التفسير المنير - ج ٥

الدكتور وهبة الزحيلي

البلاغة :

(إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ) إيراد الأمر بصيغة الإخبار وتأكيده ب (إِنَ) للتفخيم وتأكيد وجوب العناية والامتثال وتكرار الاسم الجليل : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ) ، (إِنَّ اللهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ) ، (إِنَّ اللهَ كانَ سَمِيعاً) لغرس المهابة في النفس.

المفردات اللغوية :

(الْأَماناتِ) جمع أمانة : وهي ما يؤتمن الشخص عليه ، وفي عرف الناس : هي كل ما أخذته بإذن صاحبه. وتعمّ جميع الحقوق المتعلّقة بالذّمة ، لله أو للناس أو لنفسه ، ويسمى حافظها أمينا وحفيظا ووفيّا ، ومن لا يحفظها ولا يؤدّيها خائنا.

(بِالْعَدْلِ) إيصال الحق إلى صاحبه من أقرب طريق. (نِعِمَّا) فيه إدغام ميم «نعم» في «ما» النكرة الموصوفة أي نعم الشيء (يَعِظُكُمْ بِهِ) تأدية الأمانة والحكم بالعدل. (تَأْوِيلاً) مآلا وعاقبة.

سبب النزول :

نزول الآية (٥٨):

(إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ) : عن ابن عباس قال : لما فتح رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مكة ، دعا عثمان بن طلحة ، فلما أتاه قال : أرني المفتاح ، فأتاه به ، فلما بسط يده إليه ، قام العباس ، فقال : بأبي أنت وأمي ، اجمعه لي مع السقاية ، فكفّ عثمان يده ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : هات المفتاح يا عثمان ، فقال : هاك بأمانة الله ، فقام ففتح الكعبة ، ثم خرج فطاف بالبيت ، ثم نزل عليه جبريل بردّ المفتاح ، فدعا عثمان بن طلحة ، فأعطاه المفتاح ، ثم قال : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها) حتى فرغ من الآية.

وأخرج شعبة في تفسيره عن حجاج عن ابن جريج قال : نزلت هذه الآية في عثمان بن طلحة ، أخذ منه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مفتاح الكعبة ، فدخل به البيت يوم الفتح ، فخرج ، وهو يتلو هذه الآية ، فدعا عثمان فناوله المفتاح. قال :

١٢١

وقال عمر بن الخطاب : لما خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الكعبة ، وهو يتلو هذه الآية ، فداه أبي وأمي ، ما سمعته يتلوها قبل ذلك ، قلت : ظاهر هذا أنها نزلت في جوف الكعبة.

نزول الآية (٥٩):

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا ..) : روى البخاري عن ابن عباس قال : نزلت هذه الآية في عبد الله بن حذافة بن قيس ، إذ بعثه النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في سرية.

قال الداودي : هذا وهم يعني الافتراء على ابن عباس ، فإن عبد الله بن حذافة خرج على جيش فغضب ، فأوقد نارا ، وقال : اقتحموا ، فامتنع بعض ، وهمّ بعض أن يفعل ، قال : فإن كانت الآية نزلت قبل ، فكيف يخصّ عبد الله بن حذافة بالطاعة دون غيره ، وإن كانت نزلت بعد ، فإنما قيل لهم : «إنما الطاعة في المعروف» وما قيل لهم : لم لم تطيعوه؟

وأجاب الحافظ ابن حجر بأن المقصود من قصته : فإن تنازعتم في شيء ، فإنهم تنازعوا في امتثال الأمر بالطاعة والتوقف ، فرارا من النار ، فتناسب أن ينزل في ذلك ما يرشدهم إلى ما يفعلونه عند التنازع ، وهو الرد إلى الله والرسول.

المناسبة :

لما ذكر الله تعالى ثواب الذين آمنوا وعملوا الصالحات ، ذكر بعض تلك الأعمال وأجلّها وهو أداء الأمانات والحكم بالعدل بين الناس وإطاعة الله والرسول وأولي الأمر.

التفسير والبيان :

إن السبب الخاص الذي نزلت آية أداء الأمانات من أجله لا يخصص عموم اللفظ ، وإنما العبرة عادة في كل آي القرآن بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، فهي

١٢٢

أمر عام بأداء الأمانات إلى أهلها لكل مسلم في كل أمانة في ذمته أو تحت يده ، ويتناول كل ما يؤتمن عليه الإنسان ، سواء أكان ذلك في حق نفسه ، أم في حق غيره من العباد ، أم في حق ربه.

فرعاية الأمانة في حقوق الله : امتثال أوامره ، واجتناب نواهيه ، واستعمال مشاعره وأعضائه فيما يقربه من ربه.

ذكر أبو نعيم في الحلية حديثا مرفوعا من حديث ابن مسعود عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «القتل في سبيل الله يكفّر الذنوب كلها» أو قال : «كل شيء إلا الأمانة» والأمانة في الصلاة ، والأمانة في الصوم ، والأمانة في الحديث ، وأشد ذلك الودائع. وقال جمع من الصحابة (ابن مسعود والبراء بن عازب وابن عباس وأبي بن كعب) : الأمانة في كل شيء في الوضوء والصلاة والزكاة والجنابة والصوم والكيل والوزن والودائع. وقال ابن عباس : لم يرخص الله لمعسر ولا موسر أن يمسك الأمانة. وقال ابن عمر : خلق الله فرج الإنسان ، وقال : هذا أمانة خبأتها عندك ، فاحفظها إلا بحقها.

ورعاية الأمانة في حق النفس : ألا يفعل الإنسان إلا ما ينفعه في الدين والدنيا والآخرة ، وأ لا يقدم على عمل يضره في آخرته أو دنياه ، ويتوقى أسباب المرض ، ويعمل بقواعد علم الصحة ، لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما رواه أحمد والشيخان وأبو داود والترمذي عن ابن عمر : «كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته» وقوله في الحديث الصحيح : «إن لنفسك عليك حقا».

ورعاية الأمانة في حق الآخرين : رد الودائع والعواري ، وعدم الغش في المعاملات ، والجهاد والنصيحة ، وعدم إفشاء أسرار الناس وعيوبهم.

ووردت آيات وأحاديث كثيرة في حفظ الأمانة ، منها قوله تعالى : (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ ، فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ) [الأحزاب ٣٣ / ٧٢]. ومنها : (وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ

١٢٣

راعُونَ) [المؤمنون ٢٣ / ٨] ومنها : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ) [الأنفال ٨ / ٢٧].

وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فيما يرويه أحمد وابن حبان عن أنس ـ : «لا إيمان لمن لا أمانة له ، ولا دين لمن لا عهد له» وقال أيضا فيما رواه الشيخان والترمذي والنسائي عن أبي هريرة : «آية المنافق ثلاث : إذا حدث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا ائتمن خان».

وأداء الأمانات واجب ، ولا سيما عند طلبها من صاحبها ، ومن لم يؤدها في الدنيا أخذ منه ذلك يوم القيامة ، كما ثبت في الحديث الصحيح أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال فيما رواه أحمد والبخاري في الأدب ومسلم والترمذي عن أبي هريرة : «لتؤدن الحقوق إلى أهلها ، حتى يقتص للشاة الجمّاء من القرناء».

وإذا هلكت الأمانة أو ضاعت أو سرقت ، فإن كان ذلك بتعد أو تقصير أو إهمال ضمنت ، وإلا فلا تضمن.

وبعد استقرار الأمانات يأتي دور الحكم بالعدل بين الناس ، لذا أمر الله تعالى به ، فالأمانة هي أساس الحكم الإسلامي ، والعدل هو الأساس الثاني ، والمخاطب بالأمرين هم جمهور الأمة.

والعدل : أساس الملك ، وأمر تقتضيه الحضارة والعمران والتقدم ، وتشيد به كل العقول ، وأصل من أصول الحكم في الإسلام ، ولا بد للمجتمع منه حتى يأخذ الضعيف حقه ، ولا يبغي القوي على الضعيف ، ويستتب الأمن والنظام ، وأجمعت الشرائع السماوية على وجوب إقامة العدل ، فعلى الحاكم وأتباعه من الولاة والموظفين والقضاة التزام العدل ، حتى تصل الحقوق لأهلها ، وقد وردت آيات وأحاديث كثيرة في الأمر بالعدل ، منها قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ) [النحل ١٦ / ٩٠] ومنها : (وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى)

١٢٤

[الأنعام ٦ / ١٥٢] ومنها : (اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى) [المائدة ٥ / ٨] ومنها : (ونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ ، شُهَداءَ بِالْقِسْطِ) [المائدة ٥ / ٨] وأمر الله به داود : (يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِ) [ص ٣٨ / ٢٦].

وروى أنس عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا تزال هذه الأمة بخير ، ما إذا قالت صدقت ، وإذا حكمت عدلت ، وإذا استرحمت رحمت».

وندد الله تعالى بالظلم والظالمين في آيات عديدة منها : (وَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ غافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ) [إبراهيم ١٤ / ٤٢] ومنها : (احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ) [الصافات ٣٧ / ٢٢]. ومن أخطر أنواع الظلم : الحكم بغير ما أنزل الله ، وظلم الحكام : (فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا) [النمل ٢٧ / ٥٢] وظلم القضاة. وتحاشي الظلم من القاضي يكون بفهم الدعوى أولا ، ثم عدم التحيز إلى أحد الخصمين ، ومعرفة حكم الله ، وتولية الأكفاء.

وفي قوله تعالى : (وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ) إشارة إلى أنه لا بد من إقامة حاكم يحكم بين الناس بالحق.

ثم بيّن الله تعالى فائدة الأمر بالعدل وأداء الأمانة ، فقال : (إِنَّ اللهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ) أي نعم الشيء الذي يعظكم به ، والمخصوص بالمدح محذوف يرجع إلى المأمور به من أداء الأمانات والحكم بالعدل.

(إِنَّ اللهَ كانَ سَمِيعاً بَصِيراً) يبصر ما يحدث منكم من أداء الأمانة وخيانتها ، ويسمع ما يكون من حكمكم بين الناس ، فيحاسبكم ويجازيكم ، فهو أعلم بالمسموعات والمبصرات.

ثم أمر الله تعالى بما يدعو إلى أداء الأمانة والتزام العدل وهو الأساس الثالث للحكم الإسلامي ، وهو إطاعة الله بتنفيذ أحكامه ، وإطاعة الرسول المبيّن حكم ربه ، وإطاعة ولاة الأمور.

١٢٥

ومن هم أولو الأمر؟ ذهب بعض المفسرين إلى أن المراد بهم الحكام أو أمراء السرايا. وذهب آخرون إلى أنهم العلماء الذين يبينون للناس الأحكام الشرعية. وذهب الشيعة الإمامية إلى أنهم الأئمة المعصومون.

والظاهر إرادة الجميع ، فتجب طاعة الحكام والولاة في السياسة وقيادة الجيوش وإدارة البلاد ، وتجب إطاعة العلماء في بيان أحكام الشرع ، وتعليم الناس الدين والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. قال ابن العربي : والصحيح عندي أنهم الأمراء والعلماء جميعا ، أما الأمراء فلأن أصل الأمر منهم والحكم إليهم. وأما العلماء فلأن سؤالهم واجب متعين على الخلق ، وجوابهم لازم ، وامتثال فتواهم واجب (١).

ويرى الفخر الرازي أن المراد من أولي الأمر : أهل الحل والعقد ، ليستدل بالآية على حجية الإجماع الصادر من العلماء.

فإن حدث تنازع واختلاف بينكم وبين أولي الأمر منكم في شيء من أمور الدين ، ولم يوجد نص في القرآن ولا في السنة ، يرد الأمر المتنازع فيه إلى القواعد العامة المقررة في القرآن والسنة ، فيؤخذ بما يوافقهما ، ويرد ما يخالفهما ، وهذا ما يسمى في علم أصول الفقه بالقياس.

وقد أقر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم العمل بالقياس ، فحينما أرسل معاذ بن جبل إلى اليمن قاضيا قال له : كيف تقضي إن عرض لك قضاء؟ قال : أقضي بكتاب الله ، قال : فإن لم يكن في كتاب الله؟ قال : أقضي بسنة نبي الله ، قال : فإن لم يكن في كتاب الله وسنة رسول الله؟ قال : أجتهد رأيي لا آلو. قال : فضرب رسول الله على صدره ، وقال : الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله إلى ما يرضي رسول الله (٢).

__________________

(١) أحكام القرآن : ١ / ٤٥٢

(٢) رواه أحمد وأبو داود والترمذي وابن عدي والطبراني والدارمي والبيهقي.

١٢٦

وأشعر قوله : (فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ) أن المتنازع فيه مما لا نص فيه ، وإلا كان واجب الطاعة ، غير محل للنزاع.

وردوا الشيء المتنازع فيه إلى الله ورسوله بعرضه على الكتاب والسنة إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ، فإن المؤمن لا يقدم شيئا على حكم الله ، كما أنه يقصد الآخرة ورضوان الله أكثر من حرصه على الدنيا. وهذا وعيد من الله لكل من حاد عن طاعة الله ورسوله ، والرد إليهما عند الاختلاف ، وهو في معنى قوله تعالى : (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ) [النساء ٤ / ٦٥] وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة : «من أطاعني فقد أطاع الله ، ومن عصاني فقد عصى الله ، ومن يطع أميري فقد أطاعني ، ومن يعص أميري فقد عصاني».

(ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) إشارة إلى ما أمروا به من طاعة الله ورسوله والرد إليهما عند التنازع ، وذلك أحسن تأويلا أي مآلا وعاقبة.

فقه الحياة أو الأحكام :

آية الأمانة والعدل من أمهات آيات الأحكام التي تضمنت جميع الدين والشرع. والأظهر أن الآية خطاب عام لجميع الناس ، فهي تتناول الولاة فيما إليهم من الأمانات في قسمة الأموال ، ورد الظلامات ، والعدل في الأقضية.

وهي تدل على أساسين من أسس الحكم في الإسلام ، ويتبع الأفراد الحكام :

الأول ـ أداء الأمانات إلى أهلها. أما الوديعة فلا يلزم أداؤها حتى تطلب. وأما اللقطة فتعرّف سنة ثم تستهلك وتضمن إن جاء صاحبها ، والأفضل أن يتصدق بها. وأما المأجور والعارية فيلزم ردهما إلى صاحبهما بعد انقضاء عمله ، قبل أن يطلبهما ، وأما الرهن فلا يلزم فيه أداء حتى يؤدى إلى الدائن دينه.

١٢٧

الثاني ـ الحكم بالعدل بين الناس.

والخطاب في الحكمين كما أوضحت للولاة والأمراء والحكام ، ويدخل معهم جميع الخلق. قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما رواه مسلم والنسائي عن عبد الله بن عمرو : «إن المقسطين يوم القيامة على منابر من نور ، عن يمين الرحمن ، وكلتا يديه يمين : الذين يعدلون في حكمهم وأهلهم وما ولوا» وقال أيضا : «كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته ، فالإمام راع وهو مسئول عن رعيته ، والرجل راع على أهله وهو مسئول عنهم ، والمرأة راعية على بيت زوجها وهي مسئولة عنه ، والعبد راع على مال سيده وهو مسئول عنه ، ألا فكلكم راع ، وكلكم مسئول عن رعيته» (١). فجعل النبي في هذه الأحاديث الصحيحة كلّ هؤلاء رعاة وحكّاما على مراتبهم ، وكذلك العالم الحاكم ؛ لأنه إذا أفتى ، حكم وقضى ، وفصل بين الحلال والحرام ، والفرض والندب ، والصحة والفساد ، فجميع ذلك أمانة تؤدى ، وحكم يقضى.

والله تعالى سميع وبصير ، يسمع ويرى ، كما قال تعالى : (إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى) [طه ٢٠ / ٤٦] يسمع الأحكام الصادرة فيجازي بها ، ويبصر وقائع أداء الأمانات وخيانتها ، فيحاسب عليها.

ولما أمر الله الولاة والحكام بأداء الأمانات والحكم بين الناس بالعدل ، أمر الرعية بطاعته عزوجل أولا بامتثال أوامره واجتناب نواهيه ، ثم بطاعة رسوله ثانيا فيما أمر به ونهى عنه ، ثم بطاعة الأمراء ثالثا ، لكن تجب طاعة الأمراء أو السلطان فيما فيه طاعة ، ولا تجب فيما كان لله فيه معصية. روي عن علي بن أبي طالب رضي‌الله‌عنه أنه قال : حق على الإمام أن يحكم بالعدل ، ويؤدي الأمانة ، فإذا فعل ذلك ، وجب على المسلمين أن يطيعوه ؛ لأن الله تعالى أمرنا بأداء الأمانة والعدل ، ثم أمر بطاعته.

__________________

(١) رواه أحمد والشيخان وأبو داود والترمذي عن ابن عمر.

١٢٨

وكذلك تجب طاعة أهل القرآن والعلم أي الفقهاء والعلماء في الدين. وقال ابن كيسان : هم أولو العقل والرأي الذين يدبرون أمر الناس. والأصح الرأي الأول ؛ لأن أصل الأمر من العلماء والحكم إليهم. والعقل وإن كان مؤيدا للدين وعمادا للدنيا ، فلا يتفق مع ظاهر اللفظ.

فإن حدث التنازع بين الأمة وبين الأمراء ، رد الحكم إلى كتاب الله ، أو إلى رسوله بالسؤال في حياته ، أو بالنظر في سنته بعد وفاته صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وذلك نظير قوله تعالى : (وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ ، لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ) [النساء ٤ / ٨٣] وقوله : (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) [النور ٢٤ / ٦٣] ومدعاة ذلك : الإيمان بالله وباليوم الآخر ، وعاقبة الرجوع إلى القرآن والسنة ومآله أو مرجعه هو خير من التنازع.

واستنبط العلماء من هذه الآية أن مصادر التشريع الأصلية أربعة وهي : الكتاب والسنة والإجماع والقياس ؛ لأن الأحكام إما منصوصة في كتاب أو سنة ، وذلك قوله تعالى : (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) والسنة : هي ما أثر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من قول أو فعل أو تقرير ، وإما مجمع عليها من أهل الحل والعقد من الأمة بعد استنادهم إلى دليل شرعي اعتمدوا عليه ، وذلك قوله : (وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) وإما غير منصوصة ولا مجمع عليها ، وهذه سبيلها الاجتهاد والقياس : وهو عرض المسائل المتنازع فيها على القواعد العامة في الكتاب والسنة ، وذلك قوله : (فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ).

وأما المصادر التبعية الأخرى كالاستحسان الذي يقول به الحنفية ، والمصالح المرسلة التي يقول بها المالكية ، والاستصحاب الذي يقول به الشافعية ، فهي في الحقيقة راجعة إلى المصادر الأربعة الأصلية.

١٢٩

مزاعم المنافقين ومواقفهم

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً (٦٠) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً (٦١) فَكَيْفَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جاؤُكَ يَحْلِفُونَ بِاللهِ إِنْ أَرَدْنا إِلاَّ إِحْساناً وَتَوْفِيقاً (٦٢) أُولئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللهُ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً (٦٣))

الإعراب :

(يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً) صدودا : منصوب انتصاب المصادر ، وهو اسم أقيم مقام المصدر ، والمصدر في الحقيقة : هو الصدّ.

البلاغة :

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ) استفهام يراد به التعجب.

ويوجد جناس مغاير في (يُضِلَّهُمْ ضَلالاً) وفي (قُلْ لَهُمْ قَوْلاً) وفي (يَصُدُّونَ .. صُدُوداً).

المفردات اللغوية :

(يَزْعُمُونَ) الزعم : القول حقا كان أو باطلا ، ثم كثر استعماله في الكذب. (الطَّاغُوتِ)

١٣٠

الكثير الطغيان وهو كعب بن الأشرف. (ضَلالاً بَعِيداً) إعراضا عن قبول الحق. (صُدُوداً) إعراضا متعمدا عن قبول حكمك. (إِحْساناً) أي في المعاملة بين الخصوم. (وَتَوْفِيقاً) أي تسوية بينهم وبين خصومهم بالصلح. (فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ) اصرف وجهك عنهم. (وَعِظْهُمْ) ذكرهم بالخير بنحو ترق له قلوبهم. (قَوْلاً بَلِيغاً) كلاما مؤثرا في نفوسهم.

سبب النزول :

نزول الآية (٦٠):

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ) : أخرج ابن أبي حاتم والطبراني بسند صحيح عن ابن عباس قال : كان أبو برزة الأسلمي كاهنا يقضي بين اليهود فيما يتنافرون فيه ، فتنافر إليه أناس من أسلم ، فأنزل الله : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا) إلى قوله : (إِلَّا إِحْساناً وَتَوْفِيقاً).

وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : كان الجلاس بن الصامت ومعتب بن قشير ، ورافع بن زيد ، وبشر يدّعون الإسلام ، فدعاهم رجال من قومهم من المسلمين في خصومة كانت بينهم إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فدعوهم إلى الكهان : حكام الجاهلية ، فأنزل الله فيهم : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ) الآية.

وأخرج ابن جرير عن الشعبي قال : كان بين رجل من اليهود ورجل من المنافقين خصومة ، فقال اليهودي : أحاكمك إلى أهل دينك ، أو قال إلى النبي ؛ لأنه علم أنه لا يأخذ الرشوة في الحكم ، فاختلفا واتفقا على أن يأتيا كاهنا في جهينة ، فنزلت.

وقال الكلبي عن ابن عباس : نزلت في رجل من المنافقين كان بينه وبين يهودي خصومة ، فقال اليهودي : انطلق بنا إلى محمد ، وقال المنافق : بل نأتي كعب بن الأشرف وهو الذي سماه الله تعالى الطاغوت ، فأبى اليهودي إلا أن

١٣١

يخاصمه إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فلما رأى المنافق ذلك ، أتى معه إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فاختصما إليه ، فقضى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لليهودي ، فلما خرجا من عنده ، لزمه المنافق ، وقال : ننطلق إلى عمر بن الخطاب.

فأقبلا إلى عمر ، فقال اليهودي : اختصمنا أنا وهذا إلى محمد ، فقضى عليه ، فلم يرض بقضائه ، وزعم أنه مخاصم إليك ، وتعلق بي ، فجئت إليك معه ، فقال عمر للمنافق : أكذلك؟ قال : نعم ، فقال لهما : رويدا حتى أخرج إليكما ، فدخل عمر وأخذ السيف فاشتمل عليه ، ثم خرج إليهما ، وضرب به المنافق حتى برد (مات) وقال : هكذا أقضي لمن لم يرض بقضاء الله وقضاء رسوله ، وهرب اليهودي ، ونزلت هذه الآية ، وقال جبريل عليه‌السلام : إن عمر فرق بين الحق والباطل ، فسمي الفاروق (١).

والخلاصة : اختار الطبري أن يكون نزول الآية في المنافق واليهودي.

المناسبة :

بعد الأمر الإلهي السابق بطاعة الله وطاعة الرسول وأولي الأمر ، كشف الله عن موقف المنافقين الذين لا يطيعون الرسول ، ولا يرضون بحكمه ، بل يريدون حكم غيره كالكاهن أبي برزة الأسلمي أو الطاغية كعب بن الأشرف.

التفسير والبيان :

هذا إنكار من الله عزوجل على من يدعي الإيمان بما أنزل الله على رسوله وعلى الأنبياء الأقدمين ، وهو مع ذلك يريد أن يتحاكم في فصل الخصومات إلى غير كتاب الله وسنة رسوله ، كما ذكر في سبب النزول. والآية أعم من ذلك كله ، فإنها ذامّة لمن عدل عن الكتاب والسنة ، وتحاكم إلى ما سواهما من الباطل وهو المراد بالطاغوت هنا.

__________________

(١) أسباب النزول للواحدي : ص ٩٣ ، تفسير القرطبي : ٥ / ٢٦٤

١٣٢

انظر إلى أمر فئة زعموا الإيمان بالنبي محمد وبالأنبياء قبله وبما أنزل إليهم من الكتب ، وشأن الإيمان الصحيح بكتب الله ورسله العمل بما شرعه الله على ألسنة الرسل ، فإذا تخطوا ذلك كانوا غير مؤمنين في الواقع.

هؤلاء المنافقون إذ لم يقبلوا التحاكم إلى النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وتحاكموا إلى الطاغوت والضلال من الكهنة كأبي برزة الأسلمي ، أو اليهود مثل كعب بن الأشرف الذي سمي طاغوتا لإفراطه في الطغيان وعداوة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والتأليب عليه والبعد عن الحق ، مع أنهم أمروا في القرآن أن يكفروا بالطاغوت ويجتنبوه ، إنهم إذ لم يقبلوا ذلك ، دل على عدم إيمانهم ، فألسنتهم تدعي الإيمان بالله وبما أنزله على رسوله ، وأفعالهم تدل على الكفر بهما ، وإيمانهم بالطاغوت وإيثارهم حكمه ، وهذا دليل الخروج عن الإسلام.

ومن أوامر القرآن بالكفر بالطاغوت قوله تعالى : (وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ) [النحل ١٦ / ٣٦] وقوله : (فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ ، وَيُؤْمِنْ بِاللهِ ، فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى) [البقرة ٢ / ٢٥٦].

وهم بفعلهم ذلك كانوا تلامذة الشيطان ، ويريد الشيطان أن يضلهم ويبعدهم عن الحق مسافة بعيدة ، حتى لا يهتدوا إلى طريق الحق أصلا.

والدليل على ذلك أنه إذا قيل لأولئك الزاعمين الإيمان : تعالوا نحتكم إلى ما أنزل الله في القرآن وإلى الرسول ، فهو الصراط القويم ، رأيت هؤلاء المنافقين يعرضون عنك يا محمد وعن دعوتك ، ويرغبون عن حكمك ، بكل إصرار وعناد وتعمد للصدود. وهذه الآية مؤكدة لما سبق من تحاكمهم إلى الطاغوت وأصحاب الأهواء والجهلة ، فمن أعرض عن حكم الله متعمدا ، كان منافقا بلا شك.

وكيف يكون حال هؤلاء المنافقين إذا أطلعك الله على شأنهم في إعراضهم عن حكم الله وعن التحاكم إليك ، ووقعوا في مصاب أو عقوبة بسبب ذنوبهم وما قدمت

١٣٣

أيديهم من الكفر والمعاصي والمواقف المفضوحة ، ثم اضطروا إلى الرجوع إليك لكشف ما حل بهم من المصائب ، فلا يقدرون على الإعراض والفرار منها ، ثم جاؤوك ـ وهو معطوف على (يَصُدُّونَ) ـ يزعمون كاذبين أنهم ما كانوا يريدون بالتحاكم إلى غير الرسول إلا إحسانا في المعاملة ، وتوفيقا بينهم وبين خصومهم بالصلح ، أو اعتذروا إليك وحلفوا : ما أردنا بذهابنا إلى غيرك ، وتحاكمنا إلى أعدائك إلا الإحسان والتوفيق ، أي المداراة والمصانعة ، لا اعتقادا منا بصحة ذلك التحاكم ، كما أخبرنا تعالى عنهم في قوله : (فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ، يُسارِعُونَ فِيهِمْ ، يَقُولُونَ : نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ ، فَعَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ ، أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ ، فَيُصْبِحُوا عَلى ما أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نادِمِينَ) [المائدة ٥ / ٥٢]. وهذا وعيد شديد على ما فعلوا ، وأنهم يندمون حين لا ينفع الندم. ونظير ذلك : (وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلَّا الْحُسْنى) [التوبة ٩ / ١٠٧].

هذا النوع من الناس وهم المنافقون الله يعلم ما في قلوبهم ، وسيجزيهم على ذلك ، فإنه لا تخفى عليه خافية ، وهو عالم بظواهرهم وبواطنهم ، فأعرض عنهم أي لا تأبه بهم ولا تعنفهم على ما في قلوبهم ، وعظهم أي وانههم عما في قلوبهم من النفاق وسرائر الشر ، وأنصحهم فيما بينك وبينهم بكلام بليغ رادع لهم.

وقوله : (أُولئِكَ يَعْلَمُ اللهُ ما فِي قُلُوبِهِمْ) أسلوب يستعمل فيما يعظم من خير أو شر ، فمقدار ما في قلوبهم من كفر وحقد ومكر وكيد بلغ حدا لا يحيط به إلا من يعلم السر وأخفى.

وقوله : (فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ ، وَعِظْهُمْ ، وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً) يدل على كيفية معاملتهم بثلاثة أحوال : الإعراض عنهم ، والنصح والتذكير بالخير لترق قلوبهم ، والقول البليغ المؤثر في النفس بالترغيب تارة وبتخويفهم بالقتل إن ظهر منهم النفاق تارة أخرى.

١٣٤

فقه الحياة أو الأحكام :

أرشدت الآيات إلى ما يأتي :

١ ـ من ردّ شيئا من أوامر الله أو أوامر الرسول فهو كافر خارج عن الإسلام ، لذا حكم الصحابة بردّة مانعي الزكاة. وكذا كل من اتهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الحكم فهو كافر. ودلت القصة في سبب النزول على تحاكم اليهودي مع المسلم عند حاكم الإسلام.

٢ ـ الواجب على المسلمين تنفيذ الحكم المنصوص عليه في القرآن أو السنة النبوية الثابتة ، ورد كل ما يعارضهما من فتاوى وأقضية وأحكام ، وأما ما لا حكم فيه بالوحي ، فيعمل برأي المجتهدين المستنبط من قواعد الشريعة العامة ، المتفق مع المصلحة العامة.

٣ ـ من أعرض عن حكم الله عمدا أو حكم رسوله ، كان منافقا لا صلة له بالإسلام ، وكان نزول الآيات تأييدا لفعل عمر الذي نزل جبريل في شأنه ، فقال : إن عمر فرق بين الحق والباطل ، فسمّي الفاروق.

٤ ـ سيندم المنافقون حين لا ينفعهم الندم ، ويعتذرون ولا يقبل عذرهم.

٥ ـ لا يحسد المنافقون على موقفهم المخزي ؛ إذ أنهم مفضوح أمرهم من قبل الله الذي لا تخفى عليه خافية ، لذا قال الله تعالى مكذبا لهم : (أُولئِكَ يَعْلَمُ اللهُ ما فِي قُلُوبِهِمْ) قال الزجّاج : معناه : قد علم الله أنهم منافقون. والفائدة لنا : اعلموا أنهم منافقون.

٦ ـ وسائل إمكان إصلاح المنافقين ثلاث :

أ ـ الإعراض عنهم وعن عقابهم وعن قبول اعتذارهم وعن تلقيهم بالبشاشة والتكريم.

١٣٥

ب ـ الوعظ والتخويف والنصح والإرشاد إلى الخير على نحو يبعثهم على التأمل فيما يوعظون به ، وتلين قلوبهم لسماعه.

ج ـ الزجر بأبلغ الزجر بالقول المؤثر البليغ في السر والعلن عن طريق التوعد بالقتل والاستئصال إن استمروا في نفاقهم ، وإخبارهم بأن ما يضمرونه من نفاق غير خاف على من يعلم السر وأخفى ، وأنهم كالكفار ، بل أشد منهم كفرا ، وعقابهم في الدرك الأسفل من النار.

فرضية طاعة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم

(وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّاباً رَحِيماً (٦٤) فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً (٦٥))

الإعراب :

(فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ) تقديره : فلا يؤمنون ، وربك لا يؤمنون ، فأخبر أولا وكرره بالقسم ثانيا ، فاستغنى بذكر الفعل في الثاني عن ذكره في الأول.

البلاغة :

(وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ) فيه التفات عن الخطاب : «واستغفرت لهم» إلى الغيبة :

١٣٦

(وَاسْتَغْفَرَ) تعظيما لشأن الرسول واستغفاره وتفخيما لهما وتنبيها على أن شفاعة من اسمه الرسول من الله بمكان. وهناك جناس مغاير في (وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً).

(فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ) استعارة ؛ لأنه استعار ما تشابك من الشجر وهو أمر محسوس إلى التنازع أو الاختلاف القائم بينهم وهو معنى معقول.

المفردات اللغوية :

(بِإِذْنِ اللهِ) بأمره ، لا ليعصى ، وإذن الله : إعلامه بالوحي. (إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) بتحاكمهم إلى الطاغوت وغير ذلك من ألوان الظلم (جاؤُكَ) تائبين (فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ) أي طلبوا مغفرته وندموا على ما فعلوا (وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ) أي دعا الله أن يغفر لهم ، فيه التفات عن الخطاب تفحيما لشأنه (تَوَّاباً) عليهم (رَحِيماً) بهم. (يُحَكِّمُوكَ) يجعلوك حكما ويفوضوا الأمر إليك (شَجَرَ) اختلط الأمر فيه واختلف (حَرَجاً) ضيقا أو شكا (قَضَيْتَ) حكمت به (وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً) ينقادوا ويذعنوا من غير معارضة.

سبب النزول :

نزول الآية (٦٥):

(فَلا وَرَبِّكَ) : أخرج الأئمة الستة عن عبد الله بن الزبير ، قال : خاصم الزبير رجلا من الأنصار في شراج الحرّة (١) ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : اسق يا زبير ، ثم أرسل الماء إلى جارك ، فقال الأنصاري : يا رسول الله أن (٢) كان ابن عمتك! فتلون وجهه ، ثم قال : اسق يا زبير ، ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجدر (ما رفع حول المزرعة كالجدار) ثم أرسل الماء إلى جارك. واستوعب للزبير حقه ، وكان أشار عليهما بأمر لهما فيه سعة.

قال الزبير : ما أحسب هذه الآيات إلا نزلت في ذلك : (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ).

__________________

(١) الشراج : مسايل الماء. والحرة : أرض ذات حجارة سود.

(٢) أي لأن. أو بمد الهمزة على جهة الإنكار «آن».

١٣٧

وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن المسيب في قوله : (فَلا وَرَبِّكَ) الآية ، قالت : أنزلت في الزبير بن العوام وحاطب بن أبي بلتعة ، اختصما في ماء ، فقضى النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يسقي الأعلى ثم الأسفل.

المناسبة :

كانت الآيات السابقة تنديدا بموقف المنافقين الذين أعرضوا عن التحاكم إلى الرسول وآثروا عليه التحاكم إلى الطاغوت ، وهنا أراد الله تعالى تقرير مبدأ عام وهو فرضية طاعة الرسول بل وكل رسول مرسل.

التفسير والبيان :

وما أرسلنا من رسول إلا وقد فرضنا طاعته على من أرسله إليهم ، وتلك الطاعة مفروضة بأمر الله وإذنه ، وعليهم أن يتبعوه ؛ لأنه مؤد عن الله ، فطاعته طاعة الله ، ومعصيته معصية الله ، ومن يطع الرسول فقد أطاع الله ، ومن يعص الرسول فقد عصى الله.

والمراد بقوله : (بِإِذْنِ اللهِ) أي بسبب إذن الله في طاعته ، ويجوز أن يراد : بتيسير الله وتوفيقه في طاعته ، قال مجاهد : أي لا يطيع أحد إلا بإذني ، والمراد لا يطيعه إلا من وفقته لذلك ، كقوله : (وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ) [آل عمران ٣ / ١٥٢] أي عن أمره وقدره ومشيئته وتسليطه إياكم عليهم.

ثم يرشد الله تعالى العصاة والمذنبين إذا وقع منهم الخطأ والعصيان أن يأتوا إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فيستغفروا الله عنده ، ويسألوه أن يستغفر لهم ، فإنهم إن فعلوا ذلك تاب الله عليهم ورحمهم ، ولهذا قال : (لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّاباً رَحِيماً) أي لعلموه توابا ، أي لتاب عليهم.

١٣٨

وفي هذا إيماء إلى أن من يبادر إلى التوبة الصحيحة تقبل توبته بشروطها المقررة شرعا ، بأن تكون عقب الذنب مباشرة ، والعزم على اجتناب الذنب ، وعدم العودة إليه مع الصدق والإخلاص لله في ذلك. أما مجرد الاستغفار باللسان دون شعور صادق من القلب بألم المعصية فلا يفيد.

وقد سمى الله سبحانه ترك طاعة الرسول ظلما للأنفس ، أي إفسادا لها.

ثم أكد الله تعالى وجوب طاعة الرسول بقسم عظيم نفى فيه الإيمان عمن لم يقبل قبولا تاما مع الرضا القلبي حكم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

فأقسم تعالى بربوبيته لرسوله بأن الذين رغبوا عن التحاكم إليك من المنافقين لا يؤمنون إيمانا حقا إلا بتوافر ثلاث صفات :

١ ـ أن يحكّموا الرسول في قضايا المنازعات التي يختلفون فيها ، فلا يؤمن أحد حتى يحكّم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم في جميع الأمور ، فما حكم به فهو الحق الذي يجب الانقياد له باطنا وظاهرا.

٢ ـ ألا يجدوا حرجا أي ضيقا وشكا فيما يحكم به : بأن تذعن نفوسهم لقضائه وحكمه ، مع الرضا التام ، والقبول المطلق ، وعدم الامتعاض.

٣ ـ الانقياد التام والتسليم الكلي للحكم في الظاهر والباطن ، من غير ممانعة ولا مدافعة ولا منازعة. ويدخل هذا في مرحلة التنفيذ ، فقد يرى الشخص أن الحكم حق ، لكنه يتهرب من تنفيذه. ورد في الحديث الصحيح : «والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به».

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت الآيتان على ما يأتي :

١ ـ وجوب الطاعة التامة لأوامر الرسول ونواهيه وأقضيته وأحكامه.

١٣٩

٢ ـ الاستغفار من الذنب والتوبة الصادقة مع شرائطها طريق محو الذنوب وتكفير الخطايا.

٣ ـ استغفار الرسول لبعض المذنبين شفاعة مستجابة من الله تعالى.

٤ ـ الرضوخ التام لأقضية الرسول واعتقاد عدالتها وأحقيتها مع الانصياع للحكم القضائي في التنفيذ شرط جوهري لصحة إيمان المؤمنين. وأمارة ذلك : تحكيمه في الخلافات ، وعدم التبرم بحكمه ، والانقياد التام لقضائه.

٥ ـ عصمة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الخطأ في الأحكام القضائية كعصمته في تبليغ الوحي الإلهي ، فهو لا يحكم إلا بالحق بحسب الظاهر له ، لا بحسب الواقع ، والله يتولى السرائر.

٦ ـ المراد بهذه الآية كما قال مجاهد وغيره : من تقدم ذكره في الآية السابقة ممن أراد التحاكم إلى الطاغوت ، وفيهم نزلت. قال الطبري : قوله : (فَلا) ردّ على من تقدم ذكره ، تقديره : فليس الأمر كما يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك ، ثم استأنف القسم بقوله : (وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ).

وأما على رأي من قال : نزلت في الزبير مع الأنصاري في خصومة في سقي بستان ، فلا يوصف الأنصاري بالوصف المقرر آنفا وهو : كل من اتهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الحكم فهو كافر ، لأن الأنصاري زلّ زلّة ، فأعرض عنه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأقال عثرته ، لعلمه بصحة يقينه ، وأنها كانت فلتة ، وليست لأحد بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكل من لم يرض بحكم الحاكم بعده ، فهو عاص آثم (١).

ويلاحظ أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قضى للزبير بالحق ؛ لأن الأعلى يسقي قبل الأسفل ، ولكنه قال له أولا : «اسق يا زبير» لقربه من الماء «ثم أرسل الماء إلى

__________________

(١) أحكام القرآن لابن العربي : ١ / ٤٥٦

١٤٠