التفسير المنير - ج ٥

الدكتور وهبة الزحيلي

ثم حذر الله المؤمنين من معاونة الخونة أو التعاطف معهم فقال : يا من جادلتم عن الخوانين ، وحاولتم تبرئتهم في الدنيا ، من يجادل الله عنهم يوم القيامة ، حين يكون الحاكم هو الله تعالى المحيط بأعمالهم وأحوالهم ، ومن يجرأ أن يكون عنهم وكيلا بالخصومة (محاميا)؟ فعلى المؤمنين مراقبة الله والاستعداد للجواب في ذلك الموقف الرهيب أمام الله تعالى : (يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ) [الانفطار ٨٢ / ١٩].

وبعبارة أخرى : هبوا أنكم خاصمتم عن طعمة وقومه في الدنيا ، فمن يخاصم عنهم في الآخرة ، إذا أخذهم الله بعذابه ، ومن هو المستعد أن يكون عنهم وكيلا أي حافظا ومحاميا من بأس الله وانتقامه؟

وفي هذا توبيخ وتقريع لمن أرادوا مساعدة طعمة على اليهودي ، وفيه دلالة أيضا على أن حكم الحاكم ينفذ في الظاهر فقط ، لا في الباطن ، أي لا يحل للمحكوم له الحرام ، ولا يجيز له أن يأخذ شيئا علم أنه لا حق له فيه.

ثم رغب الله تعالى في التوبة فقال : ومن يعمل ذنبا قبيحا يسوء به غيره ، أو يظلم نفسه بمعصية كالحلف الكاذب ، ثم يطلب من الله المغفرة على ذنبه ، يجد الله غفورا للذنوب ، رحيما بأهل العيوب ، تفضلا منه وإحسانا.

وفي ذلك ترغيب لطعمة وقومه بالتوبة والاستغفار ، وبيان للمخرج من الذنب ، وتحذير لأعداء الحق الذين يحاولون طمس الحقائق وهدم صرح العدل.

ثم حذر الله تعالى من ارتكاب الذنوب والمعاصي بنحو عام فقال : ومن يرتكب ما يوجب الإثم من المعاصي ، فإن إجرامه وعمله وبال على نفسه وضرر على شخصه ، لا يتعدى إلى غيره ؛ لأنه هو الذي يعاقب على فعله. وكان الله تعالى وما يزال واسع العلم بأفعال الناس ، فشرع لهم ما يمنعهم عن تجاوز شرائعه ، وهو أيضا عظيم الحكمة بتشريعه العقاب لمرتكب الإثم.

٢٦١

ومن عظائم الجرائم أن يفعل الإنسان ذنبا خطأ بلا قصد أو مع علمه بأنه ذنب ، ثم يتهم به شخصا بريئا ، فهذا هو البهتان أي افتراء الكذب ، ويكون مرتكبا جريمتين : كسبه الإثم الذي يجعله آثما ، ورميه البريء الذي يصفه بأنه باهت.

ثم أبان الله تعالى حمايته لنبيه فقال : ولو لا فضل الله عليك ورحمته أي عصمته وألطافه وما أوحى إليك من الاطلاع على سرهم ، لهمت طائفة من بني ظفر أن يصرفوك عن القضاء بالحق وتوخي طريق العدل ، مع علمهم بأن الجاني هو صاحبهم.

أي لو لا فضل الله عليك بالنبوة ، والتأييد بالعصمة ، ورحمته لك ، ببيان حقيقة الواقع ، لهمت طائفة منهم أن يصرفوك عن الحكم العادل ، ولكن محاولاتهم باءت بالفشل ، إذ جاءك الوحي ببيان الحق.

وهم في الحقيقة بانحرافهم عن طريق الحق والاستقامة لا يضلون إلا أنفسهم ؛ لأن الوزر عليهم فقط ووباله ملحق بهم ، وهم لا يضرونك شيئا ؛ لأنك عملت بظاهر الحال ، وما كان يخطر ببالك أن الحقيقة على خلاف ذلك ، والله يعصمك من الناس ومن اتباع الهوى في الحكم بينهم ومن كل مكروه.

والله أنزل عليك الكتاب أي القرآن ، والحكمة أي فقه مقاصد الشريعة وفهم أسرارها ، وعلمك من الكتاب والشريعة ، وإفهام الحقائق ما لم تكن تعلم قبل ذلك من خفيات الأمور ، وضمائر القلوب ، وأمور الدين والشريعة.

وكان فضل الله عليك عظيما ؛ إذ أرسلك للناس كافة ، وجعلك خاتم النبيين ، وشهيدا عليهم يوم القيامة ، وعصمك من الناس ، وجعل أمتك أمة وسطا عدولا ، فاشكر الله على ذلك ، ولتشكر أمتك تلك النعم ، حتى تكون خير أمة أخرجت للناس ، وقدوة حسنة للآخرين.

٢٦٢

فقه الحياة أو الأحكام :

تضمنت الآيات طائفة من الأحكام :

١ ـ تفويض الحكم إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليقضي بين الناس بالحق والعدل حسبما علّمه الله وأوحى إليه ، سواء بالنص الصريح أو بالاجتهاد والرأي المعتمد على أصول التشريع.

٢ ـ تأنيب طعمة بن أبيرق ومن آزره من قومه ، وكانوا ثلاثة إخوة : بشر وبشير ومبشّر ، وأسير بن عروة ابن عمّ لهم ؛ لأنهم تعاونوا معه على الباطل لتبرئته من تهمة السرقة : سرقة أدراع وطعام من رفاعة بن زيد في الليل ، ومحاولة إلصاق التهمة بيهودي اسمه : زيد بن السمين.

٣ ـ القانون الذي يحكم به : هو (بِما أَراكَ اللهُ) معناه على قوانين الشرع ؛ إما بوحي ونصّ ، أو بنظر جار على سنن الوحي. وهذا أصل في القياس ، وهو يدل على جواز الاجتهاد للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وعلى أنه في رأي القرطبي إذا رأى شيئا أصاب ؛ لأن الله تعالى أراه ذلك ، وقد ضمن الله تعالى لأنبيائه العصمة ؛ فأما أحدنا إذا رأى شيئا فلا قطع فيما رآه.

٤ ـ دل قوله تعالى : (وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً) على أن النيابة أو الوكالة عن المبطل والمتهم في الخصومة لا تجوز ، فلا يجوز لأحد أن يخاصم عن أحد إلا بعد أن يعلم أنه محقّ ، وقد نهى الله عزوجل في هذه الآية رسوله عن معاضدة أهل التهم والدفاع عنهم بما يقوله خصمهم من الحجة.

٥ ـ قال العلماء : لا ينبغي إذا ظهر للمسلمين نفاق قوم أن يجادل فريق منهم فريقا عنهم ، ليحموهم ويدافعوا عنهم ؛ فإن هذا قد وقع على عهد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وفيهم نزل قوله تعالى : (وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً) وقوله : (وَلا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ).

٢٦٣

والخطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والمراد منه الذين كانوا يفعلونه من المسلمين ، بدليل ما ذكر بعده : (ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ جادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) ولأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان حكما فيما بينهم ، ولذلك كان يعتذر إليه ولا يعتذر هو إلى غيره ، فدل على أن القصد لغيره.

٦ ـ قوله تعالى : (وَاسْتَغْفِرِ اللهَ) دل على أن الأنبياء صلوات الله عليهم قد يؤمرون بالاستغفار مما ليس ذنبا ، كالهمّ بتقديم الدفوع عن بني أبيرق ومعاقبة اليهودي بقطع يده ، وهو دفاع وعمل بالظاهر لاعتقاده براءتهم. وهذا من قبيل «حسنات الأبرار سيئات المقربين».

وقيل : الأمر بالاستغفار للمذنبين من أمتك والمتخاصمين بالباطل ، وقيل : هو أمر بالاستغفار على طريق التسبيح ، كالرجل يقول : أستغفر الله ، على وجه التسبيح من غير أن يقصد توبة من ذنب. وقيل : الخطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمراد بنو أبيرق ، كقوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللهَ) [الأحزاب ٣٣ / ١] ، (فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍ) [يونس ١٠ / ٩٤].

٧ ـ قوله تعالى : (وَلا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ) نهي صريح عن الدفاع عن الخونة ، أي لا تحاجج عن الذين يخونون أنفسهم. والمجادلة : المخاصمة. والله لا يرضى عن الخائن أو الخوّان ـ الذي هو من صيغ المبالغة ؛ لعظم قدر تلك الخيانة.

٨ ـ الإنسان قاصر النظر ، محدود التفكير ، سطحي المواقف : فتراه إذا حاول ارتكاب ذنب يستتر ويستحي من الناس ، ولا يستتر ولا يستحي من الله ، والله أحق أن نخشاه وأن نستحي منه ؛ لأن المصير إليه ، وبيده وحده الجزاء.

٩ ـ الحقائق تنكشف بنحو واضح قاطع يوم القيامة في عالم الحساب بين

٢٦٤

يدي الله : فإذا جادل الوكيل بالخصومة (المحامي) لتبرئة المتهم في الحياة الدنيا ، فمن الذي يستطيع المرافعة والدفاع والجدال عن أهل الباطل يوم القيامة؟ وهو استفهام معناه الإنكار والتوبيخ.

ومن يكون وكيلا عليهم ، أي قائما بتدبير أمورهم؟ فالله تعالى قائم بتدبير خلقه ، ولا أحد لهم يقوم بأمرهم إذا أخذهم الله بعذابه وأدخلهم النار.

١٠ ـ باب التوبة للعصاة والمذنبين مفتوح : لقوله تعالى : (وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ، ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ ، يَجِدِ اللهَ غَفُوراً رَحِيماً) قال ابن عباس : عرض الله التوبة على بني أبيرق بهذه الآية.

١١ ـ وبال الذنب وعاقبته على المذنب نفسه : لقوله تعالى : (وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْماً) ـ أي ذنبا ـ (فَإِنَّما يَكْسِبُهُ عَلى نَفْسِهِ) أي عاقبته عائدة عليه ، وضرره راجع إليه ؛ لأنه المتضرر في الحقيقة في الدنيا بالتعرض للمصائب ، وفي الآخرة لعذاب جهنم.

والكسب : ما يجرّ به الإنسان إلى نفسه نفعا أو يدفع عنه به ضررا. ولهذا لا يسمى فعل الرب تعالى كسبا.

١١ ـ البهتان جريمة عظمي : وهو إلقاء التهمة واختلاق الكذب على البريء ، أو هو أن

تستقبل أخاك بأن تقذفه بذنب وهو منه بريء.

قال تعالى : (وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ، ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً ، فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً) فيه تشبيه ، إذ الذنوب ثقل ووزر ، فهي كالمحمولات. وقد قال تعالى : (وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ) [العنكبوت ٢٩ / ١٣].

قال الطبري : إنما فرق بين الخطيئة والإثم : أن الخطيئة تكون عن عمد وعن غير عمد ، والإثم لا يكون إلا عن عمد.

٢٦٥

١٢ ـ إن محاولة إضلال النبي تبوء بالفشل : لعصمة الله إياه ، ولفضله عليه ورحمته به ، قال تعالى : (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ) ـ بأن نبهك على الحق ، أو بالنبوة والعصمة ـ (لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ) عن الحق ؛ لأنهم سألوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يبرئ ابن أبيرق من التهمة ويلحقها باليهودي ، ولا يفعل هذا إلا منافق كما أوضحت ، فتفضل الله عزوجل على رسوله عليه‌السلام بأن نبّهه على ذلك وأعلمه إياه. (وَما يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ) لأنهم يعملون عمل الضالين ، فوباله راجع عليهم (وَما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ) لأنك معصوم.

١٣ ـ أنزل الله على نبيه القرآن ، والحكمة : القضاء بالوحي وفهم أسرار الشريعة وعلمه ما لم يكن يعلم من الشرائع والأحكام.

حالات النجوى الخيّرة وعقاب معاداة الرسول واتباع غير

سبيل المؤمنين (الإجماع)

(لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (١١٤) وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً (١١٥))

الإعراب :

(لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ) : إن جعلت النجوى بمعنى المناجاة ، كان

٢٦٦

(مَنْ أَمَرَ) في وضع نصب على الاستثناء المنقطع ، وإن جعلت بمعنى الجماعة الذين يتناجون كان (مِنْ) في موضع جر على البدل من الهاء والميم في (نَجْواهُمْ) وهو بدل بعض من كل.

المفردات اللغوية :

(نَجْواهُمْ) النجوى : المسارّة بالحديث أو السر بين اثنين ، أي لا خير في كثير من نجوى الناس أي ما يتناجون فيه ويتحدثون إلا نجوى من أمر بصدقة أو معروف (عمل بر) أو إصلاح بين الناس. ويصح كونه جمع نجي بمعنى جماعة المتناجين ، أي المتسارّين (أَوْ مَعْرُوفٍ) ما يقره الشرع والعقل الصحيح وتتلقاه النفوس بالقبول (ابْتِغاءَ) طلب (مَرْضاتِ اللهِ) لا غيره من أمور الدنيا.

(وَمَنْ يُشاقِقِ) يعادي ويخالف ، كأن كل واحد من المتعاديين يكون في شق.

سبب النزول :

نزلت في تناجي أهل طعمة بن أبيرق ليلا بالفساد وتعاونهم على الشر وإلصاق تهمة السرقة باليهودي. وروي أن طعمة لما حكم عليه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالقطع ، هرب إلى مكة ، وارتد عن الإسلام ، ومات مشركا ، فنزلت الآية : (وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ ...) الآية.

المناسبة :

موضوع الآيتين متصل بما قبلهما وهو أمر الذين يختانون أنفسهم ، ويستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهم طعمة بن أبيرق ومساعدوه الذين تآمروا في السر لإيقاع البريء بالسرقة ، فبيّن الله تعالى هنا أن كل حديث سري أو تدبير خفي أو مناجاة لا خير فيه إلا ما كان بقصد التعاون أو الأمر بالمعروف أو الإصلاح ، ثم ذكر الله تعالى أن مخالفة أمر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم واتباع غير سبيل جماعة المؤمنين جرم عظيم يستوجب دخول نار جهنم.

٢٦٧

التفسير والبيان :

لا خير في كثير من كلام الناس وتناجيهم كجماعة طعمة إلا إذا كان التناجي في أحد أمور ثلاث :

١ ـ الأمر بالصدقة لإعانة المحتاج ومواساة الفقير والمسكين.

٢ ـ الأمر بالمعروف : وهو ما تعارف عليه الشرع من كل ما فيه مصلحة عامة أو خير عام.

٣ ـ الإصلاح بين الناس في خصوماتهم ومنازعاتهم.

وذلك كما جاء في حديث رواه ابن مردويه والترمذي وابن ماجه عن أم حبيبة قالت : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كلام ابن آدم كله عليه ، لا له ، إلا ذكر الله عزوجل ، أو أمر بمعروف ، أو نهي عن منكر» وروى الإمام أحمد عن أم كلثوم بنت عقبة أنها سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس ، فينمي خيرا ؛ أو يقول خيرا» وقالت : لم أسمعه يرخص في شيء مما يقوله الناس إلا في ثلاث : في الحرب ، والإصلاح بين الناس ، وحديث الرجل امرأته ، وحديث المرأة زوجها». وروى أحمد عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أفضل الصدقة إصلاح ذات البين» وروى أبو بكر البزار والبيهقي عن أنس أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لأبي أيوب : «ألا أدلك على تجارة؟» قال : بلى يا رسول الله ، قال : «تسعى في إصلاح بين الناس إذا تفاسدوا ، وتقارب بينهم إذا تباعدوا».

وإنما قال : (فِي كَثِيرٍ) لأن من النجوى ما يكون في المباحات والمصالح الخاصة من زراعة وتجارة وصناعة وغيرها ، فلا توصف بالشر ، ولا هي مقصودة من الخير. وإنما المراد بالنجوى الكثير المنفي عنها صفة الخير هي النجوى في شؤون الناس.

٢٦٨

والله تعالى جعل النجوى مظنة الإثم والشر غالبا ، فقال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَناجَيْتُمْ ، فَلا تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ ، وَتَناجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوى ، وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) [المجادلة ٥٨ / ٩].

وثبت عن ابن عمر أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال فيما يرويه مالك والشيخان : «إذا كان ثلاثة ، فلا يتناجى اثنان دون واحد ، فإن ذلك يحزنه» وهو ضرر ، والضرر لا يحل بإجماع.

والسبب في اتصاف النجوى بالشر كثيرا : أن العادة جرت بحب إظهار الخير ، وأن الشر والإثم هو الذي يذكر في السر ، وتتم المؤامرات سرا ، قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الإثم : ما حاك في النفس ، وتردد في الصدر ، وكرهت أن يطلع عليه الناس» (١).

وخيرية الأمور الثلاثة المذكورة في الآية إنما تكون في السر لا في الجهر ؛ لقوله تعالى : (إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمَّا هِيَ ، وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) [البقرة ٢ / ٢٧١].

ثم ذكر الله تعالى الثواب المقرر على فعل تلك الأعمال الثلاثة فذكر : ومن يفعل هذه الأعمال الثلاثة ، بقصد إرضاء الله وطاعة أمره ، مخلصا في ذلك ، محتسبا ثواب فعله عند الله عزوجل ، فإن الله سيؤتيه ثوابا جزيلا كثيرا واسعا.

وبعد هذا الوعد بالخير والجزاء الحسن على أحوال النجوى الخيّرة أوعد الله الذين يتناجون بالشر ويدبرون المكائد للناس ويعلنون اعتزالهم عن الجماعة ومعاداتهم الرسول ، فقال : ومن يخالف الرسول ويعاديه ، ويسلك غير طريق

__________________

(١) أخرجه أحمد والدارمي بإسناد حسن عن وابصة بن معبد ، ومطلعه : «البر : ما اطمأنت إليه النفس ، واطمأن إليه القلب ، والإثم ...».

٢٦٩

الشريعة التي جاء بها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بارتداده عن الإسلام ، وإظهار عداوته لرسول الهداية وسنته ، ويتبع سبيلا غير سبيل جماعة المؤمنين ، يوله الله ما تولى ، أي يجعله واليا لها وسائرا على طريقها ، ومستحسنا لها استدراجا له ، وتاركا له يتخبّط في مهاوي الضلالة ، كما قال تعالى : (فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ ، سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ) [القلم ٦٨ / ٤٤] وقال : (فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ) [الصف ٦١ / ٥] وقال : (وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ) [الأنعام ٦ / ١١٠].

ويجعل الله النار مصيره في الآخرة ، وساء المصير مصيره ؛ لأن من خرج عن الهدى لم يكن له طريق إلا إلى النار يوم القيامة ، كما قال تعالى : (احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ) [الصافات ٣٧ / ٢٢] وقال : (وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ ، فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها ، وَلَمْ يَجِدُوا عَنْها مَصْرِفاً) [الكهف ١٨ / ٥٣].

وفي هذا إشارة واضحة إلى أن من يتجه بنفسه في طريقة أو وجهة يتوجه إليها ويرضاها لنفسه ، يتركه الله وشأنه ، ويكون عقابه أمرا منتظرا وعادلا ؛ لاختياره طريق الشر ، وبعده عن منهج الاستقامة.

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت الآيتان على ما يأتي :

١ ـ لا خير في كثير من نجوى الناس سرا ، أو من كلام الجماعة المنفردة أو كلام الاثنين ، سواء كان ذلك سرا أو جهرا إلا نجوى ثلاثة : من أمر بصدقة ، ففيها عون الفقير والمسكين والمحتاج الذي لا يطلع على حاجته إلا القليل من الناس. ومن أمر بالمعروف ، والمعروف : لفظ يعم أعمال البرّ كلّها ، قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كل معروف صدقة ، وإن من المعروف : أن تلقى أخاك بوجه طلق» (١) وقال

__________________

(١) أخرجه أحمد وأبو داود والنسائي والترمذي وابن ماجه عن جابر بن عبد الله.

٢٧٠

أيضا : «المعروف كاسمه ، وأول من يدخل الجنة يوم القيامة المعروف وأهله»

ومن أمر بإصلاح بين الناس ، والإصلاح عام في الدماء والأموال والأعراض ، وفي كل شيء يقع الاختلاف فيه بين الناس ، وفي كل كلام يراد به وجه الله تعالى. فأما من طلب الرياء والترؤس ، فلا ينال الثواب. كتب عمر إلى أبي موسى الأشعري رضي‌الله‌عنه : «ردّ الخصوم حتى يصطلحوا ، فإن فصل القضاء يورّث بينهم الضغائن». وقال أنس بن مالك رضي‌الله‌عنه : من أصلح بين اثنين أعطاه الله بكل كلمة عتق رقبة. وهذه الآية نظير قوله تعالى : (وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما) [الحجرات ٤٩ / ٩] الآية ، وقوله : (فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً ، وَالصُّلْحُ خَيْرٌ) [النساء ٤ / ١٢٨] وقوله عن الحكمين: (إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللهُ بَيْنَهُما) [النساء ٤ / ٣٥].

٢ ـ إن معاداة الرسول ومخالفته وترك الإسلام أو الردة عنه ، ومخالفة طريق المسلمين تحجب عن مرتكبها عناية الله ورعايته ، وتجعله يتخبط في دياجير الظلام والضلال ، وتجعله مقودا بنفسه وهواه ، وتوجب له الدخول في نار جهنم ، وساءت مصيرا يصير إليه هذا المنحرف. ونظير هذه الآية : (إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ) [المجادلة ٥٨ / ٢٠] يعني أن يصير في حد غير حد الرسول وهو مباينته في الاعتقاد والديانة.

٣ ـ قال العلماء وعلى رأسهم الإمام الشافعي : في قوله تعالى : (وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى ، وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ ..) دليل على صحة القول بالإجماع ، أي اتفاق المجتهدين من أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد وفاته في عصر من العصور على حكم شرعي ؛ لأنه تعالى قرن اتباع غير سبيل المؤمنين إلى مباينة الرسول فيما ذكر له من الوعيد ، فدل على صحة إجماع الأمة ، لإلحاقه

٢٧١

الوعيد بمن اتبع غير سبيل المؤمنين (١).

٤ ـ قوله : (نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى) إخبار عن براءة الله منه ، وأنه يكله إلى ما تولى من الأوثان والأديان الباطلة ، واعتضد به ، ولا يتولى الله نصره ومعونته (٢).

٥ ـ قوله : (مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى) تغليظ في الزجر عنه ، وتقبيح لحاله وتبيين للوعيد فيه ؛ إذ كان معاندا بعد ظهور الآيات والمعجزات الدالة على صدق الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٣).

الشرك وعاقبته والشيطان وشروره

وجزاء الإيمان والعمل الصالح

(إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً (١١٦) إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ إِناثاً وَإِنْ يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطاناً مَرِيداً (١١٧) لَعَنَهُ اللهُ وَقالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً (١١٨) وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الْأَنْعامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ

__________________

(١) تفسير القرطبي : ٥ / ٣٨٦ ، أحكام القرآن للجصاص : ٢ / ٢٨١

(٢) الجصاص : المرجع والمكان السابق.

(٣) الجصاص : المكان السابق.

٢٧٢

الشَّيْطانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْراناً مُبِيناً (١١٩) يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلاَّ غُرُوراً (١٢٠) أُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَلا يَجِدُونَ عَنْها مَحِيصاً (١٢١) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً وَعْدَ اللهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ قِيلاً (١٢٢))

الإعراب :

(أُولئِكَ) مبتدأ. (مَأْواهُمْ) مبتدأ ثان. (جَهَنَّمُ) خبر المبتدأ الثاني ، والجملة خير الأول.

البلاغة

يوجد جناس مغاير في (ضَلَّ ... ضَلالاً) وفي (خَسِرَ ... خُسْراناً).

المفردات اللغوية :

(إِنْ يَدْعُونَ) إن نافية بمعنى ما أي ما يعبد المشركون أو يتوجهون ويطلبون المعونة ، وهذا نوع من العبادة (إِلَّا إِناثاً) أصناما مؤنثة كاللات والعزى ومناة. (وَإِنْ يَدْعُونَ) ما يعبدون بعبادتها (إِلَّا شَيْطاناً مَرِيداً) متمرنا على الخبث ، خارجا عن الطاعة ، لطاعتهم له فيها وهو إبليس ، والشيطان : هو الخبيث المؤذي من الجن والإنس. والمراد من قوله : (مَرِيداً) أنه مرن على الإغواء والإضلال ، أو تمرد واستكبر عن الطاعة ، فالمريد : العاتي المتمرد. (لَعَنَهُ اللهُ) أبعده عن رحمته وطرده مع السخط والإهانة. (لَأَتَّخِذَنَ) لأجعلن لي. (نَصِيباً) حظا. (مَفْرُوضاً) مقطوعا أو معينا ثابتا أدعوهم إلى طاعتي.

(وَلَأُضِلَّنَّهُمْ) عن الحق بالوسوسة ولأدفعنهم إلى الضلال والفساد. (وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ) ألقي في قلوبهم طول الحياة أن لا بعث ولا حساب ، وأزين لهم الأماني الباطلة. (فَلَيُبَتِّكُنَ) يقطعن آذان الأنعام لأجل تمييزها وتخصيصها للآلهة. (فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللهِ) دينه بالكفر ، وإحلال ما حرم وتحريم ما أحل. (وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطانَ وَلِيًّا) يتولاه ويطيعه. (مِنْ دُونِ اللهِ) أي غيره. (خُسْراناً مُبِيناً) بينا ، لمصيره إلى النار المؤبدة عليه.

٢٧٣

(يَعِدُهُمْ) طول العمر (وَيُمَنِّيهِمْ) نيل الآمال في الدنيا وأن لا بعث ولا جزاء. (وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ) بذلك (إِلَّا غُرُوراً) باطلا. (مَحِيصاً) مهربا ومخلصا ومعدلا بذلك.

المناسبة :

الآية الأولى متصلة بما قبلها في قصة طعمة الذي ارتد ، فإنه لو لم يرتد لم يكن محروما من رحمة الله ، فإن كل ذنب قابل للمغفرة إلا ذنب الشرك. قال العلماء عن آية (وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ) [النساء ٤ / ١١٥] وعن آية : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ) هاتان الآيتان نزلتا بسبب ابن أبيرق السارق ، لما حكم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالقطع ، وهرب إلى مكة وارتد. قال سعيد بن جبير : لما صار إلى مكة نقب بيتا بمكة ، فلحقه المشركون فقتلوه ؛ فأنزل الله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) إلى قوله : (فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً).

وقال الضحاك : قدم نفر من قريش المدينة ، وأسلموا ثم انقلبوا إلى مكة مرتدين ، فنزلت هذه الآية : (وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ) والمشاقة : المعاداة.

والآية وإن نزلت في سارق الدرع أو غيره ، فهي عامة في كل من خالف طريق المسلمين(١).

وأما الآيات التي بعدها فمناسبة لما قبلها ، ففي هذه الآيات عقد الله تعالى مقارنة بين جريمة الشرك وخطرها ، وأعمال الشيطان ولعنته وعقابه ، والإيمان والعمل الصالح وجزائهما ؛ لأن الشيطان يدعو إلى الشرك وعبادة الأوثان ، وفي مواجهة ذلك صرح الإيمان الراسخ الذي لا يتأثر أهله بنزعات الشياطين في أصل الاعتقاد ، وإن تأثروا أحيانا بها في بعض أعمال الشر ، وهذا تحذير وترغيب.

__________________

(١) تفسير القرطبي : ٥ / ٣٨٥

٢٧٤

التفسير والبيان :

إن الله لا يغفر الشرك بالله أصلا ، ولا لمن يشرك به أحدا سواه ، ولكنه قد يغفر ما دون الشرك من الذنوب ، فلا يعذبهم عليه ، ومن يشرك بالله شيئا ، فقد ضل وبعد عن سبيل الرشاد ضلالا بعيدا في مهاوي الغواية ، وسلك غير الطريق الحق ، وضل عن الهدى ، وبعد عن الصواب ، وأهلك نفسه وخسرها في الدنيا والآخرة وفاتته السعادة فيهما ؛ لأن الشرك ضلال يفسد العقل ، ويكدّر صفاء الروح ، ويكون المشرك عبدا للأوهام والخرافات. فالشرك : هو منتهى فساد الروح وضلال العقول ، ووكر الخرافات والأباطيل ، قال الله تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْداداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ ، وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ) [البقرة ٢ / ١٦٥].

وقد تقدم إيراد هذه الآية ، وأعيدت هنا تأكيدا لاقتلاع آثار الشرك من النفوس المريضة ، ودحض الشرك وهدم طقوسه من مقاصد الإسلام الأساسية ، فهو الواجهة المضادة أصلا لعقيدة الإسلام : عقيدة التوحيد. ولا عيب في هذا التكرار للتأكد من غرس الإيمان بالله ، والتحذير من مغبة الشرك وخطره وخروجه عن أساس الفطرة ومقتضيات العقل السليم.

روى الترمذي عن علي رضي‌الله‌عنه أنه قال : ما في القرآن آية أحب إليّ من هذه الآية : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) ثم قال الترمذي : هذا حسن غريب.

ومغفرة ما دون الشرك من الذنوب بسبب بقاء نور الإيمان ، وهو مشروط بمشيئة الله ، فهو يغفر لمن يشاء من عباده ، كما يغفر بالتوبة والإنابة إليه ، فذلك سبيل محو الذنوب.

وأما أولئك المشركون فهم لا يعبدون أو لا يتوجهون بقضاء حوائجهم إلا إلى

٢٧٥

الأموات أو الموتى التي لا تضر ولا تنفع ، أو إلى الأصنام الإناث (١) كاللات والعزى ومناة ، فقد كان لكل قبيلة صنم يسمونه : أنثى بني فلان ، أو إلى الملائكة الذين يقول عنهم المشركون بنات الله : (وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً) [الزخرف ٤٣ / ١٩].

وهم في الواقع ما يعبدون إلا شيطانا عاتيا مرد على الإيذاء وتمرن على الخبائث ؛ إذ هو الذي أمرهم بعبادتها ، فكانت طاعتهم له عبادة.

(لَعَنَهُ اللهُ) أي طرده وأبعده من رحمته وفضله مع الذل والهوان ، فإنه داعية الشر والفساد والباطل بما يوسوس في صدر الإنسان.

ومن غلو الشيطان ودعوته إلى الفساد أنه أقسم : (لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً) أي لأجعلن تلامذة لي جزءا معينا مقدرا معلوما من الناس ، مثل قوله تعالى حكاية عنه : (وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) [الحجر ١٥ / ٣٩ ـ ٤٠].

ولأضلّنهم ، أي أصرفنهم عن الحق ، وعن الاعتقاد الصحيح.

ولأمنينّهم ، أي أزين لهم اللذات وترك التوبة ، وأعدهم الأماني ، وآمرهم بالتسويف والتأخير ، وأغريهم من أنفسهم.

ولآمرنهن بالضلال فليقطّعن آذان الأنعام ، أي تشقيقها ووسمها وجعلها متميزة خالصة للأصنام ، كالبحيرة التي يتركون الحمل عليها ، والسائبة الناقة التي يسيبونها للأصنام إذا ولدت عشرة أبطن كلهن إناث ، فلم تركب ولم يشرب لبنها إلا ولدها أو الضعيف ، والوصيلة التي ولدت جديا وعناقا ، فيقولون : وصلت

__________________

(١) قال الحسن : الإناث : كل شيء ميت ليس فيه روح ، إما خشبة يابسة وإما حجر يابس.

٢٧٦

أخاها ، فلا يذبحون أخاها من أجلها ، ولا تشرب لبنها النساء ، وكان للرجال ، وجرت مجرى السائبة.

ولآمرنّهم فليغيرن خلق الله بخصي الدواب ، والوشم في الوجه ونحوهما مما فيه تشوية الفطرة وتغييرها عما فطرت عليه ، ثبت في الصحيح عند أحمد وأصحاب الكتب الستة عن ابن مسعود أنه قال : «لعن الله الواشمات والمستوشمات ، والنامصات والمتنمصات ، والمتفلجات للحسن ، المغيرات خلق الله عزوجل» ثم قال : ألا ألعن من لعن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهو في كتاب الله عزوجل ، يعني قوله : (وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ ، وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) [الحشر ٥٩ / ٧].

وقال جماعة من المفسرين : تغيير خلق الله معناه دين الله عزوجل ، كقوله تعالى : (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً ، فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها ، لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ) [الروم ٣٠ / ٣٠] وكما ثبت في الصحيحين : «كل مولود يولد على الفطرة ، فأبواه يهوّدانه ، أو ينصرانه ، أو يمجّسانه ، كما تولد البهيمة جمعاء ، هل تجدون بها من جدعاء» (١).

ومن يتخذ الشيطان وليا يتولى أمره وإماما يقتدي به ، فقد خسر خسرانا ظاهرا في الدنيا والآخرة ، بل إنه خسرهما في الواقع ، وتلك خسارة لا جبر لها ، ولا استدراك لفائتها ، وأي خسران أعظم من ترك هدي القرآن واتباع أساليب الشيطان؟!

الشيطان يعد أولياءه الباطل ، ويمنيهم بما هو كاذب ، يعدهم بالفقر والمرض والتخلف عن ركب التقدم إذا أنفقوا شيئا من أموالهم في سبيل الله ، ويعدهم الغنى والثروة بالقمار مثلا ، ويمنيهم بأنهم الفائزون في الدنيا والآخرة ، وقد كذب وافترى في ذلك.

__________________

(١) الجمعاء : السليمة الأعضاء ، والجدعاء : مقطوعة الأنف أو الأذن أو اليد أو الشفة.

٢٧٧

وما يعدهم الشيطان إلا غرورا أي باطلا يغترون به ، فيزين لهم النفع في بعض الأشياء كالزنى والقمار وشرب الخمر ، وهي مشتملة على كثير من المضار والشرور والآلام ، كما قال تعالى مخبرا عن إبليس يوم القيامة : (وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ : إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ ، وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي) [إبراهيم ١٤ / ٢٢].

أولئك المستحسنون لما وعدهم الشيطان ومنّاهم مصيرهم ومآلهم جهنم يوم القيامة ، ولا يجدون عنها مهربا يفرون إليه ، أي ليس لهم مندوحة ولا مصرف ، ولا خلاص ، ولا مناص ، يتهافتون فيها تهافت الفراش على النار.

ثم ذكر الله تعالى حال السعداء والأتقياء وما لهم من الكرامة التامة فقال : والذين آمنوا : صدقوا بالله ورسله وكتبه واليوم الآخر ورضوا بقضائه ، وعملوا الصالحات ، أي الأعمال الطيبة وما أمروا به من الخيرات ، وتركوا ما نهوا عنه من المنكرات ، سيدخلهم الله جنات تجري من تحتها الأنهار بما اشتملت عليه من ألوان النعيم المقيم ، ويصرفونها حيث شاءوا وأين شاءوا ، وهم ماكثون مقيمون فيها على الدوام ، بلا زوال ولا انتقال ، وذلك هو الفوز العظيم الأسمى الذي تطمح إليه النفوس.

وهو وعد حق لا شك فيه ، أي هذا وعد من الله ، ووعد الله واقع لا محالة ، ولهذا أكده بالمصدر الدال على تحقيق الخبر ، وهو قوله «حقا» فهو القادر على كل شيء ، وهو الواسع الكرم والرحمة والفضل ، وأما وعد الشيطان فهو غرور من القول وزور.

ثم قال الله تعالى : (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ قِيلاً) أي لا أحد أصدق منه قولا ، أي خبرا ، لا إله إلا هو ، ولا رب سواه.

وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول في خطبته فيما رواه الترمذي وغيره : «إن أصدق

٢٧٨

الحديث كلام الله ، وخير الهدي هدي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وشر الأمور محدثاتها ، وكل محدثة بدعة ، وكل بدعة ضلالة ، وكل ضلالة في النار».

فقه الحياة أو الأحكام :

في الآيات دلالة على ما يأتي :

١ ـ قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) رد على الخوارج ؛ حيث زعموا أن مرتكب الكبيرة كافر. وقد ذكرت حديثا عن علي أن هذه الآية أحب آي القرآن لديه. وأجمع المالكية وغيرهم من أهل السنة على أنه لا تخليد إلا للكافر ، وأن الفاسق من أهل القبلة إذا مات غير تائب ، فإنه إن عذب بالنار ، فلا محالة أنه يخرج منها بشفاعة الرسول ؛ أو بابتداء رحمة من الله تعالى.

وقال الضحاك : إن شيخا من الأعراب جاء إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا رسول الله ، إني شيخ منهمك في الذنوب والخطايا ، إلا أني لم أشرك بالله شيئا منذ عرفته وآمنت به ، فما حالي عند الله؟ فأنزل الله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ ، وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ).

٢ ـ وصف الله الأصنام بالإناث إيماء إلى الضعف ، فقوله تعالى : (إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِناثاً) نزل في أهل مكة إذ عبدوا الأصنام ، وهي إناث كاللات والعزّى ومناة ، وكان لكل حي صنم يعبدونه ويقولون : أنثى بني فلان ، فخرج الكلام مخرج التعجب ؛ لأن الأنثى من كل جنس أخسه ، فهذا جهل ممن يشرك بالله جمادا ، فيسميه أنثى ، أو يعتقده أنثى.

وقيل : (إِلَّا إِناثاً) مواتا ؛ لأن الموات لا روح له ، كالخشبة والحجر.

وقيل : (إِلَّا إِناثاً) ملائكة ؛ لقولهم : الملائكة بنات الله ، وهي شفعاؤنا عند الله.

٢٧٩

٣ ـ إطاعة الشيطان عبادة له : فقوله تعالى : (وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطاناً مَرِيداً) يريد إبليس ؛ لأنهم إذا أطاعوه فيما سوّل لهم ، فقد عبدوه. ونظيره في المعنى : (اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ) [التوبة ٩ / ٣١] أي أطاعوهم فيما أمروهم به ، لا أنهم عبدوهم.

٤ ـ اللعنة على إبليس : هي في العرف إبعاد مقترن بسخط وغضب ، ولعنة الله على إبليس على التعيين جائزة ، وكذلك على سائر الكفرة الموتى كفرعون وهامان وأبي جهل ، فيجوز لعن الكفار جملة من غير تعيين ، جزاء على الكفر وإظهار قبح كفرهم ، ويجوز أيضا لعن الظالمين ، لقوله تعالى : (أَلا لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ) [هود ١١ / ١٨] ويجوز إجماعا لعن العاصي مطلقا لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما رواه أحمد والشيخان والنسائي وابن ماجه عن أبي هريرة : «لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده» وهذا كله دون تعيين.

٥ ـ تلامذة الشيطان هم الكفرة والعصاة ، فهؤلاء الذين يستخلصهم الشيطان بغوايته ، ويضلهم بإضلاله. وفي الخبر : «من كل ألف واحد لله ، والباقي للشيطان» وبعث النار الذي أخبر عنه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في صحيح مسلم : هو نصيب الشيطان.

٦ ـ وسائل الشيطان : هي الإضلال (الصرف عن طريق الهدى) وزرع التمنيات الباطلة طوال الحياة بإمهال الخير والتوبة ، والمعرفة مع الإصرار على المعصية ، وتقطيع آذان الأنعام وجعل علامات عليها للأصنام ، وتغيير أصل الخلقة تغييرا حسيا كالخصاء وفقء الأعين وقطع الآذان ونحو ذلك مما فيه تعذيب الحيوان ، أو تغييرا معنويا كتغيير الاعتقاد ، والتحريم والتحليل بالطغيان. أخرج مسلم عن عياض بن حمار قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «قال الله عزوجل : إني خلقت عبادي حنفاء ، فجاءتهم الشياطين ، فاجتالتهم عن دينهم ، وحرمت عليهم ما أحللت لهم».

٢٨٠