التفسير المنير - ج ٥

الدكتور وهبة الزحيلي

(دَرَجاتٍ مِنْهُ) منازل بعضها فوق بعض من الكرامة للمجاهدين على القاعدين (غَفُوراً) لأوليائه (رَحِيماً) بأهل طاعته.

سبب النزول :

روى البخاري عن البراء قال : لما نزلت (لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) قال النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم : ادع فلانا فجاءه ومعه الدواة واللوح والكتف ، فقال : اكتب «لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون في سبيل الله» وخلف النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ابن أم مكتوم فقال : يا رسول الله : أنا ضرير فنزلت مكانها : (لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ ..).

وروى الترمذي نحوه من حديث ابن عباس وفيه : قال عبد الله بن جحش وابن أم مكتوم: إنا أعميان. هذا بيان سبب إضافة (غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ).

وقال السيوطي : قوله تعالى : (لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ) نزل في جماعة أسلموا ولم يهاجروا ، فقتلوا يوم بدر مع الكفار ، وكان نزولها في غزوة بدر.

المناسبة :

هذه الآية تبين فضيلة الجهاد وتمييز المجاهدين عن القاعدين ، بعد أن عاتب الله المؤمنين على ما صدر منهم من القتل الخطأ لمن نطق بالشهادة.

التفسير والبيان :

لا يتساوى القاعدون من المؤمنين عن الجهاد ، كقعود جماعة عن بدر ، والمجاهدون بأموالهم وأنفسهم التي يبذلونها في سبيل مرضاة الله بمنع عدوان الطغاة ، وإقرار الحق والدفاع عنه ، كجهاد الخارجين إلى بدر في مبدأ الإسلام بعد الهجرة.

لكن استثنى سبحانه وتعالى من التكليف بفريضة الجهاد أصحاب الأعذار

٢٢١

وهم أولو الضرر أي المرض ونحوه من العمى والعرج ، فأصبح ذلك مخرجا لذوي الأعذار المبيحة لترك الجهاد عن مساواتهم للمجاهدين في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم ، فلا لوم ولا عتاب لهم لتوافر نياتهم الطيبة بالجهاد عند القدرة ، روى البخاري وأحمد وأبو داود أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال عند دخوله المدينة بعد غزوة تبوك : «إن بالمدينة أقواما ما سرتم من مسير ، ولا قطعتم من واد إلا وهم معكم فيه ، قالوا : يا رسول الله : وهم بالمدينة؟ قال : نعم وهم بالمدينة ، حبسهم العذر».

ثم أخبر الله تعالى عن فضيلة المجاهدين على غير أولي الضرر القاعدين عن الجهاد : وهي أن الله رفع المجاهدين درجة لا يعرف قدرها : في الدنيا بالظفر والنصر والسمعة الحسنة والغنيمة ، وفي الآخرة بمنزلة عالية في الجنة ، وأجر عظيم أو جزيل.

ووعد الله كلا ممن جاهد وقعد عن الجهاد لعذر أو عجز مع تمني الجهاد : الحسنى وهي الجنة والجزاء الجزيل ، لكمال إيمان الفريقين وإخلاص نيته وعمله. قال ابن كثير : وفيه دلالة على أن الجهاد ليس بفرض عين ، بل هو فرض كفاية (١).

ثم أخبر سبحانه عما فضل به المجاهدين بإطلاق على القاعدين من غير أولي الضرر من الدرجات ، وهو الأجر العظيم.

وذلك الأجر العظيم هو الدرجات العالية أي المنازل الرفيعة في غرف الجنان العاليات ، التي يصعب في تقدير الناس في الدنيا حصرها وعدها ، كما قال تعالى : (انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ ، وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً) [الإسراء ١٧ / ٢١] والتفاضل في الدرجات مبني على مدى قوة الإيمان ، وإيثار رضا

__________________

(١) تفسير ابن كثير : ١ / ٥٤١

٢٢٢

الله على الراحة والنعيم ، وترجيح المصلحة العامة على المصلحة الخاصة. وفي الصحيحين عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيله ، ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض» وعن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من رمى بسهم فله أجره درجة» فقال رجل : يا رسول الله ، وما الدرجة؟ فقال : «أما إنها ليست بعتبة أمك ، ما بين الدرجتين مائة عام» (١).

والأجر أيضا مغفرة الذنوب والزلات ، وأحوال الرحمة والبركات وهي ما يخصهم به الرحمن زيادة على المغفرة من فضله وإحسانه ، إحسانا منه وتكريما ، وكان شأن الله وصفته الدائمة الملازمة له المغفرة لمن يستحقها ، والرحمة لمن يستوجبها عقلا ، ولكنها متروكة للفضل الإلهي.

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت الآيتان على ما يأتي :

١ ـ لا تساوي بداهة وطبعا وشرعا بين القاعدين عن الجهاد من غير أولي الضرر (أصحاب الأعذار من زمانة وعرج وعمى ونحوها) وبين المجاهدين الذين يبذلون أنفسهم وأموالهم رخيصة في سبيل مرضاة الله. ومعنى الآية : لا يستوي القاعدون الذين هم غير أولي الضرر من المؤمنين الأصحاء مع المجاهدين.

قال العلماء : أهل الضرر : هم أهل الأعذار إذ قد أضرّت بهم العاهة حتى منعتهم الجهاد. وقد دل الحديث المتقدم : «إن بالمدينة رجالا» على أن صاحب العذر يعطى أجر الغازي. فقيل : يحتمل أن يكون أجره مساويا ، وفي فضل الله متسع ، وثوابه فضل لا استحقاق ، فيثيب على النية الصادقة ما لا يثيب على

__________________

(١) تفسير ابن كثير : ١ / ٥٤١

٢٢٣

الفعل. وقيل : يعطى أجره من غير تضعيف ، فيفضله الغازي بالتضعيف للمباشرة. قال القرطبي : والقول الأول أصح إن شاء الله للحديث الصحيح في ذلك : «إن بالمدينة رجالا» (١).

٢ ـ تمسك بعض العلماء بهذه الآية بأن أهل الديوان أعظم أجرا من أهل التطوع ؛ لأن أهل الديوان لما كانوا متملّكين بالعطاء ، ويصرّفون في الشدائد ، وتروّعهم البعوث والأوامر ، كانوا أعظم من المتطوع ؛ لسكون جأشه ونعمة باله في الصوائف (الغزو في الصيف) الكبار ونحوها.

٣ ـ احتج بعضهم أيضا بهذه الآية على أن الغنى أفضل من الفقر ؛ لذكر الله تعالى المال الذي يوصل به إلى صالح الأعمال.

وعلى كل للعلماء آراء ثلاثة في هذه المسألة :

فذهب قوم إلى تفضيل الغني ؛ لأن الغني مقتدر والفقير عاجز ، والقدرة أفضل من العجز. وهذا أولى لقولهم : الغني الشاكر أفضل من الفقير الصابر.

وذهب آخرون إلى تفضيل الفقر ؛ لأن الفقير تارك والغني ملابس ، وترك الدنيا أفضل من ملابستها أي مخالطتها والانخراط في شهواتها.

وذهب آخرون إلى تفضيل التوسط بين الأمرين : بأن يخرج عن حدّ الفقر إلى أدنى مراتب الغنى ليصل إلى فضيلة الأمرين ، وليسلم من مذمة الحالين.

٤ ـ (فَضَّلَ اللهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً) ثم قال : (دَرَجاتٍ مِنْهُ ..) فقال قوم : التفضيل بالدرجة ، ثم بالدرجات إنما هو مبالغة وبيان وتأكيد. وقيل : فضل الله المجاهدين على القاعدين أصحاب الأعذار بدرجة واحدة ، وفضل الله المجاهدين على القاعدين من غير عذر درجات.

__________________

(١) تفسير القرطبي : ٥ / ٣٤٢

٢٢٤

وقيل : إن معنى درجة : علوّ ، أي أعلى ذكرهم ورفعهم بالثناء والمدح والتقريظ ، فهذا معنى درجة أي في الدنيا ، ودرجات يعني في الجنة ، والدرجات : منازل بعضها أعلى من بعض.

هجرة المستضعفين

(إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَساءَتْ مَصِيراً (٩٧) إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً (٩٨) فَأُولئِكَ عَسَى اللهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكانَ اللهُ عَفُوًّا غَفُوراً (٩٩) وَمَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اللهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُراغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللهِ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً (١٠٠))

الإعراب :

(ظالِمِي) حال منصوب من الهاء والميم في (تَوَفَّاهُمُ) وأصله : ظالمين أنفسهم ، فحذفت النون للإضافة.

(فِيمَ كُنْتُمْ) فيم : جار ومجرور في موضع نصب خبر كنتم. و «ما» هنا : استفهامية ، ولهذا حذفت الألف منها لدخول حرف الجر عليها ؛ لأن «ما» إذا دخل عليها حرف الجر حذفت ألفها تخفيفا لكثرة الاستعمال ، وليفرق بينها وبين «ما» التي بمعنى الذي ، ليميز بين الخبر

٢٢٥

والاستفهام. ولم يحذفوا الألف من «ما» في الخبر إلا في موضع واحد وهو : ادع بم شئت ، أي بالذي شئت.

(إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ) مستثنى منصوب من قوله تعالى : (الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ) وهو استثناء من موجب ، فلهذا وجب فيه النصب.

البلاغة :

(قالُوا : فِيمَ كُنْتُمْ) و (أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ واسِعَةً) : استفهام يراد به التوبيخ والتقريع.

ويوجد جناس مغاير في (يَعْفُوَ ... عَفُوًّا) وفي (يُهاجِرْ ... مُهاجِراً).

(تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ) فيه إطلاق الجمع على الواحد ؛ لأن المراد به ملك الموت ، وذلك بقصد تفخيم شأنه.

المفردات اللغوية :

(تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ) أي قبضت أرواحهم حين الموت (ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ) بالمقام مع الكفار وترك الهجرة (قالُوا) لهم موبخين : (فِيمَ كُنْتُمْ) أي في أي شيء كنتم في أمر دينكم؟ (مُسْتَضْعَفِينَ) عاجزين عن إقامة الدين (مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ) مسكنهم (حِيلَةً) لا قوة لهم على الهجرة ولا نفقة (وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً) طريقا إلى أرض الهجرة (مُراغَماً) مهاجرا أي مكانا للهجرة ومأوى يجد فيه الخير ، فيرغم بذلك أنوف من أذلوه (وَقَعَ) ثبت ووجب.

سبب النزول :

نزول الآية (٩٧):

(إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ) : روى البخاري عن ابن عباس أن أناسا من المسلمين كانوا مع المشركين يكثرون سواد المشركين على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فيأتي السهم يرمى به ، فيصيب أحدهم فيقتله ، أو يضرب فيقتل ، فأنزل الله : (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ).

وأخرج ابن المنذر وابن جرير عن ابن عباس قال : كان قوم من أهل المدينة

٢٢٦

قد أسلموا ، وكانوا يخفون الإسلام ، فأخرجهم المشركون معهم يوم بدر ، فأصيب بعضهم ، فقال المسلمون : هؤلاء كانوا مسلمين ، فأكرهوا فاستغفروا لهم ، فنزلت : (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ) الآية ، فكتبوا بها إلى من بقي بمكة منهم ، وأنه لا عذر لهم ، فخرجوا ، فلحق بهم المشركون ، ففتنوهم فرجعوا فنزلت : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ : آمَنَّا بِاللهِ ، فَإِذا أُوذِيَ فِي اللهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللهِ) [العنكبوت ٢٩ / ١٠] فكتب إليهم المسلمون بذلك ، فتحزنوا ، فنزلت : (ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا) [النحل ١٦ / ١١٠] الآية ، فكتبوا إليهم بذلك ، فخرجوا ، فلحقوهم ، فنجا من نجا ، وقتل من قتل.

سبب نزول الآية (١٠٠):

(وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ) : أخرج ابن أبي حاتم وأبو يعلى بسند جيد عن ابن عباس قال : خرج ضمرة بن جندب من بيته مهاجرا فقال لأهله : احملوني ، فأخرجوني من أرض المشركين إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فمات في الطريق قبل أن يصل إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فنزل الوحي : (وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً) الآية.

ويقال : كان جندب بن ضمرة من بني ليث من المستضعفين بمكة ، وكان مريضا ، فلما سمع ما أنزل الله في الهجرة ، قال : أخرجوني ، فهيئ له فراش ، ثم وضع عليه ، وخرج به ، فمات في الطريق بالتنعيم (١) ، فأنزل الله فيه : (وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً) الآية (٢).

المناسبة :

لما ذكر الله تعالى في الآية السابقة تفضيل المجاهدين في سبيل الله على

__________________

(١) التنعيم : موضع قرب مكة في الحل ، يعرف بمسجد عائشة ، منه يحرم المعتمر بالعمرة.

(٢) تفسير القرطبي : ٥ / ٣٤٩

٢٢٧

القاعدين من غير عذر ، ذكر هنا حال قوم لم يهاجروا في سبيل الله ، لاستضعاف الكفار لهم ، مع أنهم ليسوا ضعفاء في الحق والواقع ، فلا عذر لهم في ترك واجب الهجرة من مكة إلى المدينة حينما كان واجبا في صدر الإسلام ، بسبب شدة أذى الكفار للمسلمين ، وإلجائهم إلى الهجرة إلى الحبشة ، ثم الهجرة إلى المدينة مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فهاجر بعض المسلمين ، وقعد بعضهم في مكة حبا لوطنه ، وكان بعضهم مستضعفا عجز عن الهجرة لمرض أو كبر أو جهل بالطريق ، وبعضهم هاجر ومات في الطريق.

التفسير والبيان :

إن الذين تتوفاهم الملائكة حين انتهاء آجالهم حالة كونهم ظالمي أنفسهم بترك الهجرة ، ورضاهم الإقامة في دار الشرك ، تقول لهم (أي للمتوفين) الملائكة توبيخا لهم وتقريعا : في أي شيء كنتم من أمر دينكم؟ أي إنهم لم يكونوا في شيء منه ، لقدرتهم على الهجرة ولم يهاجروا.

وهؤلاء كانوا ناسا من أهل مكة أسلموا ولم يهاجروا حين كانت الهجرة فريضة.

فقالوا معتذرين عما وبخوا به بغير العذر الحقيقي : كنا مستضعفين ومستذلين في مكة ، فلم نقدر على إقامة الدين وواجباته ، وهذه حجة واهية لم تقبلها الملائكة ، فردوا عليهم المعذرة قائلين:

ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها؟ المراد أنكم كنتم قادرين على الخروج من مكة إلى بعض البلاد التي لا تمنعون فيها من إظهار دينكم ، ومن الهجرة إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، كما فعل المهاجرون إلى أرض الحبشة.

وهذا دليل على أن الرجل إذا كان في بلد لا يتمكن فيه من إقامة شعائر

٢٢٨

دينه ، أو علم أنه في غير بلده يكون أقوم بحق الله وأدوم على العبادة ، حقت عليه المهاجرة. فإن كان يستطيع إقامة شعائر دينه كالمقيمين في عصرنا في أوربا وأمريكا ، فلا تجب الهجرة عليهم ، وإنما تسن ، ويكره مقامهم في دار الكفر.

عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من فرّ بدينه من أرض إلى أرض ، وإن كان شبرا من الأرض ، استوجبت له الجنة ، وكان رفيق أبيه إبراهيم ونبيه محمد عليهما الصلاة والسلام. اللهم إن كنت تعلم أن هجرتي إليك لم تكن إلا للفرار بديني ، فاجعلها سببا في خاتمة الخير ، ودرك المرجوّ من فضلك ، والمبتغى من رحمتك ، وصل جواري لك بعكوفي عند بيتك بجوارك في دار كرامتك ، يا واسع المغفرة» (١).

فإن أولئك المقصرين عن القيام بالهجرة مسكنهم جهنم ، لتركهم ما كان مفروضا عليهم ؛ لأن الهجرة كانت واجبة في صدر الإسلام.

وقبحت جهنم مصيرا لهم ؛ لأن كل ما فيها يسوءهم.

ثم استثنى الله تعالى من أهل الوعيد : المستضعفين حقيقة الذين لا يجدون لديهم قدرة على الخروج لفقرهم أو عجزهم أو هرمهم مثل عياش بن أبي ربيعة ، وسلمة بن هشام (٢) ، ومن النساء أم الفضل والدة ابن عباس ، ومن الولدان (وهم المراهقون الذين قاربوا البلوغ) ابن عباس المذكور وغيره.

فهؤلاء لا يجدون قدرة على الهجرة إما للعجز كمرض أو زمانة ، وإما للفقر ، ولا يهتدون طريقا للجهل بمسالك الأرض ، قال ابن عباس : كنت أنا وأمي من

__________________

(١) الكشاف : ١ / ٤١٩

(٢) ذكر ابن أبي حاتم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم رفع يده بعد ما سلم وهو مستقبل القبلة ، فقال : «اللهم خلص الوليد بن الوليد ، وعياش بن أبي ربيعة ، وسلمة بن هشام ، وضعفة المسلمين الذين لا يستطيعون حيلة ، ولا يهتدون سبيلا ، من أيدي الكفار».

٢٢٩

المستضعفين الذين لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون إلى الهجرة سبيلا. والحقيقة أن الولدان لا يكونون إلا عاجزين عن الهجرة.

فهؤلاء يرجى أن يعفو الله عنهم ، ولا يؤاخذهم بترك الهجرة والإقامة في دار الشرك. وفي هذا إيماء إلى أن ترك الهجرة ذنب كبير.

وكان شأن الله تعالى العفو عن الذنوب ، والمغفرة بستر العيوب في الآخرة.

وتساءل الزمخشري : لم قيل : (عَسَى اللهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ) بكلمة الإطماع؟ ثم أجاب قائلا : للدلالة على أن ترك الهجرة أمر مضيق لا توسعة فيه ، حتى إن المضطر البيّن الاضطرار من حقه أن يقول : عسى الله أن يعفو عني ، فكيف بغيره؟ (١).

ثم رغب الله تعالى في الهجرة تنشيطا للمستضعفين فذكر : أن من يهاجر في سبيل الله ، أي بقصد مرضاته وإقامة دينه كما يجب ، يجد في أرض الله الواسعة مراغما كثيرا أي مهاجرا (مكانا للهجرة) وطريقا يراغم بسلوكه قومه ، أي يفارقهم على رغم أنوفهم ، والرغم : الذل والهوان ، وأصله : لصوق الأنف بالرغام وهو التراب. ويجد مأوى فيه الخير والسعة ، عدا النجاة من الذل والاضطهاد. فالمراغم الكثير : يعني المتزحزح عما يكره. والسعة : الرزق.

وفي هذا وعد من الله للمهاجرين بتسهيل سبل العيش لهم وإرغام أعدائهم والنصر عليهم ، وهو كله للترغيب في الهجرة.

ثم وعد الله تعالى من يخرج من منزله بنية الهجرة تاركا الوطن والأهل والمال ، ثم يموت في أثناء الطريق قبل الوصول إلى المدينة ، وعده بالأجر العظيم والثواب عند الله على الهجرة أي وجب ثوابه عليه ووقع ، وعلم الله كيف يثيبه.

__________________

(١) الكشاف : ١ / ٤٢٠

٢٣٠

وكان شأن الله الغفران دائما لهؤلاء المهاجرين ، وإسباغ الرحمة الشاملة لهم بعطفه وإحسانه وفضله. ويؤكد هذا المعنى الحديث المشهور في الصحيحين عن عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنما الأعمال بالنيات ، وإنما لكل امرئ ما نوى ، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله ، فهجرته إلى الله ورسوله ، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها ، فهجرته إلى ما هاجر إليه».

وما أعظم الفرق بين هذا الوعد الصريح الأكيد من الله ، وبين الوعد بالمغفرة لتاركي الهجرة لضعف أو عجز بأنه محل رجاء وطمع عند الله تعالى.

فقه الحياة أو الأحكام :

المراد بهذه الآية في الأصح كما ذكر القرطبي : جماعة من أهل مكة كانوا قد أسلموا وأظهروا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الإيمان به ، فلما هاجر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أقاموا مع قومهم ، وفتن منهم جماعة فافتتنوا ، فلما كان أمر بدر ، خرج منهم قوم مع الكفار ، فنزلت الآية.

وبخ الله تعالى هؤلاء المتقاعسين عن الهجرة ، وأرشدهم إلى أنهم كانوا متمكنين قادرين على الهجرة والابتعاد عمن كان يستضعفهم ، وأنه لم يقبل عذرهم بكونهم مستضعفين حقيقة.

وفي هذه الآية دليل على هجران الأرض التي يعمل فيها بالمعاصي.

أما المستضعفون حقيقة من زمنى الرجال وضعفة النساء والولدان ، كعياش بن أبي ربيعة وسلمة بن هشام الذين دعا لهم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالنجاة ، فهؤلاء يرجى لهم من الله العفو والمغفرة.

٢٣١

ومن مات في أثناء الطريق إلى المدينة ، فأجره حق ثابت عند الله ، لصدق عزيمته ، وإخلاص نيته.

وكانت أسباب الهجرة إلى المدينة في صدر الإسلام كثيرة منها :

١ ـ التمكين من إقامة شعائر الدين والبعد عن الاضطهاد الديني ، فعلى كل مضطهد البحث عن مكان يأمن فيه ، وإلا ارتكب إثما كبيرا.

٢ ـ التمكن من تعلم أمور الدين والتفقه في أحكامه ، فعلى كل مسلم يقيم في بلد ليس فيه علماء يعلّمون أحكام الدين أن يهاجر إلى بلد يتلقى فيه العلوم الدينية.

٣ ـ الإعداد لإقامة دولة الإسلام ونشر الدعوة الإسلامية في أنحاء الأرض ، والدفاع عنها وعن الدعاة إلى الله.

وظلت هذه الأسباب واضحة قائمة إلى فتح مكة ، حتى إذا فتحت مكة ، ودخل الناس في دين الله أفواجا ، وانتشر الصحابة في البلاد يعلمون الناس أحكام دينهم ، وقويت شوكة الإسلام ، وتطهرت الجزيرة العربية من رجس الشرك والوثنية ، زال حكم وجوب الهجرة ، روى أحمد والشيخان عن ابن عباس أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لا هجرة بعد الفتح ، ولكن جهاد ونية ، وإذا استنفرتم فانفروا».

ويلاحظ أنه إذا وجدت الدواعي للهجرة وتوافر أحد الأسباب المتقدمة ، وجبت الهجرة في أي عصر وزمان.

ويحسن أن أذكر أقسام الهجرة كما أوضحها ابن العربي فقال : الهجرة تنقسم إلى ستة أقسام:

الأول ـ الخروج من دار الحرب إلى دار الإسلام ؛ وكانت فرضا في أيام النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مع غيرها من أنواعها. وهذه الهجرة باقية مفروضة إلى يوم القيامة ، التي

٢٣٢

انقطعت بالفتح هي القصد إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حيث كان ، فإن بقي في دار الحرب عصى ، ويختلف في حاله كما تقدم بيانه.

الثاني ـ الخروج من أرض البدعة : قال ابن القاسم : سمعت مالكا يقول : لا يحلّ لأحد أن يقيم ببلد يسبّ فيها السلف. قال ابن العربي : وهذا صحيح ؛ فإن المنكر إذا لم تقدر على تغييره فزل عنه ، قال الله تعالى : (وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا ، فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ ، حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ ، وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) [الأنعام ٦ / ٦٨].

الثالث ـ الخروج عن أرض غلب عليها الحرام : فإن طلب الحلال فرض على كل مسلم.

الرابع ـ الفرار من الإذاية في البدن : وذلك فضل من الله عزوجل أرخص فيه ، فإذا خشي المرء على نفسه في موضع فقد أذن الله سبحانه له في الخروج عنه ، والفرار بنفسه ؛ ليخلّصها عن ذلك المحذور.

الخامس ـ خوف المرض في البلاد الوخمة والخروج منها إلى الأرض النّزهة. وقد أذن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم للرّعاء حين استوخموا المدينة أن يتنزهوا إلى المسرح ، فيكونوا فيه حتى يصحّوا. وقد استثني من ذلك الخروج من الطاعون ، فمنع الله سبحانه منه بالحديث الصحيح عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، بيد أني رأيت علماءنا قالوا : هو مكروه.

السادس ـ الفرار خوف الإذاية في المال ؛ فإن حرمة مال المسلم كحرمة دمه ، والأهل مثله أو آكد (١).

__________________

(١) أحكام القرآن : ١ / ٤٨٤ ـ ٤٨٦ ، وانظر تفسير القرطبي : ٥ / ٣٤٩ وما بعدها.

٢٣٣

قصر الصلاة في السفر وصلاة الخوف

(وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكافِرِينَ كانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِيناً (١٠١) وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرائِكُمْ وَلْتَأْتِ طائِفَةٌ أُخْرى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً واحِدَةً وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (١٠٢) فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً (١٠٣))

الإعراب :

(كانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِيناً) إنما قال : عدوا بلفظ المفرد ، وإن كان ما قبله جمعا ؛ لأنه بمعنى المصدر ، كأنه قال : كانوا لكم ذوي عداوة ، وهذا كقوله تعالى : (فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ).

(قِياماً وَقُعُوداً) منصوبان على الحال من واو (فَاذْكُرُوا). وكذلك قوله : (وَعَلى جُنُوبِكُمْ) في موضع نصب على الحال ؛ لأنه في موضع : مضطجعين.

٢٣٤

البلاغة :

(فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ) فيه إطلاق العام وإرادة الخاص ؛ لأن المراد بها صلاة الخوف.

(فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ ، إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً) فيه إطناب بتكرار لفظ الصلاة ، تنبيها على فضلها.

المفردات اللغوية :

(وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ) سافرتم فيها (جُناحٌ) تضييق ، وهذا يدل للشافعي أن القصر رخصة لا واجب (أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ) تتركوا شيئا منها بأن تصلوا الصلاة الرباعية ركعتين فقط (يَفْتِنَكُمُ) يؤذوكم بالقتل أو غيره أو ينالوكم بمكروه (الَّذِينَ كَفَرُوا) بيان للواقع إذ ذاك ، فلا مفهوم له. وبينت السنة أن المراد بالسفر : الطويل وهو أربعة برد وهي مرحلتان تقدر ب (٨٩ كم) (عَدُوًّا مُبِيناً) بيّني العداوة.

(فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ) إقامة الصلاة : الذكر الذي يدعى به للدخول في الصلاة. وهذا جري على عادة القرآن في الخطاب ، فلا مفهوم له. (أَسْلِحَتَهُمْ) جمع سلاح : وهو كل ما يقاتل به من الأسلحة القديمة كالسيف والخنجر والسهم ، والأسلحة الحديثة كالبندقية والمسدس والمدفع ونحوها.

(قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ) أديتموها (فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) ائتوا بها مقوّمة تامة الأركان والشروط (كِتاباً مَوْقُوتاً) فرضا ثابتا محددا بوقت معلوم لا بد من أدائها فيه.

سبب النزول :

نزول الآية (١٠١):

(وَإِذا ضَرَبْتُمْ) : أخرج ابن جرير الطبري عن علي قال : سأل قوم من بني النجار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقالوا : يا رسول الله ، إنا نضرب في الأرض ، فكيف نصلي؟ فأنزل الله : (وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ ، فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ) ثم انقطع الوحي ، فلما كان بعد ذلك بحول غزا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فصلّى الظهر ، فقال المشركون : لقد أمكنكم محمد وأصحابه من ظهورهم ، هلا شددتم عليهم؟ فقال قائل منهم : إن لهم أخرى مثلها في أثرها ، فأنزل الله بين

٢٣٥

الصلاتين : (إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا) إلى قوله : (عَذاباً مُهِيناً) فنزلت صلاة الخوف.

نزول الآية (١٠٢):

(وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ) : أخرج أحمد والحاكم وصححه والبيهقي والدارقطني عن أبي عيّاش الزرقيّ (١) قال : كنا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعسفان ، فاستقبلنا المشركون ، عليهم خالد بن الوليد وهم بيننا وبين القبلة ، فصلّى بنا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الظهر ، فقالوا : قد كانوا على حال لو أصبنا غرّتهم ؛ قال : ثم قالوا : تأتي الآن عليهم صلاة هي أحبّ إليهم من أبنائهم وأنفسهم ؛ قال : فنزل جبريل عليه‌السلام بهذه الآية بين الظهر والعصر : (وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ) وذكر الحديث. وهذا كان سبب إسلام خالد بن الوليد رضي‌الله‌عنه. وروى الترمذي نحوه عن أبي هريرة ، وابن جرير نحوه عن جابر بن عبد الله وابن عباس.

نزول الآية : (وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كانَ بِكُمْ ..) :

أخرج البخاري عن ابن عباس قال : نزلت : (إِنْ كانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضى) في عبد الرحمن بن عوف حينما كان جريحا.

المناسبة :

لا يزال الكلام في الجهاد والهجرة ، والجهاد يستلزم السفر ، فبيّن الرب تبارك وتعالى أن الصلاة لا تسقط بعذر السفر ، ولا بعذر الجهاد وقتال العدو. وكانت الآيات في إثبات مشروعية القصر بالسفر ، وصلاة الخوف في الجهاد.

__________________

(١) في كتاب أسباب النزول للواحدي : أبو عياش الورقي.

٢٣٦

التفسير والبيان :

وإذا سرتم في الأرض وسافرتم فيها ، فليس عليكم تضييق ولا إثم في قصر الصلاة الرباعية ، إذا خفتم فتنة الكافرين لكم بالقتل أو الأسر أو غيرهما ، أو خفتم من قطاع الطريق ، وذلك بأن يتخذ أعداؤكم الاشتغال بالصلاة فرصة لتغلبهم عليكم ، فلا تمكنوهم من هذا ، بل اقصروا من الصلاة. ويصح أن يكون المراد : إن خفتم أن يفتنكم الكافرون في حال الركوع والسجود حيث لا ترون حركاتهم ، فصلوا راجلين أو راكبين. ثم أكد تعالى تحذيرنا من الأعداء فذكر : إن الكافرين لكم أعداء واضحة عداوتهم ، فهم ذوو عداوة بينة ، فاحذروهم أن يوقعوا بكم ، ويغلبوكم ، فلا تتركوا لهم فرصة لتحقيق أغراضهم.

وعملا بظاهر الآية : (إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ) قال بعضهم : المراد هنا القصر في صلاة الخوف المذكور في الآية الأولى ، والمبيّن في الآية التي بعدها وفي سورة البقرة بقوله تعالى : (فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالاً أَوْ رُكْباناً) [٢٣٩]. قال الشافعي : القصر في غير الخوف بالسّنة ، وأما في الخوف مع السفر فبالقرآن والسّنة ، ومن صلّى أربعا فلا شيء عليه ، ولا أحب لأحد أن يتم في السفر رغبة عن السّنة.

ورأى آخرون : أن قوله : (إِنْ خِفْتُمْ) خرج الكلام على الغالب ، إذ كان الغالب على المسلمين الخوف في الأسفار ؛ ولهذا قال يعلى بن أمية لعمر فيما رواه مسلم : ما لنا نقصر وقد أمنّا؟ قال عمر : عجبت مما عجبت منه ، فسألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن ذلك ، فقال : «صدقة تصدّق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته».

ثم إن صلاة الخوف لا يعتبر فيها الشرطان ؛ فإنه لو لم يضرب في الأرض ولم يوجد السّفر ، بل جاءنا الكفار وغزونا في بلادنا ، فتجوز صلاة الخوف ، فلا يعتبر وجود الشّرطين.

٢٣٧

ودلّ سبب النزول المتقدم عن علي على مشروعية القصر للمسافر ، قال القرطبي : فإن صحّ هذا الخبر فليس لأحد معه مقال ، ويكون فيه دليل على القصر في غير الخوف بالقرآن. وقد روي عن ابن عباس أيضا مثله ، قال : إن قوله تعالى : (وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ ، فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ) نزلت في الصلاة في السفر ، ثم نزل : (إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا) في الخوف بعدها بعام. فالآية على هذا تضمنت قضيتين وحكمين ، فقوله : (وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ ..) يراد به في السفر ؛ وتمّ الكلام ، ثم ابتدأ فريضة أخرى ، فقدّم الشرط ، والتقدير : إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا ، وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة ، والواو زائدة ، والجواب : (فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ). وقوله : (إِنَّ الْكافِرِينَ كانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِيناً) اعتراض (١).

وقوله تعالى : (فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ) ظاهره التخيير بين القصر والإتمام ، وأن الإتمام أفضل (٢) ، وإلى التخيير ذهب الشافعي ، وروي عن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه أتمّ في السفر ، وعن عائشة رضي‌الله‌عنها فيما رواه الدارقطني : «اعتمرت مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم من المدينة إلى مكة ، حتى إذا قدمت مكة ، قلت : يا رسول الله ، بأبي أنت وأمي : قصرت وأتممت ، وصمت وأفطرت؟ فقال : أحسنت يا عائشة وما عاب عليّ». وكان عثمان رضي‌الله‌عنه يتمّ ويقصر.

وعند أبي حنيفة رحمه‌الله : القصر في السفر عزيمة غير رخصة ، لا يجوز غيره. بدليل قول عمررضي‌الله‌عنه : «صلاة السفر ركعتان تمام غير قصر على لسان نبيّكم» ، وقول عائشةرضي‌الله‌عنها فيما رواه أحمد : «أول ما فرضت الصلاة ركعتين ركعتين ، فأقرّت في السفر ، وزيدت في الحضر».

__________________

(١) تفسير القرطبي : ٥ / ٣٦١ وما بعدها.

(٢) الكشاف : ١ / ٤٢٠

٢٣٨

ولأن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم التزم القصر في أسفاره كلها ، فقد روي عن ابن عباس رضي‌الله‌عنهما قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا خرج مسافرا ، صلّى ركعتين حتى يرجع. وروي عن عمران بن حصين : حججت مع النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فكان يصلّي ركعتين حتى يرجع إلى المدينة ، وقال لأهل مكة : صلّوا أربعا فإنّا قوم سفر. وقال ابن عمر فيما رواه الشيخان : صحبت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في السفر ، فلم يزد على ركعتين ، وصحبت أبا بكر وعمر وعثمان رضي‌الله‌عنهم في السفر ، فلم يزيدوا على ركعتين حتى قبضهم الله ، وقد قال الله تعالى : (لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) [الأحزاب ٣٣ / ٢١] ، وقال : (فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللهِ وَكَلِماتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) [الأعراف ٧ / ١٥٨] ، ولو كان مراد الله التّخيير بين القصر والإتمام ، لبيّن ذلك كما بيّنه في الصوم.

وأما ما ورد عن عثمان فقد اعتذر عنه بأنه قد تأهل (أقام) فقال : إنّما أتممت لأني تأهلت بهذا البلد ، وقد سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «من تأهّل ببلد فهو من أهله».

وأجاب الزمخشري عن آية (فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا) بقوله : كأنهم ألفوا الإتمام ، فكانوا مظنّة لأن يخطر ببالهم أن عليهم نقصانا في القصر ، فنفى عنهم الجناح لتطيب أنفسهم بالقصر ويطمئنوا إليه (١).

واختلف العلماء في المراد بالقصر هنا ، أهو القصر في عدد ركعات الصلاة أم هو القصر من هيئتها (٢)؟

فقال جماعة : إن القصر قصر عدد الركعات ، لما روى مسلم عن يعلى بن

__________________

(١) الكشاف : ١ / ٤٢٠ وما بعدها.

(٢) أحكام القرآن للجصاص : ١ / ٢٥١ وما بعدها ، أحكام القرآن لابن العربي : ١ / ٤٨٨ ، تفسير القرطبي : ٥ / ٣٦٠

٢٣٩

أمية أنه قال : قلت لعمر بن الخطاب ، كيف نقصر وقد أمنّا؟ فقال عمر : عجبت مما عجبت منه ، فسألت النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «صدقة تصدّق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته». وهذا يدلّ كما أوضحت على أن المراد بالقصر في الآية القصر في عدد الركعات. وفي صحيح مسلم عن ابن عباس قال : فرض الله الصلاة على لسان نبيّكم صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الحضر أربعا ، وفي السفر ركعتين ، وفي الخوف ركعة. لكن قال القاضي ابن العربي في كتابه القبس : قال علماؤنا رحمة الله عليهم : هذا الحديث مردود بالإجماع.

وأيضا فإن القصر : أن تقتصر من الشيء على بعضه ، والقصر في الصفة تغيير لا إتيان بالبعض ؛ لأنه جعل الإيماء بدل الرّكوع والسّجود مثلا.

وأيضا فإن «من» في قوله : «من الصلاة» للتبعيض ، وهو يدلّ على الاقتصار على بعض الركعات.

وقال آخرون كالجصاص : إن المراد بقصر الصلاة في الآية قصر الصفة والهيئة ، دون نقصان أعداد الرّكعات ، أي بترك الرّكوع والسّجود والإيماء ، وبترك القيام إلى الرّكوع ؛ لأن الآية في صلاة السفر ، لابتدائها بقوله تعالى : (وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ) ولأن قول عمر المتقدم : «صلاة السفر ركعتان ...» إلخ يدلّ على أن صلاة السفر ، سواء أكانت صلاة أمن أم خوف تمام غير قصر ، فيكون معنى القصر في الآية قصر الصفة ، لا قصر عدد الركعات.

أما السفر المبيح للقصر ففيه خلاف على آراء أهمها ما يأتي :

١ ـ قال الحنفية : من الكوفة إلى المدائن وهي مسيرة ثلاثة أيام. ويروى عنهم : يومان وأكثر الثالث.

ودليل الحنفية : قوله عليه الصّلاة والسّلام فيما رواه أحمد عن عوف بن مالك الأشجعي ، فيما معناه : «يمسح المقيم يوما وليلة ، والمسافر ثلاثة أيام».

٢٤٠