التفسير المنير - ج ٥

الدكتور وهبة الزحيلي

فيكثر منها النشوز لأتفه الأسباب ، ثم إن للرجل حقّ مفارقة المرأة بالطلاق دون العكس ، فلا يكون لها سبيل عليه إذا بدت منه أمارات الفرقة وعلامات الكراهية.

ودلّ قوله تعالى : (وَالصُّلْحُ خَيْرٌ) على أن أنواع الصّلح كلها مباحة في هذه المسألة بإعطاء أحدهما للآخر مالا ، أو بتنازل المرأة عن حقّها في المبيت مطلقا أو لمدة معينة أو لفترة طويلة. بل إن الآية تدلّ على جواز الصّلح في غير أحوال النزاع بين الزوجين إلا ما خصّه الدّليل ، وهو يدلّ على جواز الصّلح عن إنكار والصّلح من المجهول ، كما قال الجصاص (١) ؛ لأن وقوع الجملة اعتراضا وجريانها مجرى الأمثال ، مما يرجّح كون اللفظ عاما. وقال القرطبي أيضا : (وَالصُّلْحُ خَيْرٌ) لفظ عام مطلق يقتضي أن الصّلح الحقيقي الذي تسكن إليه النفوس ويزول به الخلاف خير على الإطلاق. ويدخل في هذا المعنى الصّلح بين الرّجل وامرأته في مال أو وطء أو غير ذلك (٢).

وأخبر الله تعالى بقوله : (وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَ) بأن الشّحّ في كلّ أحد ، وأن الإنسان لا بدّ أن يشحّ بحكم خلقته وجبلّته ، حتى يحمل صاحبه على بعض ما يكره. والشّح إذا أدّى إلى منع الحقوق الشرعية أو التي تقتضيها المروءة فهو البخل وهي رذيلة.

ودلّ قوله تعالى : (وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا) وهو خطاب للأزواج على أن للزوج أن يشحّ ولا يحسن ، أي إن تحسنوا وتتّقوا في عشرة النساء بإقامتكم عليهنّ مع كراهيتكم لصحبتهنّ واتّقاء ظلمهنّ فهو أفضل لكم.

أما العدل المرفوع من دائرة التكاليف فهو الذي لا يخضع لسلطة الإنسان

__________________

(١) أحكام القرآن : ١ / ٢٨٣

(٢) تفسير القرطبي : ٥ / ٤٠٦

٣٠١

وإرادته ، وإنما يكون من أمور الجبلّة البشرية التي لم يكلّفنا الله عزوجل بشيء منها كالحبّ والكراهية ، فهذا غير مستطاع ، وهو داخل في تمام العدل وكماله ، وهو الذي أخبر تعالى عنه أنه محال ، قال أئمة التفسير من السّلف الصالح كابن عباس وقتادة ومجاهد وأبي عبيدة وغيرهم : إن العدل الذي أخبر الله عنه أنه غير مستطاع : هو التّسوية بين الزوجات في الحبّ القلبي وميل الطباع ، ومعلوم أن ذلك غير مقدور. فالعدل المقصود في هذه الآية هو العدل في المحبّة القلبية فقط ، وإلا لتعارضت الآية مع الآية السابقة : (فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى ...).

وأما العدل المأمور به الذي جعل شرطا في جواز تعدد الزوجات أو الجمع بينهن فهو التسوية بينهن فيما يقدر عليه المكلف ، ويملكه ، مثل التسوية بينهن في القسم والنفقة والكسوة والسكنى وما يتبع ذلك من كل ما يملك ويقدر عليه.

ويترتب عليه أنه لا تجب التسوية بين النساء في المحبة ، فإنها لا تملك ، وكانت عائشةرضي‌الله‌عنها كما تقدّم أحبّ نسائه إليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وأخذ منه أنه لا تجب التسوية بينهن في الوطء ؛ لأنه موقوف على المحبة والميل ، وهي بيد مقلّب القلوب.

ولكن لا يصح اتّخاذ الميل سببا للظلم ، لقوله تعالى : (فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ) قال مجاهد : لا تتعمدوا الإساءة ، بل الزموا التسوية في القسم والنفقة ، لأن هذا مما يستطاع.

وينبغي صون كرامة المرأة واحترام شخصيتها وعدم إلجائها إلى الانحراف ، لقوله تعالى : (فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ) أي لا هي مطلّقة ولا ذات زوج. وهذا تشبيه بالشيء المعلّق من شيء ؛ لأنه لا على الأرض استقرّ ، ولا على ما علّق عليه انحمل.

٣٠٢

وبعد أن رغّب الله في الصلح بين الزوجين وحثّ عليه ، ذكر في قوله : (وَإِنْ يَتَفَرَّقا يُغْنِ اللهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ) جواز الفرقة إذا لم يكن منها بدّ ، وطيّب الله خاطر كلّ من الزوجين ، ووعد كلّ واحد منهما بأنه سيغنيه عن الآخر ، إذا كان القصد من الفرقة هو التّخوّف من ترك حقوق الله التي أوجبها ، فليحسنا الظنّ بالله ، فقد يقيض للرجل امرأة تقرّ بها عينه ، وللمرأة من يوسّع عليها.

وروي عن جعفر بن محمد أن رجلا شكا إليه الفقر ، فأمره بالنّكاح ، فذهب الرجل وتزوّج ، ثم جاء إليه وشكا إليه الفقر ، فأمره بالطّلاق ؛ فسئل عن هذه الآية فقال : أمرته بالنّكاح لعله من أهل هذه الآية : (إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) [النور ٢٤ / ٣٢] ، فلما لم يكن من أهل تلك الآية أمرته بالطلاق فقلت : فلعله من أهل هذه الآية : (وَإِنْ يَتَفَرَّقا يُغْنِ اللهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ)(١).

ثم ختم الله الآية بأنه كان وما يزال غنيّا كافيا للخلق ، حكيما متقنا في أفعاله وأحكامه. وهذا نصّ صريح على أن الله هو مصدر الرزق والغنى والسعة ، وأنه متكفّل بأرزاق العباد ، وأن حكمته سامية عالية في كلّ شيء خلقا وإبداعا ، وتشريعا وحكما ، وتصرّفا وجزاء.

لله حقيقة الملك في الكون وكمال القدرة والمشيئة

وثواب الدّنيا والآخرة للمجاهد

(وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ

__________________

(١) تفسير القرطبي : ٥ / ٤٠٨

٣٠٣

اتَّقُوا اللهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكانَ اللهُ غَنِيًّا حَمِيداً (١٣١) وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً (١٣٢) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكانَ اللهُ عَلى ذلِكَ قَدِيراً (١٣٣) مَنْ كانَ يُرِيدُ ثَوابَ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللهِ ثَوابُ الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَكانَ اللهُ سَمِيعاً بَصِيراً (١٣٤))

الإعراب :

(مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللهَ) وإياكم : ضمير منفصل منصوب عطفا على (الَّذِينَ) وهو مفعول وصينا ، والتقدير : ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب وإياكم بأن اتّقوا الله. وحذف حرف الجر من (أَنِ). أو تكون (أَنِ) المفسّرة ؛ لأن التوصية في معنى القول.

المفردات اللغوية :

(وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) أي أمرنا اليهود والنصارى في كتبهم ، والكتاب : اسم جنس يتناول الكتب السماوية. (وَإِيَّاكُمْ) يا أهل القرآن. (اتَّقُوا اللهَ) خافوا عقابه بأن تطيعوه. (وَإِنْ تَكْفُرُوا) وقلنا لهم ولكم : إن تكفروا بما وصيتم به (فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) خلقا وملكا وعبيدا فلا يضرّه كفركم. (وَكانَ اللهُ غَنِيًّا) عن خلقه وعن عبادتهم. (حَمِيداً) محمودا في صنعه بهم ، سواء حمده الناس أو لم يحمدوه. (وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) كرر الجملة تأكيدا لتقرير موجب التقوى (وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً) قيّما حافظا شهيدا بأن ما فيهما له.

المناسبة :

لما أمر الله تعالى بالعدل والإحسان إلى اليتامى والضعفاء ، أوضح أنه ما أمر بهذه الأفعال لحاجته إلى أعمال العباد ؛ لأن كلّ ما في السموات والأرض ملكه ،

٣٠٤

فهو غنيّ عنهم وقادر على إغنائهم ، ولكن ليحمل العباد على أعمال الخير والبرّ.

التفسير والبيان :

يخبر الله تعالى أنه مالك السموات والأرض وأنه الحاكم فيهما ، وأن جميع ما فيهما لله ملكا وخلقا وإيجادا وتصريفا وعبيدا ، له الحكم المطلق.

ولقد أمرنا من قبلكم من اليهود والنصارى وغيرهم بما أمرناكم ، ووصيناهم بما وصيناكم به من تقوى الله عزوجل بعبادته وحده لا شريك له ، وإقامة سننه وشريعته.

وإن تكفروا نعم الله وإحسانه ، فإن الله مالك الملك لا يضرّه كفركم وعصيانكم ، كما لا ينفعه شكركم وتقواكم ، وقد أوصى بهما لرحمته ، لا لحاجته. وقوله : (وَإِنْ تَكْفُرُوا) عطف على (اتَّقُوا) لأن المعنى أمرناهم وأمرناكم بالتقوى ، وقلنا لهم ولكم : إن تكفروا فإن لله الملك ، والمعنى ـ كما قال الزمخشري (١) ـ : إن لله الخلق كله ، وهو خالقهم ومالكهم ، والمنعم عليهم بأصناف النعم كلها ، فحقّه أن يكون مطاعا في خلقه غير معصيّ ، يتّقون عقابه ، ويرجون ثوابه ، ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من الأمم السالفة ووصيناكم أن اتّقوا الله ، يعني أنها وصية قديمة ما زال يوصي الله بها عباده ، لستم بها مخصوصين ؛ لأنهم بالتقوى يسعدون عنده ، وبها ينالون النجاة في العاقبة ، وقلنا لهم ولكم : وإن تكفروا فإن لله في سمواته وأرضه من الملائكة والثقلين من يوحّده ويعبده ويتّقيه.

وكان الله بذاته غنيّا عن خلقه وعن كل شيء وعن عبادتهم جميعا ، مستحقّا لأن يحمد بذاته وكمال صفاته لكثرة نعمه ، وإن لم يحمده أحد منهم ، قال الله

__________________

(١) الكشاف : ١ / ٤٢٨ ـ ٤٢٩

٣٠٥

سبحانه : (ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ ، إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ) [الذّاريات ٥١ / ٥٧ ـ ٥٨].

ثمّ كرر القول للتأكيد : ولله ما في السموات وما في الأرض خلقا وملكا يتصرّف فيهما كيف شاء إيجادا وإعداما ، إحياء وإماتة ، وكفى بالله وكيلا ، أي قيّما وحافظا وكفيلا لأمور العباد في أرزاقهم وسائر شؤونهم.

قال الزمخشري : تكرير قوله : ما في السموات وما في الأرض : تقرير لما هو موجب تقواه ، ليتّقوه فيطيعوه ولا يعصوه ؛ لأن الخشية والتّقوى أصل الخير كله (١).

ثم هدّد تهديدا عامّا صريحا فقال :

إن يشأ يذهبكم أيها الناس ويأت بآخرين ، أي إن يرد إفناءكم وإيجاد قوم آخرين بدلا عنكم ، فهو قادر على ذلك ؛ لأن كل شيء في السموات والأرض تحت قبضته وخاضع لسلطانه ، وكان الله على ذلك من الإعدام والإيجاد بليغ القدرة ، لا يمتنع عليه شيء أراده.

وهذا غضب على المشركين الذين كانوا يؤذون النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويقاومون دعوته ، وتخويف وبيان لاقتداره على الإذهاب والتّبديل إذا عصيتموه ، كما قال : (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ، ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ) [محمد ٤٧ / ٣٨] ، قال بعض السّلف : ما أهون العباد على الله إذا أضاعوا أمره. وقال تعالى : (إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ ، وَما ذلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ) [إبراهيم ١٤ / ١٩ ـ ٢٠] أي وما هو عليه بممتنع.

ثم قال تعالى : (مَنْ كانَ يُرِيدُ ثَوابَ الدُّنْيا ...) أي من كان بسعيه وعمله

__________________

(١) المرجع السابق : ص ٤٢٩

٣٠٦

وجهاده يريد ثواب الدّنيا أي نعيمها بالمال والجاه ونحوهما ، فعند الله ثواب الدّنيا والآخرة ، كالمجاهد الذي يريد بجهاده الغنيمة ، فما له يطلبها فقط وهي خسيسة ، بل عليه أن يطلب خيري الدّنيا والآخرة ، فيأخذ الغنيمة وينال الجنة إن جاهد لله خالصا ، والمعنى : فعند الله ثواب الدّنيا والآخرة له إن أراده ، فعليه أن يرجو ثوابهما معا. وفي هذا إيماء إلى أن الدين يهدي أهله لسعادتي الدّنيا والآخرة ، وأن تلك الهداية من فضله تعالى ورحمته ، ولو استقام المسلمون على أوامر ربّهم وهدي دستورهم لظلّوا سادة العالم.

وهي نظير قوله تعالى : (فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ : رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً ، وَقِنا عَذابَ النَّارِ. أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا) [البقرة ٢ / ٢٠٠ ـ ٢٠٢] ، وقال تعالى : (مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ ، وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها ، وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ) [الشورى ٤٢ / ٢٠] ، وقال تعالى : (مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ) ـ إلى قوله ـ (انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ) [الإسراء ١٧ / ١٨ ـ ٢١].

ثم ختم الله الآية بقوله : (وَكانَ اللهُ سَمِيعاً بَصِيراً) أي كان الله وما يزال سميعا لأقوال عباده ، بصيرا بكل قصد وعمل ، فعليهم أن يراقبوه في الأقوال والأفعال.

فقه الحياة أو الأحكام :

المستفاد من هذه الآيات هو معرفة ثوابت الأخبار الدائمة في الوحي الإلهي منذ بدء الخليقة ، وفي كل ملة ودين ، ولكل العاملين والمجاهدين في سبيل الله ، وهي ما يأتي :

١ ـ لله ملك السموات والأرض ملكا وخلقا وتصرفا وسلطانا.

٣٠٧

٢ ـ الأمر بالتقوى بامتثال الأوامر الإلهية واجتناب النواهي عام لجميع الأمم. قال بعض العارفين عن آية (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ ..) : هذه الآية هي رحى آي القرآن ؛ لأن جميعه يدور عليها.

٣ ـ الله تعالى لا تضره معصية العباد وكفرهم ، ولا تنفعه طاعتهم وإيمانهم. ولقد كرر قوله : (وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) في الآية (١٣١) مرتين ، ثم في الآية (١٣٢) : إما تأكيدا ، ليتنبه العباد وينظروا ما في ملكوته وملكه ، وأنه غني عن العالمين ، أو كرره لفوائد : فأخبر أولا أن الله تعالى يغني كلا من سعته (رزقه) ؛ لأن له ما في السموات وما في الأرض ، فلا تنفد خزائنه. ثم قال ثانيا : أوصيناكم وأهل الكتاب بالتقوى ، وإن تكفروا فإنه غني عنكم ؛ لأن له ما في السموات وما في الأرض. ثم أعلم ثالثا بحفظ خلقه وتدبيره إياهم بقوله : (وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً) لأن له ما في السموات وما في الأرض. وقال : (ما فِي السَّماواتِ) ولم يقل : من في السموات ؛ لأنه ذهب به مذهب الجنس ، وفي السموات والأرض من يعقل ومن لا يعقل.

والخلاصة : كان التكرار لترسيخ الاعتقاد بأن كل شيء من سعة الله ، وللإعلان عن غنى الله المطلق فلا يتضرر بكفر العباد ، ولبيان قيام الله بحفظ خلقه وتدبيره إياهم.

٤ ـ لله المشيئة المطلقة والقدرة الكاملة في إذهاب المشركين والمنافقين وكل العصاة ، والإتيان بآخرين هم أطوع لله من الموجودين. وفي الآية : (إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ) تخويف وتنبيه لجميع من كانت له ولاية وإمارة ورياسة ، فلا يعدل في رعيته ، أو كان عالما فلا يعمل بعلمه ، ولا ينصح الناس ، من أن يذهبه ويأتي بغيره.

والقدرة صفة أزلية لله تعالى ، لا تتناهى مقدوراته ، كما لا تتناهى

٣٠٨

معلوماته ، والماضي في قوله مثلا : (وَكانَ اللهُ عَلى ذلِكَ قَدِيراً) والمستقبل في صفاته بمعنى واحد. وإنما خص الماضي بالذكر لئلا يتوهم أنه حديث في ذاته وصفاته. والقدرة : هي التي يكون بها الفعل ، ولا يجوز وجود العجز معها.

٥ ـ من عمل بما افترضه الله عليه طلبا للآخرة ، آتاه الله ذلك في الآخرة ، ومن عمل طلبا للدنيا آتاه بما كتب له في الدنيا ، وليس له في الآخرة من ثواب ؛ لأنه عمل لغير الله تعالى ، كما قال سبحانه : (وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ) [الشورى ٤٢ / ٢٠]. وقال : (أُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ) [هود ١١ / ١٦] وهذا على أن يكون المراد بالآية : المنافقون والكفار ، وهو اختيار الطبري (١).

والحق كما ذكر ابن كثير : أن الآية عامة ومعناها ظاهر ، فلا يقتصرن قاصر الهمة على السعي للدنيا فقط ، بل لتكن همته سامية إلى نيل المطالب العالية في الدنيا والآخرة (٢).

العدل في القضاء والشهادة بحق

والإيمان بالله والرسول والكتب السماوية

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللهُ أَوْلى بِهِما فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (١٣٥) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي نَزَّلَ

__________________

(١) تفسير الطبري : ٥ / ٢٠٥ ، تفسير القرطبي : ٥ / ٤١٠

(٢) تفسير ابن كثير : ١ / ٥٦٥

٣٠٩

عَلى رَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً (١٣٦))

الإعراب :

(شُهَداءَ) منصوب إما لأنه صفة قوامين ، أو حال من ضمير قوامين.

(إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللهُ أَوْلى بِهِما) : إنما قال : بهما ، ولم يقل : به ؛ لأن (أَوِ) لأحد الشيئين لأربعة وجوه :

الأول ـ أنه محمول على المعنى ، والمعنى : إن يكن الخصمان غنيين أو فقيرين فالله أولى بهما.

الثاني ـ أنه لما كان المعنى : فالله أولى بغنى الغني وفقر الفقير ، رد الضمير إليهما.

الثالث ـ إنما رد الضمير إليهما ؛ لأنه لم يقصد غنيا بعينه ولا فقيرا بعينه.

الرابع ـ أن (أَوِ) بمعنى الواو ، والواو لإيجاب الجمع بين الشيئين أو الأشياء ، فلهذا قال : أولى بهما. وأو بمعنى الواو في مذهب الأخفش والكوفيين.

(أَنْ تَعْدِلُوا) أن : في موضع نصب على تقدير حذف حرف الجر ، وتقديره : لئلا تعدلوا ، أو تكون في موضع نصب على تقدير : كراهة أن تعدلوا ، كقوله تعالى : (يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا) [النساء ٤ / ١٧٦] أي لئلا تضلوا.

(وَإِنْ تَلْوُوا) بواوين : أصله تلويوا على وزن تفعلوا ، من لويت ، فنقلت الضمة من الياء إلى ما قبلها ، فبقيت الياء ساكنة ، وواو الجمع ساكنة ، فحذفت الياء لالتقاء الساكنين ، فبقي : تلووا ووزنه تفعوا.

البلاغة :

(قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ) مبالغة أي مبالغين في إقامة العدل.

(غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً) طباق.

(آمَنُوا آمِنُوا) جناس ناقص لتغير الشكل.

(ضَلَّ ضَلالاً) جناس مغاير.

٣١٠

المفردات اللغوية :

(قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ) صيغة مبالغة أي قائمين بالعدل على أتم وجه (شُهَداءَ لِلَّهِ) أي شاهدين بالحق لوجه الله وحده (وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ) ولو كانت الشهادة على أنفسكم ، فاشهدوا بالحق عليها ، بأن تقروا به ولا تكتموه (فَاللهُ أَوْلى بِهِما) منكم وأعلم بمصالحهما (فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى) في شهادتكم بأن تحابوا الغني لرضاه ، أو الفقير رحمة به. (أَنْ تَعْدِلُوا) أن لا تعدلوا أي تميلوا عن الحق (وَإِنْ تَلْوُوا) تحرفوا ألسنتكم بالشهادة. وفي قراءة بحذف الواو الأولى تخفيفا (أَوْ تُعْرِضُوا) عن أدائها أي لا تؤدوها (فَإِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً) فيجازيكم به.

سبب النزول :

نزول الآية (١٣٥):

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ) : أخرج ابن أبي حاتم عن السدي قال : لما نزلت هذه الآية في النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم اختصم إليه رجلان: غني وفقير ، وكان صلى‌الله‌عليه‌وسلم مع الفقير ، يرى أن الفقير لا يظلم الغني ، فأبى الله إلا أن يقوم بالقسط في الغني والفقير.

المناسبة :

هذا أمر عام بالقسط بين الناس ، جاء عقب الأمر بالقسط في اليتامى والنساء في آية الاستفتاء ؛ لأن قوام المجتمع لا يكون إلا بالعدل ، وحفظ النظام ودوام الملك لا يتم إلا به ، فالعدل أساس الملك الدائم.

التفسير والبيان :

يأمر الله تعالى عباده المؤمنين أن يقوموا بالعدل ، فلا تأخذهم في الله لومة لائم ، وأن يتعاونوا ويتعاضدوا فيه. يا أيها المؤمنون كونوا مبالغين بإقامة العدل ، والعدل عام شامل الحكم بين الناس من الحكام ، والعمل في أي مجال ، وفي الأسرة ، فيسوي الحاكم أو الوالي أو الموظف بين الناس في الأحكام والمجالس وقضاء

٣١١

الحوائج ، كما يسوي كل صاحب عمل بين عماله ، وكما يسوي الرجل بين زوجاته وأولاده في المعاملة والهبة.

وكونوا شاهدين بالحق لله ، بأن تتحروا الحق الذي يرضي الله ، وتؤدوا الشهادة ابتغاء وجه الله ، لتكون الشهادة صحيحة عادلة حقا من غير مراعاة أحد ولا محاباة.

اشهدوا بالحق المجرد ولو كانت الشهادة على أنفسكم ، وعاد ضررها عليكم ، بأن تقروا بالحق ولا تكتمونه ، ومن أقر على نفسه بحق فقد شهد عليها ؛ لأن الشهادة إظهار الحق.

واشهدوا بالحق أيضا ولو كانت الشهادة على الوالدين والأقارب وعاد ضررها عليهم ؛ لأن بر الوالدين وصلة الأقارب لا تكون بالشهادة لغير الله ، بل البر والصلة والطاعة في الحق والمعروف.

ولا تراعوا غنيا لغناه ، أو ترحموا فقيرا لفقره ، بل اتركوا الأمر لله ، فالله يتولى أمرهما ، وأولى بهما منكم ، وأعلم بما فيه صلاحهما.

ولا تتبعوا الهوى لئلا تعدلوا عن الحق إلى الباطل ، إذ في الهوى الزلل ، أو فلا يحملنكم الهوى والعصبية وبغض الناس إليكم على ترك العدل في أموركم وشؤونكم ، بل الزموا العدل على أي حال ، كما قال الله تعالى : «(وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلَّا تَعْدِلُوا ، اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى) [المائدة ٥ / ٨].

وإن تلووا ألسنتكم أي تحرفوا الشهادة وتغيروها ، والليّ : هو التحريف وتعمد الكذب ، قال تعالى : (وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ) [آل عمران ٣ / ٧٨] أو تعرضوا عن أداء الشهادة ، والإعراض : هو كتمان الشهادة وتركها ، قال تعالى : (وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ) [البقرة ٢ / ٢٨٣] وقال النبي

٣١٢

فيما رواه مسلم عن زيد بن خالد الجهني صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ألا أخبركم بخير الشهداء : هو الذي يأتي بالشهادة قبل أن يسألها.

وإن تلووا أو تعرضوا فالله خبير بأعمالكم ، وسيجازيكم بذلك. وعبر بالخبير ولم يعبر بالعليم ؛ لأن الخبرة العلم بدقائق الأمور وخفاياها ، والشهادة يكثر فيها الغش والاحتيال واللف والدوران. فليحذر المخالفون.

ثم أمر الله بالإيمان به وبرسوله وبالكتب التي أنزلها ، فإن كان هذا خطابا للمؤمنين فمعناه اثبتوا على ذلك وداوموا واستمروا عليه ، كما يقول المؤمن في كل صلاة : (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) [الفاتحة ١ / ٦] أي بصرنا فيه وزدنا هدى وثبتنا عليه ، وكما قال الله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ) [الحديد ٥٧ / ٢٨]. وهذا رأي ابن كثير والقرطبي (١). وقوله : (وَالْكِتابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ) يعني القرآن ، (وَالْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ) وهذا جنس يشمل جميع الكتب المتقدمة.

وإن كان الخطاب لمؤمني أهل الكتاب فيراد به الأمر بالإيمان بالنبي محمد وبالقرآن ، كالأنبياء السابقين والكتب المنزلة قبل القرآن. فقد روي أن هذا خطاب لمؤمني اليهود. قال ابن عباس وكذا الكلبي : «إن هذه الآية نزلت في عبد الله بن سلام ، وأسد وأسيد ابني كعب ، وثعلبة بن قيس ، وسلام ابن أخت عبد الله بن سلام ، ويامين بن يامين ، إذ أتوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقالوا : نؤمن بك وبكتابك وبموسى وبالتوراة وعزير ، ونكفر بما سوى ذلك من الكتب والرسل ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : بل آمنوا بالله ورسوله وكتابه القرآن وبكل كتاب كان قبله ، فقالوا : لا نفعل ، فنزلت ، قال : فآمنوا كلهم» (٢).

__________________

(١) تفسير ابن كثير : ١ / ٥٦٦ ، تفسير القرطبي : ٥ / ٤١٥

(٢) الكشاف : ١ / ٤٣٠ ، أسباب النزول للواحدي : ص ١٠٦

٣١٣

وقال في القرآن : (نَزَّلَ) لأنه نزل مفرقا منجما على الوقائع بحسب ما يحتاج إليه العباد في معاشهم ومعادهم ، وأما الكتب المتقدمة فكانت تنزل جملة واحدة ، ولهذا قال تعالى : (وَالْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ).

ثم توعد الله من كفر بعد الأمر بالإيمان فذكر :

ومن يكفر بالله أو بملائكته أو ببعض كتبه أو رسله ، أو اليوم الآخر ، فقد ضل أي خرج عن طريق الهدى والحق ، وبعد عن المطلوب كل البعد.

ومن فرّق بين كتب الله ورسله ، فآمن ببعض وكفر ببعض كاليهود والنصارى فلا يعتد بإيمانه ولا يعترف به لأن الكفر بكتاب أو برسول كفر بالكل ، ولو آمن إيمانا صحيحا بنبيه وكتابه كما كفر بمحمد المبشر به عندهم.

فقه الحياة أو الأحكام :

تضمنت الآيات أصول الحكم أو القضاء بين الناس على أساس من العدل ، وأداء الشهادة بالحق ، وأصول التدين والإيمان الصحيح بالتصديق بجميع أنبياء الله ورسله الكرام ، دون تفرقة بين أحد من رسل الله.

أما الآية الأولى فهي آمرة أمرا صريحا قاطعا بشيئين :

الأول ـ المبالغة في إقامة العدل والتعاون فيه دون تهيب ولا انحراف ولا تردد في القضاء به ؛ إذ بالعدل قامت السموات والأرض. ولقد كان السلف الصالح مضرب المثل في التزام شريعة العدل في كل الأقضية حتى مع الأعداء ، ولو كان المسلمون هم المقضي عليهم ، ولهم في ذلك روائع الأمثال والقصص ، منها : أن عبد الله بن رواحة ، لما بعثه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يخرص على أهل خيبر ثمارهم وزروعهم ، فأرادوا أن يرشوه ليرفق بهم ، فقال : والله لقد جئتكم من عند أحب الخلق إليّ ، ولأنتم أبغض إلي من أعدادكم من القردة والخنازير ، وما يحملني حبي إياه ، وبغضي

٣١٤

لكم ، على أن لا أعدل فيكم ، فقالوا : بهذا قامت السموات والأرض.

الثاني ـ أداء الشهادة بالحق ولو على النفس أو الوالدين أو الأقربين ؛ لأن الحق يعلو ولا يعلى عليه ، ولأنه أحق أن يتبع ، ولأن الاستعلاء على مصالح النفس ومراعاة حظوظها هو أمارة الإيمان الصحيح بالله ، ولأن بر الوالدين وصلة الأرحام والأقارب إنما يكونان ضمن دائرة الحق والمعروف ، ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.

فالشهادة ينبغي أن تكون خالصة لله أي لذات الله ولوجهه ولمرضاته وثوابه ، فيقر الإنسان بالحق لأهله ، فذلك قيامه بالشهادة على نفسه ، وبهذا أدب الله عزوجل المؤمنين ، كما قال ابن عباس : أمروا أن يقولوا الحق ولو على أنفسهم.

ولا حاجة لمراعاة غني أو فقير ، فالله وحده يتولى أمورهما ، وهو أولى بكل واحد منهما.

واتباع الهوى مرد أي مهلك ، قال الله تعالى : (فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى ، فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) [ص ٣٨ / ٢٦] فاتباع الهوى يحمل على الشهادة بغير الحق ، وعلى الجور في الحكم ، قال الشعبي : أخذ الله عزوجل على الحكّام ثلاثة أشياء : ألا يتبعوا الهوى ، وألا يخشوا الناس ويخشوه ، وألا يشتروا بآياته ثمنا قليلا.

وإن التحريف في الشهادة والميل إلى أحد الخصمين ، وعدم قول الحق فيها ، والإعراض عن أداء الحق فيها ، والظلم في القضاء ، كل ذلك مدعاة إلى الجزاء والعقاب الشديد ، كما وضح من التهديد المذكور في ختام الآية : (وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً) أي فمجازيكم بذلك. ولفظ الآية يعم القضاء والشهادة ، وكل إنسان مأمور بأن يعدل. وفي الحديث: «ليّ الواجد

٣١٥

يحلّ عرضه وعقوبته» (١) واللي : المطل ، والواجد : الغني المليء ، وعرضه : شكايته ، وعقوبته : حبسه.

وذكر الفقهاء بعض الأمور المتعلقة بالشهادة للوالدين أو على الوالدين فقالوا : لا خلاف في أن شهادة الولد على الوالدين (الأب والأم) ماضية ومقبولة ، ولا يمنع ذلك من برّهما ، بل من برّهما أن يشهد عليهما ، ويخلصهما من الباطل ، وهو معنى قوله تعالى : (قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً) [التحريم ٦٦ / ٦].

وأما الشهادة للوالدين أو شهادتهما للأولاد ففيها خلاف : قال الزهري : كان من مضى من السلف الصالح يجيزون شهادة الوالدين والأخ ، ويتأولون في ذلك قول الله تعالى : (كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ ، شُهَداءَ لِلَّهِ) فلم يكن أحد يتّهم في ذلك من السلف الصالح رضوان الله عليهم. ثم ظهرت من الناس أمور حملت الولاة على اتهامهم ، فتركت شهادة من يتّهم ، وصار ذلك لا يجوز في الولد والوالد والأخ والزوج والزوجة ، وهو مذهب الحسن والنخعي والشعبي وشريح ومالك والثوري والشافعي وابن حنبل وأبي حنيفة وأصحابه.

وقد أجاز قوم شهادة بعضهم لبعض إذا كانوا عدولا ، وهو مروي عن عمر بن الخطاب وعمر بن عبد العزيز رضي‌الله‌عنهما ، وبه قال إسحاق والمزني. وأجاز الشافعي شهادة الزوجين بعضهما لبعض ؛ لأنهما أجنبيان ، وإنما بينهما عقد الزوجية ، وهو معرّض للزوال ، والأصل قبول الشهادة إلا حيث خص ، فبقي ما عدا المخصوص على الأصل. وأجيب بأن الزوجية توجب الحنان والمواصلة والألفة والمحبة ، وتتواصل منافع الأملاك بين الزوجين ، فالتهمة قوية ظاهرة. وروى أبو داود عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن «رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ردّ شهادة الخائن والخائنة ، وذي الغمر على أخيه ، ورد شهادة القانع لأهل البيت ،

__________________

(١) رواه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه والحاكم عن الشريد بن سويد.

٣١٦

وأجازها لغيرهم» قال الخطابي : ذو الغمر : هو الذي بينه وبين المشهود عليه عداوة ظاهرة ، فترد شهادته عليه للتهمة. والقانع : هو المنقطع إلى القوم يخدمهم ويكون في حوائجهم ؛ مثل الأجير أو الوكيل ونحوه. ومعنى رد الشهادة : التهمة في جر المنفعة إلى نفسه ، وكل من جر إلى نفسه بشهادته نفعا ، فشهادته مردودة.

والحديث حجة على من أجاز شهادة الأب لابنه ؛ لأنه يجرّ به النفع ، لما جبل عليه من حبه والميل إليه. وممن ترد شهادته عند مالك : البدوي على القرويّ ، لما روى أبو داود والدارقطني عن أبي هريرة أنه سمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «لا تجوز شهادة بدوي على صاحب قرية».

وأما الآية الثانية (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا) فالظاهر أنها نزلت في جميع المؤمنين ، والمعنى : يا أيها الذين صدّقوا أقيموا على تصديقكم واثبتوا عليه ، وصدقوا بالقرآن وبكل كتاب أنزل على النبيين.

وقيل : إنه خطاب للمنافقين ؛ والمعنى على هذا : يا أيها الذين آمنوا في الظاهر أخلصوا لله.

وقيل : المراد المشركون ؛ والمعنى : يا أيها الذين آمنوا باللات والعزّى والطاغوت آمنوا بالله ، أي صدّقوا بالله وبكتبه.

وقيل : نزلت فيمن آمن بمن تقدم محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الأنبياء عليهم‌السلام.

صفات المنافقين وجزاؤهم ومواقفهم من المؤمنين

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ

٣١٧

سَبِيلاً (١٣٧) بَشِّرِ الْمُنافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (١٣٨) الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً (١٣٩) وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللهِ يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ إِنَّ اللهَ جامِعُ الْمُنافِقِينَ وَالْكافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً (١٤٠) الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللهِ قالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كانَ لِلْكافِرِينَ نَصِيبٌ قالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً (١٤١))

الإعراب :

(الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ) بدل أو نعت المنافقين.

(فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً) : إنما قال : جميعا بالتذكير ، ولم يقل جمعاء بالتأنيث لأن العزة في معنى العز. و (جَمِيعاً) حال منصوب ، والتقدير : فإن العزة لله تعالى كائنة في حال اجتماعهما. (الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ) بدل من الذي قبله.

(أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ) أن : مخففة من الثقيلة واسمها محذوف أي أنه ، وهي مع الفعل في تأويل المصدر مفعول : نزل ، على من قرأها بالفتح ، وفي موضع نائب فاعل على قراءة من قرأ نزّل بضم النون والتشديد.

(إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ) أي أمثالهم ، وقد يأتي مثل أيضا للاثنين والجماعة ، كما يأتي للواحد ، قال الله تعالى : (أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا).

البلاغة :

(آمَنُوا كَفَرُوا) طباق

٣١٨

(جامِعُ .. جَمِيعاً) جناس اشتقاق.

(بَشِّرِ الْمُنافِقِينَ) أسلوب تهكمي ، لاستعمال لفظ البشارة مكان الإنذار تهكما.

(أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ) استفهام إنكاري ، قصد منه التقريع والتوبيخ.

المفردات اللغوية :

(بَشِّرِ) يا محمد أي أنذر ، واستعمل البشارة مكان الإنذار تهكما (عَذاباً أَلِيماً) مؤلما هو عذاب النار (أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ) أولياء جمع ولي : وهو الناصر والمعين ، واتخذوهم أولياء لما يتوهمون فيهم من القوة.

(أَيَبْتَغُونَ) يطلبون ، أي لا يجدونها عندهم. (فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً) في الدنيا والآخرة ولا ينالها إلا أولياؤه (وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ) القرآن (آياتِ اللهِ) القرآن (فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ) أي مع الكافرين والمستهزئين. (حَتَّى يَخُوضُوا) يتحدثوا بحديث آخر.

(يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ) ينتظرون بكم الدوائر ، أي ينتظرون وقوع أمر بكم. (فَتْحٌ) ظفر وغنيمة (أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ) في الدين والجهاد ، فأعطونا من الغنيمة (وَإِنْ كانَ لِلْكافِرِينَ) نصيب من الظفر عليكم (أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ) نستول عليكم ونقدر على أخذكم وقتلكم ، فأبقينا عليكم ، والمراد : ألم نغلبكم ونتمكن من قتلكم ، فأبقينا عليكم. (وَنَمْنَعْكُمْ) وأ لم نمنعكم من المؤمنين أن يظفروا بكم بتخذيلهم ومراسلتكم بأخبارهم ، فلنا عليكم المنّة.

(فَاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ) وبينهم (يَوْمَ الْقِيامَةِ) بأن يدخلكم الجنة ، ويدخلهم النار. (وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً) طريقا بالاستئصال في الدنيا ، قال ابن كثير : وذلك بأن يسلطوا عليهم استيلاء استئصال بالكلية ، وإن حصل لهم ظفر في بعض الأحيان على بعض الناس ، فإن العاقبة للمتقين في الدنيا والآخرة (١) ، كما قال تعالى : (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) [غافر ٤٠ / ٥١].

المناسبة :

لما أمر الله في الآية السابقة بالإيمان بالله والرسول والكتب المنزلة ، ناسب أن يذكر صنفين خارجين عن الإيمان : الصنف الأول ـ وهم الذين آمنوا في الظاهر نفاقا ثم عادوا إلى الكفر وماتوا على ضلالهم ، فلا توبة لهم بعد الموت ولا يغفر الله

__________________

(١) تفسير ابن كثير : ١ / ٥٦٧

٣١٩

لهم. والصنف الثاني ـ وهم جماعة المنافقين الذين بقوا متظاهرين بالإسلام وتعاطفوا مع الكفار ، وهؤلاء لهم عذاب مؤلم في نار جهنم.

التفسير والبيان :

إن هؤلاء الذين أعلنوا إيمانهم ، ثم عادوا إلى الكفر ، ثم آمنوا ثم كفروا ، ثم تغالوا وتمادوا في الكفر ، ثم ماتوا على كفرهم ، فلا مغفرة لهم ، ولن يهتدوا إلى الخير. أي إن الذين تكرر منهم الارتداد ، وعهد منهم ازدياد الكفر والإصرار عليه ، وفقدوا الاستعداد لفهم حقيقة الإيمان ، ولم يحاولوا الثبات على الهداية ، لن يظفروا أبدا بمغفرة الله ورحمته وإحسانه ورضوانه ، ولن يهتدوا بعد هذا التردد إلى الجنة وما فيها من خير وفلاح وسعادة ، إذ لم تحدث منهم توبة في حال الحياة ، وظلوا على كفرهم وطغيانهم ومعاداتهم للإسلام حتى الموت.

بشر أي أنذر يا محمد المنافقين من هؤلاء وغيرهم الذين كانوا يميلون مع الكفرة ويوالونهم بالعذاب المؤلم الذي لا يعرف قدره في نار جهنم.

ومن صفاتهم أنهم كانوا يتخذون الكافرين أولياء وأنصارا وأعوانا ، ويتجاوزون ولاية المؤمنين ويتركونها ، ظنا منهم أن الغلبة ستكون للكافرين ، ولم يدروا أن العاقبة للمتقين ؛ لأن الله معهم.

ثم أنكر الله عليهم ووبخهم فذكر أنهم إن كانوا بذلك يطلبون العزة أي القوة والمنعة عند هؤلاء ، فقد أخطئوا ؛ لأن العزة لله في الدنيا والآخرة ، وهو يؤتيها من يشاء ، والمراد أن العزة تكون في النهاية لأولياء الله الذين كتب لهم العز والغلبة على اليهود وغيرهم ، وقال : (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ) [المنافقون ٦٣ / ٨] قال ابن عباس : (يَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ) يريد بني قينقاع ، فإن ابن أبيّ كان يواليهم.

٣٢٠