُوا) إما نعت لقوله : (الَّذِينَ) قبله. وفاء : (فَهُمْ) عاطفة جملة على جملة ، وإما مبتدأ مرفوع على استئناف الكلام ، وخبره : (فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) والفاء جواب.

(وَمَنْ أَظْلَمُ مَنْ) مبتدأ مرفوع ، وهي بمعنى الاستفهام المتضمن للتوبيخ والنفي والمعنى : لا أحد أظلم ممن افترى على الله كذبا. و (أَظْلَمُ) : خبر المبتدأ ، إلا أنه يفتقر إلى تمام ، وتمامه : (مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) لأن «من» المصاحبة لأفعل التفضيل من تمامه ، وهي بمعنى ابتداء الغاية. (إِنَّهُ) ضمير الشأن.

(لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ) اسم (تَكُنْ) المرفوع ، وقوله تعالى : (إِلَّا أَنْ قالُوا) خبر (تَكُنْ) المنصوب ، كأنه قال : لم تكن فتنتهم إلا مقالتهم. ومن قرأ بالياء «يكن» ونصب (فِتْنَتُهُمْ) ، جعل اسم يكن (أَنْ قالُوا) كأنه قال : لم يكن فتنتهم إلا مقالتهم. وأما تذكير يكن فلوجهين : أحدهما ـ لأن تأنيث الفتنة غير حقيقيّ ، والثاني : لأن القول هو الفتنة في المعنى ، والحمل على المعنى كثير في كلامهم.

(وَاللهِ رَبِّنا رَبِّنا) : وصف لقوله : (وَاللهِ) ومن قرأ بالنصب فعلى النداء المضاف ، وتقديره : يا ربّنا. و (ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) جواب القسم ، و (رَبِّنا) اعتراض وقع بين القسم وجوابه.

البلاغة :

(كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ) فيه ما يسمى بالتشبيه المرسل المجمل.

١٦١

(الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ) فيه إيجاز بالحذف ، أي تزعمونهم شركاء.

(انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا) تعجب من كذبهم الغريب.

المفردات اللغوية :

(يَعْرِفُونَهُ) أي يعرفون محمدا بنعته في كتابهم. (وَمَنْ أَظْلَمُ) أي لا أحد (مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) بنسبة الشريك إليه (أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ) القرآن. (نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا) توبيخا. (كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ) أنهم شركاء لله. (فِتْنَتُهُمْ) كفرهم ، والمعنى المراد : ثم لم تكن عاقبة كفرهم الذي لزموه أعمارهم ، وقاتلوا عليه ، وافتخروا به. ويجوز أن يكون المراد : ثم لم يكن جوابهم ومعذرتهم إلا أن قالوا ، فسمي فتنة لأنه كذب.

(كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ) بنفي الشرك عنهم. (وَضَلَّ عَنْهُمْ) وغاب عنهم. (ما كانُوا يَفْتَرُونَ) أي يفترونه على الله من الشركاء ، يفترون ألوهيتها وشفاعتها.

المناسبة :

كانت الآيات السابقة بسبب سؤال موجه من المشركين لليهود والنصارى عن صفة محمد عليه الصلاة والسلام ، فأنكروا دلالة التوراة والإنجيل على نبوته ، فبيّن الله تعالى فيما سبق أن شهادة الله على صحة نبوته كافية في ثبوتها وتحققها ، ثم بيّن في هذه الآية أنهم كذبوا في قولهم : إنا لا نعرف محمدا عليه الصلاة والسلام ؛ لأنهم يعرفونه بالنبوة والرسالة كما يعرفون أبناءهم ؛ لما روي أنه لما قدم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المدينة قال عمر لعبد الله بن سلام : أنزل الله على نبيه هذه الآية ، فكيف هذه المعرفة؟

فقال : يا عمر ، لقد عرفته فيكم حين رأيته كما أعرف ابني ، ولأنا أشدّ معرفة بمحمد مني بابني ؛ لأني لا أدري ما صنع النساء ، وأشهد أنه حق من الله تعالى (١).

__________________

(١) تفسير الرازي : ١٢ / ١٧٩

١٦٢

التفسير والبيان :

إن الذين آمنوا آتيناهم الكتاب في الماضي وهم اليهود والنصارى يعرفون أن محمداصلى‌الله‌عليه‌وسلم نبي وأنه خاتم الرسل ، كما يعرفون أبناءهم ، بما عندهم من الأخبار والأنباء عن الرسل المتقدمين والأنبياء ؛ فإن صفته في كتبهم واضحة ، وإن الرسل كلهم بشّروا بوجود محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ونعته وصفته وبلده ومهاجره وصفته أمته. وهذا استشهاد لأهل مكة بمعرفة أهل الكتاب به وبصحة نبوته.

لهذا كان السبب في إنكار نبوته : ما قاله تعالى : (الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ ..) أي إن إنكارهم نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ناشئ من خسارتهم أنفسهم ، مثل إنكار المشركين بعد قيام الأدلة القاطعة على نبوته ، فكل من الفريقين أهمل ما يقتضيه العقل والعلم والتاريخ ، وآثر المشركون وعلماء اليهود والنصارى الحفاظ على مراكزهم في قومهم وتعصبهم لما عندهم ، على الإيمان بنبوة هذا الرسول النّبي الأميّ الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل ، فهم إن أسلموا فقدوا زعامتهم ، وتساووا مع بقية المسلمين.

هؤلاء من المشركين وأهل الكتاب الجاحدين الذين خسروا أنفسهم ، لتعلقهم بحظوظ دنيوية حقيرة ، ولضعف إرادتهم ، وإهمالهم أخبار الأنبياء السابقين ، هم الذين لا يؤمنون بنبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهم الذين جمعوا بين أمرين متناقضين ، فكذبوا على الله بما لا حجة عليه ، وكذبوا بما ثبت بالحجة والبرهان الصحيح حيث قالوا : لو شاء الله ما أشركنا ، ولا آباؤنا ، وقالوا : والله أمرنا بها ، وقالوا : والملائكة بنات الله ، وهؤلاء شفعاؤنا عند الله ، ونسبوا إليه تحريم البحائر والسوائب ، وذهبوا فكذبوا القرآن والمعجزات وسموها سحرا ، ولم يؤمنوا بالرسولصلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وهذا يدلّ على أن إنكار نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم خسارة للنفس ، ثم أبان تعالى أن

١٦٣

الافتراء على الله ظلم للنفس : (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى ..) أي لا أحد أظلم ممن تقوّل على الله ، فادعى أن الله أرسله ، ولم يكن أرسله ، ثم لا أحد أظلم ممن كذّب بآيات الله وحججه وبراهينه ودلالاته ، ولا أحد أظلم لنفسه ممن زعم أن لله ولدا أو شريكا.

ويلاحظ أن المشركين جمعوا بين التكذيب على الله ، والتكذيب بآيات الله الدالة على التوحيد وعلى إثبات رسالة النّبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وعاقبة الظلم : عدم الفلاح ، فلا يفلح المفتري ولا المكذب ، ولا يفوز أحدهما أو كلاهما وكل ظالم يوم القيامة ـ يوم الحساب والجزاء.

وزيادة في الملامة والتبكيت يسأل المشركون المفترون يوم القيامة سؤال توبيخ وتقريح وإنكار ، فقال تعالى : (وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ ..) أي واذكر يا محمد يوم نحشر أولئك المشركين جميعا سواء عبدة الأوثان أو أهل الكتاب وكل من ظلم نفسه وغيره ، ثم نقول للذين أشركوا وهم أشدّ الناس ظلما : أين الشركاء من الأصنام والأنداد المعبودة من دون الله ، التي كنتم تزعمون في الدنيا أنهم أولياؤكم ونصراؤكم من دون الله ، وأنهم يقربونكم إلى الله زلفى ، ويشفعون لكم عنده ، أين هم فلا يرون معكم؟ كما قال تعالى : (وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ : أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ) [القصص ٢٨ / ٦٢] وقال تعالى : (وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ ، لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ ، وَضَلَّ عَنْكُمْ ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ) [الأنعام ٦ / ٩٤].

ولكنهم يحارون فلا يجدون جوابا مقنعا ، فيبادرون إلى إنكار الشرك. (ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ ...) أي لم تكن عاقبة شركهم أو كفرهم أو ـ كما صوب الطبري ـ لم تكن حجتهم أو قولهم عند اختبارنا إياهم اعتذارا مما سلف منهم من الشرك بالله ، إلا أن أقسموا بالله يوم القيامة : ما كنا مشركين.

١٦٤

وهنا تساؤل ذكره الزمخشري : كيف يصحّ أن يكذبوا حين يطلعون على حقائق الأمور ، وعلى أن الكذب والجحود لا نفع فيه؟ ثم أجاب : الممتحن ينطق بما ينفعه وبما لا ينفعه من غير تمييز بينهما ، حيرة ودهشة. وهناك حالة مماثلة : يقولون وهم يعذبون في النار : ربّنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون ، مع أنهم قد أيقنوا بالخلود ولم يشكّوا فيه.

ولكن هذا الإنكار حاصل منهم في بعض مواقف الحشر ، توهما منهم أن ذلك ينفعهم ، أما في موقف آخر فيعترفون بالشرك ، كما قال تعالى : (قالُوا : رَبَّنا ، هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ) [النحل ١٦ / ٨٦] وقال تعالى : (وَلا يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثاً) [النساء ٤ / ٤٢].

سئل ابن عباس عن هذه الآية وعن قوله : (وَلا يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثاً) فقال : أما قوله : (وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) فإنهم لما رأوا أنه لا يدخل الجنة إلا أهل الإسلام ، قالوا : تعالوا لنجحد : (قالُوا : وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) فختم الله على أفواههم ، وتكلمت أيديهم وأرجلهم : (وَلا يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثاً) [النساء ٤ / ٤٢]. أي أنهم في الحقيقة يعترفون بواقعهم ، وفي الظاهر وحال التخبط في الإجابة ينكرون الشرك ، فتارة يكذبون ، وتارة يصدقون ، (وَلا يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثاً) وذلك كله بسبب الدهشة والحيرة.

وتأويل الفتنة في تفسير ابن عباس : هي الشرك في الدنيا ، لكن على تقدير مضاف : هو كلمة (عاقبة) أي أن أمر الشرك آل إلى نقيض المطلوب : وهو التبرؤ منه وتركه عند المحنة.

وما أحرج مواقف المجابهة بالحقائق وإظهار الكذب مواجهة ، فيا له من خزي وعار! وهذا ما قاله تعالى : (انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ) أي تأمل

١٦٥

وتعجب من كذبهم الصريح ، بإنكارهم الشرك ، وكذبهم باليمين الفاجرة بإنكار ما صدر عنهم.

(وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ) ثم انظر وتأمل أيضا كيف ذهب عنهم أو غاب عنهم ما كانوا يفترونه من الإشراك ، حتى إنهم بادروا إلى نفي حدوثه منهم.

ونظيره قوله تعالى : (ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ : أَيْنَ ما كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِ اللهِ قالُوا : ضَلُّوا عَنَّا) [غافر ٤٠ / ٧٣ ـ ٧٤].

فقه الحياة أو الأحكام :

تضمنت الآيات مشهدين أو موقفين من مشاهد ومواقف الكفار.

المشهد الأول ـ أن أهل الكتاب وهم اليهود والنصارى يعرفون ما يدلّ على صفة النّبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وصحة أمره ، وصدقه ، ورسالته ، ولكنهم قوم معاندون ، خسروا أنفسهم وضيعوا مصالحهم الحقيقية.

المشهد الثاني ـ أن المشركين عبده الأوثان ومنهم الذين اتخذوا عيسى إليها أو أبنا لله هم قوم ظلمة ، لافترائهم الكذب على الله بأن نسبوا إليه ما ليس له ، ولتكذيبهم بالمعجزات والبراهين الدالة على وحدانية الله وصدق محمد في نبوته.

ويحشر الجميع من المشركين وأهل الكتاب والمنافقين يوم القيامة ويسألون سؤال توبيخ وإنكار ، وسؤال إفضاح لا إفصاح عن الشركاء مع الله الذين زعموا أنهم شفعاء لهم عند الله ، فما يكون قولهم أو معذرتهم أو حجتهم أو عاقبة شركهم إلا التبرؤ من الشرك. وهذا غاية الكذب ، إذ ظللوا أنفسهم وزعموا أن الأصنام تقربهم إلى الله زلفى ، وكذب المنافقون باعتذارهم بالباطل ، وبكل ما كانوا يظنونه من شفاعة آلهتهم.

١٦٦

مواقف من عناد المشركين حول القرآن الكريم

(وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها حَتَّى إِذا جاؤُكَ يُجادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٢٥) وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (٢٦))

الإعراب :

(مَنْ يَسْتَمِعُ مَنْ) : مبتدأ مرفوع ، وخبره : (مِنْهُمْ) ووحد الفعل : (يَسْتَمِعُ) لأنه حمله على لفظ (مَنْ). ولو حمل على المعنى لكان جائزا حسنا كقوله تعالى : (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ).

(أَنْ يَفْقَهُوهُ) تقديره : كراهية أن يفقهوه ، فحذف المضاف. وقيل : تقديره : لئلا يفقهوه. (أَساطِيرُ) قيل : واحدها أسطورة ، وقيل : إسطارة ، وقيل : هو جمع الجمع واحدة أسطار ، وأسطار : جمع سطر بفتح الطاء ، كجمل وأجمال ، وجيل وأجيال.

البلاغة :

(وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً) عبر بالأكنة في القلوب ، والوقر في الآذان ، وهو تمثيل بطريق الاستعارة ، لإعراضهم عن القرآن.

(يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا) وضع الظاهر موضع الضمير لتسجيل الكفر عليهم.

(يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ) بينهما جناس ناقص.

المفردات اللغوية :

(مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ) إذا قرأت. (أَكِنَّةً) أغطية ، جمع كنان : وهو الغطاء ، كأسنة وسنان. (أَنْ يَفْقَهُوهُ) ألا يفهموا القرآن. (وَقْراً) صمما وثقل سمع ، فلا يسمعونه سماع قبول. (آيَةٍ) علامة دالة على صدق الرسول. (يُجادِلُونَكَ) يخاصمونك وينازعونك. (أَنْ) ما. (هذا) القرآن. (أَساطِيرُ) أكاذيب وخرافات ، جمع أسطورة. (وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ) أي ينهون

١٦٧

الناس عن اتباع النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. (وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ) يتباعدون عنه ويعرضون ، فلا يؤمنون به. (وَإِنْ يُهْلِكُونَ) ما يهلكون بالنأي عنه إلا أنفسهم ؛ لأن ضرره عليهم.

سبب النزول :

نزول الآية (٢٥):

(وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ) : قال ابن عباس : إن أبا سفيان بن حرب ، والوليد بن المغيرة ، والنضر بن الحارث ، وعتبة وشيبة ابني ربيعة ، وأمية ، وأبيا ابني خلف استمعوا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالوا للنضر : يا أبا قتيلة ، ما يقول محمد؟ قال : والذي جعلها بيته ما أدري ما يقول ، إلا أني أراه يحرك شفتيه يتكلم بشيء ، وما يقول إلا أساطير الأولين مثل ما كنت أحدثكم عن القرون الماضية ، وكان النضر كثير الحديث عن القرون الأول ، وكان يحدث قريشا ، فيستملحون حديثه ، فأنزل الله تعالى هذه الآية.

نزول الآية (٢٦):

(وَهُمْ يَنْهَوْنَ ...) : روى الحاكم وغيره عن ابن عباس قال : نزلت هذه الآية في أبي طالب كان ينهى المشركين أن يؤذوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويتباعد عما جاء به.

وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد أبي هلال قالت : نزلت في عمومة النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكانوا عشرة ، فكانوا أشد الناس معه في العلانية ، وأشد الناس عليه في السر.

قال مقاتل بعد ذكر رواية الحاكم : وذلك أن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان عند أبي طالب يدعوه إلى الإسلام ، فاجتمعت قريش إلى أبي طالب يردون سؤال النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال أبو طالب :

١٦٨

والله ، لا وصلوا إليك بجمعهم

حتى أوسّد في التراب دفينا

فاصدع بأمرك ، ما عليك غضاضة

وأبشر وقرّ بذاك منك عيبونا

وعرضت دينا لا محالة أنه

من خير أديان البرية دينا

لو لا الملامة أو حذاري سبّة

لوجدتني سمحا بذاك مبينا

فأنزل الله تعالى (وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ) الآية (١).

المناسبة :

لما بيّن الله تعالى أحوال الكفار في الآخرة وما يكونون عليه من اضطراب ، فمرة ينكرون الشرك ، وأخرى يقرون به ، أتبعه هنا ما يوجب اليأس من إيمان بعضهم.

التفسير والبيان :

من هؤلاء الكفار فريق يجيء ليستمع إلى قراءتك القرآن ، والحال أنه لا تجزي عنهم شيئا ، ولا يستفيدون شيئا ؛ لأنا قد جعلنا على قلوبهم أغطية لئلا يفقهوا القرآن ، وفي آذانهم ثقلا أو صمما عن السماع النافع لهم ، كما قال تعالى : (وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعاءً وَنِداءً) [البقرة ٢ / ١٧١]. أي إن إقامة الحواجز دون فهم القرآن وقبوله وتدبر معانيه ، كان بسبب التقليد الأعمى وإعراضهم الناشئ عن تصميم وحزم ألا ينظروا فيما يسمعون نظرة تأمل وإمعان ، ليميزوا بين الحق والباطل.

وهذا ما قررته الآية التالية : (وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها) أي مهما رأوا من الآيات والدلالات والحجج البينات والبراهين لا يؤمنوا بها ، فلا فهم

__________________

(١) أسباب النزول للواحدي ١٢٣

١٦٩

عندهم ولا إنصاف ، كما قال تعالى : (وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ ، وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ) [الأنفال ٨ / ٢٣].

حتى إنهم إذا جاؤوك يحاجونك ويناظرونك في الحق وفي دعوتك قالوا : ما هذا الذي جئت به إلا مأخوذ من كتب الأوائل ومنقول عنهم ، وما هو إلا نوع من الترهات والخرافات والقصص الأسطورية التي تدون وتشغل أذهان العامة.

وهم بالإضافة إلى تكذيبهم للنّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ينهون الناس عن اتباع الحق وتصديق الرسولصلى‌الله‌عليه‌وسلم والانقياد للقرآن ، ويبعدون هم عنه ، فيجمعون بين الفعلين القبيحين ، لا ينتفعون ولا يدعون أحدا ينتفع.

أو أن الآية نزلت في أبي طالب ، كان ينهى الناس عن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يؤذى أو أن يقتل ، ويتباعد عنه.

وعاقبة ذلك أنهم ما يهلكون إلا أنفسهم بهذا الصنيع ، ولا يعود وباله إلا عليهم ، وهم لا يشعرون بذلك ، بل يظنون أنهم يضرون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقد أهلك الله أولئك المعادين الجاحدين ، إما في ساحات القتال كبدر وغيرها ، أو ببلاء ونقمة خاصة ، وسيتبعها هلاك الآخرة. وهذا من معجزات القرآن وإخباره بالمغيبات.

فقه الحياة أو الأحكام :

هذه الآيات عبرة وعظة بليغة تستوقف النظر والتأمل ، إذ ما أصعب حجب الحقائق عن الإنسان وتركه يتيه في ظلمات الأهواء ويتردد في موج الضلالات.

فهؤلاء الكفار أذكياء وزعماء يسمعون ويفهمون ، ولكن لما كانوا لا ينتفعون

١٧٠

بما يسمعون ، ولا ينقادون إلى الحق ، كانوا بمنزلة من لا يسمع ولا يفهم.

وقد أخبر الله تعالى عن أوضاع عنادهم وردهم الآيات بغير حجة ؛ لأنهم لمّا رأوا القمر منشقا قالوا : هذا سحر ، ولمّا وجدوا القرآن معجزة سما ببلاغته عن فنون كلامهم وقولهم ، قالوا : هذا أساطير الأولين.

وموقف الكفار يجمع كل فصول القبح والاستغراب والاستهجان ، وقوله تعالى : (وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ) عام في جميع الكفار ، ينهون عن اتباع محمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وينأون عنه ، فلا يكتفون بإعراضهم ، وإنما يصدون الناس عن دعوة الإسلام ، وهم بهذا ما يهلكون إلا أنفسهم بإصرارهم على الكفر ، وحملهم أوزار الذين يصدّونهم.

أما موقف أبي طالب فالله أعلم به ، والرواية المشهورة : ما ورد في صحيح مسلم عن أبي هريرة قال : قال رسول الله لعمه : «قل : لا إله إلا الله ، أشهد لك بها يوم القيامة ، قال : لو لا تعيّرني قريش يقولون : إنما حمله على ذلك الجزع لأقررت بها عينك ، فأنزل الله تعالى : (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ ، وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ) [القصص ٢٨ / ٥٦].

حال المشركين أمام النار أو كيفية هلاكهم

(وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقالُوا يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢٧) بَلْ بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (٢٨) وَقالُوا إِنْ هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (٢٩))

١٧١

الإعراب :

(وَلا نُكَذِّبَ وَنَكُونَ) النصب فيهما بتقدير أن ، لتكون مع الفعل مصدرا ، فتعطف بالواو مصدرا على مصدر ، وتقديره : يا ليت لنا ردا وانتفاء من التكذيب وكونا من المؤمنين. والنصب على أنه جواب التمني ؛ لأن التمني ينزل منزلة الأمر والنهي والاستفهام في نصب الفعل المضارع بأن مضمرة.

ويجوز فيهما الرفع : إما عطفا على (نُرَدُّ) فجعل كله مما يتمناه الكفار يوم القيامة ، فيكونون قد تمنوا ثلاثة أشياء وهي : أن يردوا ، وألا يكونوا قد كذبوا ، وأن يكونوا من المؤمنين.

وإما الرفع على القطع والاستئناف ، فإنه يجوز في جواب التمني الرفع على العطف والاستئناف ، فلا يدخلان في التمني ، وتقديره : يا ليتنا نرد ، ونحن لا نكذب ، ونحن نكون من المؤمنين.

ويجوز رفع (نُكَذِّبَ) ونصب (نَكُونَ) والرفع على ما تقدم من العطف على (نُرَدُّ). والنصب يكون على جواب التمني على ما تقدم ، فيكون داخلا في التمني.

البلاغة :

(وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) تأكيد بمؤكدين هما : «إن» و «اللام» للإشارة إلى أن الكذب طبيعتهم.

المفردات اللغوية :

(إِذْ وُقِفُوا) عرضوا ، يقال : وقف على الشيء : عرفه وتبينه وجواب (لَوْ) محذوف تقديره في آخر الآية : لرأيت هولا أو عجبا أو مشقات ونحو ذلك. (بَدا لَهُمْ) ظهر لهم (يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ) يكتمون ، بقولهم : والله ربنا ما كنا مشركين ، بشهادة جوارحهم (لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ) من الشرك (وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) في وعدهم بالإيمان (وَقالُوا) أي منكرو البعث (إِنْ هِيَ) ما هي (بِمَبْعُوثِينَ) بعث الموتى : نشرهم ليوم البعث ، أي القيامة. ونشر الميّي : عاش بعد الموت.

المناسبة :

لما ذكر الله تعالى صفة من ينهى عن متابعة الرسول عليه الصلاة والسلام ، وينأى عن طاعته ويبتعد عنه ، بأنهم يهلكون أنفسهم ، شرح كيفية ذلك الهلاك بهذه الآية ، وصدور بعض التمنيات منهم بالعودة إلى الدنيا ليعملوا صالح الأعمال ، ولكن الله كذبهم فيما يقولون.

١٧٢

التفسير والبيان :

يذكر الله تعالى حال الكفار إذا تبينوا يوم القيامة وعرفوا النار ، وشاهدوا أهوالها وفظائعها ، فلو رأيتهم أيها السامع وما بهم من هول وفزع لرأيت عجبا يصعب وصفه ، حين تعرضهم ملائكة العذاب على النار ، ثم يدخلونها ويعاينون شدتها ، فيندمون ويتمنون العودة إلى الدنيا قائلين : (يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا ...) أي يا ليتنا نرجع إلى الحياة الدنيا ، ولا نكذب بآيات الله وحججه الدالة على وحدانيته وصدق رسله ، ونؤمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتب والنبيين ، ونتوب من ذنوبنا ، ونعمل صالحا يرضي الله سبحانه.

فرد الله عليهم بقوله (بَلْ) للإضراب الإبطالي لهذا التمني ، وللإضراب عن إرادة الإيمان ، فحالهم لم تتغير ، وإنما ظهر لهم حينئذ ما كانوا يخفون في أنفسهم من الكفر والتكذيب والمعاندة ، وإن أنكروها في الدنيا أو في الآخرة ، وتظهر حقيقتهم ؛ لأنهم كانوا يخفون الكفر ولا يبدونه ، أما المؤمن الحقيقي فيعلن إيمانه ولا يكتمه ، ويتحملون عاقبة كفرهم من العقاب الشديد ، كما قال تعالى : (يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ) [الحاقة ٦٩ / ١٨] فهي لا تخفى على أنفسهم ولا على ربهم ، وقال تعالى : (وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ. وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا ، وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) [الزمر ٣٩ / ٤٧ ـ ٤٨].

ثم كذّبهم الله صراحة في هذا الندم أو التمني ، فقال : (وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا ...) أي لو ردّوا إلى الدنيا لعادوا إلى ما نهاهم الله عنه من الكفر والعناد والنفاق والمعاصي ، فإن العصيان مستقر في أنفسهم ، فديدنهم العناد ، وطبعهم الكذب ، ولو ردّوا إلى الدنيا لأنكروا مرة أخرى البعث والحساب والجزاء ، وأقروا بحياة الدنيا ولم يؤمنوا بالآخرة ، وقالوا : ما هي إلا حياتنا الدنيا فقط ، نعيش ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر ، ولا ثواب ولا عقاب في الآخرة ، بل لا

١٧٣

آخرة ، وما نحن بمبعوثين ، أي ما هذه إلا الحياة الدنيا ، ثم لا معاد بعدها. وهؤلاء هم الماديون الملحدون الذين لا يؤمنون بالغيب.

فقه الحياة أو الأحكام :

الحقائق الإيمانية لا تتغير ولا تتبدل ، ولا بد من حدوثها ؛ فإن وعد الله حق ، والجنة حق ، والنار حق ، وسرعان ما تنكشف هذه الحقائق ، ويفتضح الكفر والكفار ، وينالون عذاب النار ، فلو تراهم يعذبون في جهنم لرأيت أسوا حال ، أو لرأيت منظرا رهيبا هائلا ، أو لرأيت أمرا عجبا.

ولا يجدون مناصا أو مفردا من عذاب الله ، ويتخبطون ، ويتأملون ، ويتمنون العودة إلى دار الدنيا لتصحيح العقيدة وإصلاح العمل ، وترك التكذيب بآيات الله الدالة على وجوده ووحدانيته ، وصدق رسله ، ليكونوا مع صف المؤمنين في الدنيا ، وفي حال أحسن من حالهم في الآخرة ، في جنان الله وروضاته. ولكنهم يتمنون هذا الشيء ضجرا وقلقا ، مع علمهم باليأس من العودة ، لا أنهم عازمون على أنهم لو ردّوا لما كذبوا ولآمنوا ، فإنهم ما طلبوا العود إلى الدنيا رغبة ومحبة في الإيمان ، بل خوفا من العذاب الذي عاينوه ، جزاء على ما كانوا عليه من الكفر ، فسألوا الرجعة إلى الدنيا ليتخلصوا من النار.

وهم أمام العذاب وفي وسط النار يظهر لهم حقيقة ما كانوا يخفونه من الكفر والمعاصي ، ولو ردّوا لصاروا ورجعوا إلى ما نهوا عنه من الشرك ؛ لعلم الله تعالى فيهم أنهم لا يؤمنون ، وقد عاين إبليس رأس الكفر ما عاين من آيات الله ثم عاند.

ودل قوله تعالى : (وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) على الحال التي كانوا عليها في الدنيا من تكذيبهم الرسل ، وإنكارهم البعث ، كما دل على كذبهم فيما أخبروا به عن أنفسهم من أنهم لا يكذبون ، ويكونون من المؤمنين.

١٧٤

وأرشد قوله تعالى : (وَقالُوا : ما هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا) إلى ما قالوا في الدنيا ، وإلى أنهم قوم ماديون ، لا يؤمنون بالآخرة ، ولو ردّوا لعادوا إلى الكفر ، واشتغلوا بلذة الحال ، فهم قوم معاندون ، أبت نفوسهم الأمارة بالسوء إلا المكث على الضلال والنفاق ، والمكر والكيد ، والكفر والمعاصي.

ألا فليتأمل العاقل مصير هؤلاء ، وما يؤول إليه حالهم من الاضطراب والقلق وتمني الخلاص من العذاب الشديد ، ولكن عدل الله يتنافى مع إعفائهم من العقاب ، ورحمته بالخلائق جعلته يحذرهم وينذرهم ما يلاقونه في المستقبل المنتظر.

حال المشركين أمام ربهم في الآخرة

وحقيقة الدنيا

(وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ قالَ أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ قالُوا بَلى وَرَبِّنا قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (٣٠) قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللهِ حَتَّى إِذا جاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قالُوا يا حَسْرَتَنا عَلى ما فَرَّطْنا فِيها وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ (٣١) وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٣٢))

الإعراب :

(وَلَوْ تَرى ...) : جواب (لَوْ) محذوف تفخيما للأمر وتعظيما للشأن ، وتقديره : لعلمت حقيقة ما يصيرون إليه. و (عَلى رَبِّهِمْ) أي على سؤال ربهم ، فحذف المضاف.

(بَغْتَةً) منصوب على المصدر في موضع الحال. والهاء في (فِيها) تعود على (ما) لأنه يريد ب (ما) الأعمال ، كأنه قال : على الأعمال التي فرطنا فيها.

١٧٥

(أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ) : (ما) : نكرة في موضع نصب على التمييز بساء. وفي (ساءَ) : ضمير مرفوع يفسره ما بعده كنعم وبئس. وقيل : «ما» في موضع رفع بساء.

(وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ) الدار : مبتدأ ، و (الْآخِرَةُ) : صفة له ، و (خَيْرٌ) : خبر المبتدأ. وقرئ ولدار الآخرة خير وتقديره : ولدار الساعة الآخرة خير ، ولا بد من هذا التقدير ؛ لأن الشيء لا يضاف إلى صفته ، فوجب تقدير موصوف محذوف ، وهذه الإضافة في نية الانفصال.

البلاغة :

(وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ) تشبيه بليغ حيث جعلت الدنيا اللعب واللهو نفسه مبالغة.

(أَفَلا تَعْقِلُونَ) الاستفهام للتوبيخ.

المفردات اللغوية :

(وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ) عرضوا على الله ، لرأيت أمرا عظيما (قالَ) لهم على لسان الملائكة توبيخا (أَلَيْسَ هذا) البعث والحساب (بَلى وَرَبِّنا) إنه لحق (تَكْفُرُونَ) به في الدنيا كفروا بلقاء الله بالبعث (حَتَّى) غاية للتكذيب (السَّاعَةُ) القيامة : وهي موعد انقضاء أجل الدنيا والحياة وخراب العالم ، وبدء الحياة الأخرى (بَغْتَةً) فجأة (يا حَسْرَتَنا) هي شدة التألم والندم على ما فات ، ونداؤها مجاز ، أي هذا أو انك فاحضري (عَلى ما فَرَّطْنا) قصرنا مع القدرة على الفعل (فِيها) أي الدنيا.

(أَوْزارَهُمْ) جمع وزر : وهو الحمل الثقيل ، ويطلق شرعا على الإثم والذنب ، كأنه لثقله على صاحبه كالحمل الذي يثقل ظهره ، والمراد بقوله : (وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ) تحمل مسئولية أفعالهم ، بأن تأتيهم ذنوبهم عند البعث في أقبح شيء صورة ، وأنتنه ريحا ، فتركبهم (أَلا ساءَ) بئس (ما يَزِرُونَ) يحملونه حملهم ذلك (وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا) أي الاشتغال بها (لَعِبٌ) عمل لا يحقق نفعا ولا يدفع ضررا (وَلَهْوٌ) ما يشتغل الإنسان عما يعنيه ويهمه ، والمقصود أنه تعالى جعل أعمال الدنيا المحضة لعبا ولهوا واشتغالا بما لا يعني ، ولا يعقب منفعة دائمة ، كما تعقب أعمال الآخرة المنافع العظيمة ، أما الطاعة وكل ما يعين عليها فمن أمور الآخرة. (وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ) أي الجنة (خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ) الشرك (أَفَلا تَعْقِلُونَ) فتؤمنوا.

١٧٦

المناسبة :

لما حكى الله تعالى عن الكفار إنكارهم للحشر والنشر والبعث والقيامة ، بيّن في هذه الآية كيفية حالهم في القيامة ، ثم ذكر حقيقة الدنيا ومقارنتها بالآخرة.

التفسير والبيان :

ولو ترى حال المشركين حين تقفهم الملائكة بين يدي ربهم ، لوجدت هول أمرهم ، ورأيت أمرا خطيرا مدهشا لا يحدّه وصف.

وظاهر الآية غير مراد قطعا ؛ لأنه استعلاء على ذات الله تعالى ، وهو باطل بالاتفاق ، وإنما هذا من قبيل المجاز ، فهو مجاز عن الحبس للتوبيخ والسؤال كما يوقف الجاني بين يدي الحاكم ليعاتبه ، وهم موقوفون ومحبوسون بوساطة الملائكة ، امتثالا لأمر الله فيهم ، كما قال : (وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ) [الصافات : ٣٧ / ٢٤]. وعبر بهذا التعبير : (وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ) للدلالة على أن أمرهم مقصور على الله ، لا يتصرف فيهم غيره.

ثم يناقشهم الله على لسان الملائكة قائلا لهم : (أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ؟) أي أليس هذا المعاد بحق ، وليس بباطل كما كنتم تظنون.

أجابوا : بلى وربنا ، أي أنه الحق الذي لا شك فيه ، وأكدوا قولهم باليمين بالله ، فشهدوا على أنفسهم بكفرهم ، والمقصود أنهم يعترفون بكونه حقا مع القسم واليمين.

فرد الله عليهم : ذوقوا العذاب الأليم بسبب كفركم وتكذيبكم الذي دمتم عليه ، ولم تفارقوه في الدنيا حتى الموت. وعبر بلفظ الذوق ؛ للدلالة على أنهم في كل حال يجدونه وجدان الذائق في قوة الإحساس به.

ثم أخبر تعالى بخبر عام : وهو خسارة من كذب بلقاء الله ، وخيبته إذا

١٧٧

جاءته الساعة بغتة ، وندامته على ما فرط من العمل للآخرة ، وما أسلف من قبيح القول. وسبب الخسارة : إنكار البعث والجزاء الذي يفسد الفطرة الإنسانية ، ويؤدي إلى الشر والإثم ؛ لأن هذا الإنكار يحصرهمّ الكافرين في الاستمتاع بلذات الدنيا وشهواتها ، والتنافس في متاعها ، والغرور بالمجد والاستعلاء والسلطة على الآخرين.

هؤلاء الخاسرون يأتون للحساب يوم القيامة ، وهم حاملون ذنوبهم وخطاياهم ، يحملون أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم على ظهورهم ، ألا ما أسوأ تلك الأثقال المحمولة ، وبئس شيئا يزرون وزرهم ، كقوله تعالى : (ساءَ مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا ، وَأَنْفُسَهُمْ كانُوا يَظْلِمُونَ) [الأعراف ٧ / ١٧٧]. قال ابن عباس : الأوزار : الآثام والخطايا. أما قوله : (أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ) فمعناه :بئس الشيء الذي يزرونه أي يحملونه.

ذكر ابن جرير الطبري وابن أبي حاتم عن السدي : أن الأعمال القبيحة أعمال الظالم تتمثل بصورة رجل قبيح الوجه أسود اللون منتن الريح ، يحمله صاحبه يوم القيامة. وعن عمرو بن قيس الملائي : تتمثل الأعمال الصالحة بصورة رجل حسن الصورة طيب الريح ، يحمله صاحبها يوم القيامة (١).

ثم جعل الله تعالى غالب أعمال الحياة الدنيا لعبا لا يفيد ، ولهوا يشغل عن المصلحة الحقيقية ، ومتاعها قليل زائل قصير الأجل ، وأما العمل للآخرة فله منافع عظيمة ، والآخرة خير وأبقى ، خير لمن اتقى الكفر والمعاصي ، ونعيمها نعيم دائم خير من نعيم الدنيا الفاني ، أفلا تعقلون وتفهمون هذه الحقائق وهي أن الحياة الدنيا لعب ولهو ، وزوال ، ومزرعة للآخرة ، فتؤمنوا وتعملوا عملا صالحا.

__________________

(١) تفسير الطبري : ٧ / ١١٤

١٧٨

وقوله : (لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ) دليل على أن ما عدا أعمال المتقين لعب ولهو.

فقه الحياة أو الأحكام :

الآيات تقرير واقعي لحال من وقع في قبضة الحاكم الذي يقضي في جريمته ، وإذا كان الغالب على حال المتهمين الإنكار بين يدي قاضي الدنيا ، فإن المتهم إذا لم يجد مفرا من الإقرار بجريمته ، بادر إلى الاعتراف بكل ما عمل.

وهكذا شأن الكفار والمشركين إذا قدّموا للحساب بين يدي الله ، أدركوا ألا فائدة من الإنكار ، وحينئذ إذا سئلوا عن البعث والمعاد ، أقسموا بالله أنه حق ثابت ، فيكون الحكم الصادر في حقهم تنفيذ العقاب المقرر عليهم ، جزاء وفاقا على كفرهم.

والنقاش يحدث من قبل الملائكة ، تقول لهم بأمر الله : أليس هذا البعث وهذا العذاب حقا؟ فيقولون : (بَلى وَرَبِّنا) إنه حق. ولا تناقض بين هذا التساؤل وبين قوله تعالى : (وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ) لأن السؤال يكون بواسطة الملائكة ، والمراد بقوله (وَلا يُكَلِّمُهُمُ) : أنه لا يكلمهم بالكلام الطيب النافع.

ودلت الآيات على توضيح حالة أخرى من أحوال منكري البعث والقيامة وهي أمران: أحدهما ـ حصول الخسران للمكذبين بالبعث والقيامة والجزاء والحساب. والثاني ـ حمل الأوزار العظيمة على ظهورهم.

والمراد من الخسران : فوت الثواب العظيم وحصول العقاب الشديد وفي قولهم : (يا حَسْرَتَنا عَلى ما فَرَّطْنا) إشارة إلى أنهم لم يحصلوا لأنفسهم ما به يستحقون الثواب ، أي أنهم قوم مقصرون. وقوله : (فِيها) أي في الصفقة ، وترك ذكرها لدلالة الكلام عليها ؛ لأن الخسران لا يكون إلا في صفقة بيع ، بدليل قوله تعالى : (فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ) [البقرة ٢ / ١٦].

١٧٩

وفي قوله تعالى : (وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ) إشارة إلى أنهم حصلوا لأنفسهم ما به استحقوا العذاب الشديد ، ولا شك أن ذلك نهاية الخسران.

ودل قوله تعالى : (وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ) على قسمة أعمال الدنيا إلى قسمين : أعمال لا خير فيها ولا نفع ، وهي أمور الدنيا المحضة ، وهي الغالبة في أعمال الناس ، وأعمال الآخرة التي لا لهو فيها ولا لعب وهي أفعال المتقين الأخيار ، الذين عمروا دنياهم بصلاح الأعمال وخير الأقوال ، روى ابن عبد البر عن أبي سعيد الخدري وأخرجه الترمذي عن أبي هريرة ـ وقال : حديث حسن غريب ـ قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الدنيا ملعونة ملعون. ما فيها إلا ما كان فيها من ذكر الله ، أو أدّى إلى ذكر الله ، والعالم والمتعلم شريكان في الأجر ، وسائر الناس همج لا خير فيه».

وروي عن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «من هوان الدنيا على الله ألا يعصى إلا فيها ، ولا ينال ما عنده إلا بتركها».

وروى الترمذي عن سهل بن سعد قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ، ما سقى كافرا منها شربة ماء».

ودل قوله تعالى : (أَفَلا تَعْقِلُونَ) على أن الإنسان لا يفكر غالبا تفكيرا يتفق مع حقيقة مصلحته ، وإنما قد يرتكب ما يلحق بنفسه الضرر ، ودل أيضا على أن الزهد في الدنيا ، أي عدم استيلاء حبها على قلبه أمر مرغوب فيه.

وأشارت هذه الآية : (وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا ..) إلى أن منكري البعث والقيامة تعظم رغبتهم في الدنيا وتحصيل لذاتها ، فذكر الله تعالى هذه الآية تنبيها على خساستها ، ولكن يلاحظ أن هذه الحياة نفسها لا يمكن ذمها ؛ لأنها بإرادة الله وحكمته ، وخلقه وإيجاده ، ولأنه لا يمكن التوصل إلى السعادة الأخروية إلا فيها ، وإنما المقصود أن الذات الحياة الدنيا وطيباتها لا دوام لها ، ولا يبقى منها

١٨٠