التفسير المنير - ج ٥

الدكتور وهبة الزحيلي

الله ، والقيام بحقّه في ماله وفي نفسها في حال غيبة الزوج ، وفي الخبر الذي رواه الترمذي عن أبي هريرة : «لو أمرت أحدا أن يسجد لأحد ، لأمرت المرأة أن تسجد لبعلها».

٤ ـ للزوج حق الحجر على زوجته في مالها ، فلا تتصرف فيه إلا بإذنه ؛ لأن الله تعالى جعله قواما عليها ـ بصيغة المبالغة ، والقوّام : الناظر على الشيء الحافظ له. وبهذا أخذ المالكية.

٥ ـ وجوب النفقة على الزوج لزوجته.

٦ ـ مشروعية وسائل تسوية النزاع بين الزوجين : وهي الوعظ والإرشاد ، ثم الهجر في المضاجع (عدم المبيت في فراش الزوجية) ، ثم الضرب غير المبرّح (غير المؤذي : وهو الذي لا يكسر عظما ولا يشين عضوا ، كاللّكزة ونحوها) ثم التحكيم بإرسال حكمين إما من الأقارب وإما من الأجانب. ولم يذكر الله تعالى إلا الإصلاح في مهمة الحكمين : (إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً) ولم يذكر التفريق إشارة إلى الحرص على الإصلاح دون التفريق المؤدي إلى خراب البيوت.

٧ ـ الامتناع عن الظلم : دلّ قوله تعالى : (فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ) أي تركوا النشوز (فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً) على تحريم ظلم الرجل للمرأة ، أي لا تجنوا عليهنّ بقول أو فعل ، وهو نهي عن ظلمهنّ بعد التزام أدبهنّ.

٨ ـ تواضع الرجل ولينه : دلّ قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيًّا كَبِيراً) على إرشاد الأزواج إلى خفض الجناح ولين الجانب ؛ أي إن كنتم تقدرون عليهنّ فتذكروا قدرة الله ، فقدرته فوق كل قدرة ، وهو بالمرصاد لكلّ أحد يستعلي على امرأته ويذلّها أو يهينها بغير حقّ.

ويلاحظ أن الله عزوجل لم يأمر في شيء بالضرب صراحة إلا هنا وفي الحدود الشديدة ، فجعل معصية المرأة من الكبائر ، وولّى الأزواج صلاحية

٦١

التأديب دون الأئمة والحكام ، وجعله لهم دون القضاة بغير شهود ولا بيّنات ، ائتمانا من الله تعالى للأزواج على النساء.

أخلاق القرآن

عبادة الله وحده والإحسان للوالدين والأقارب والجيران

والتحذير من الإنفاق رياء

(وَاعْبُدُوا اللهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَبِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى وَالْجارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالاً فَخُوراً (٣٦) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ ما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (٣٧) وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطانُ لَهُ قَرِيناً فَساءَ قَرِيناً (٣٨) وَما ذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللهُ وَكانَ اللهُ بِهِمْ عَلِيماً (٣٩))

الإعراب :

(الَّذِينَ يَبْخَلُونَ) في موضع نصب على البدل من (مِنْ) في قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ).

٦٢

(رِئاءَ النَّاسِ) إما أنه منصوب مفعول لأجله تقديره : لرئاء الناس ، فحذف حرف الجر فاتصل الفعل به فنصبه ، وإما أنه منصوب لأنه مصدر في موضع الحال من (الَّذِينَ) غير داخلة في صلته.

البلاغة :

يوجد إطناب في قوله : (وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى وَالْجارِ الْجُنُبِ).

(مُخْتالاً فَخُوراً) تعريض بذم الكبر المؤدي إلى احتقار الناس.

(وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) فيه الحذف ، وتقدير المحذوف : أحسنوا إلى الوالدين إحسانا.

المفردات اللغوية :

(وَاعْبُدُوا اللهَ) العبادة : الخضوع لله والاستسلام له سرّا وعلنا ، باطنا وظاهرا مع الإخلاص. (وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) أي أحسنوا لهما ، والإحسان للوالدين : البرّ بهما بخدمتهما وتحصيل مطالبهما والإنفاق عليهما عند الحاجة وبقدر الاستطاعة ، ولين الجانب والكلام معهما. (وَبِذِي الْقُرْبى) صاحب القرابة من أخ وعمّ وخال وأولادهم. (وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى) الجار القريب الجوار أو النسب. (وَالْجارِ الْجُنُبِ) : هو البعيد عنك في الجوار أو النسب. (وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ) : الرفيق في السفر أو الصناعة ، وكل صاحب ولو وقتا قصيرا. (وَابْنِ السَّبِيلِ) المنقطع في سفره : المسافر أو الضيف. (ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) من العبيد والإماء (الأرقاء). (مُخْتالاً) هو ذو الخيلاء والكبر. (فَخُوراً) هو الذي يتفاخر على الناس بتعداد محاسنه تعاظما وتعاليا. (أَعْتَدْنا) هيأنا وأعددنا. (مُهِيناً) ذا إهانة وذلّ.

(رِئاءَ النَّاسِ) أي للمراءاة والسمعة. (وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ) كالمنافقين وأهل مكة. (قَرِيناً) صاحبا وخليلا يعمل بأمره كهؤلاء. (فَساءَ) بئس. (وَما ذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا ...) المعنى أيّ ضرر عليهم في الإيمان والإنفاق ، والاستفهام للإنكار ، ولو : مصدرية ، أي لا ضرر فيه ، وإنما الضرر فيما هم عليه.

سبب نزول الآية (٣٧):

(الَّذِينَ يَبْخَلُونَ) : أخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال : كان علماء بني إسرائيل يبخلون بما عندهم من العلم ، فأنزل الله : (الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ) الآية. وروي عن ابن عباس أن جماعة من اليهود

٦٣

كانوا يأتون أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يزهّدونهم في نفقة أموالهم في الدين ، ويخوفونهم الفقر ، ويقولون لهم : لا تدرون ما يكون ، فأنزل الله تعالى : (الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ).

وقال أكثر المفسرين : نزلت في اليهود كتموا صفة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولم يبيّنوها للناس ، وهم يجدونها مكتوبة عندهم في كتبهم. وقال الكلبي : هم اليهود بخلوا أن يصدقوا من أتاهم صفة محمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم ونعته في كتابهم.

وقال مجاهد : الآيات الثلاث إلى قوله : (عَلِيماً) نزلت في اليهود.

وقال ابن عباس وابن زيد : نزلت في جماعة من اليهود كانوا يأتون رجالا من الأنصار يخالطونهم وينصحونهم ويقولون : لا تنفقوا أموالكم ، فإنا نخشى عليكم الفقر ، فأنزل الله تعالى : (الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ).

المناسبة :

الآيات السابقة من أول السورة في تنظيم روابط الأسرة ، كاختبار اليتامى ، والحجر على السفهاء ، وكيفية معاملة النساء بالإحسان مع رقابة الله ، وناسب هنا التذكير ببعض الحقوق العامة وتقوية رابطة القرابة والجوار والصداقة وترشيد الإنفاق بأن يكون بإخلاص لله تعالى لا رياء وسمعة. وقد صدّر هذا الإرشاد بالأمر بعبادة الله ؛ لأنها الأساس.

التفسير والبيان :

بعد أن أرشد الله تعالى الزوجين إلى المعاملة الحسنة وأمر الحكام بإزالة أسباب الخصومة ، أرشد الناس جميعا إلى بعض خصال الخير والإحسان ، ودلّهم على أنواع من الأخلاق الحسنة في معاملة بعضهم بعضا ، وهي ثلاثة عشر نوعا بين مأمور به ومنهي عنه.

٦٤

١ ـ عبادة الله وحده : العبادة : المبالغة في الخضوع لله تعالى ، وذلك بفعل ما أمر الله به ، وترك ما نهى عنه ، سواء في أفعال القلوب أو أفعال الجوارح (الأعضاء) فإنه هو الخالق الرّازق المنعم المتفضّل على خلقه ، لذا كان هو المستحق منهم أن يوحدوه ولا يشركوا به شيئا من مخلوقاته.

٢ ـ عدم الشرك به شيئا : والإشراك ضدّ التوحيد ، وهو عطف خاص على عام.

ويذكر هذان الأمران عادة معا ، كما

قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لمعاذ بن جبل فيما رواه أحمد والشيخان والترمذي وابن ماجه : «هل تدري ما حق الله على العباد؟» قال : الله ورسوله أعلم ، قال : «أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا» ثم قال : «أتدري ما حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك؟ قال : أن لا يعذبهم».

وقدم في هذه الآية ما يتعلق بحقه تعالى لأمرين :

الأول ـ العبادة والإخلاص أساس الدين ، وبدونه لا يقبل الله من العبد عملا ما.

الثاني ـ الإيماء إلى أهمية الأمور الآتية بعدها ، وإن تعلقت بحقوق العباد.

والإشراك أنواع مختلفة :

منها : ما ذكره الله تعالى عن مشركي العرب من عبادة الأصنام باتخاذهم وسطاء إلى الله فقال : (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ : هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللهِ ، قُلْ : أَتُنَبِّئُونَ اللهَ بِما لا يَعْلَمُ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ ، سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) [يونس ١٠ / ١٨] وقوله حكاية عنهم : (ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) [الزمر ٣٩ / ٣].

ومنها : ما ذكره الله عن النصارى من أنهم عبدوا المسيح عليه‌السلام ،

٦٥

فقال : (اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ ، وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ ، وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً ، لا إِلهَ إِلَّا هُوَ ، سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) [التوبة ٩ / ٣١].

٣ ـ الإحسان إلى الوالدين : قرن الله تعالى الأمر ببر الوالدين بعبادته وتوحيده في مواضع كثيرة من القرآن ، كهذه الآية ، وآية : (وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) [الإسراء ١٧ / ٢٣] وآية : (أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ) [لقمان ٣١ / ١٤].

وبر الوالدين : طاعتهما في معروف والقيام بخدمتهما ، والسعي في تحصيل مطالبهما والبعد عن كل ما يؤذيهما ؛ لأنهما السبب الظاهر في وجود الأولاد ، وتربيتهم بالرحمة والإخلاص. قال ابن العربي : بر الوالدين ركن من أركان الدين في المفروضات ، وبرهما يكون في الأقوال والأعمال ، أما في الأقوال فكما قال الله تعالى : (فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما) [الإسراء ١٧ / ٢٣] فإن لهما حق الرحم المطلقة ، وحق القرابة الخاصة (١).

٤ ـ الإحسان إلى القرابة : وهو صلة الرحم كالأخ والأخت والعم والخال وأبنائهم ، وذلك بمودتهم ومواساتهم ، على نحو ما ذكر في أول السورة : (وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ) [الآية ١]. وذلك يؤدي إلى ترابط الأسرة وتقوية معنوياتها وتساندها ، فيقوى المجتمع ، وتتقدم الدولة.

٥ ـ الإحسان إلى اليتامى : وصى الله تعالى بهذا في أول السورة وفي غيرها ؛ لأن اليتيم فقد الناصر والمعين وهو الأب. قال ابن عباس : يرفق بهم ويربيهم ، وإن كان وصيا فليبالغ في حفظ أموالهم.

__________________

(١) أحكام القرآن : ١ / ٤٢٨

٦٦

٦ ـ الإحسان إلى المساكين : وهم المحتاجون الذين لا يجدون ما يكفيهم ، والإحسان إليهم بالتصدق عليهم أو بردهم ردا جميلا ، كما قال تعالى : (وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ) [الضحى ٩٣ / ١٠]. وهذا يحقق مبدأ التكافل الاجتماعي في الإسلام.

٧ ـ الإحسان إلى الجار ذي القربى : وهو القريب في المكان أو بالنسب أو بالدين. والإحسان إلى الجيران يحقق مبدأ التعاون والتواصل والتوادد والشعور بالسعادة.

٨ ـ الإحسان إلى الجار الجنب : وهو الذي بعد جواره أو لم يكن ذا قرابة. وقد حث الإسلام على الإحسان في معاملة الجار ولو غير مسلم ، فقد عاد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ابن جاره اليهودي ، وذبح ابن عمر شاة ، فجعل يقول لغلامه : أهديت لجارنا اليهودي ، أهديت لجارنا اليهودي؟ سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول فيما رواه البيهقي عن عائشة : «ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورّثه» وأخرج الشيخان أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره».

وتحديد الجوار متروك إلى العرف ، وحدده الحسن البصري بأربعين جارا من كل جانب من الجوانب الأربعة.

وإكرام الجار له مظاهر عديدة منها مواساته إن كان فقيرا ، ومنها حسن العشرة وكف الأذى عنه ، ومنها إرسال الهدايا إليه ، ودعوته إلى الطعام ، وزيارته وعيادته ونحو ذلك. قال ابن العربي : حرمة الجار عظيمة في الجاهلية والإسلام ، معقولة ، مشروعة مروءة وديانة (١). ومن الإحسان إلى الجار الحديث الصحيح في الموطأ : «لا يمنعن أحدكم جاره أن يغرز خشبة في جداره».

__________________

(١) أحكام القرآن : ١ / ٤٢٩

٦٧

٩ ـ الإحسان إلى الصاحب بالجنب : وهو الرفيق بنحو مؤقت ، كالتعلم والسفر والصناعة ، والجلوس في مسجد أو مجلس. وقيل عن علي : إنه الزوجة أو المرأة.

١٠ ـ الإحسان إلى ابن السبيل : وهو المسافر المنقطع عن ماله ، أو الضيف. والإحسان إليه بمساعدته للوصول إلى بلده أو غرضه.

١١ ـ الإحسان إلى ما ملكت أيمانكم : أي الأرقاء من العبيد والإماء. وقد أوصى النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم بهم في مرض موته ، في آخر وصاياه ، أخرج أحمد والبيهقي عن أنس قال : «كانت عامة وصية رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين حضره الموت : الصلاة وما ملكت أيمانكم». وروى الشيخان عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «هم إخوانكم وخولكم ، جعلهم الله تحت أيديكم ، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل ، وليلبسه مما يلبس ، ولا تكلفوهم من العمل ما يغلبهم ، فإن كلفتموهم فأعينوهم عليه» والإحسان إليهم يكون أيضا بإعتاقهم أو بمساعدتهم على تحرير رقابهم.

١٢ ، ١٣ ـ تحريم الاختيال والتفاخر : المختال : هو المتكبر الذي تظهر آثار الكبر في حركاته وأفعاله. والفخور : المتكبر الذي تظهر آثار الكبر في أقواله.

والمختال الفخور مبغوض عند الله لاحتقاره حقوق الناس وتشبهه بصفات الإله ، وهو لا يعبد الله حقا إذ لا خشوع عنده ، ولا يحسن إلى الوالدين والأقارب والجيران والأصدقاء.

ومعنى قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالاً فَخُوراً) أي أنه يعاقبه على خيلائه وفخره. وقد نهى الله تعالى عن الكبر والخيلاء في آية أخرى هي : (وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً ، إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ ، وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولاً) [الإسراء ١٧ / ٣٧].

وليس من الكبر : الوقار في غير غلظة ، وعزة النفس مع الأدب ، وتحسين

٦٨

البيت والمركوب والهيئة واللباس ، بدليل ما روى أبو داود والترمذي عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر ، فقال رجل : إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا ، ونعله حسنة. فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إن الله جميل يحب الجمال ، الكبر : بطر الحق وغمط الناس (١)».

ثم بيّن الله تعالى أوصاف المختال الفخور بقوله : (الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ ، وَيَكْتُمُونَ ما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) أي أنه تعالى يذم الذين يبخلون بأموالهم أن ينفقوها فيما أمرهم الله به من بر الوالدين والإحسان إلى الأقارب واليتامى والمساكين والجيران ونحوهم ، ولا يدفعون حق الله فيها ، ويأمرون الناس بالبخل أيضا ، ويكتمون أفضال الله عليهم ، فالبخيل جحود لنعمة الله ولا تظهر عليه آثارها في مأكل أو ملبس أو إعطاء وبذل ، كما قال تعالى : (إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ ، وَإِنَّهُ عَلى ذلِكَ لَشَهِيدٌ) [العاديات ١٠٠ / ٦ ـ ٧] أي شهيد بحاله وشمائله.

وذم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أيضا البخل فقال : «وأي داء أدوأ من البخل؟» وقال فيما رواه أبو داود والحاكم عن ابن عمرو : «إياكم والشح ، فإنه هلك من كان قبلكم بالبخل ، أمرهم بالبخل فبخلوا ، وأمرهم بالقطيعة فقطعوا ، وأمرهم بالفجور ففجروا».

ولكل هذه الخصال القبيحة في البخلاء توعدهم الله بالعقوبة بقوله : (وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً أَلِيماً) أي وهيأنا لهؤلاء بكبرهم وبخلهم وعدم شكرهم عذابا يهينهم ويذلهم ، إنه عذاب جامع بين الألم والذل ، جزاء على فعلهم ، وسماهم الله كفارا إشعارا بأن هذه أخلاق الكفار لا المؤمنين ؛ ولأن الكفر : هو الستر

__________________

(١) بطر الحق : رده استخفافا وترفعا ، وغمط الناس : احتقارهم وازدراؤهم

٦٩

والتغطية ، والبخيل يستر نعمة الله عليه ويكتمها ويجحدها فهو كافر لنعمة الله عليه. وفي الحديث الذي رواه الترمذي والحاكم عن ابن عمرو : «إن الله تعالى يحب أن يرى أثر نعمته على عبده» وفي الدعاء النبوي : «واجعلنا شاكرين لنعمتك ، مثنين بها عليك ، قابليها ، وأتممها علينا».

وقد حمل بعض السلف هذه الآية على بخل اليهود بإظهار العلم الذي عندهم من صفة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكتمانهم إياها ، ولهذا قال تعالى : (وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً).

وعلى كل حال : أهل الفخر والخيلاء فريقان : فريق يبخلون ويكتمون فضل الله عليهم ، وهم من سبق ، وفريق آخر ذكرهم القرآن بعدئذ وهم الذين ينفقون أموالهم مرائين الناس ، أي يقصدون رؤية الناس لهم فيعظمونهم ويحمدونهم.

وبعد أن ذكر الله الممسكين المذمومين وهم البخلاء ، ذكر الباذلين الذين يقصدون بإعطائهم السمعة وأن يمدحوا بالكرم ، ولا يريدون به وجه الله ، فيبذلون المال لا شكرا لله على نعمه ، ولا اعترافا لعباده بحق. هؤلاء الذين قال الله عنهم : (وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ رِئاءَ النَّاسِ) [النساء ٤ / ٣٨].

جاء في الحديث الثابت : «الثلاثة الذين هم أول من تسجر بهم النار : وهم العالم والغازي والمنفق ، والمراءون بأعمالهم ، يقول صاحب المال : ما تركت من شيء تحب أن ينفق فيه إلا أنفقت في سبيلك ، فيقول الله : كذبت ، إنما أردت أن يقال : جواد ، فقد قيل» أي فقد أخذت جزاءك في الدنيا ، وهو الذي أردت بفعلك.

وهؤلاء المراءون لا يؤمنون حقا بالله ولا باليوم الآخر ، أي إنما حملهم على صنيعهم القبيح وعدولهم عن فعل الطاعة على وجهها الصحيح : الشيطان ، فإنه

٧٠

سوّل لهم وأملى لهم وحسّن لهم القبائح ، ولأن المؤمن الحق لا ينفق رياء بل الله ، ويعمل للباقي الدائم وهو يوم القيامة ، وهؤلاء قرناء الشيطان الذي يوحي إليهم ، ويعدهم بالفقر لو أنفقوا ، ويأمرهم بالفحشاء والمنكر ، ومن يكن الشيطان له قرينا ، فبئس هذا القرين ، أي أن الذي حملهم على ما فعلوا وسوسة الشيطان وهو بئس الصاحب والمعلم ، فحالهم في الشر كحال الشيطان.

وفي هذا إيماء إلى ضرورة البعد عن قرين السوء ، واختيار القرين الصالح.

(وَما ذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ، وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللهُ) والمعنى : وأي ضرر يلحقهم لو آمنوا حقيقة بالله ، وعملوا لليوم الآخر الذي فيه الجزاء المحقق للخلود والسعادة ، وأنفقوا مما رزقهم الله ابتغاء رضوانه وامتثالا لأمره.

وهذا الأسلوب للتعجب من حالهم ؛ إذ أنهم لو أخلصوا العمل وعدلوا عن الرياء إلى الإخلاص ، والإيمان بالله رجاء موعوده في الدار الآخرة لمن يحسن عمله ، وأنفقوا فيما يحبه الله ويرضاه ، لما فاتهم ما يطلبون من منافع الدنيا والآخرة معا.

(وَكانَ اللهُ بِهِمْ عَلِيماً) أي هو عليم بنياتهم الصالحة والفاسدة ، وخبير بمن يستحق التوفيق منهم فيوفقه للخير ، وبمن يستحق الخذلان والطرد عن جنابه الأعظم ، فيتخلى عنه ، وسيجازي كل امرئ بما قدم وعمل ، ولن ينسى عمل العاملين المخلصين ، وما على المؤمن إلا أن يجعل عمله خالصا لله ، فهو الذي يراه ويتقبل منه ، ويحاسبه على عمله.

فقه الحياة أو الأحكام :

هذه الآيات دستور التعامل بين الناس وربهم ، وبين بعضهم بعضا. وهي من المحكم المتفق عليه ، ليس منها شيء منسوخ ، وهي مقررة في جميع الكتب

٧١

السماوية ، ولو لم يكن كذلك لعرف حكمها من جهة العقل ، وإن لم ينزل به الكتاب.

وهي مفتتحة بأمر الله تعالى عباده بالتذلل له والإخلاص في عبادته ، وهي أصل في خلوص الأعمال لله تعالى وتصفيتها من شوائب الرياء وغيره ، قال الله تعالى : (فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً) [الكهف ١٨ / ١١٠].

وتنهى الآية عن ضد التوحيد وهو الشرك ، وهو كما قال العلماء مراتب ثلاثة وكلها محرمة منكرة.

الأولى ـ اعتقاد شريك لله في ألوهيته ، وهو الشرك الأعظم شرك الجاهلية ، وهو المراد بقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ ، وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) [النساء ٤ / ٤٨].

الثانية ـ اعتقاد شريك لله تعالى في الفعل : وهو القول بأن موجودا غير الله تعالى يستقل بإحداث فعل وإيجاده ، وإن لم يعتقد كونه إلها ، كالقدرية مجوس هذه الأمة. وقد تبرأ منهم ابن عمر.

الثالثة ـ الإشراك في العبادة وهو الرياء : وهو أن يفعل العبد شيئا من العبادات التي أمر الله بفعلها له لغيره. وهو الذي حرمته الآيات والأحاديث ، وهو مبطل للأعمال ، وهو خفي لا يعرفه كل جاهل غبي. روى ابن ماجه عن أبي سعيد بن أبي فضالة الأنصاري رضي‌الله‌عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذا جمع الله الأولين والآخرين ليوم القيامة ليوم لا ريب فيه ، نادى مناد : من كان أشرك في عمل عمله لله عزوجل أحدا ، فليطلب ثوابه من عند غير الله ، فإن الله أغنى الشركاء عن الشرك».

٧٢

وأمرت الآيات بالإحسان إلى الوالدين والأقارب واليتامى والمساكين والجيران الأقارب والأباعد ، والأصحاب لوقت ما كرفيق الأسفار وجليس المجلس والصلاة ، والمسافرين ، والأرقاء المماليك ، وقد سبق الكلام تفصيلا عنهم.

ونهت الآيات عن التكبر والخيلاء والتفاخر والتعاظم ، والمختال : هو ذو الخيلاء المتكبر ، والفخور : الذي يعدد مناقبه كبرا ، والفخر : البذخ (١) والتطاول. وخص الله تعالى هاتين الصفتين بالذكر هنا ؛ لأنهما تحملان صاحبيهما على الأنفة والترفع من القريب الفقير والجار الفقير وغيرهم ممن ذكر في الآية ، فيضيع أمر الله بالإحسان إليهم.

وذكر الله تعالى صفات المتكبرين المختالين ، ومن أشنعها البخل وأمر الناس بالبخل ، والبخل المذموم في الشرع : هو الامتناع من أداء ما أوجب الله تعالى عليه ، وهو مثل قوله تعالى : (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ) الآية [آل عمران ٣ / ١٨٠].

والمراد بهذه الآية في قول ابن عباس وغيره اليهود ؛ فإنهم جمعوا بين الاختيال والفخر والبخل بالمال وكتمان ما أنزل الله من التوراة من نعت محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والله لا يحب المختال الفخور أي يعاقبه ، وأكّد ذلك بأنه تعالى أعد له عذابا مهينا. ويرى القرطبي أنه تعالى توعد المؤمنين الباخلين بعدم المحبة ، وتوعد الكافرين عذابا مهينا (٢).

والفريق الثاني من أهل الفخر هم الذين ينفقون أموالهم رياء ، قال الجمهور : نزلت في المنافقين ، لقوله تعالى : (رِئاءَ النَّاسِ) والرئاء من النفاق. ونفقة الرئاء لا تجزئ ، لقوله تعالى : (قُلْ : أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ) [التوبة ٩ / ٥٣].

__________________

(١) البذخ : الكبر.

(٢) تفسير القرطبي : ٥ / ١٩٣

٧٣

ثم وجّه الحق سبحانه وتعالى المنفقين رياء إلى ما هو الأصلح لهم وهو الإيمان الحق بالله (أي التصديق بواجب الوجود) واليوم الآخر ، والإنفاق لوجه الله ، فالله عليم بكل شيء ، خبير بأحوال الناس ، وسيجازي كل امرئ بما قدم وعمل.

الترغيب في امتثال الأوامر والتحذير من المخالفة والعصيان

(إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً (٤٠) فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً (٤١) يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثاً (٤٢))

الإعراب :

(وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً) بالنصب خبر تكن الناقصة ، وتقديره : وإن تكن الذرة حسنة ، وقرئ بالرفع على أنها فاعل تكن التامة. وأصل (تك) : تكون بالرفع ، إلا أنه حذفت الضمة للجزم ، فبقيت النون ساكنة والواو ساكنة ، فاجتمع ساكنان ، وهما لا يجتمعان ، فحذفت الواو لالتقاء الساكنين ، وكان حذف الواو أولى ؛ لأنها حرف معتل ، والنون حرف صحيح ، فبقي «تكن» فحذفت النون لكثرة الاستعمال. (شَهِيداً) حال منصوب من الضمير في (بِكَ) وهو الكاف ، والتقدير : جئنا بك شهيدا على هؤلاء. (يَوْمَئِذٍ) في موضع نصب والعامل فيه (يَوَدُّ) وكذلك : (لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ) في موضع نصب ب (يَوَدُّ) أيضا (وَلا يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثاً) إما معطوف على (تُسَوَّى) فيكون داخلا في التمني ، أي ودوا تسوية الأرض وكتمان الحديث من الله تعالى ، وإما أن تكون الواو فيه واو الحال ، والجملة حالية.

٧٤

البلاغة :

(فَكَيْفَ إِذا جِئْنا) السؤال عن المعلوم لتقريع السامع وتوبيخه.

المفردات اللغوية :

(لا يَظْلِمُ) الظلم : النقص وتجاوز الحد ، أي لا ينقص أحدا من حسناته ولا يزيد في سيئاته. (مِثْقالَ) أصله المقدار الذي له ثقل مهما قل ، ثم أطلق على المعيار المخصوص للذهب وغيره (المثقال العجمي : ٨٠ ، ٤ غم) والمراد به هنا وزن (ذَرَّةٍ) أصغر ما يدرك من الأجسام ، والذرة في العلم الحديث : الجزء الذي لا يتجزأ ، ومن الذرات : الهباء : وهو ما يرى في شعاع الشمس الداخل من نافذة. (يُضاعِفْها) من عشر إلى أكثر من سبعمائة. (مِنْ لَدُنْهُ) من عنده. (بِشَهِيدٍ) هو نبي الأمة. (لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ) أي لو أن تتسوى بهم الأرض بأن يكونوا ترابا مثلها لعظم الهول ، كما في آية أخرى : (وَيَقُولُ الْكافِرُ : يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً). (وَلا يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثاً) مما عملوه ، وفي وقت آخر يكذبون ويقولون : (وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) والحديث : الكلام.

المناسبة :

موضوع هذه الآيات الترغيب من الله تعالى في امتثال المأمورات والتحذير من المنهيات الواردة في الآيات السابقة ، ونظيرها قوله تعالى : (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ ، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) [الزلزلة ٩٩ / ٧ ـ ٨].

التفسير والبيان :

يخبر الله تعالى أنه لا يظلم أحدا من خلقه يوم القيامة مثقال حبة خردل ولا مثقال ذرة ، بل يوفيها له ويضاعفها له إن كانت حسنة ، كما قال تعالى : (وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً ، وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَكَفى بِنا حاسِبِينَ) [الأنبياء ٢١ / ٤٧] وقال تعالى مخبرا عن لقمان أنه قال : (يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ ، فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللهُ ، إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ) [لقمان ٣١ / ١٦].

٧٥

وفي الصحيحين عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في حديث الشفاعة الطويل ، وفيه : «فيقول الله عزوجل : ارجعوا ، فمن وجدتم في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان ، فأخرجوه من النار» وفي لفظ : «أدنى أدنى أدنى مثقال ذرة من إيمان ، فأخرجوه من النار» فيخرجون خلقا كثيرا ، ثم يقول أبو سعيد : اقرءوا إن شئتم : (إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ ...) الآية.

ومعنى الآية : أنه تعالى لا ينقص أحدا من أجر عمله شيئا مهما قل ، ولا يعاقب أحدا على شيء مهما كان بغير حق ؛ لأن الظلم نقص ، والله تعالى متصف بكل كمال ، منزّه عن كل نقص.

فمن اقترف سيئة بعد أن زوده الله بالعقل والتقدير والميزان ، كان هو الظالم لنفسه : (وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) [فصلت ٤١ / ٤٦].

ومع أنه تعالى لا ينقص أحدا من أجر عمله ولو مثقال ذرة ، يضاعف ثواب الحسنة إلى عشر أمثالها ، إلى سبعمائة ضعف ، إلى أضعاف كثيرة ، أما السيئة فلا تضاعف ، ويجزى بمثلها فقط ، كما في آية أخرى : (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها ، وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها ، وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) [الأنعام ٦ / ١٦٠].

(وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً) أي إنه تعالى لا يكتفي بمضاعفة حسنات المحسن ، بل يعطيه أجرا من غير مقابل له من الأعمال ، فهو واسع الفضل كثير الإحسان. والأجر العظيم : الجنة ، نسأل الله الرضا والجنة.

وإذا كان هذا هو نظام الثواب ، فيتعجب الخالق من بعض الناس قائلا : فكيف يصنع هؤلاء الكفرة من اليهود وغيرهم إذا جئنا من كل أمة بشاهد يشهد عليهم بما فعلوا وهو نبيهم ، كقوله تعالى : (وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ) [المائدة ٥ / ١١٧]. وجئنا بك يا محمد على هؤلاء المكذبين شهيدا. عن ابن

٧٦

مسعود «أنه قرأ سورة النساء على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى بلغ قوله : (وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً) ، فبكى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال : حسبنا». وهذه الشهادة معناها : عرض أعمال الأمم على أنبيائهم.

ونظير هذه الآية قوله تعالى : (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ ، وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) [البقرة ٢ / ١٤٣] أي إن هذه الأمة بحسن سيرتها وكونها خاتمة أمم الوحي تكون شهيدة على الأمم السابقة ، وحجة عليها في انحرافها عن هدي المرسلين ، والرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بسيرته واستقامته يكون حجة على من ترك سننه.

يومئذ يود الذين كفروا وعصوا الرسول أي يتمنون لو يدفنون ، فتسوى بهم الأرض ، كما تسوى بالموتى ، وقيل : يودون أنهم لم يبعثوا وأنهم كانوا والأرض سواء ، كما قال تعالى : (وَيَقُولُ الْكافِرُ : يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً) [النبأ ٧٨ / ٤٠].

وهم لا يقدرون على كتمان كلام عن الله ؛ لأن جوارحهم تشهد عليهم ، وقيل : الواو للحال ، أي يودون أن يدفنوا تحت الأرض ، وأنهم لا يكتمون الله حديثا ، ولا يكذبون في قولهم : (وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) [الأنعام ٦ / ٢٣] ؛ لأنهم إذا قالوا ذلك ، وجحدوا شركهم ، ختم الله على أفواههم عندئذ ، وتكلمت أيديهم وأرجلهم بتكذيبهم والشهادة عليهم بالشرك ، فلشدة الأمر عليهم يتمنون الدفن تحت التراب.

فقه الحياة أو الأحكام :

أرشدت الآيات إلى ما يأتي :

١ ـ اتصاف الله بكل كمال ، وتنزهه عن كل نقصان : فلا يبخس الناس ولا بنقصهم من ثواب أعمالهم وزن ذرة ، بل يجازيهم بها ويثيبهم عليها ، والمراد من

٧٧

الكلام : أن الله تعالى لا يظلم قليلا ولا كثيرا ، كما قال تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً) [يونس ١٠ / ٤٤]. وفي صحيح مسلم عن أنس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الله لا يظلم مؤمنا حسنة ، يعطى بها في الدنيا ، ويجزى بها في الآخرة. وأما الكافر فيطعم بحسنات ما عمل لله بها في الدنيا ، حتى إذا أفضى إلى الآخرة ، لم تكن له حسنة يجزى بها».

٢ ـ مضاعفة ثواب الحسنات ومنح الأجر العظيم وهو الجنة. روى أحمد عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «إن الله سبحانه يعطي عبده المؤمن بالحسنة الواحدة ألفي حسنة ، وتلا : (إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ ، وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها ، وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً). قال عبيدة : قال أبو هريرة : وإذا قال الله (أَجْراً عَظِيماً) فمن الذي يقدّر قدره!

وقد عرفنا أن هذه الآية إحدى الآيات التي هي خير مما طلعت عليه الشمس.

٣ ـ التعجيب الإلهي من أفعال الكفار يوم الحساب : هذا التعجيب حافز على فعل المأمورات ، وإنذار على التقصير في فعل الحسنات والخيرات.

٤ ـ تمني الكفار أن يكونوا ترابا عند مصادمتهم بأعمالهم المنكرة ، وتمنيهم أنهم لم يكتموا الله حديثا ، لظهور كذبهم ، ولأن ما عملوه ظاهر عند الله لا يقدرون على كتمانه.

سئل ابن عباس عن هذه الآية ، وعن قوله تعالى : (وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) فقال : لما رأوا أنه لا يدخل الجنة إلا أهل الإسلام قالوا : (وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) فختم الله على أفواههم ، وتكلمت أيديهم وأرجلهم ، فلا يكتمون الله حديثا.

٧٨

تحريم الصلاة حال السكر وكون التيمم عند فقد الماء

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ وَلا جُنُباً إِلاَّ عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللهَ كانَ عَفُوًّا غَفُوراً (٤٣))

الإعراب :

(وَأَنْتُمْ سُكارى) الواو واو الحال ، والجملة بعدها من المبتدأ والخبر في موضع نصب على الحال بفعل : (تَقْرَبُوا) أي لا تقربوها في هذه الحالة. والدليل على أن الواو هاهنا واو الحال قوله تعالى : (وَلا جُنُباً) أي ولا تصلوا جنبا إلا عابري سبيل ، استثناه من قوله : «جنبا». والمراد بعابري سبيل : المسافرين ؛ لأنه يجوز للجنب أن يتيمم في السفر عند عدم الماء.

وقيل : لا تقربوا مواضع الصلاة وهي المساجد ، ولا تقربوا منها جنبا إلا عابري سبيل ، فيجوز للجنب العبور في المساجد عند الحاجة.

المفردات اللغوية :

(لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ) لا تصلوا. (وَأَنْتُمْ سُكارى) جمع سكران وهو من شرب الخمر (جُنُباً) من أصابته الجنابة بالجماع أو إنزال المني. والجنب : يطلق على المفرد وغيره. (إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ) مجتازي طريق أي مسافرين. وقيل : المراد النهي عن قربان مواضع الصلاة ، أي المساجد إلا عبورها من غير مكث.

(مِنَ الْغائِطِ) المكان المنخفض من الأرض كالوادي ، والمراد المكان المعد لقضاء الحاجة ، وأهل البادية وبعض القرى يقضون حوائجهم في المنخفضات للستر عن أعين الناس. والقصد من قوله : أو جاء أحد منكم من الغائط : أي أحدث. (أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ) كناية عن الجماع في رأي

٧٩

ابن عباس ، وفي رأي ابن عمر والشافعي : بمعنى اللمس وهو الجس باليد ، وألحق به الجس بباقي البشرة.

(فَلَمْ تَجِدُوا ماءً) تتطهرون به للصلاة بعد الطلب والتفتيش في غير حال المرض. (فَتَيَمَّمُوا) اقصدوا. (صَعِيداً طَيِّباً) ترابا طاهرا فاضربوا به ضربتين. والصعيد : وجه الأرض. (عَفُوًّا) ذا عفو وهو محو السيئة وجعلها كأن لم تكن. (غَفُوراً) ذا مغفرة ، والمغفرة : ستر الذنب بعدم الحساب عليه.

سبب النزول :

نزول آية : (لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ) : روى أبو داود والترمذي والنسائي والحاكم عن علي قال : صنع لنا عبد الرحمن بن عوف طعاما ، فدعانا وسقانا من الخمر ، فأخذت الخمر منا ، وحضرت الصلاة ، فقدموني فقرأت : «قل : يا أيها الكافرون ، لا أعبد ما تعبدون ، ونحن نعبد ما تعبدون» فأنزل الله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ). وروى ابن جرير عن علي أن الإمام كان يومئذ عبد الرحمن ، وأن الصلاة صلاة المغرب ، وكان ذلك قبل أن تحرّم الخمر.

نزول آية : (فَتَيَمَّمُوا) : أخرج الفريابي وابن أبي حاتم وابن المنذر عن علي رضي‌الله‌عنه قال : نزلت هذه الآية وهي قوله تعالى : (وَلا جُنُباً) في المسافر تصيبه الجنابة ، فيتيمم ويصلي.

وأخرج ابن مردويه عن الأسلع بن شريك قال : كنت أرحّل ناقة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأصابتني جنابة في ليلة باردة ، فخشيت أن أغتسل بالماء البارد ، فأموت أو أمرض ، فذكرت ذلك لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأنزل الله : (لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى) الآية كلها.

وروى البخاري ومسلم من حديث مالك عن عائشة أنها قالت : خرجنا مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم في بعض أسفاره ، حتى إذا كنا بالبيداء أو بذات الجيش ، انقطع

٨٠