التفسير المنير - ج ٥

الدكتور وهبة الزحيلي

وسبب العقوبة على القتل الخطأ : أنه لا يخلو من تفريط وتهاون وتقصير ، مما شأنه العقاب عليه.

وعقوبة القتل الخطأ شيئان : تحرير رقبة مؤمنة أي عتق نفس مملوكة ، ودية مدفوعة إلى أهل القتيل. أما الواجب الأول وهو تحرير الرقبة فهو كفارة لما ارتكب من الذنب العظيم ، وإن كان خطأ. ومن شرطها أن تكون عتق رقبة مؤمنة ، فلا تجزئ الكافرة. والذي عليه الجمهور : أنه متى كان العبد مسلما صح عتقه عن الكفارة ، سواء كان صغيرا أو كبيرا. قال الإمام أحمد عن عبد الله بن عبد الله عن رجل من الأنصار : أنه جاء بأمة سوداء فقال : يا رسول الله ، إن علي عتق رقبة مؤمنة ، فإن كنت ترى هذه مؤمنة أعتقتها ، فقال لها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أتشهدين أن لا إله إلا الله؟» قالت : نعم. قال : «أتشهدين أني رسول الله؟» قالت : نعم ، قال : «أتؤمنين بالبعث بعد الموت؟» قالت : «نعم» قال : «أعتقها» وهذا إسناد صحيح وجهالة الصحابي لا تضره.

وفي موطأ مالك ومسند الشافعي وأحمد وصحيح مسلم وسنن أبي داود والنّسائي عن معاوية بن الحكم أنه لما جاء بتلك الجارية السوداء ، قال لها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أين الله؟» ، قالت : في السماء ، قال : «من أنا؟» ، قالت : رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال : «أعتقها فإنها مؤمنة».

وأما الواجب الثاني وهو الدّية : فتجب عوضا عما فات أهل القتيل من قتيلهم ، وهي كما ثبت في السّنّة مائة من الإبل ، ودية المرأة نصف دية الرجل ؛ لأن المنفعة التي تفوت أهل الرجل بفقده أعظم من المنفعة التي تفوت بفقدها. أخرج أبو داود والنسائي وغيرهما عن عمرو بن حزم أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كتب إلى أهل اليمن كتابا جاء فيه :

«إن من اعتبط ـ قتل بغير سبب شرعي ـ مؤمنا قتلا عن بيّنة ، فإنه قود

٢٠١

ـ قصاص يجب عليه ـ إلا أن يرضى أولياء المقتول ، وإن في النفس الدّية مائة من الإبل .. ثم قال : وعلى أهل الذهب ألف دينار» أي أن جنس الدّية بحسب رأس المال الشائع عند أهلها ، فعلى أهل الذهب ألف دينار ، وعلى أهل الفضة عشرة آلاف درهم عند الحنفية ، واثنا عشر ألف درهم عند الجمهور ، وعلى أهل الإبل مائة ، وقال الشافعي : لا تؤخذ من أهل الذهب ولا من أهل الورق (الفضة) إلا قيمة الإبل بالغة ما بلغت.

وإنما تجب دية الإبل أخماسا ، كما روى الإمام أحمد وأصحاب السّنن عن ابن مسعود ، قال : «قضى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في دية الخطأ عشرين بنت مخاض ، وعشرين بني مخاض ذكورا ، وعشرين بنت لبون ، وعشرين جذعة وعشرين حقّة». وهذا مذهب أحمد ومالك والشافعي ، وكذا عند أبي حنيفة إلا أنه يجعل مكان ابن اللبون : ابن مخاض (١).

وأما دية شبه العمد في رأي الحنفية فهي مثلثة : أربعون خلفة (حامل) وثلاثون حقّة ، وثلاثون جذعة (٢).

ومالك لا يقول بشبه العمد إلا في قتل الوالد ولده. وأما ديّة العمد فما اتّفق عليه عند أبي حنيفة ومالك في المشهور من قوله. وأما عند الشافعي فكدية شبه العمد.

ودية الخطأ على العاقلة ، وهي عند علماء الحجاز : قرابة القاتل من جهة أبيه ، وهم عصبته ؛ لأن الناس تعاقلوا في زمن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفي زمن أبي بكر ، ولم يكن هناك ديوان.

وعند الحنفية : العاقلة : هم أهل ديوان القاتل ، على النحو الذي نظمه

__________________

(١) أحكام القرآن للجصاص : ١ / ٢٣٢ ـ ٢٣٣

(٢) المرجع السابق : ص ٢٣٤

٢٠٢

عمر بن الخطاب. فإن عجزت العاقلة أخذت الدّية من بيت المال العام (وزارة المالية).

فإن قيل : كيف تتحمل العاقلة الدية وتؤخذ بجريرة القاتل ، والله يقول : (وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْها ، وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) [الأنعام ٦ / ١٦٤] ، ويقول النّبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما رواه البزار عن ابن مسعود : «لا يؤخذ الرّجل بجريرة أبيه ولا بجريرة أخيه» وقال لأبي رمثة وابنه فيما رواه أبو داود والنسائي من حديث أبي رمثة : «إنه لا يجني عليك ولا تجني عليه».

فالجواب : أن هذا ليس من باب تحميل الشخص وزر غيره ؛ لأن الدّية على القاتل ابتداء ، وتحمل العاقلة إياها من باب المعاونة ، كما يتعاون هو في دية قاتل آخر ، وكما تتعاون القبيلة في النصرة فترد الغارات ، تتعاون بمالها ، فيدي بعضها عن بعض.

وقد دلّت الأحاديث على أن العاقلة (العصبة من جهة الأب) تحمل الدّية ، روى الشيخان عن أبي هريرة : أن امرأة ضربت بطن امرأة أخرى ، فألقت جنينا ميتا ، فقضى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم على عاقلة الضاربة بالغرّة ، فقام حمل بن مالك فقال :

كيف ندي من لا شرب ولا

أكل ولا صاح ولا استهلّ

ومثل ذلك يطلّ

فقال النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : هذا من سجع الجاهلية.

وورد أن عمر رضي‌الله‌عنه قضى على علي بأن يعقل مولى صفية بنت عبد المطلب حين جنى مولاها ، وعلي كان ابن أخي صفية ، وقضى للزبير بميراثها.

ولا خلاف بين العلماء في أن الجنين إذا خرج حيّا فيه الكفارة مع الدّية ،

٢٠٣

واختلفوا في الكفارة إذا خرج ميتا ، فقال مالك : فيه الغرّة والكفارة ، وقال أبو حنيفة والشافعي : فيه الغرّة ولا كفارة. واختلفوا في ميراث الغرّة عن الجنين ؛ فقال مالك والشافعي : الغرّة في الجنين موروثة عن الجنين على كتاب الله تعالى ؛ لأنها ديّة.

وقال الحنفية : الغرّة للأم وحدها ؛ لأنها جناية جني عليها بقطع عضو من أعضائها وليست بدية.

وذهب أبو بكر الأصمّ وجمهور الخوارج إلى أن الدّية على القاتل ، لا على العاقلة ؛ لأن قوله تعالى : (فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ) [النساء ٤ / ٩٢] ، يقتضي أن من يجب عليه هو القاتل ، وكذلك في الدّية.

ونظرا لاختلاف النظام الاجتماعي عما كان عليه في زمن العرب ، وانهيار روابط القبيلة وفقد العصبية القبلية ، واعتماد كل امرئ على نفسه دون قبيلته ، كما في الوقت الحاضر ، يكون الأوفق الأخذ برأي الأصم والخوارج ، وهذا ما نصّ عليه متأخرو الحنفية كما أبان ابن عابدين.

وقوله تعالى : (إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا) معناه : أن الدّية تجب لأهل المقتول إلا أن يعفوا عنها ويتنازلوا عنها فلا تجب ؛ لأنها إنما وجبت جبرا لخاطرهم وتطييبا لنفوسهم ، حتى لا تقع عداوة ولا بغضاء بينهم وبين القاتل ، وتعويضا عما فاتهم من المنفعة بقتله ، فإذا عفوا فقد طابت نفوسهم ، وسمّى الله هذا العفو تصدقا ترغيبا فيه.

فإن كان المقتول من الأعداء أهل الحرب وهو مؤمن كالحارث بن يزيد من قريش أعداء النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والمؤمنون في حرب معهم ، ولم يعلم المسلمون إيمانه ؛ لأنه لم يهاجر ، وقد قتله عياش حين هاجر وهو لم يعلم بذلك ، كما تقدم ، ومثله

٢٠٤

كل من آمن في دار الحرب ولم يعلم المسلمون بإيمانه حين قتله ، فلا دية لهم ، وعلى القاتل تحرير رقبة مؤمنة فقط.

وأما إن كان المقتول من قوم معاهدين للمسلمين على السلم ، كأهل الذّمّة أو الهدنة ، فلهم دية قتيلهم. والواجب في قتل المعاهد المؤمن أو الكافر دية كاملة وتحرير رقبة مؤمنة أيضا. وهذا رأي أبي حنيفة ، لظاهر الآية في أهل الميثاق ، وهم المعاهدون وأهل الذّمة ، ولأنه يسوّى في القصاص بين المسلم والذّمّي ، فيسوّى بينهما في الدّية.

وقال مالك : دية المعاهدين نصف دية المسلمين في الخطأ والعمد ، لما روى أحمد والترمذي أنّ النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «عقل ـ دية ـ الكافر نصف دية المسلم» ، وعن عمرو بن شعيب عن أبيه أنه قال : كانت الدّيات على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثمانمائة دينار ، وثمانية آلاف درهم ، ودية أهل الكتاب على النصف من دية المسلمين ، قال : فكان ذلك حتى استخلف عمر فقام خطيبا فقال : إن الإبل قد غلت ، ففرضها عمر على أهل الورق اثني عشر ألف درهم ، وعلى أهل الذهب ألف دينار ، وعلى أهل البقر مائتي بقرة ، وعلى أهل الشاء ألفي شاة ، وعلى أهل الحلل مائتي حلة ، وترك دية أهل الذّمّة لم يرفع فيها شيئا. وقد روى أهل السّنن الأربعة عنهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن دية المعاهد نصف دية المسلم».

وروي عن أحمد : أن ديته كدية المسلم إن قتل عمدا ، وإلا فنصف ديته. وقال الشافعي : ديته ثلث دية المسلم في الخطأ والعمد ؛ لأنه أقل ما قيل في المسألة ، ولأن عمر جعل ديته أربعة آلاف ، وهي ثلث دية المسلم.

وتأخذ الدّية ورثة المقتول ، وهي كميراث ، يقضى منها الدّين ، وتنفذ منها الوصايا ، وتقسم على الورثة ، روي أن امرأة جاءت تطلب نصيبها من دية الزوج ، فقال عمر : لا أعلم لك شيئا ، إنما الدّية للعصبة الذين يعقلون عنه ،

٢٠٥

فشهد بعض الصحابة أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمره أن يورث الزوجة من دية زوجها ، فقضى عمر بذلك.

فمن لم يملك الرقبة ولا ثمنها أو لم يجد رقيقا كما في عصرنا (وهذا من أهداف الإسلام) فعليه صيام شهرين متتابعين قمريين ، لا يقطعهما إفطار من غير عذر شرعي ، وإلا استأنف الصوم من جديد.

(تَوْبَةً مِنَ اللهِ) أي شرعها الله لكم قبولا منه ورحمة لتطهير نفوسكم من آثار التقصير وقلّة الاحتراز والتّحري ، مما أدى إلى القتل خطأ.

وكان الله عليما بأحوال النفوس وما يطهرها ، وقد علم أن القاتل خطأ لم يتعمد ، فلذلك لم يؤاخذه بالقصاص ، حكيما فيما شرعه ، فإن فرض الدّية تعويضا لهم في غاية الحكمة والمصلحة.

القتل العمد :

أما من قتل مؤمنا عمدا فجزاؤه على قتله عذاب جهنم خالدا فيها أي باقيا فيها ، وغضب الله عليه أي انتقم منه لما ارتكبه من هذا الجرم الخطير ، وأخزاه ولعنه أي أبعده عن رحمته ، وهيأ له عذابا عظيما.

وهل تقبل توبة القاتل عمدا؟

يرى ابن عباس وجماعة آخرون من الصحابة والتابعين (١) : أنه لا توبة لقاتل العمد ، للأحاديث الكثيرة التي تدلّ على عظم هذه الجريمة ، كما تقدّم عن ابن عمر والبراء بن عازب. ويختلف هذا عن التائب من الشرك ـ وقد كان قاتلا زانيا ـ فإنه تقبل توبته ؛ لأنه لم يكن يؤمن بالشريعة التي تحرم هذه الأمور ، فله شبه عذر ، وترغيبا له في الإسلام. أما المؤمن العالم بحرمة القتل فلا عذر له.

__________________

(١) انظر تفسير ابن كثير : ١ / ٥٣٦ ، الكشاف : ١ / ٤١٧

٢٠٦

ويرى الجمهور أنه تقبل توبة القاتل عمدا ، لقوله تعالى : (قُلْ : يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ) [الزمر ٣٩ / ٥٣] ، وهذا عام في جميع الذنوب من كفر وشرك ، وشك ونفاق ، وقتل وفسق وغير ذلك ، فكل من تاب تاب الله عليه. وقال تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) [النساء ٤ / ٤٨] وهذه عامة في جميع الذنوب ما عدا الشرك.

وثبت في الصحيحين خبر الإسرائيلي الذي قتل مائة نفس ، ثم سأل عالما : هل لي من توبة؟ فقال : ومن يحول بينك وبين التوبة؟ ثم أرشده إلى بلد يعبد الله فيه ، فهاجر إليه ، فمات في الطريق ، فقبضته ملائكة الرحمة. وإذا كان هذا في بني إسرائيل فلأن يكون قبول التوبة في هذه الأمة بطريق الأولى والأحرى ؛ لأن الله وضع عنّا الآصار والأغلال التي كانت عليهم ، وبعث نبيّنا بالحنيفية السمحة.

ولأن الكفر أعظم من القتل ، والتوبة عنه تقبل ، فتقبل عن القتل بالأولى ، ثم إن آية الفرقان تدلّ على قبول توبته وهي قوله : (وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ ، وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ، وَلا يَزْنُونَ ، وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً ، يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ ، وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهاناً ، إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صالِحاً) [الآيات ٦٨ ـ ٧٠].

فأما الآية الكريمة : (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً ..) فقال أبو هريرة وجماعة من السّلف : هذا جزاؤه إن جازاه. وعليه يحمل كل وعيد على ذنب ، وقد يكون له أعمال صالحة تمنع وصول ذلك الجزاء إليه على قول أصحاب الموازنة ، أي وزن الحسنات والسيئات.

وعلى قول الجمهور حيث لا عمل له صالحا ينجو به ، فليس بمخلد أبدا ، بل الخلود هو المكث الطويل ، لا الدوام ، وقد تواترت الأحاديث عن

٢٠٧

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه : «يخرج من النار من كان في قلبه أدنى مثقال ذرة من إيمان».

ويرى بعضهم (عكرمة وابن جريج) أن حكم الآية إنما هو لمن استحلّ القتل ، فإنما فسّر متعمدا ، أي مستحلّا ، فجزاؤه حينئذ جهنم خالدا فيها أبدا.

واختار الرازي في الجواب : أن هذه الآية قد خصصت في موضعين :

أحدهما ـ القتل العمد إذا لم يكن عدوانا كقتل القصاص.

والثاني ـ القتل الذي تاب عنه. وإذا دخلها التخصيص في هذين ، فنحن نخصص هذا العموم فيما إذا حصل العفو ، بدليل قوله تعالى : (وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) [النساء ٤ / ٤٨].

فقه الحياة أو الأحكام :

دلّت الآيات على ما يأتي :

١ ـ شأن الإيمان الامتناع النهائي عن قتل النفس ، لا عمدا ولا خطأ ؛ لأنه اعتداء على صنع الخالق ، وجريمة عظيمة ، ومنكر قبيح.

٢ ـ أجمع العلماء على أن قوله تعالى : (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً) أنه لم يدخل فيه العبيد ، وإنما أريد به الأحرار دون العبيد ، وكذلك أيضا قوله عليه الصّلاة والسّلام : «المسلمون تتكافأ دماؤهم» (١) أريد به الأحرار خاصة.

٣ ـ (فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ) أي فعليه تحرير رقبة مؤمنة كالرقبة التي

__________________

(١) رواه أحمد والترمذي وأبو داود وابن ماجه عن ابن عمرو ، ورواه أحمد والبخاري وأصحاب السنن إلا ابن ماجه عن أبي جحيفة.

٢٠٨

أوجبها الله في كفارة الظهار. وهناك اختلافات في شأن إعتاق الرّقبة لا داعي لذكرها في عصرنا الآن.

٤ ـ الواجب الثاني في القتل الخطأ هو الدّية : وهي ما يعطى عوضا عن دم القتيل إلى وليه. والمسلّمة : المدفوعة المؤداة ، ولم يعين الله في كتابه ما يعطى في الدّية ، وإنما في الآية إيجاب الدّية مطلقا ، وليس فيها إيجابها على العاقلة أو على القاتل ، وإنما أخذ ذلك من السّنّة ، وقد بيّنت ذلك.

٥ ـ دلّ قوله : (إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا) على جواز العفو عن الدّية ، والتّصدّق : الإعطاء ؛ والمراد : إلا أن يبرئ الأولياء ورثة المقتول مما أوجب الله لهم من الدّية على عاقلة القاتل. أما الكفارة التي هي لله تعالى فلا تسقط بإبرائهم ؛ لأنه أتلف شخصا في عبادة الله سبحانه ، فعليه أن يخلّص آخر لعبادة ربّه.

وإنما تسقط الدّية التي هي حقّ لهم. وتجب الكفارة في مال الجاني ولا يتحملها أحد عنه.

٦ ـ (فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ) : موضوعها المؤمن يقتل في بلاد الكفار أو في حروبهم على أنه من الكفار ، ففي المشهور من قول مالك ، وقول أبي حنيفة : إن كان هذا المقتول رجلا مؤمنا قد آمن وبقي في قومه وهم كفرة ، فلا دية له ، وإنما كفارته تحرير الرقبة ؛ لأن أولياء القتيل كفار ، فلا يصح أن تدفع إليهم فيتقووا بها ، ولأن حرمة هذا الذي آمن ولم يهاجر قليلة ، فلا دية ؛ لقوله تعالى : (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا) [الأنفال ٨ / ٧٢]. فإن قتل المؤمن في بلاد المسلمين وقومه حرب ، ففيه الدّية لبيت المال والكفارة (١).

__________________

(١) أحكام القرآن للجصاص : ١ / ٢٤٠ وما بعدها.

٢٠٩

وقال الشافعي والأوزاعي والثوري وأبو ثور : الوجه في سقوط الدّية : أن الأولياء كفار فقط ، فلا تدفع ديته سواء قتل في ديار الحرب أو في ديار الإسلام. ولو وجبت الدّية لوجبت لبيت المال على بيت المال ، فلا تجب الدّية في هذا الموضع ، وإن جرى القتل في بلاد الإسلام.

ويؤيد هذا الحكم ما جاء في صحيح مسلم من قتل أسامة رجلا من جهينة قال : لا إله إلا الله ، خوفا من السلاح في تقديره ، قال له النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أعتق رقبة» ولم يحكم بقصاص ولا دية.

٧ ـ (وَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ) : هذا في الذّمّي والمعاهد يقتل ، فتجب الدّية والكفارة ، وهو قول ابن عباس والشعبي والنخعي والشافعي.

٨ ـ أجمع العلماء على أن دية المرأة على النصف من دية الرجل ؛ لأن لها نصف الميراث ، وشهادتها نصف شهادة الرجل. وهذا ثابت بالسّنّة لا بالقرآن. أما القتل العمد ففيه القصاص بين الرجال والنساء ، لقوله عزوجل : (النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) و (الْحُرُّ بِالْحُرِّ) كما تقدم في سورة البقرة.

واختلف العلماء في رجل يسقط على آخر فيموت أحدهما :

فقال شريح والنخعي وأحمد وإسحاق : يضمن الأعلى الأسفل ، ولا يضمن الأسفل الأعلى. وقال مالك في رجلين جرّ أحدهما صاحبه حتى سقطا وماتا : على عاقلة الذي جبذه الدّية. وقال بعض أصحاب الشافعي : يضمن نصف الدّية ؛ لأنه مات من فعله ، ومن سقوط الساقط عليه.

أما في حال التصادم : فقال الشافعي في رجلين يصدم أحدهما الآخر فماتا : دية المصدوم على عاقلة الصادم ، ودية الصادم هدر. وقال في الفارسين إذا

٢١٠

اصطدما فماتا : على كل واحد منهما نصف دية صاحبه ؛ لأن كل واحد منهما مات من فعل نفسه وفعل صاحبه.

وقال مالك وأبو حنيفة : على كل واحد منهما دية الآخر على عاقلته.

وذلك يقال أيضا في تصادم السفينتين ، أو السيارتين اليوم.

٩ ـ إن دية أهل الكتاب فيها اختلاف :

فقال المالكية وأحمد : هي على النصف من دية المسلم ، ودية المجوسي ثمانمائة درهم ، ودية نسائهم على النّصف من ذلك ، لحديث عمرو بن شعيب المتقدّم.

وقال الحنفية : الدّيات كلها سواء ، المسلم واليهودي والنصراني والمجوسي والمعاهد والذّمي ؛ لقوله تعالى : (فَدِيَةٌ) وذلك يقتضي الدّية كاملة كدية المسلم (١) ، ويؤيده أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فيما رواه ابن عباس ـ جعل دية يهود بني قريظة والنضير سواء ، دية كاملة. لكنه حديث عن ابن عباس ضعيف جدا.

وقال الشافعي : دية اليهودي والنصراني ثلث دية المسلم ، ودية المجوسي ثمانمائة درهم ؛ لأنه أقل ما قيل في ذلك ، كما أوضحت ، والذّمة بريئة إلا بيقين أو حجّة.

١٠ ـ صيام شهرين متتابعين لمن لم يجد الرّقبة ولا اتّسع ماله لشرائها ، فلو أفطر يوما بلا عذر استأنف. وهذا قول الجمهور. فإن وجد عذر كالحيض ، أو مرض ، لم يستأنف في رأي مالك. وقال أبو حنيفة ، والشافعي في أحد قوليه : يستأنف في المرض.

١١ ـ ذكر الله عزوجل في كتابه العمد والخطأ ولم يذكر شبه العمد ، فقال مالك : ليس في كتاب الله إلا العمد والخطأ ، وأما شبه العمد فلا نعرفه.

__________________

(١) أحكام القرآن للجصاص : ١ / ٢٣٨ وما بعدها.

٢١١

وأثبت فقهاء الأمصار وجمهور أئمة المذاهب شبه العمد بما روى أبو داود من حديث عبد الله بن عمرو : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ألا إن دية الخطأ شبه العمد : ما كان بالسوط والعصا مائة من الإبل ، منها أربعون في بطونها أولادها» لكنه حديث مضطرب عند المحدثين. ذكر ابن عبد البرّ أنه لا يثبت من جهة الإسناد.

واختلف القائلون بشبه العمد في تحديده وبيان ما هو عمد على أقوال ثلاثة :

الأوّل ـ قال أبو حنيفة : العمد : ما كان بالحديد ، وكل ما عدا الحديد من القضيب أو النار وما يشبه ذلك فهو شبه العمد (١).

الثاني ـ قال أبو يوسف ومحمد : شبه العمد ما لا يقتل مثله.

الثالث ـ قال الشافعي : ما كان عمدا في الضرب ، خطأ في القتل ، أي ما كان ضربا لم يقصد به القتل ، فتولد عنه القتل. وأما الخطأ فما كان خطأ فيهما جميعا ، وأما العمد : فما كان عمدا فيهما جميعا.

ويعتمد الفقهاء في إثبات العمد وشبهه والخطأ على الآلة التي بها القتل ؛ لأن نيّة القاتل لا اطلاع لنا عليها ، فأقيمت الآلة مقام النيّة. وكان الأولى هو البحث عن ظروف القتل وقرائن الأحوال لتعلم نيّة القاتل أهو عمد أم مخطئ.

واختلفوا في الدّية المغلظة على القتل شبه العمد : فقال عطاء والشافعي ومالك في المشهور عنه ، فيما يقول فيه بشبه العمد ، وهو قتل الوالد ولده : هي ثلاثون حقّة ، وثلاثون جذعة ، وأربعون خلفة (٢).

__________________

(١) أحكام القرآن للجصاص الرازي : ١ / ٢٢٨ وما بعدها.

(٢) الحقّة : إذا دخلت الناقة في السنة الرابعة ، والجذعة : إذا دخلت في السنة الخامسة. والخلفة. الحامل. وابنة المخاض : ما كان لسنة ، وابنة اللبون : ما كان لسنتين.

٢١٢

وقال أبو حنيفة : هي مربّعة : ربع بنات لبون ، وربع حقاق ، وربع جذاع ، وربع بنات مخاض.

ودية شبه العمد عند الحنفية والشافعية والحنابلة على العاقلة (القرابة من جهة الأب).

ولا تحمل العاقلة دية العمد ، وإنها في مال الجاني.

وهل تجب الكفارة في القتل العمد؟ أجمعوا على وجوب الكفارة على القاتل خطأ ، واختلفوا في وجوبها على قاتل العمد ، فلم يوجبها الجمهور ؛ لأنه لا قياس في الكفارات ، واقتصر النّص القرآني على الكفارة في القتل الخطأ جبرا للذنب غير المقصود (١). وأوجبها الشافعي في العمد وفي شبه العمد وفي الخطأ ؛ لأن الذنب في القتل العمد أعظم من القتل الخطأ ، فكانت الكفارة في العمد أحرى وأولى ، والعامد أحوج إليها لتكفير الخطيئة.

وإذا اشترك جماعة في القتل الخطأ ، وجبت الكفارة على كلّ واحد منهم باتّفاق المذاهب الأربعة.

الحرص على السّلام والتّثبّت في الأحكام

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (٩٤))

__________________

(١) الجصاص ، المرجع السابق : ١ / ٢٤٥

٢١٣

الإعراب :

(تَبْتَغُونَ) جملة فعلية في موضع نصب على الحال من الضمير المرفوع في (تَقُولُوا) أي :

لا تقولوا ذلك مبتغين.

البلاغة :

(إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ) استعارتان : استعار الضرب للسعي في جهاد الأعداء ، واستعار السبيل لدين الله.

المفردات اللغوية :

(ضَرَبْتُمْ) في الأرض : سافرتم للتجارة ، وفي سبيل الله : سافرتم للجهاد (فِي سَبِيلِ اللهِ) أي لجهاد الأعداء. (فَتَبَيَّنُوا) وفي قراءة : فتثبّتوا ، والمراد تحققوا من الأمر ولا تتسرعوا في الحكم. (السَّلامَ) أي التّحية ، أو الاستسلام والانقياد بقوله كلمة الشهادة التي هي أمارة على الإسلام. (عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا) أي متاعها الفاني من الغنيمة. (مَغانِمُ كَثِيرَةٌ) أي أرزاق ونعم كثيرة تغنيكم عن قتل شخص لماله. (كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ) تعصم دماؤكم وأموالكم بمجرد النطق بالشهادة. (فَمَنَّ اللهُ عَلَيْكُمْ) بالاشتهار بالإيمان والاستقامة. (فَتَبَيَّنُوا) أن تقتلوا مؤمنا ، وافعلوا بالداخل في الإسلام كما فعل بكم. (إِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً) فيجازيكم به.

سبب النزول :

١ ـ روى البخاري والترمذي والحاكم وغيرهم عن ابن عباس قال : مرّ رجل من بني سليم بنفر من أصحاب النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهو يسوق غنما له ، فسلّم عليهم ، فقالوا : ما سلّم علينا إلا ليتعوّذ منا ، فعمدوا إليه ، فقتلوه ، وأتوا بغنمه النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فنزلت : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ) الآية.

٢ ـ وأخرج البزار من وجه آخر عن ابن عباس قال : بعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم

٢١٤

سريّة فيها المقداد ، فلما أتوا القوم ، وجدهم قد تفرّقوا ، وبقي رجل له مال كثير ، فقال : أشهد أن لا إله إلا الله ، فقتله المقداد ، فقال له النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كيف لك بلا إله إلا الله غدا؟» وأنزل الله هذه الآية.

٣ ـ وأخرج أحمد والطبراني وغيرهما عن عبد الله بن أبي حدرد الأسلمي قال : بعثنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في نفر من المسلمين فيهم أبو قتادة ومحلّم بن جثّامة ، فمرّ بنا عامر بن الأضبط الأشجعي ، فسلّم علينا ، فحمل عليه محلّم ، فقتله ، فلما قدمنا على النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأخبرناه الخبر ، نزل فينا القرآن : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ) الآية.

وأخرج ابن جرير من حديث ابن عمر نحوه.

٤ ـ وروى الثعلبي عن ابن عباس أن اسم المقتول مرداس بن نهيك الغطفاني من أهل فدك ، وأن اسم القاتل أسامة بن زيد ، وأن اسم أمير السّريّة غالب بن فضالة الليثي ، وأن قوم مرداس لما انهزموا بقي هو وحده ، وكان ألجأ غنمه بجبل ، فلما لحقوه قال : لا إله إلا الله محمد رسول الله ، السلام عليكم ، فقتله أسامة بن زيد ، فلما رجعوا نزلت الآية.

ولا مانع من تعدد أسباب النزول ، سواء بعد إعلان صاحب الغنم التحية الإسلامية (كما في رقم ١ ، ٣) أو اتّقاء للسلاح في الحرب ، وكان القاتل المقداد (رقم ٢) أو محلّم (رقم ٣) أو أسامة (رقم ٤) ، وكان النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقرأ الآية على أصحاب كل واقعة.

قال القرطبي : الذي عليه الأكثر وهو في سير ابن إسحاق ومصنّف أبي داود والاستيعاب لابن عبد البرّ : أن القاتل محلّم بن جثّامة ، والمقتول عامر بن الأضبط.

٢١٥

المناسبة :

هذا بيان نوع من أنواع القتل الخطأ الذي كان يحصل في الماضي بسبب قيام حالة الحرب أو الحرب نفسها مع المشركين ، وفيه تسرّع بالحكم بعدم الإسلام على الرجل ، بعد أن بيّن الله تعالى في الآية السابقة حكم نوعي القتل : الخطأ والعمد.

وذكر القرطبي أن هذه الآية متصلة بذكر القتل والجهاد في الآيات السابقة.

التفسير والبيان :

يا أيها الذين صدقوا بالله ورسوله إذا سرتم لجهاد الأعداء ، ورأيتم من تشكّون أهو مسلم أم كافر ، مسالم أم محارب ، فتمهّلوا في الحكم عليه ، وتبيّنوا حقيقة أمره ، أهو مؤمن لتحيته لكم بالسّلام أو نطقه بالشهادتين ، ولا تعجلوا بقتله ، ولا تقولوا لمن استسلم ولم يقاتلكم وأظهر أنه مسلم : إنك لست مؤمنا ، فأنتم مأمورون بالعمل بالظاهر ، والله أعلم بأمره.

تبتغون بذلك الحصول على متاع الحياة الدّنيا ومغانمها الفانية الزائلة ، فعند الله أرزاق كثيرة ونعم وأفضال لا تحصى ، وعنده خزائن السموات والأرض ، فالتمسوها بطاعته ، فهي خير لكم ، ولا يصح منكم ولا يليق بكم أن تفعلوا هذا الفعل ، وتتسرّعوا في الحكم على ما في قلوب الناس ، وتتهموهم بالمصانعة والتّقية ، والخوف من السيف.

على أنكم نسيتم حالكم ، فكنتم هكذا من قبل ، آمنتم سرّا ، وكنتم تخفون إيمانكم من المشركين ، ثم أظهرتم الإسلام علنا ، وهذا حال من قتلتموه ، كان يسرّ إيمانه ويخفيه من قومه ، وكما قال تعالى : (وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ) [الأنفال ٨ / ٢٦] ، فمنّ الله عليكم أي فصرتم آمنين مطمئنين وفي عداد المؤمنين ، ومنّ الله عليكم بالاستقامة والاشتهار بالإيمان ، وبإعزاز دينه وتقوية

٢١٦

شوكة الإسلام ، وبقبول توبة المتسرع في القتل ، فحلف أسامة لا يقتل رجلا يقول : لا إله إلا الله ، بعد ذلك الرجل. قال الزمخشري في تفسير (كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ) : أول ما دخلتم في الإسلام ، سمعت من أفواهكم كلمة الشهادة ، فحصنت دماءكم وأموالكم ، من غير انتظار الاطّلاع على مواطأة قلوبكم لألسنتكم (١).

ثم أكّد الله تعالى وجوب التّبيّن ، فأمر أن يكونوا على بيّنة من الأمر الذي يقدمون عليه بأدلّة ظاهرة وقرائن كافية ، وألا يأخذوا بالظن السريع ، وإنما عليهم التدبّر ، حتى يظهر الأمر ، فإن الحكم بالإيمان يكفي فيه مجرد ظاهر الحال ، أما القتل فلا بدّ فيه من غلبة الظّنّ الراجح على البقاء على حال الكفر ، وعليكم أن تفعلوا بالداخلين في الإسلام كما فعل بكم ، وأن تعتبروا ظاهر الإسلام في الكفّ عن القتل والقتال.

إن الله تعالى خبير بأعمالكم ، مطّلع على أحوالكم ، ونيّاتكم ومقاصدكم ، وسيجازيكم عليها ، وهذا تهديد ووعيد وتحذير من تكرار التّورّط في مثل هذا الخطأ ، فلا تتهافتوا في القتل ، وكونوا محترزين محتاطين في ذلك.

فقه الحياة أو الأحكام :

موضوع الآية محصور في ضرورة التّثبّت في الأحكام وعدم التّسرّع في أمر القتل ، لخطورته ، وأنه يكتفى في الحكم على الشخص بالإسلام بالنّطق بالشهادتين في الظاهر ، دون حاجة للكشف عما في القلب واستبطان الحقيقة والواقع ، فذلك ليس من شأن البشر ، وإنما أمر القلوب متروك لعلّام الغيوب ، وهذا مناسب للرّواية التالية :

__________________

(١) الكشاف : ١ / ٤١٨

٢١٧

المشهور في سبب نزول هذه الآية ما جاء في صحيح مسلم عن أسامة قال : بعثنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في سريّة ، فصبّحنا الحرقات (١) من جهينة ، فأدركت رجلا فقال : لا إله إلا الله ، فطعنته ، فوقع في نفسي من ذلك ، فذكرته للنّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أقال : لا إله إلا الله ، وقتلته؟» قال : قلت : يا رسول الله ، إنما قالها خوفا من السلاح ، قال : «أفلا شققت عن قلبه ، حتى تعلم أقالها أم لا؟!». (٢)

وروي عن أسامة أنه قال : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم استغفر لي بعد ثلاث مرات ، وقال : «أعتق رقبة» ولم يحكم بقصاص ولا دية.

أما الفقهاء فقالوا : إذا قتله في هذه الحالة قتل به ، وإنما لم يقتل أسامة ؛ لأنه كان في صدر الإسلام ، وتأوّل أنه قالها متعوّذا وخوفا من السلاح ، وإن العاصم قولها مطمئنا ، فأخبر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه عاصم كيفما قالها ، فقال عليه الصّلاة والسّلام في الحديث المتواتر : «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا : لا إله إلا الله ، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها» ، ولذلك قال لأسامة : «أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم أقالها أم لا؟!» أي تنظر أصادق هو في قوله أم كاذب ، وذلك لا يمكن ، فلم يبق إلا أن يبين عنه لسانه. والمراد من الحديث : «أمرت أن أقاتل الناس» هم مشركو العرب دون اليهود والنصارى فإنهم يقولون : لا إله إلا الله ، فلا بدّ فيهم من إعلان الاعتراف بنبوّة النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وفي هذا من الفقه حكم عظيم : وهو أن الأحكام تناط بالمظانّ والظواهر ، لا على القطع واطّلاع السرائر (٣).

__________________

(١) الحرقات : موضع ببلاد جهينة.

(٢) أحكام القرآن للجصاص : ١ / ٢٤٨

(٣) تفسير القرطبي : ٥ / ٣٢٤ ، ٣٣٨ ـ ٣٣٩

٢١٨

وإذا فسّر قوله تعالى : (وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ : لَسْتَ مُؤْمِناً) بالتّحية ، فلا مانع أيضا ؛ لأن سلامه بتحيّة الإسلام مؤذن بطاعته وانقياده ، ويحتمل أن يراد به الانحياز والتّرك. فإن قال : سلام عليكم ، فلا ينبغي أن يقتل أيضا حتى يعلم ما وراء هذا ؛ لأنه موضع إشكال. ولا يكفي في رأي مالك أن يقول : أنا مسلم أو أنا مؤمن ، أو أن يصلّي ، حتى يتكلّم بالكلمة العاصمة التي علّق النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الحكم بها عليه في قوله : «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا : لا إله إلا الله» (١).

أي أن الكلمة الفاصلة بعد التحية بالسّلام أو برؤيته يصلي هو أن يقول : لا إله إلا الله. وهذا في شأن إنهاء الحرب ومنع القتل والقتال ، فيكتفى بالحكم بالظاهر ، وليس في قضية أن الإيمان هو الإقرار فقط ، كما حاول بعضهم الاستدلال بالآية ، وإنما حقيقة الإيمان : التّصديق بالقلب ، بدليل أن المنافقين كانوا يقولون هذا القول : «لا إله إلا الله» وليسوا بمؤمنين.

وفي الآية نصّ صريح على أن هدف المؤمنين من الجهاد كما شرع الله هو إعلاء كلمة الله تعالى ، لا من أجل التّوصل إلى المغانم الحربية أو العروض الدّنيوية أو المكاسب المادية ، فإن الله وعد بالرّزق والمغانم الكثيرة من طرق أخرى حلال دون ارتكاب محظور ، فلا تتهافتوا.

التفاضل بين المجاهدين والقاعدين عن الجهاد

(لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ

__________________

(١) المرجع السابق : ٥ / ٣٣٩ ، أحكام القرآن لابن العربي : ١ / ٤٨١ وما بعدها.

٢١٩

اللهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ اللهُ الْحُسْنى وَفَضَّلَ اللهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً (٩٥) دَرَجاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً (٩٦))

الإعراب :

(غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ) غير : بدل مرفوع من (الْقاعِدُونَ) أو وصف لهم ؛ لأنهم غير معينين ، فجاز أن يوصفوا بغير. وقرئ بالجر على أنه بدل من (الْمُؤْمِنِينَ) أو وصف لهم ، وقرئ بالنصب على الاستثناء أو الحال من (الْقاعِدِينَ).

(وَكُلًّا وَعَدَ ..) كلا : منصوب بوعد ، وكذلك الحسنى : منصوب به ؛ لأن (وَعَدَ) يتعدى إلى مفعولين ، تقول وعدت زيدا خيرا وشرا ، وقال تعالى : (النَّارُ وَعَدَهَا اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا) [الحج ٢٢ / ٧٢].

(أَجْراً) إما منصوب بفضّل ، أو منصوب على المصدر.

(دَرَجاتٍ مِنْهُ) منصوب على البدل من (أَجْراً) وتقديره : أجر درجات ، فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه.

(مَغْفِرَةً وَرَحْمَةً) مصدران منصوبان بفعلين مقدرين ، والتقدير : وغفر لهم مغفرة ، ورحمهم رحمة.

البلاغة :

إطناب في قوله : (فَضَّلَ اللهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ ..) وقوله : (فَضَّلَ اللهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ ..).

المفردات اللغوية :

(الضَّرَرِ) المرض والعلة التي تمنع صاحبها من الجهاد كالعمى والعرج والزمانة ونحوها. (دَرَجَةً) فضيلة ، لاستوائهما في النية ، وزيادة المجاهدين بمباشرة القتال. (الْحُسْنى) الجنة.

٢٢٠