التفسير المنير - ج ٥

الدكتور وهبة الزحيلي

ولما كان هذا التغيير من فعل الشيطان وأثره أمرنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فيما رواه أبو داود عن علي في الأضاحي ـ «أن نستشرف العين والأذن ، ولا نضحّي بعوراء ولا مقابلة ، ولا مدابرة ولا خرقاء ، ولا شرقاء» (١) فلم يجز مالك والشافعي وجماعة الفقهاء الأضحية بمقطوعة الأذن أو جلّ الأذن ، أو السكاء : وهي التي خلقت بلا أذن.

وأما خصاء البهائم فرخص فيه جماعة من العلماء إذا قصدت فيه المنفعة إما لسمن أو غيره ، وأجاز الجمهور أن يضحى بالخصي. وأما الخصاء في الآدمي فحرام ، لما فيه من ألم عظيم ربما يفضي بصاحبه إلى الهلاك ، وهو مثلة نهى عنها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ومؤد إلى قطع النسل المأمور به في

قوله عليه‌السلام فيما رواه عبد الرزاق عن سعيد بن أبي هلال مرسلا : «تناكحوا تكثروا فإني أباهي بكم الأمم يوم القيامة».

والوسم والإشعار في الحيوان من أجل تمييزها عن غيرها مستثنى من نهيه عليه‌السلام عن شريطة الشيطان. والوسم : الكي بالنار ، ثبت في صحيح مسلم عن أنس قال : «رأيت في يد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم الميسم وهو يسم إبل الصدقة والفيء وغير ذلك ، حتى يعرف كل مال ، فيؤدى في حقه ، ولا يتجاوز به إلى غيره».

والوسم جائز في كل الأعضاء غير الوجه ؛ لأنه مقر الحسن والجمال ، ولأن به يقوّم الحيوان ، ولما روى مسلم عن جابر قال : نهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الضرب في الوجه ، وعن الوسم في الوجه».

ومن حالات التغيير الممنوعة حديث ابن مسعود المتقدم في الواشمة

__________________

(١) أن نستشرف : نتأمل سلامة العين والأذن من آفة تكون بهما ، وآفة العين : عورها ، وآفة الأذن : قطعها. والمقابلة : المقطوعة طرف الأذن ، والمدابرة : المقطوعة مؤخر الأذن ، والشرقاء : مشقوقة الأذن ، والخرقاء : التي تخرق أذنها السّمة.

٢٨١

والمستوشمة ، والواصلة والمستوصلة. فهو نص في تحريم الوشم : وهو أن يغرز ظهر كف المرأة ومعصمها بإبرة ثم يحشى بالكحل أو بالنئور (دخان الشحم) فيخضر. وهو نص أيضا في تحريم وصل الشعر.

٧ ـ إطاعة الشيطان خسارة : لقوله تعالى : (وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللهِ) أي يطيعه ويدع أمر الله (فَقَدْ خَسِرَ خُسْراناً مُبِيناً) أي نقص نفسه وغبنها بأن أعطى الشيطان حق الله تعالى فيه ، وتركه من أجله.

٨ ـ وعود الشيطان وأمنياته كاذبة وخديعة : (يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً) المعنى يعدهم أباطيله وترّهاته من المال والجاه والرياسة ، وأن لا بعث ولا عقاب ، ويوهمهم الفقر حتى لا ينفقوا في الخير ، وكل ذلك خديعة وتغرير. قال ابن عرفة : الغرور : ما رأيت له ظاهرا تحبّه ، وفيه باطن مكروه أو مجهول. والشيطان غرور ؛ لأنه يحمل على محابّ النفس ، ووراء ذلك ما يسوء.

٩ ـ عقاب الطائعين للشيطان جهنم : (أُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ ، وَلا يَجِدُونَ عَنْها مَحِيصاً) ملجأ.

١٠ ـ ثواب المؤمنين العاملين الصالحات والخيرات : جنات الخلد التي تجري من تحتها الأنهار ، وذلك يرمز لكل ألوان النعيم المقيم ، وأصناف المشتهيات ، وطمأنينة النفس ، وراحة البال ، والسعادة الأبدية. ومن أصدق من الله قيلا أي لا أحد أصدق قولا ووعدا من الله تعالى.

٢٨٢

استحقاق الجنة ليس بالأماني

والعبرة في الجزاء بالعمل شرا أو خيرا

(لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (١٢٣) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً (١٢٤) وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلاً (١٢٥) وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطاً (١٢٦))

الإعراب :

(وَهُوَ مُحْسِنٌ) مبتدأ وخبر في موضع الحال.

البلاغة :

(أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ) استعارة ، استعار الوجه للقصد والجهة.

ويوجد جناس مغاير في (أَحْسَنُ .. مُحْسِنٌ).

المفردات اللغوية :

(لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ) ليس الأمر منوطا بالأماني ، بل بالعمل الصالح. والأماني جمع أمنية : وهي تمني الشيء المحبوب (مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ) إما في الآخرة أو في الدنيا بالبلاء والمحن ، كما

٢٨٣

ورد في الحديث. (مِنْ دُونِ اللهِ) من غيره (وَلِيًّا) يتولى أمره ويحفظه ويدفع العقاب عنه (وَلا نَصِيراً) ينصره ، ويمنعه منه وينقذه مما يحل به. (وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً) النقير والنقرة : النكتة التي تكون في ظهر النواة ، ويضرب بها المثل في القلة (أَسْلَمَ وَجْهَهُ) أي انقاد وأخلص عمله (وَهُوَ مُحْسِنٌ) عامل للحسنات تارك للسيئات (وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ) ديانته الموافقة لملة الإسلام. (حَنِيفاً) مائلا عن الزيغ والضلال ، أي مائلا عن الأديان كلها إلى الدين الحق القيم. (خَلِيلاً) صفيا خالص المحبة له (وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) ملكا وخلقا وعبيدا (مُحِيطاً) أي عالما بالأشياء مع القدرة عليها ، ولم يزل متصفا بذلك.

سبب النزول :

نزول الآية (١٢٣):

(لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ) : أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : قالت اليهود والنصارى : لا يدخل الجنة غيرنا ، وقالت قريش : إنا لا نبعث ، فأنزل الله : (لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ).

وأخرج ابن جرير الطبري عن مسروق قال : تفاخر النصارى وأهل الإسلام فقال هؤلاء : نحن أفضل منكم ، وقال هؤلاء : نحن أفضل منكم ، فأنزل الله : (لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ).

وأخرج الطبري أيضا عن مسروق قال : لما نزلت : (لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ) قال أهل الكتاب : وأنتم سواء ، فنزلت هذه الآية : (وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ).

المناسبة :

لما ذكر الله تعالى في الآيات السابقة دور الشيطان في إلقاء الأماني الكاذبة ، وكان لهذا تأثير في نفوس أهل الكتاب وبعض ضعاف الإيمان من المسلمين ، ناسب بيان أثر الأماني ، وفضل العمل وجزائه.

٢٨٤

أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن السّدّي قال : التقى ناس من المسلمين واليهود والنصارى ، فقال اليهود للمسلمين : نحن خير منكم ، ديننا قبل دينكم ، وكتابنا قبل كتابكم ، ونبينا قبل نبيكم ، ونحن على دين إبراهيم ، ولن يدخل الجنة إلا من كان هودا. وقالت النصارى مثل ذلك ، فقال المسلمون : كتابنا بعد كتابكم ، ونبينا بعد نبيكم ، وقد أمرتم أن تتبعونا وتتركوا أمركم ، فنحن خير منكم ، نحن على دين إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ، ولن يدخل الجنة إلا من كان على ديننا ، فأنزل الله : (لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ) الآية فأفلج الله حجة المسلمين على من ناوأهم من أهل الأديان الأخرى. وذكر مثله عن قتادة.

التفسير والبيان :

ليس الأمر منوطا بالأماني منكم أيها المسلمون ، ولا أنتم أهل الكتاب ، ولكن الجزاء منوط بالعمل ، فليس لكم ولا لهم النجاة بمجرد التمني ، بل العبرة بطاعة الله عزوجل واتباع ما شرعه على ألسنة الرسل الكرام ، أخرج ابن أبي شيبة عن الحسن موقوفا : «ليس الإيمان التمني ، لكن ما وقر في القلب ، وصدّقه العمل» وقال الحسن : «إن قوما غرّتهم المغفرة ، فخرجوا من الدنيا وهم مملوؤون بالذنوب ، ولو صدقوا لأحسنوا العمل».

فمن يعمل سوءا يلق جزاءه ؛ لأن الجزاء أثر للعمل ، مثل قوله تعالى : (وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) [الزلزلة ٩٩ / ٨] ، روى الإمام أحمد عن أبي بكر بن زهير قال : أخبرت أن أبا بكر رضي‌الله‌عنه قال : يا رسول الله ، كيف الفلاح بعد هذه الآية : (لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ ، مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ) فكل سوء عملنا جزينا به ؛ فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «غفر الله لك يا أبا بكر ، ألست تمرض ، ألست تنصب ـ تتعب ، ألست تحزن ، ألست تصيبك اللأواء ـ الشدة؟» قال : بلى ، قال : «فهو مما تجزون به».

٢٨٥

وروى سعيد بن منصور وأحمد ومسلم والترمذي والنسائي عن أبي هريرة قال : لما نزلت : (مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ) شق ذلك على المسلمين ، فقال لهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «سددوا وقاربوا ، فإن في كل ما يصاب به المسلم كفارة ، حتى الشوكة يشاكها ، والنكبة ينكبها».

هذا الحديث وأمثاله يدل على أن الأمراض والبلايا والمصائب في الدنيا ، وهمومها ومخاوفها ، يكفر الله بها الخطايا.

ومن يعمل السوء لا يجد له غير الله وليا يتولى أمره ويدفع الجزاء عنه ، ولا نصيرا ينصره وينقذه مما يحلّ به ، وإنما المدار على الإيمان والأعمال ، لا على الأماني والأحلام.

وفي مقابل ذلك ومن أجل المقارنة والعدل : من يعمل صالحا يصلح به نفسه ، سواء كان العامل ذكرا أو أنثى ، وهو صادق الإيمان ، فأولئك العاملون المؤمنون بالله واليوم الآخر ، يدخلون الجنة ، ولا يظلمون شيئا من أجور الأعمال ، ولو كان العمل تافها قليلا جدا كالنقير.

فسبيل الجنة والسعادة هو العمل الصالح مع الإيمان ، وطريق النار هو العمل السيء ، ولا ينفع الافتخار بالانتساب إلى ملة أو فئة أو نبي ، من غير اتباع لشرع الله ودينه.

ثم أردف الله تعالى بذكر درجات الكمال فقال : لا أحد أحسن دينا ممن أسلم قلبه مخلصا لله وحده ، ولم يتجه إلى غيره في دعاء ولا رجاء ، وجعل نفسه سالمة لله لا تعرف لها ربا ولا معبودا سواه ، وقد عبر عن توجه القلب والقصد بإسلام الوجه ؛ لأن الوجه مرآة لما في القلب ، وهو مع هذا الإخلاص القلبي والإيمان الذاتي الكامل ، محسن للعمل أي عامل للحسنات ، تارك للسيئات ، متصف بفضائل الأخلاق والخصال ، ومتبع ملة إبراهيم في حنيفيته بالميل عن الشرك

٢٨٦

والتبرؤ من الوثنية وأهلها ، ملتزم الدين الحق وهو دين الإسلام ، كما قال تعالى : (وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ : إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ ، إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ ، وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ ، لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) [الزخرف ٤٣ / ٢٦ ـ ٢٧] وقال : (بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) [البقرة ٢ / ١٣٥].

(وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلاً) جملة اعتراضية مجاز ، مفادها أن الله اصطفى إبراهيم واختصه بكرامة تشبه كرامة الخليل عند خليله ، ومن كانت له هذه المنزلة من الزلفى عند الله بأن اتخذه خليلا ، كان جديرا بأن تتبع ملته وطريقته.

أي أن الله امتن على إبراهيم بسلامة الفطرة والاعتقاد ، وقوة العقل وصفاء الروح ، وكمال المعرفة بالله ، وشدة العزيمة وعلو الهمة في محاربة الوثنية والشرك ، حتى صار من أولي العزم ، فهو خليل الرحمن ، عدو الشيطان.

ثم ذكر الله تعالى ما هو العلة والدافع على الطاعة فقال :

جميع ما في السموات والأرض ملك الله وعبيده وخلقه وهو المتصرف في جميع ذلك ، لا رادّ لما قضى ، ولا معقّب لما حكم ، ولا يسأل عما يفعل لعظمته وقدرته وعدله وحكمته ولطفه ورحمته ، وعلمه محيط مع القدرة كل شيء ، ونافذ في جميع ذلك ، لا تخفى عليه خافية من عباده ، ولا يعزب عن علمه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض ، ولا أصغر من ذلك ولا أكبر ، ومن كان عالما بأعمال عباده فهو مجازيهم على خيرها وشرها ، فعليهم أن يختاروا لأنفسهم ما هو أصلح لها.

فهذه الآية متصلة بذكر العمال الصالحين والطالحين ، والمعنى : أن له ملك السموات والأرض ، فطاعته واجبة عليهم ، فهو تعالى مستحق التوجه إليه في كل شيء ، حتى من إبراهيم الخليل وغيره من الأنبياء ، لما يتصف به من القدرة الشاملة على الكون وإنجاز ما وعد وأوعد.

٢٨٧

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت الآيات على ما يأتي من التوجيهات والأحكام :

١ ـ لا تعلق لأحد بالآمال والتمنيات ، وإنما الجزاء منوط بالعمل. فمن عمل صالحا فلنفسه ، ومن أساء فعليها ، وما ربك بظلام للعبيد. وأهل الصلاح وليهم وناصرهم هو الله ، وأهل الضلال والفساد وليهم الشيطان ، والشيطان أعجز من أن يدفع عن نفسه عذاب الله ، فكيف يدفعه عمن غررهم في الحياة الدنيا؟!

وليس للمشركين ولي يتولى أمورهم ولا ناصر ينصرهم ، أي أن الآية إن حملت على الكافر فليس له غدا ولي ولا نصير ، وإن حملت على المؤمن فليس له ولي ولا نصير من دون الله.

٢ ـ لا تقبل الأعمال الحسنة من غير إيمان : (وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ ..) الآية ، فالإيمان شرط أساسي إذ هو قاعدة البناء الديني ؛ لأن المشركين قاموا بخدمة الكعبة ، وإطعام الحجيج وقرى الضيف ، وأهل الكتاب لهم سبق ، وقالوا : نحن أبناء الله وأحباؤه ، ولكن لم ينفع الجميع عملهم الصالح من غير إيمان ، عملا بمقتضى هذه الآية.

٣ ـ تفضيل دين الإسلام على سائر الأديان ؛ لقوله تعالى : (وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ ..) الآية. ومعنى (أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ) أخلص دينه لله ، وخضع له ، وتوجه إليه بالعبادة. ورأى بعضهم أن معنى (وَهُوَ مُحْسِنٌ) أي موحد ، فلا يدخل فيه أهل الكتاب ؛ لأنهم تركوا الإيمان بمحمد عليه‌السلام. والملة : الدين. والحنيف : المسلم.

٤ ـ إبراهيم خليل الله : قال الزمخشري (١) : مجاز عن اصطفائه واختصاصه

__________________

(١) الكشاف : ١ / ٤٢٦

٢٨٨

بكرامة تشبه كرامة الخليل عند خليله. والخليل : المخال وهو الذي يخالك أي يوافقك في خلالك ويسايرك في طريقك ، أو يسد خللك كما تسد خلله. قال ثعلب : إنما سمي الخليل خليلا ؛ لأن محبته تتخلل القلب ، فلا تدع فيه خللا إلا ملأته. وقيل : هو بمعنى المفعول كالحبيب بمعنى المحبوب ، وإبراهيم كان محبا لله وكان محبوبا لله. وقيل : معناه الاختصاص ، أي اختص إبراهيم في وقته للرسالة.

وعلى كل حال ، ليس في اتخاذ الله إبراهيم خليلا شيء من المقاربة في حقيقة الذات والصفات. وسبب اتخاذه خليلا إما لإطعامه الطعام أو لأنه التزم أن يكون خادما للرب حتى يموت ، وعن القاسم بن أبي أمامة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الله اتخذني خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا ، وإنه لم يكن نبي إلا له خليل ، ألا وإن خليلي أبو بكر» (١).

٥ ـ الله مالك السموات والأرض وخالقهما. ومعنى الآية (وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) هنا أنه اتخذ إبراهيم خليلا بحسن طاعته لا لحاجته إلى مخالّته ، ولا للتكثير به والاعتضاد ، وكيف وله ما في السموات وما في الأرض ، وإنما أكرمه لامتثاله لأمره.

٦ ـ سعة علم الله : (وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطاً) أي أحاط علمه بكل الأشياء.

__________________

(١) أسباب النزول للواحدي : ص ١٠٤ ـ ١٠٥ ، أخرج الحديث الطبراني عن أبي أمامة ، وهو ضعيف.

٢٨٩

رعاية اليتامى والصلح بين الزوجين بسبب النشوز

والعدل بين النساء

(وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ فِي يَتامَى النِّساءِ اللاَّتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ ما كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتامى بِالْقِسْطِ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ كانَ بِهِ عَلِيماً (١٢٧) وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (١٢٨) وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (١٢٩) وَإِنْ يَتَفَرَّقا يُغْنِ اللهُ كُلاًّ مِنْ سَعَتِهِ وَكانَ اللهُ واسِعاً حَكِيماً (١٣٠))

الإعراب :

(ما يُتْلى) في موضع رفع ؛ لأنه معطوف على اسم الله تعالى ، أي الله يفتيكم والمتلو. ولا يجوز أن يكون معطوفا على ضمير (فِيهِنَ) لأنه لا يجوز العطف على الضمير المجرور ، وأجازه الكوفيون. والأولى أن تكون «ما» اسم موصول مبتدأ ، والخبر محذوف ، والتقدير : والذي يتلى عليكم في القرآن كذلك ، أي يفتيكم فيهن أيضا. (فِي الْكِتابِ) صلة يتلى ، وكذلك : (فِي

٢٩٠

يَتامَى النِّساءِ). (اللَّاتِي) في موضع جر صفة ليتامى و (لا تُؤْتُونَهُنَ) إلى قوله : (أَنْ تَنْكِحُوهُنَ) : في صلة اللاتي. (وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدانِ) : مجرور ؛ لأنه معطوف على (يَتامَى النِّساءِ) ، وكذلك قوله : (وَأَنْ تَقُومُوا) في موضع جر عطفا على (الْمُسْتَضْعَفِينَ). والتقدير : يفتيكم في يتامى النساء وفي المستضعفين ، وأن تقوموا لليتامى بالقسط (وَإِنِ امْرَأَةٌ) مرفوع بفعل يفسره : خافت (أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً) : صلحا : منصوب على المصدر على تقدير : فيصلح الأمر صلحا.

البلاغة :

يوجد جناس مغاير في (يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً .. وَالصُّلْحُ) وفي (تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ). (فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ) تشبيه مرسل مجمل.

المفردات اللغوية :

(وَيَسْتَفْتُونَكَ) يطلبون منك الفتيا (فِي النِّساءِ) في شأن النساء وميراثهن (يُفْتِيكُمْ) يبين لكم ما أشكل عليكم (ما كُتِبَ لَهُنَ) أي فرض لهن من ميراث وصداق (وَأَنْ تَقُومُوا) أي تعنوا عناية خاصة بهن (بِالْقِسْطِ) بالعدل في الميراث والمهر (فَإِنَّ اللهَ كانَ بِهِ عَلِيماً) فيجازيكم به (خافَتْ مِنْ بَعْلِها) توقعت من زوجها ما تكره (نُشُوزاً) ترفعا وتكبرا عليها بترك مضاجعتها والتقصير في نفقتها لبغضها وطموح عينه إلى أجمل منها (أَوْ إِعْراضاً) عنها بوجهه أي ميلا وانحرافا (فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً) في القسم والنفقة ، بأن تترك له شيئا ، طلبا لبقاء الصحبة ، فإن رضيت بذلك وإلا فعلى الزوج أن يوفيها حقها أو يفارقها (وَالصُّلْحُ خَيْرٌ) من الفرقة والنشوز والإعراض (وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَ) شدة البخل أي إن الشح حاضر لها لا يغيب عنها ، أي جبلت مطبوعة عليه ، فكأنها حاضرته لا تغيب عنه ، المعنى أن المرأة لا تكاد تسمح بنصيبها من زوجها ، والرجل لا يكاد يسمح لها بنفسه إذا أحب غيرها.

(وَإِنْ تُحْسِنُوا) عشرة النساء (وَتَتَّقُوا) الجور عليهن (فَإِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً) فيجازيكم به (أَنْ تَعْدِلُوا) تسووا (بَيْنَ النِّساءِ) في المحبة ولو حرصتم على ذلك (فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ) إلى التي تحبونها في القسم والنفقة (فَتَذَرُوها) أي تتركوا الممال عنها (كَالْمُعَلَّقَةِ) التي ليست مطلقة ولا هي ذات زوج أو بعل. (وَإِنْ تُصْلِحُوا) بالعدل بالقسم (وَتَتَّقُوا) الجور (فَإِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً) لما في قلبكم من الميل (رَحِيماً) بكم في ذلك.

(مِنْ سَعَتِهِ) أي فضله وغناه بأن يرزقها زوجا غيره ويرزقه غيرها (وَكانَ اللهُ واسِعاً) لخلقه في الفضل (حَكِيماً) فيما دبره لهم.

٢٩١

سبب النزول :

نزول الآية (١٢٧):

(وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ) : روى البخاري عن عائشة في هذه الآية قالت : هو الرجل تكون عنده اليتيمة هو وليها ووارثها قد شركته في مالها حتى في العذق (النخلة بحملها) فيرغب عن أن ينكحها ، ويكره أن يزوجها رجلا ، فيشركه في مالها ، فيعضلها (يمنعها عن الزواج) فنزلت.

وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي : كان لجابر بنت عم دميمة ، ولها مال ورثته عن أبيها ، وكان جابر يرغب عن نكاحها ، ولا ينكحها خشية أن يذهب الزوج بمالها ، فسأل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن ذلك ، فنزلت.

سبب نزول الآية (١٢٨):

(وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ) : روى الترمذي عن ابن عباس أنها نزلت بسبب سودة بنت زمعة ، قال : خشيت سودة أن يطلقها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالت : لا تطلّقني وأمسكني ، واجعل يومي منك لعائشة ، ففعل ، فنزلت : (فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً) فما اصطلحا عليه فهو جائز. قال الترمذي : هذا حديث حسن غريب. وروى أبو داود والحاكم عن عائشة مثل ذلك.

وروى ابن عيينة وسعيد بن منصور عن الزهري عن سعيد بن المسيب أن رافع بن خديج كانت تحته خولة ابنة محمد بن مسلمة ، فكره من أمرها إما كبرا وإما غيره ، فأراد أن يطلقها ، فقالت : لا تطلقني ، واقسم لي ما شئت ، فجرت السنة بذلك ، ونزلت : (وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ). وله شاهد موصول أخرجه الحاكم من طريق ابن المسيب عن رافع بن خديج.

وروى البخاري والحاكم عن عائشة رضي‌الله‌عنها : (وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ

٢٩٢

بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً) قالت : الرجل تكون عنده المرأة ليس بمستكثر منها يريد أن يفارقها ، فتقول : أجعلك من شأني في حلّ ، فنزلت هذه الآية.

المناسبة :

اشتملت السورة على موضوعين عامين : كان أولهما في أحكام النساء واليتامى والقرابة والإرث والمصاهرة ، ثم أبانت بدءا من قوله تعالى : (وَاعْبُدُوا اللهَ وَلا تُشْرِكُوا) أسس الدين ، وأحوال أهل الكتاب والمنافقين ، والقتال. ثم عاد الكلام هنا إلى أحكام النساء واليتامى الضعفاء ، وتوطيد دعائم الرابطة الزوجية بالإصلاح ، وبالعدل بين الزوجات حال التعدد.

التفسير والبيان :

ويستفتونك يا محمد في شأن النساء وحقوقهن الشاملة للميراث وحقوق الزواج ، أي المالية والزوجية ، كالعدل في المعاملة ، والعشرة الطيبة وعلاج حالة النشوز. قل : الله يفتيكم فيهن ويبين لكم ما أشكل من أمورهن ، وكذلك يوضح لكم أحكاما أخرى في المتلو عليكم في القرآن من أول السورة ، كأحكام معاملة النساء اليتامى في المواريث ، وإيتاء أموال الأيتام بقوله : (وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ) [النساء ٤ / ٢] والتحرج من الزواج باليتيمات : (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ ..) [النساء ٤ / ٣].

فقد جرت عادتكم القبيحة ألا تعطوهن ما كتب (فرض) لهن من الإرث إذا كان في أيديكم ، لولايتكم عليهن ، وترغبون في أن تنكحوهن لجمالهن والتمتع بأموالهن. ويحتمل : وترغبون عن أن تنكحوهن لدمامتهن ، روي أن عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه كان إذا جاءه ولي اليتيمة نظر ، فإن كانت جميلة غنية قال : زوّجها غيرك ، والتمس لها من هو خير منك ، وإن كانت دميمة ولا مال لها قال : تزوجها ، فأنت أحق بها. هذا مع العلم أنه كان الرجل منهم يضم اليتيمة

٢٩٣

ومالها إلى نفسه ، فإن كانت جميلة تزوجها وأكل مالها ، وإن كانت دميمة عضلها عن التزوج حتى تموت فيدفنها.

والمستضعفين : معطوف على يتامى النساء ، أي وما يتلى عليكم في شأن المستضعفين من الأولاد الذين لا تعطونهم حقهم في الميراث المنصوص عليه في قوله تعالى : (يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ) وقد كانوا في الجاهلية إنما يورّثون الرجال القوامين بالأمور دون الأطفال والنساء.

ويصح في حال العطف على يتامى النساء أن يكون العامل هو يفتيكم بمعنى يفتيكم في يتامى النساء وفي المستضعفين وفي أن تقوموا لليتامى بالقسط.

والخلاصة : إن الله يذكّر بحق الضعيفين : المرأة والطفل اليتيم ، سواء بالآيات السابقة ليتدبروا معناها ويعملوا بما فيها ، لتغافلهم عنها ، أو بالإفتاء المجدد فيهما عدا المذكور سابقا.

(وَأَنْ تَقُومُوا) أي والله يفتيكم أيضا بأن تعاملوا اليتامى بالعدل ، وأن تعنوا بشؤونهم عناية خاصة. ويجوز كما ذكر الزمخشري أن يكون قوله (وَأَنْ تَقُومُوا) منصوبا بفعل مقدر وهو : ويأمركم أن تقوموا ، وهو خطاب للأمة في أن ينظروا لهم ، ويستوفوا لهم حقوقهم ، ولا يدعوا أحدا يظلمهم أو يهضم حقوقهم.

وما تفعلوا من خير قليل أو كثير لليتامى والضعفاء والنساء ، فإن الله به عليم ، فيجازيكم عليه أحسن الجزاء. وهذا تهييج على فعل الخيرات وامتثال الأوامر ، وأن الله عزوجل عالم بجميع ذلك ، وسيجزي عليه أوفر الجزاء وأتمه.

ثم أخبر الله تعالى عن طرق علاج الخلاف بين الزوجين ، وذكر أحوالا ثلاثة : حال نفور الرجل عن المرأة ، وحال اتفاقه معها ، وحال فراقه لها.

٢٩٤

فالحالة الأولى :

ما إذا خافت المرأة من زوجها أن ينفر عنها أو يعرض عنها ، فلها أن تسقط عنه حقها أو بعضه من نفقة أو كسوة أو مبيت أو غيرها من حقوقها عليه ، وله أن يقبل ذلك منها ، فلا حرج عليها في بذلها شيئا من مالها له ، ولا عليه في قبوله منها. والخوف هنا مستعمل في حقيقته بشرط ظهور أمارات تدل عليه.

ومعنى الآية في هذه الحالة : إن توقعت المرأة من زوجها نشوزا وترفعا عليها بأمارات وقرائن ، كأن منعها نفسه ونفقته ولم يعاملها بالود والرحمة ، أو آذاها بسبّ أو ضرب ونحو ذلك ، أو أعرض عنها بأن أحجم عن محادثتها ومؤانستها لسوء في الطبع والخلق ، أو لطعن في السن ، أو دمامة أو ملال لها أو طموح إلى غيرها ، ففي هذه الأحوال لا بأس من اللجوء إلى الإصلاح بينهما ، بالتنازل عن بعض حقوقها أو كل حقوقها ، لتبقى في عصمته ، أو تمنحه شيئا من مالها ليطلقها وهو عوض الخلع : (فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ). ولكن ليذكر الزوجان دائما ما أقامه الله بينهما من عاطفة الود والرحمة كما قال : (وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها ، وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً ، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) [الروم ٣٠ / ٢١].

وقد ذكرت في أسباب النزول أكثر من حالة لبعض النسوة في صدر الإسلام ، تنازلت الزوجة عن حقها في القسم لضرتها ، أو اكتفت بالمبيت كل شهرين ، على أن تبقى لديه ولا يطلقها.

والحالة الثانية :

وهي حالة الاتفاق بين الزوجين المعبر عنه بالصلح : أي أن صلحهما على ترك بعض حقها للزوج ، وقبول الزوج ذلك خير من المفارقة بالكلية. ولما كان الوفاق أحب إلى الله من الفراق ، قال تعالى : (وَالصُّلْحُ خَيْرٌ) من الفراق

٢٩٥

والتسريح ، أو من النشوز والإعراض ، وسوء العشرة ، أو هو خير من الخصومة في كل شيء ، حفاظا على الرابطة الزوجية ، ومنعا من هدم كيان الأسرة وإلحاق الضرر بالأولاد ، ولأن الطلاق أبغض الحلال إلى الله (١) ، وكل ذلك يوجب العودة إلى المعاشرة بالمعروف والمعاملة بالعدل. وهذه الجملة اعتراض ، وكذلك قوله : (وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَ).

أي لقد استطرد القرآن إلى بيان طبيعة في النفوس : وهي الحرص على البخل ، فالنساء حريصات على حقوقهن في القسم والنفقة وحسن العشرة ، وعلى الزوج أيضا ، وعلى حقها المالي في المهر ونفقة العدة ، وكذا الرجال حريصون على أموالهم أيضا وعلى كراهة تهديم الأسرة ، فيكون التسامح والتصالح خيرا للطرفين ، ما دام بهذا الطبع ، والصلح عند المشاحة خير من الفراق.

ومعنى الصلح : أن يتصالحا على أن تطيب له نفسا عن القسمة أو عن بعضها ، كما فعلت سودة بنت زمعة حين كرهت أن يفارقها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وعرفت مكان عائشة من قلبه ، فوهبت لها يومها ، كما روي أن امرأة أراد زوجها أن يطلقها لرغبته عنها ، وكان لها منه ولد ، فقالت : لا تطلقني ، ودعني أقوم على ولدي ، وتقسم لي في كل شهرين ، فقال : إن كان هذا يصلح ، فهو أحب إلي ، فأقرها (٢).

ومن حالات الصلح أن تهب له بعض المهر أو كله ، أو النفقة ، فإن لم تفعل ، فليس له إلا أن يمسكها بإحسان أو يسرحها.

وإن تحسنوا البقاء مع نسائكم وإن كرهتموهن ، وتصبروا على ما تكرهون ،

__________________

(١ ، ٢) روى أبو داود وابن ماجه عن عبد الله بن عمر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أبغض الحلال إلى الله الطلاق».

الكشاف : ١ / ٤٢٧

٢٩٦

مراعاة لحق الصحبة ، وتحسنوا المعاشرة فيما بينكم ؛ وتتقوا النشوز والإعراض وما يؤدي إلى الأذى والخصومة ، فإن الله كان بما تعملون من الإحسان والتقوى خبيرا عليما لا يخفى عليه شيء ، فيجازيكم ويثيبكم عليه.

كان عمران بن حطّان الخارجي من أدمّ بني آدم ، وامرأته من أجملهم ، فأجالت في وجهه نظرها يوما ، ثم تابعت : الحمد لله ، فقال : ما لك؟ قالت : حمدت الله على أني وإياك من أهل الجنة ، قال : كيف؟ قالت : لأنك رزقت مثلي فشكرت ، ورزقت مثلك فصبرت ، وقد وعد الله الجنة عباده الشاكرين والصابرين (١).

ثم بين الله تعالى أن تمام العدل وكماله وغايته في معاملة النساء محال ، فخفف الله التكليف بالعدل التام ، وطالب الرجال بقدر الاستطاعة ، فقال :

(وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ) لأن العدل في المعاملة يشمل أمورا مادية وغير مادية ، أما المادية فهي كالمبيت والنفقة والكسوة ، وأما غير المادية فهي كالحب والميل وغير ذلك مما يرجع إلى الشعور النفسي ، وأحاسيس النفس يصعب كبحها.

فكلف الله ما يستطيعه الرجال وهو العدل المادي ، ورفع عنهم الحرج فيما لا يستطيعونه من الحب والاشتهاء وأحوال الجبلّة البشرية ، كما هو الشأن في سائر التكاليف ، فإن الحب والبغض ونحوهما لسنا مكلفين به.

ولكن الله جعل التكليف بالمستطاع في معاملة النساء مشروطا بأن يبذلوا ما فيه ولوسعهم وطاقتهم ؛ لأن تكليف ما لا يستطاع داخل في حد الظلم ، وما ربك بظلام للعبيد.

__________________

(١) الكشاف : ١ / ٤٢٨

٢٩٧

وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه كان يقسم بين نسائه فيعدل ، ويقول فيما رواه أصحاب السنن الأربع عن عائشة : «اللهم هذا قسمي فيما أملك ، فلا تلمني فيما تملك ولا أملك» يعني المحبة ؛ لأن عائشة رضي‌الله‌عنها كانت أحب إليه.

(فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ) فلا تجوروا على المرغوب عنها كل الجور ، فتمنعوها قسمتها من غير رضا منها ، يعني أن اجتناب كل الميل مما هو في حد اليسر والسعة ، فلا تفرطوا فيه ، وإن وقع منكم التفريط في العدل كله ، وفيه نوع من التوبيخ ، فإذا ملتم إلى واحدة منهن فلا تبالغوا في الميل بالكلية.

(فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ) أي فتبقى هذه الأخرى أو المرأة المرغوب عنها كالمعلّقة ، لا هي مطلقة ولا هي متزوجة ، بل عليكم إرضاؤها وحسن عشرتها وحفظ حقوقها.

روى الإمام أحمد وأهل السنن وأبو داود الطيالسي عن أبي هريرة قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من كانت له امرأتان ، فمال إلى إحداهما ، جاء يوم القيامة ، وأحد شقّيه ساقط».

(وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا ..) أي وإن أصلحتم أموركم وقسمتم بالعدل ، وتبتم عن الميل والجور ، واتقيتم الله في المستقبل في جميع الأحوال ، غفر الله لكم ما كان من ميل في الماضي إلى بعض النساء دون بعض ، وكان شأن الله دائما المغفرة للمقصرين والرحمة بعباده التائبين الراجعين إليه.

والحالة الثالثة :

وهي حالة الفراق : أخبر الله تعالى أنه إذا تفرّق الزّوجان لاستعصاء الحلول والعلاج والتوفيق والمصالحة بينهما ، فإن الله يغني الرّجل عنها ، ويغنيها عنه ، بأن يعوّضه الله من هو خير له منها ، ويعوّضها عنه بمن هو خير لها منه ، وكان الله واسع الفضل ، عظيم المنّ ، حكيما في جميع أفعاله وأقداره وشرعه.

٢٩٨

فقه الحياة أو الأحكام :

الاستفتاء في الدّين أمر مطلوب شرعا ؛ لقوله تعالى : (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) [النحل ١٦ / ٤٣] ، والآية (١٢٧) نزلت للجواب عن الاستفتاء فيما يجب للنساء وما يجب عليهنّ مطلقا ، وقد كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يسأل عن أحكام كثيرة تتعلّق بالنّساء ، سواء في الميراث وغير ذلك.

والمراد بقوله : (ما كُتِبَ لَهُنَ) أي ما فرض لهنّ من الميراث أو الصّداق أو النّكاح وما يعم ذلك كله وغيره.

(وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ) : معناه أنهم كانوا يسألون عن أحوال كثيرة ، فما كان منها غير مبيّن الحكم قبل نزول هذه الآية ، ذكر أن الله يفتيهم فيه. وما كان منها مبيّن الحكم في الآيات المتقدّمة مثل : (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى) (الآية ٣) أحالهم فيه إلى تلك الآيات ، وذكر أنها تفتيهم فيما عنه يسألون. وقد جعل دلالة الكتاب على الأحكام إفتاء من الكتاب ، إذ يصح القول : إن كتاب الله بيّن كذا ، وإن كتاب الله أفتى بكذا.

واحتجّ بعض الحنفية بقوله تعالى : (وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَ) على أنه يجوز لغير الأب والجدّ تزويج الصغيرة ؛ لأن الله ذكر الرغبة في نكاحها ، فاقتضى جوازه.

وقال الشافعية : إن الله ذكر في هذه الآية ما كانت تفعله الجاهلية على طريق الذّم ، فلا دلالة فيها على ذلك ، على أنه لا يلزم من الرغبة في نكاحهنّ فعله في حال الصّغر.

والخلاصة : إن الآية ترغّب في الإحسان ليتامى النساء بالميراث والصداق والنكاح وغير ذلك ، كما ترغب وتأمر بالإحسان إلى الولدان الضعفاء الصغار ،

٢٩٩

ردّا على ما كان عليه أهل الجاهلية ، إذ كانوا لا يورثونهم كما لا يورثون النساء ، وتأمر أيضا بمعاملة اليتامى بالعدل. وختمت الآية بما يؤكد الأوامر السابقة ، فأعلنت : وما تفعلوه من خير يتعلق بهؤلاء المذكورين أو بغيرهم ، فإن الله يجازيكم عليه ، ولا يضيع عنده منه شيء.

ومن الأحكام التي أخبر الله تعالى أنه يفتيهم بها في النساء : علاج حالة النشوز أو الإعراض من الرجل عن زوجته ، والإعراض : الانصراف عنها بوجهه أو ببعض منافعه التي كانت لها منه ، مثل أن يقلل محادثتها أو مؤانستها لكبر سنّ أو دمامة أو عيب خلقي أو ملال. والإعراض أخفّ من النّشوز.

والعلاج بالصّلح بأن تترك له المرأة يومها ، كما فعلت سودة رضي‌الله‌عنها مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أو تضع عنه بعض ما يجب له من نفقة أو كسوة أو تهب له شيئا من مهرها ، أو تعطيه مالا لتستعطفه وتستديم المقام معه.

ولا يكون أخذ الرجل شيئا من مال الزوجة بالصلح أكلا بالباطل أو أخذا بالإكراه إذا كان هناك عذر حقيقي مما تقدّم ، دون اتّخاذ الأعذار ذريعة أو حيلة لأخذ المال ، فإن لم يكن هناك مسوغ مقبول شرعا ، ولكنه تظاهر بالنشوز والإعراض ، كان أخذ المال حراما.

والسبب في أنه تعالى أجاز للرجل أخذ شيء من مال المرأة حال النشوز الحاصل منه ، وجعل لنشوز المرأة عقوبة من زوجها يعظها ويهجرها في المضجع ويضربها ، فقال : (وَاللَّاتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَ) [النساء ٤ / ٣٤] : السبب أن الله تعالى جعل للرجال درجة القوامة على النساء ، فليس للمرؤوس معاقبة رئيسه ، وأن الله فضّل الرجال على النساء في العقل والدين وتحمل التكاليف الشاقة ، والتفضيل يقتضي ألا يكون نشوز الرجل إلا لسبب قاهر ، أما المرأة لغلبة عواطفها عليها ونقصان عقلها ودينها

٣٠٠