التفسير المنير - ج ٥

الدكتور وهبة الزحيلي

لكم ذلك للضرورة بشروط ، لما فيه من أضرار : بتعريض الولد للرّق ، ولأنهنّ ممتهنات مبتذلات ، خرّاجات ولّاجات ، وذلك ذلّ ومهانة يرثه الواد منهن ، ولأن حقّ المولى في الإماء أقوى من حقّ الزّوجية ، فله الحقّ باستخدامهنّ ، والسفر بهنّ وبيعهنّ ، وفي ذلك مشقّة عظيمة على الأزواج. جاء في مسند الدّيلمي عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الحرائر : صلاح البيت ، والإماء : هلاك البيت» ، وأخرج عبد الرزاق عن عمر رضي‌الله‌عنه أنه قال : «إذا نكح العبد الحرّة فقد أعتق نصفه ، وإذا نكح الأمة فقد أرقّ نصفه».

(وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي والله واسع المغفرة كثيرها ، فيغفر لمن لم يصبر عن نكاحهن ، وفي ذلك تنفير عنه ، ويغفر لمن صدرت منه هفوات كاحتقار الإماء المؤمنات ، وهو واسع الرّحمة كثيرها ؛ إذ رخّص في نكاح الإماء وأبان أحكام الشريعة.

فقه الحياة أو الأحكام :

أرشدت الآية إلى الأحكام التالية :

١ ـ الترخيص بنكاح الإماء لمن لم يجد الطّول : وهو السّعة والغنى ، والمراد هاهنا القدرة على المهر في قول أكثر أهل العلم ، منهم مالك والشافعي وأحمد. وقال أبو حنيفة : إنّ من عنده حرّة فلا يجوز له نكاح الأمة ، وإن عدم السّعة وخاف العنت ؛ لأنه طالب شهوة وعنده امرأة. وبه قال الطّبري واحتجّ له.

واختلف العلماء فيما يجوز للحرّ الذي لا يجد الطّول ويخشى العنت ، من نكاح الإماء ، فقال مالك وأبو حنيفة والزّهري : له أن يتزوّج أربعا ، وقال الشافعي وأبو ثور وأحمد وإسحاق : ليس له أن ينكح من الإماء إلا واحدة ؛ لقوله تعالى : (ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ) وهذا المعنى يزول بنكاح واحدة.

٢١

٢ ـ إيمان الأمة المتزوج بها : لقوله تعالى : (مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ) أي من مملوكاتكم المؤمنات. وفيه إشارة إلى خطاب المملوك بالفتى ، والمملوكة بالفتاة ، وفي الحديث الصحيح : «لا يقولنّ أحدكم عبدي وأمتي ، ولكن ليقل : فتاي وفتاتي».

فلا يجوز التزوّج بالأمة الكتابية ، وهو رأي الجمهور ، وقال الحنفية : نكاح الأمة الكتابية جائز ؛ لأن قوله : (الْمُؤْمِناتِ) على جهة الوصف الفاضل وليس بشرط ألا يجوز غيرها ، مثل قوله تعالى : (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً) [النساء ٤ / ٣] فإن خاف ألا يعدل فتزوّج أكثر من واحدة جاز ، ولكن الأفضل ألا يتزوّج ؛ فكذلك هنا الأفضل ألا يتزوّج إلا مؤمنة ، ولو تزوّج غير المؤمنة جاز ، واحتجّوا بالقياس على الحرائر ؛ لأنه لما لم يمنع قوله : (الْمُؤْمِناتِ) في الحرائر في مطلع الآية من نكاح الكتابيات ، فكذلك لا يمنع قوله : (الْمُؤْمِناتِ) في الإماء من نكاح الإماء الكتابيات.

٣ ـ سعة علم الله تعالى ورفع الحرج عن نكاح الإماء : دلّ قوله : (وَاللهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ) على أن الله عليم ببواطن الأمور ، ولكم ظواهرها ، وكلكم بنو آدم ، وأكرمكم عند الله أتقاكم ، فلا تستنكفوا من التزوّج بالإماء عند الضرورة ، وإن كانت حديثة عهد بسباء ، أو كانت خرساء وما أشبه ذلك ، ففي اللفظ إيماء على أنه ربما كان إيمان أمة أفضل من إيمان بعض الحرائر.

ويؤكد ذلك قوله تعالى : (بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ) أي أنتم من جنس واحد وإنكم بنو آدم ، أو أنتم مؤمنون. والمقصود بهذا الكلام توطئة نفوس العرب التي كانت تستهجن ولد الأمة وتعيّره وتسمّيه الهجين (١) ، فلما جاء الشرع بجواز نكاحها علموا أن ذلك التهجين لا معنى له.

__________________

(١) الهجين : الذي أبوه عربي وأمه أمة غير محصنة. وقال المبرد : ولد العربي من غير العربية.

٢٢

٤ ـ نكاح الأمة والعبد بإذن السيد : دلّ قوله تعالى : (فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَ) على أن نكاح الأمة مقيّد بإذن أربابهنّ المالكين ورضاهم ، وكذلك العبد لا ينكح إلا بإذن سيّده ؛ لأن العبد مملوك لا أمر له ، وبدنه كلّه مستغرق بخدمة سيّده. لكن نكاح العبد بغير إذن سيّده موقوف عند المالكية والحنفية ، فإن أجازه سيّده جاز ، وأما الأمة فيفسخ نكاحها ولم يجز بإجازة السيّد ؛ لأن نقصان الأنوثة في الأمة يمنع من انعقاد النكاح أصلا.

وقال الشافعي والأوزاعي وداود الظاهري : يفسخ نكاح العبد بغير إذن سيّده ؛ لأن العقد الفاسد لا تصح إجازته.

٥ ـ وجوب المهر : دلّ قوله تعالى : (وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَ) على وجوب المهر في النكاح ، وأنه للأمة ، وهو مذهب مالك ، لقوله تعالى : (بِالْمَعْرُوفِ) أي بالشرع والسّنّة ، وهذا يقتضي أنهنّ أحقّ بمهورهنّ من السّادة. وقال الشافعي : الصداق للسيّد ؛ لأنه عوض فلا يكون للأمة ؛ لأن الزواج إجازة المنفعة في الرقبة ، وإنما ذكرت الأمة ؛ لأن المهر وجب بسببها.

٦ ـ مقومات اختيار الأمة : (مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ) أي عفائف غير زوان أي معلنات بالزنى ، (وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ) أصدقاء على الفاحشة. وكانت العرب تعيب الإعلان بالزنى ، ولا تعيب اتّخاذ الأخدان ، ثم رفع الإسلام جميع ذلك ، بقوله تعالى : (وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ) [الأنعام ٦ / ١٥١] كما قال ابن عباس وغيره.

٧ ـ حدّ الأمة الزّانية : تحدّ الأمة إذا زنت خمسين جلدة ، وهي نصف عقوبة الحرّة الزّانية البكر ، سواء أكانت متزوجة أم غير متزوّجة. أما حدّ المتزوّجة فلقوله تعالى : (فَإِذا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ) [النساء ٤ / ٢٥] وإسلامها هو إحصانها في قول الجمهور ، فلا تحدّ كافرة

٢٣

إذا زنت ، وهو قول الشافعي فيما ذكر ابن المنذر. وقال آخرون : إحصانها التزوّج بحرّ ، فإذا زنت الأمة المسلمة التي لم تتزوّج فلا حدّ عليها ، وهو رأي سعيد بن جبير والحسن البصري وقتادة. وقالت فرقة : إحصانها التزوّج ، إلا أن الحدّ واجب على الأمة المسلمة غير المتزوّجة بالسّنّة ؛ كما في صحيح البخاري ومسلم أنه قيل : يا رسول الله ، الأمة إذا زنت ولم تحصن؟ فأوجب عليها الحدّ ، كما قال الزّهري. فالمتزوّجة محدودة بالقرآن ، والمسلمة غير المتزوّجة محدودة بالحديث.

والسبب في الاكتفاء بجلد الأمة المتزوّجة (الثيّب) : أنّ الرّجم الواجب على المحصنات (الحرائر) لا يتبعّض. والفائدة في نقصان حدهنّ أنهنّ أضعف من الحرائر.

وعقوبة العبد مثل عقوبة الأمة ، إذ الذكورة والأنوثة لا تؤدي إلى التفرقة في أحكام الأرقاء. ففي الآية ذكر حدّ الإماء خاصة ، ولم يذكر حدّ العبيد ، ولكن حدّ العبيد والإماء سواء : خمسون جلدة في الزنى ، وفي القذف. وفي شرب الخمر في رأي الجمهور غير الشافعية : أربعون. وعليه فإن الإماء يدخلن في قوله عليه الصّلاة والسّلام : «من أعتق شركا له في عبد قوّم عليه نصيب شريكه» (١) وهذا هو القياس في معنى الأصل ، أو قياس المساواة. ومنه قوله تعالى : (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ) [النور ٢٤ / ٤] يدخل فيه المحصنون قطعا.

هذا .. وأجمع العلماء على أن بيع الأمة الزّانية ليس بواجب لازم على سيّدها ، وإن اختاروا له ذلك ، لقوله عليه الصّلاة والسّلام : «إذا زنت أمة أحدكم ، فتبيّن زناها ، فليجلدها الحدّ ولا يثرّب عليها ، ثم إن زنت فليجلدها الحدّ ولا يثرّب عليها ، ثم إن زنت الثالثة فتبيّن زناها فليبعها ولو بحبل من شعر» (٢).

__________________

(١) رواه الجماعة (أحمد وأصحاب الكتب الستة) والدارقطني عن ابن عمر.

(٢) رواه مسلم عن أبي هريرة رضي‌الله‌عنه.

٢٤

وقال أهل الظاهر بوجوب بيعها في الرابعة ، لقوله : «فليبعها» ، فعند تبدل الملاك تختلف عليها الأحوال.

٨ ـ الصبر على العزبة خير من نكاح الأمة : دلّ قوله تعالى : (وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ) على أفضلية العزوبة وكراهية نكاح الأمة ؛ لأن زواج الأمة يفضي إلى إرقاق الولد (١) ، ومغالبة النفس وكبح جماحها والصبر على مكارم الأخلاق أولى من معاشرة الإماء. قال عمر رضي‌الله‌عنه : «أيّما حرّ تزوّج بأمة فقد أرقّ نصفه» يعني يصيّر ولده رقيقا. وقد سبق ذكر الأحاديث في ذلك.

وهذا يدلّ على أن العزل حقّ المرأة ؛ لأنه لو كان حقّا للرجل لكان له أن يتزوّج ويعزل ، فينقطع خوف إرقاق الولد في الغالب ، وبه قال مالك (٢).

أسباب الأحكام الشرعية السابقة

(يُرِيدُ اللهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٢٦) وَاللهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً (٢٧) يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً (٢٨))

__________________

(١) قال الفقهاء : إذا أحبل رجل حرّ أمة غيره بزنا أو نكاح ، فالولد رقيق. (السراج الوهاج : ص ٦٤٤).

(٢) أحكام القرآن لابن العربي : ١ / ٤٠٧.

٢٥

الإعراب :

(يُرِيدُ اللهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ) دخول اللام على المفعول المتأخر عن فعله المتعدي ضعيف أو ممتنع ، وقد خرجه النحاة على مذاهب : فمذهب سيبويه وجمهور البصريين : أن مفعول (يُرِيدُ) محذوف ، واللام للتعليل. وذهب بعض البصريين إلى أن الفعل مؤول بمصدر ، على حد «تسمع بالمعيديّ خير من أن تراه» والتقدير : إرادة الله كائنة للتبيين. وذهب الكوفيون : أنها اللام الناصبة للفعل ، وأنها تقوم مقام «أن» في فعل الإرادة والأمر ، فيقال : أردت أن تذهب ، وأردت لتذهب ، وأمرتك أن تقوم ، وأمرتك لتقوم. وفي التنزيل : (يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ) [الصف ٦١ / ٨] ، (وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ) [الأنعام ٦ / ٧١].

(وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً) منصوب على الحال.

المفردات اللغوية :

(سُنَنَ) طرائق ، جمع سنة : وهي الطريقة والشريعة. (الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) الأنبياء في التحليل والتحريم فتتبعوهم. (وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ) يرجع بكم عن معصيته التي كنتم عليها إلى طاعته. (أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ) يسهل عليكم أحكام الشرع. (وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً) عاجزا عن مخالفة نفسه وهواه.

المناسبة :

ذكر الله تعالى في هذه الآيات علل الأحكام السابقة المتعلقة بالبيوت والزواج وحكمها التي من أجلها شرعت ، كما هو الشأن في القرآن ، لتطمئن النفوس ، وتعلم الفائدة من تلك الأحكام ، وتقبل عليها ببواعث ذاتية ، ونفس رضية منشرحة لما تقوم به ؛ لأنها تحقق السعادة في الدّنيا والآخرة.

التفسير والبيان :

يريد الله بإنزال هذه الآيات أن يبيّن لكم التكاليف والأحكام الشرعية ، ويميز فيها الحلال من الحرام ، والحسن من القبيح ، ويرشد إلى ما فيه المصلحة ، ويهديكم إلى طرائق ومناهج الأنبياء والصالحين المتقدمين ، لتقتفوا آثارهم ،

٢٦

وتسيروا سيرتهم ، فالشرائع والتكاليف وإن كانت مختلفة باختلاف الأحوال والأزمان ، إلا أنها متفقة في مراعاة المصالح.

ويريد الله أيضا أن يقبل توبتكم من الإثم والمحارم ، أو يرشدكم إلى ما يمنع من المعاصي ، أو إلى ما يكفّرها ويسترها ويذهب أثرها.

والمختار عند المحققين أن الخطاب ليس عاما لجميع المكلفين ، بل لطائفة معينة قد تاب الله عليهم في نكاح الأمهات والبنات وسائر المنهيات المذكورة في الآيات السابقة ، وتابوا بالفعل ؛ لأنه لو كان عامّا لعارضه حالات أناس لم يتوافر عندهم المراد وهو التوبة.

والله ذو علم شامل لجميع الأشياء ، فيعلم ما شرع لكم وما سار عليه من قبلكم وما ينفع عباده المؤمنين وما يضرّهم ، وهو حكيم في شرعه وقدره وأفعاله وأقواله ، يراعي الحكمة والمصلحة ، ولا يكلّف بما فيه مشقة وضرر.

ثم أكد الله تعالى إرادته قبول التوبة وتطهيركم وتزكية نفوسكم ، وقارن بين تلك الإرادة المقترنة بالرحمة وبين إرادة الذين يتبعون الشهوات وهم الفسقة المنهمكون في المعاصي أو الزناة ، وقيل : اليهود والنصارى أو المجوس الذين كانوا يحلّون الأخوات وبنات الإخوة والأخوات ، فإنهم يريدون أن تميلوا مع أهوائهم ميلا عظيما ، أي تنحرفوا معهم عن الحقّ إلى الباطل.

ويريد الله بهذه الأحكام والتكاليف والشرائع والأوامر والنواهي التخفيف عنكم ، فأباح لكم نكاح الإماء عند الضرورة ، كما قال مجاهد وطاوس ، وهذا مثل قوله تعالى : (وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ) [الأعراف ٧ / ١٥٧] ، وقوله : (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) [البقرة ٢ / ١٨٥] ، وقوله : (وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ)

٢٧

[الحجّ ٢٢ / ٧٨] ، وقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «بعثت بالحنيفية السمحة» (١) ، لأنه تعالى وإن حرم علينا بعض النساء ، فقد أباح لنا أكثر النساء ، وهكذا الحلال أكثر من الحرام في كل شيء.

وأبان الله تعالى سبب التخفيف وهو : (وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً) أي يستميله الهوى والشهوة ، لا سيما في أمر النساء ، ويستثيره الخوف والحزن ، فهو عاجز عن مقاومة الأهواء ، وتحمل مشاق الطاعات ، لذا خفف الله عنه التكاليف ، ورخّص له بعض الأحكام.

ومن آفات الفسق تأثر أهل بيت الإنسان بالفسق والفجور ؛ لأنه قدوة لهم ، روى الطبراني عن جابر حديثا هو : «عفّوا تعفّ نساؤكم ، وبرّوا آباءكم تبرّكم أبناؤكم».

فقه الحياة أو الأحكام :

أخرج البيهقي في شعب الإيمان عن ابن عباس رضي‌الله‌عنهما أنه قال : ثماني آيات نزلت في سورة النساء هي خير لهذه الأمة مما طلعت عليه الشمس وغربت ، وعدّ هذه الآيات الثلاث : (يُرِيدُ اللهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ) إلى قوله : (وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً). والرابعة : (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ) [النساء ٤ / ٣١]. والخامسة : (إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ) [النساء ٤ / ٤٠]. والسادسة : (وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ يَجِدِ اللهَ غَفُوراً رَحِيماً) [النساء ٤ / ١١٠]. والسابعة : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) [النساء ٤ / ٤٨]. والثامنة : (وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ ، أُولئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ) [النساء ٤ / ١٥٢].

دلّت الآيات الثلاثة على ما يأتي :

__________________

(١) رواه الخطيب عن جابر ، وهو ضعيف.

٢٨

١ ـ سعة فضل الله ورحمته : إذ أنه تعالى يبيّن لخلقه أمر دينهم ومصالح دنياهم ، وما يحل لهم وما يحرم عليهم. وهو دليل على امتناع خلو واقعة عن حكم الله تعالى ، كقوله سبحانه : (ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ) [الأنعام ٦ / ٣٨].

٢ ـ ارتباط الماضي بالحاضر والمستقبل : إن منهج الاستقامة في العالم واحد ، فهو سبحانه أراد أن يبيّن لخلقه طرق الذين من قبلهم من أهل الحق وأهل الباطل.

٣ ـ التجاوز عن الذنوب : فهو تعالى يريد توبة العباد ، أي يقبلها ، فيتجاوز عن الذنوب.

٤ ـ التخفيف في جميع أحكام الشرع : يريد الله في تشريعه التخفيف عن الناس. وهذا على الصحيح في جميع أحكام الشرع ، وليس في نكاح الإماء فقط.

٥ ـ ضعف الإنسان : أي أن هواه يستميله ، وشهوته وغضبه يستخفانه ، وهذا أشد الضعف ، فاحتاج إلى التخفيف. ومن أبرز مظاهر ضعفه : أنه لا يصبر عن النساء. وكان عبادة بن الصامت وسعيد بن المسيّب رغم تقدّم السّنّ يخشيان على أنفسهما من فتنة النساء.

تحريم أكل المال بالباطل ومنع الاعتداء وإباحة التعامل بالتراضي

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً (٢٩) وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ عُدْواناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ ناراً وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً (٣٠))

٢٩

الإعراب :

(تِجارَةً) خبر تكون الناقصة ، واسمها مضمر فيها وتقديره : إلّا أن تكون التجارة تجارة.

وأن تكون : في موضع نصب على الاستثناء المنقطع. وعلى قراءة الرفع : فاعل تكون التامة ، ولا تفتقر إلى خبر.

(عُدْواناً وَظُلْماً) منصوبان على المصدر في موضع الحال ، كأنه قيل : ومن يفعل ذلك متعديا وظالما.

المفردات اللغوية :

(لا تَأْكُلُوا) أي لا تأخذوا ، وعبّر عن الأخذ بالأكل لأنه المقصود المهم. (بِالْباطِلِ) بالحرام في الشرع كالرّبا والقمار والغصب. (إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ) أي لكن أن تكون الأموال أموال تجارة صادرة عن طيب نفس ، فلكم أن تأكلوها.

(وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) أي لا يقتل بعضكم بعضا ، أو لا تقتلوا أنفسكم بارتكاب ما يؤدي إلى هلاكها ، أيّا كان في الدّنيا أو في الآخرة بقرينة.

(إِنَّ اللهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً) في منعه لكم من ذلك.

(عُدْواناً) تعديا على غيره مع القصد ، وتجاوزا مفرطا للحلال. (وَظُلْماً) هو تجاوز الحق بالفعل ، وهو تأكيد (نُصْلِيهِ ناراً) ندخله ونحرقه بالنار. (يَسِيراً) هيّنا.

المناسبة :

ذكر الله تعالى هنا قاعدة التعامل العام في الأموال ، بعد أن بيّن أحكام بعض المعاملات : وهي معاملة اليتامى ، وإعطاء شيء من أموال اليتامى إلى أقاربهم إذا حضروا القسمة ، ووجوب دفع مهور النساء.

والسبب واضح وهو أن المال قرين الرّوح ، والاعتداء عليه يورث العداوة ، بل قد يجرّ إلى الجرائم ، لذا أوجب الله تعالى تداوله بطريق التراضي لا بطريق الظلم والاعتداء.

٣٠

التفسير والبيان :

ينهى الله تعالى كل واحد من المؤمنين عن أكل مال غيره بالباطل ، وعن أكل مال نفسه بالباطل ؛ لأن قوله تعالى : (أَمْوالَكُمْ) يقع على مال نفسه ومال غيره ، فكل الأموال هي للأمة ، وأكل مال نفسه بالباطل : إنفاقه في المعاصي ، وأكل مال غيره بالباطل أي بأنواع المكاسب غير المشروعة كالرّبا والقمار والغصب والبخس ، فالباطل : ما يخالف الشرع. وقال ابن عباس والحسن البصري : هو أن يأكل بغير عوض ، فالباطل : ما يؤخذ بغير عوض.

ويشمل الأكل بالباطل : كل ما يؤخذ عوضا عن العقود الفاسدة أو الباطلة ، كبيع ما لا يملك ، وثمن المأكول الفاسد غير المنتفع به كالجوز والبيض والبطيخ ، وثمن ما لا قيمة له ولا ينتفع به كالقردة والخنازير والذباب والزنابير والميتة والخمر وأجر النائحة وآلة اللهو.

فمن باع بيعا فاسدا وأخذ ثمنه ، كان ثمنه حراما خبيثا وعليه ردّه.

وإذا لم يجز أكل المال بالباطل وهو غير المشروع والمأخوذ من عين أو منفعة ظلما من غير مقابل ، فيجوز أخذه بالتراضي الذي يقرّه الشرع ، لذا قال الله تعالى : (إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ) أي ولكن كلوا الأموال بالتجارة القائمة على التراضي ضمن حدود الشرع ، والتجارة تشمل عقود المعاوضات المقصود بها الربح ، وخصّها بالذّكر من بين أسباب الملك لكونها أغلب وقوعا في الحياة العملية ، ولأنها من أطيب وأشرف المكاسب ، وأخرج الأصبهاني عن معاذ بن جبل قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أطيب الكسب : كسب التجار الذين إذا حدثوا لم يكذبوا ، وإذا وعدوا لم يخلفوا ، وإذا ائتمنوا لم يخونوا ، وإذا اشتروا لم يذموا ، وإذا باعوا لم يمدحوا ، وإذا كان عليهم لم يمطلوا ، وإذا كان لهم لم يعسروا».

٣١

وليس كلّ تراض معترفا به شرعا ، وإنما يجب أن يكون التراضي ضمن حدود الشرع ، فالرّبا المأخوذ عن بيع فيه تفاضل أو بسبب قرض جرّ نفعا ، والقمار والرّهان وإن تراضى عليه الطّرفان حرام لا يحلّ شرعا.

وقوله تعالى : (وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) معناه في الظاهر النهي عن قتل المؤمن نفسه في حال غضب أو ضجر (وهو الانتحار) ، كقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فيما رواه الشيخان عن أبي هريرة ـ : «من قتل نفسه بحديدة ، فحديدته في يده يجأ بها بطنه يوم القيامة في نار جهنم ، خالدا مخلدا فيها أبدا».

ولكن اتفق جمهور المفسرين على أن معناه : لا يقتل بعضكم بعضا ، وإنما قال : (أَنْفُسَكُمْ) مبالغة في الزّجر ، كما قال في الأموال : (أَمْوالَكُمْ). جاء في الحديث : «المؤمنون كالنفس الواحدة» (١). ولا مانع أن تكون الآية نهيا عن قتل الإنسان نفسه وعن قتل الآخرين ، وعن كلّ ما يؤدي إلى الموت كتناول المخدرات والسموم الضارة والمجازفة في المهالك.

والسبب في إيراد هذه الآية هنا في مجال الكلام عن المعاملات المالية : أنه لما كان المال شقيق الروح من حيث إنه سبب قوامها وبه صلاحها ، حسن الجمع بين التوصية بحفظ المال والتوصية بحفظ النفس.

وقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً) تعليل للنهي السابق ، أي إنما ينهاكم عن أكل الحرام وإهلاك الأنفس ؛ لأنه لم يزل بكم رحيما.

ومما يدلّ على حرمة المجازفة بالنفس في المهالك قوله تعالى : (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) [البقرة ٢ / ١٩٥] ، وما أخرجه أحمد وأبو داود عن عمرو بن العاص رضي‌الله‌عنه أنه قال:

__________________

(١) نص الحديث : «المؤمنون كرجل واحد ، إن اشتكى رأسه اشتكى كله ، وإن اشتكى عينه اشتكى كله» رواه أحمد ومسلم عن النعمان بن بشير.

٣٢

لما بعثني النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عام ذات السلاسل ، احتلمت في ليلة باردة شديدة البرد ، فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك ، فتيممت ثم صليت بأصحابي صلاة الصبح ، فلما قدمت على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ذكرت ذلك له ، فقال : يا عمرو ، صليت بأصحابك وأنت جنب؟ قلت : نعم ، يا رسول الله ، إني احتلمت في ليلة باردة شديدة البرد ، فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك ، وذكرت قوله تعالى : (وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) الآية ، فتيممت ثم صليت ، فضحك رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولم يقل شيئا.

ففهم عمرو رضي‌الله‌عنه أن الآية تتناول بعمومها مثل حالته ، وأقرّه النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على ذلك.

ثم ذكر الله تعالى عقوبة قاتل الأنفس ، وهي أن من يفعل ذلك المحرم ـ وهو قتل النفس ؛ لأن الضمير المشار إليه يعود إلى أقرب مذكور ـ حال كونه معتديا ظالما ، عاقبه الله على جرمه في الآخرة ، بإدخاله نارا شديدة الإحراق ، وذلك الإدخال هيّن سهل على الله ، لا يمنعه منه مانع. وقد بيّنت أن العدوان : هو الإفراط في مجاوزة الحدّ ، وأن الظلم : هو الجور ومجاوزة الحدّ أو وضع الشيء في غير موضعه. وقيد الوعيد بذكر العدوان والظلم ليخرج منه فعل السهو والغلط.

فقه الحياة أو الأحكام :

دلّت الآيتان على الأحكام الشرعية الآتية :

١ ـ تحريم أكل الأموال بالباطل أي بغير حق ، وهو كل ما يخالف الشرع أو يؤخذ بغير عوض. وله أحوال كثيرة.

وعبّر بكلمة (أَمْوالَكُمْ) للإشارة إلى أن مال الفرد هو مال الأمة ، مع احترام الحيازة والملكية الخاصة وإباحة التصرف بالمملوك بحرية تامة ، ما لم يكن هناك ضرر بالأمة أو بالمصلحة العامة.

٣٣

وكذلك مال الأمة هو مال الفرد ، فعليه المحافظة على الأموال العامة كما يحافظ الشخص على أمواله الخاصة.

وهذا يومئ إلى وجوب التكافل الاجتماعي بين الفرد والأمة ، وبين الشخص والمجتمع ، فعلى الأمة ممثلة بالدولة إشباع حاجة الفرد عند الضرورة ، وعلى الفرد دعم الأمة بالإنفاق في سبيل الله والجهاد والمصالح العامة ، لتتمكن الأمة من الدفاع عن مصالح الأفراد ، وحماية البلاد والأموال والأشخاص.

ولكن ليس للمحتاج أن يأخذ شيئا من أموال الآخرين إلا بإذنهم ، صونا للأموال ، ومنعا للفساد والفوضى ، ومنعا لانتشار البطالة وشيوع روح الكسل بين الأشخاص.

٢ ـ إباحة جميع أنواع التجارات (أي عقود المعاوضات التي يقصد بها الربح) بشرط التراضي بين العاقدين. وذلك يشمل البيع والعطاء ، فكل معاوضة تجارة على أي وجه كان العوض ، إلا أن قوله (بِالْباطِلِ) أخرج منها كل عوض لا يجوز شرعا من ربا أو جهالة أو تقدير عوض فاسد كالخمر والخنزير ونحوهما ، وخرج منها أيضا كل عقد جائز لا عوض فيه ، كالقرض والصدقة وهبة التبرع.

روى ابن جرير الطبري عن ميمون بن مهران قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «البيع عن تراض ، والخيار بعد الصفقة ، ولا يحلّ لمسلم أن يغش مسلما» (١).

ومن تمام التراضي إثبات خيار المجلس ، الذي قال به الشافعي وأحمد والليث وغيرهم ، لما ثبت في الصحيحين : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «البيّعان بالخيار ما لم يتفرقا» وفي لفظ البخاري: «إذا تبايع الرجلان ، فكل واحد منهما بالخيار ما لم يتفرقا» يعني أن الآية مخصوصة بالحديث.

__________________

(١) حديث مرسل.

٣٤

ومن ذلك مشروعية خيار الشرط بعد العقد إلى ثلاثة أيام ، وحسبما يتبيّن فيه مال البيع ، ولو إلى سنة في القرية ونحوها في مشهور مذهب مالك رحمه‌الله.

ومن التراضي الضمني : بيع المعاطاة مطلقا فهو صحيح في رأي الجمهور غير الشافعي.

وأما الحنفية والمالكية فلم يقولوا بمشروعية خيار المجلس ؛ لأن الآية تقتضي حلّ التّصرف في المبيع بوقوع البيع عن تراض ، سواء أتفرق المتبايعان أم لم يتفرّقا ، فإن الذي يسمّى تجارة في عقد البيع إنما هو الإيجاب والقبول ، وليس التفرق والاجتماع من التجارة في شيء.

وخصص من التجارات أشياء إما بالقرآن وإما بالسنّة ، فالخمر والميتة والخنزير وسائر المحرّمات في الكتاب لا يجوز الاتّجار فيها ؛ لأن إطلاق لفظ التحريم يقتضي أن سائر وجوه الانتفاع محرمة ، ولأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم جعل النّهي عن الشّحوم نهيا عن أكل ثمنها ، ففي الحديث الصحيح : «لعن الله اليهود حرّمت عليهم الشحوم ، فباعوها وأكلوا ثمنها».

ونهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن بيع المنابذة والملامسة وبيع الحصاة وبيع العبد الآبق ، وبيع الغرر ، وبيع ما لم يقبض ، وبيع ما ليس عند الإنسان ، ونحوها من البيوع المجهولة أو المعقودة على غرر.

كلّ ذلك مخصوص من ظاهر قوله تعالى : (إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ).

٣ ـ الترغيب في التجارة : أباحت الآية التجارة ورغّبت فيها ، لشدة حاجة الناس إليها ، بدليل أن مدار حلّها على تراضي المتبايعين ، أما الغش والكذب والتدليس فيها فهي محرّمة.

٣٥

وفي الآية إيماء إلى أن جميع ما في الدّنيا من التجارة وما في معناها من قبيل الباطل الزائل الذي لا ثبات له ولا بقاء ، فلا ينبغي أن يشغل العاقل بها عن الاستعداد للآخرة ، لقوله تعالى : (رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ) [النور ٢٤ / ٣٧] ، وروى الدارقطني عن ابن عمر من قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «التاجر الصدوق الأمين المسلم مع النّبيين والصّدّيقين والشهداء يوم القيامة».

وفي الآية أيضا إشارة إلى أن معظم التجارات مشتملة على الأكل بالباطل ؛ للطمع في أخذ الأرباح الفاحشة ، ولزخرفة البضاعة بمختلف الأساليب ، ولاقترانها بالأيمان الكاذبة غالبا ، لذا فإنها تحتاج إلى المسامحة والصدقة ، قال عليه الصلاة والسلام ـ فيما رواه أبو داود والترمذي والنسائي عن قيس بن أبي غرزة ـ : «يا معشر التجار ، إن بيعكم هذا يحضره اللغو والكذب ، فشوّبوه بالصدقة» ويلاحظ أن الأكل من غير إذن من المشتريات في الأسواق قبل تمام الشراء لا يحل ، وفيه شبهة ، فربما لا يتم الشراء.

والجمهور على جواز الغبن في التجارة ، مثل أن يبيع رجل ياقوتة بدرهم ، وهي تساوي مائة ، فذلك جائز.

وقالت فرقة : الغبن إذا تجاوز الثلث مردود ، وإنما أبيح منه المتقارب المتعارف في التجارات ، وأما المتفاحش الفادح فلا. قال ابن وهب من أصحاب مالك رحمه‌الله : والأول أصح ، لقوله عليه الصلاة والسلام في حديث الأمة الزانية : «فليبعها ولو بضفير» أي بحبل ، وقوله عليه‌السلام لعمر : «لا تبتعه ـ يعني الفرس ـ ولو أعطاكه بدرهم واحد» وقوله عليه الصلاة والسلام فيما رواه الجماعة إلا البخاري عن جابر : «لا يبع حاضر لباد ، دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض» وليس فيه تفصيل بين القليل والكثير من ثلث وغيره.

٤ ـ التراضي أساس العقود : لقوله تعالى : (إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ

٣٦

مِنْكُمْ) أي عن رضى ، فلا يصح العقد بالإكراه أو الإجبار.

٥ ـ تحريم قتل النفس (الانتحار) وتحريم قتل أنفس الآخرين ، أجمع أهل التأويل على أن المراد بآية (وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) النهي أن يقتل بعض الناس بعضا. ثم لفظها يتناول أن يقتل الرجل نفسه بقصد منه للقتل ، في الحرص على الدنيا وطلب المال ، بأن يحمل نفسه على الغرر المؤدي إلى التلف. ويحتمل أن يقال : (وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) في حال ضجر أو غضب ، فهذا كله يتناوله النهي.

٦ ـ عقوبة القتل وأكل المال بالباطل : دلت آية : (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ ..) على تحريم قتل النفس ؛ لأنه أقرب مذكور ، وربما دل على تحريم كل ما سبق من أكل المال بالباطل وقتل النفس ؛ لأن النهي عنهما جاء عقبهما ، ثم ورد الوعيد بحسب النهي. وقيل : هو عام على كل ما نهي عنه من القضايا ، من أول السورة إلى قوله تعالى : (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ). وقال الطبري : (ذلِكَ) عائد على ما نهي عنه من آخر وعيد ، وذلك قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً) [الآية ١٩] لأن كل ما نهي عنه من أول السورة قرن به وعيد ، إلا قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ ..) فإنه لا وعيد بعده إلا قوله : (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ عُدْواناً).

جزاء اجتناب الكبائر

(إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً (٣١))

٣٧

الإعراب :

(مُدْخَلاً) مصدر أدخل ، ومن قرأ بالفتح جعله مصدر دخل. ويجوز أن يكون (مُدْخَلاً) اسم المكان المدخول ، والمراد به هاهنا الجنة.

المفردات اللغوية :

(تَجْتَنِبُوا) تتركوا الشيء جانبا ، واجتناب الشيء : تركه والابتعاد عنه ، كأنه ترك جانبه وناحيته (كَبائِرَ) جمع كبيرة : وهي المعصية العظيمة : وهي التي ورد عليها وعيد أو حد في القرآن أو السنة كالقتل والزنى والسرقة ، وهي سبعون كبيرة كما في كتاب الكبائر للذهبي ، وعن ابن عباس : هي إلى السبعمائة (نُكَفِّرْ) نغفر ونمح (سَيِّئاتِكُمْ) صغائركم ، وغفرانها ومحوها بالطاعات (مُدْخَلاً كَرِيماً) بضم الميم : إدخالا ، وبفتحها : موضعا أو مكانا كريما أي طيبا وهو الجنة.

المناسبة :

نهى الله سبحانه وتعالى فيما سبق عن أكل أموال الناس بالباطل وعن قتل النفس بغير حق ، وتوعد على ذلك بنار جهنم ، ثم نهى في هذه الآية نهيا عاما عن كل كبيرة ، ووعد الممتثل بالجنة.

التفسير والبيان :

إن اجتنبتم وابتعدتم عن كبائر الآثام التي نهيتم عنها ، كفّرنا عنكم صغائر الذنوب ، وأدخلناكم الجنة.

ما المقصود بالكبائر والصغائر؟

اتفق جمهور العلماء على أن الذنوب نوعان : كبائر وصغائر.

والكبائر : هي كل معصية اقترنت بالوعيد الشديد أو أوجبت الحد. وقيل : إنها سبع ؛ لما ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «اجتنبوا السبع الموبقات ، قالوا : وما هي يا رسول الله؟ قال : الشرك بالله ، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق ، والسحر ، وأكل الربا ، وأكل مال اليتيم ،

٣٨

والتولي يوم الزحف ، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات». ورويت روايات أخرى تجعل من الكبائر عقوق الوالدين ، وشهادة الزور ؛ لأن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يذكر في كل مقام ما يناسبه ، وليس ذلك للحصر.

وقيل : تسع ، وقيل : عشر ، وقيل : أكثر ، فقد روى عبد الرزاق عن ابن عباس أنه قيل له : هل الكبائر سبع؟ فقال : هي إلى السبعين أقرب. وروى سعيد بن جبير أنه قال : إلى السبعمائة أقرب.

أما الصغائر أو السيئات : فهي التي لم تقترن بوعيد شديد أو بحدّ ، كالنظر إلى المرأة الأجنبية والقبلة. وتصبح الصغائر مع الإصرار والاستهتار كبائر ، فتطفيف الكيل والميزان ، والهمز واللمز (الطعن في كرامات الناس) لمن أصرّ عليه ، كبيرة.

واجتناب الكبائر يكفّر الصغائر بشرطين : أولا ـ إذا كان الاجتناب مع القدرة والإرادة ، كمن يأبى معاشرة امرأة دعته إلى نفسها ، خوفا من الله ، لا لشيء آخر. وثانيا ـ مع إقامة الفرائض ، روى مسلم عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الصلوات الخمس ، والجمعة إلى الجمعة ، ورمضان إلى رمضان مكفّرات ما بينهن إذا اجتنبت الكبائر» فمن اجتنب ترك الصلاة واجتنب الكبائر ، كفرت سيئاته الصغائر ، فدل الحديث على أن ترك إقامة الصلاة من الكبائر.

ويمكن تكفير المعاصي التي تحدث عن جهل أو لظرف طارئ كثورة أو غضب بالندم والتوبة.

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت الآية على أن في الذنوب كبائر وصغائر ، وعلى هذا جمهور الفقهاء والمفسرين.

٣٩

ودلت أيضا على أن الله تعالى يغفر الصغائر كاللمسة والنظرة باجتناب الكبائر ، لكن بضميمة أخرى إلى الاجتناب وهي إقامة الفرائض ، كما بينت في تفسير الآية. عن قتادة : (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ) : إنما وعد الله المغفرة لمن اجتنب الكبائر ، وذكر لنا أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «اجتنبوا الكبائر ، وسددوا ، وأبشروا».

ورأى الأصوليون : أنه لا يجب على القطع تكفير الصغائر باجتناب الكبائر ، وإنما محمل ذلك على غلبة الظن ، وقوة الرّجاء ، وكون المشيئة الإلهية ثابتة.

والكبيرة كما قال ابن عباس : كل ذنب ختمه الله بنار أو غضب أو لعنة أو عذاب. وقال ابن مسعود : الكبائر : ما نهى الله عنه في هذه السورة إلى ثلاث وثلاثين آية ، وتصديقه قوله تعالى : (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ).

وقال طاوس : قيل لابن عباس كما تقدم : الكبائر سبع؟ قال : هي إلى السبعين أقرب. وقال سعيد بن جبير : قال رجل لابن عباس : الكبائر سبع؟ قال : هي إلى السبعمائة أقرب منها إلى السبع ؛ غير أنه لا كبيرة مع استغفار ، ولا صغيرة مع إصرار.

ومن أمثلة الكبائر : الشرك بالله ، والكفر بآيات الله ورسله ، والسحر ، وقتل الأولاد ، ومن ادعى لله ولدا أو صاحبة ، وقتل النفس بغير الحق ، والزنى ، واللواطة ، والقمار ، وشرب الخمر ، والسرقة ، وأخذ المال غصبا ، والقذف ، وأكل الربا ، والإفطار في رمضان بلا عذر ، واليمين الفاجرة ، وقطع الرحم ، وعقوق الوالدين ، والفرار من الزحف ، وأكل مال اليتيم ، والخيانة في الكيل والوزن ، وتقديم الصلاة على وقتها ، وتأخيرها عن وقتها بلا عذر ، وضرب المسلم بلا حق ، والكذب على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عمدا ، وسب أصحابه ،

٤٠