التفسير المنير - ج ٥

الدكتور وهبة الزحيلي

اليهود والنصارى الانضمام لدار الإسلام ودفع الجزية ، وترك بعضهم ديارهم دون قتال ، فكفّ الله بأسهم عن المؤمنين.

الشفاعة الحسنة ورد التحية وإثبات البعث والتوحيد

(مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْها وَمَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْها وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتاً (٨٥) وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها إِنَّ اللهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً (٨٦) اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ حَدِيثاً (٨٧))

الإعراب :

(لَيَجْمَعَنَّكُمْ) : اللام موطئة للقسم ، فقوله : (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) خبر ، وقوله : (لَيَجْمَعَنَّكُمْ) قسم ، وكل لام بعدها نون مشددة فهي لام القسم.

المفردات اللغوية :

(مَنْ يَشْفَعْ) يتوسط في أمر لقضائه ، بأن ينضم إلى آخر ناصرا له في طلبه (نَصِيبٌ) حظ من الأجر (كِفْلٌ) نصيب مكفول من الوزر (مُقِيتاً) حافظا ومقتدرا ، فيجازي كل أحد بما عمل.

(بِتَحِيَّةٍ) مصدر حيّاه بأن قال له : حيّاك الله أو سلام عليكم ، والتحية في الأصل : الدعاء بالحياة ، ثم صار اسما لكل دعاء بالخير في الصباح أو المساء ، وجعل الشرع تحية المسلمين : «السلام عليكم» إشارة إلى أن شعار الإسلام : السلام والأمان والمحبة (حَسِيباً) محاسبا على العمل ، فيجازي عليه ، وقد يراد به المكافئ (لا رَيْبَ فِيهِ) لا شك فيه (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ حَدِيثاً) أي لا أحد أصدق قولا من الله.

١٨١

المناسبة :

لما أمر الله نبيه بتحريض المؤمنين على القتال ، بين هنا أنهم حين أطاعوك أصابهم خير كثير ، وأن لك من هذا الخير نصيبا تؤجر عليه ، لما بذلت في ترغيبهم بالجهاد من جهود. قال مجاهد : نزلت هذه الآية في شفاعات الناس بعضهم لبعض.

التفسير والبيان :

من يسعى في أمر ، فيترتب عليه خير ، كان له نصيب منه بانتصار الحق على الباطل وما يتبعه من شرف وغنيمة في الدنيا ، وبما يحظى به من الثواب في الآخرة.

ومن يسعى في سيئة يكون عليه وزر مما ترتب على سعيه ونيته ، كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اشفعوا ـ أي في الخير ـ تؤجروا ؛ ويقضي الله على لسان نبيه ما شاء» (١).

فالشفاعة نوعان : حسنة وسيئة ، أما الشفاعة الحسنة : فهي التي روعي بها حق مسلم ، ودفع بها عنه شر ، أو جلب إليه خير ، وابتغي بها وجه الله ، ولم تؤخذ عليها رشوة ، وكانت في أمر جائز ، لا في حدّ من حدود الله ، ولا في حق من الحقوق. وقيل : الشفاعة الحسنة : هي الدعوة للمسلم ؛ لأنها في معنى الشفاعة إلى الله. وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من دعا لأخيه المسلم بظهر الغيب ، استجيب له ، وقال له الملك : ولك مثل ذلك» (٢) فذلك النصيب. والدعوة على المسلم بضد ذلك.

__________________

(١) رواه الشيخان وأصحاب السنن إلا ابن ماجه عن أبي موسى.

(٢) رواه مسلم وأبو داود عن أبي الدرداء ، بلفظ : «من دعا لأخيه بظهر الغيب ، قال الملك الموكل به : آمين ، ولك بمثله».

١٨٢

والشفاعة السيئة : ما كانت بخلاف ذلك. والشائع الآن الوساطات والشفاعات السيئة المصحوبة بالمادة والرشاوى ، لتضييع الحقوق ، والاستيلاء على مال الغير. عن مسروق أنه شفع شفاعة ، فأهدى إليه المشفوع له جارية ، فغضب وردها ، وقال : لو علمت ما في قلبك لما تكلمت في حاجتك ، ولا أتكلم فيما بقي منها (١).

(وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتاً) أي حفيظا شهيدا ، وقيل : مقتدرا ، أو محاسبا ، فهو تعالى مطلع عالم بأغراض الشفعاء ، مجاز كل واحد بحسب مقصده ، وقادر على جزائه بما يستحق ؛ لأن الجزاء في سنته مرتبط بالعمل.

ثم علّم الله الناس التحية وآدابها ، وهي كالشفاعة الحسنة من أسباب التواصل والتقارب بين الناس ، وعدت من التحية. وأصل التحية : الدعاء بالحياة ، والتحيات لله : أي الألفاظ التي تدل على الملك ، ويكنى بها عنه لله تعالى ، والصحيح أن التحية هاهنا : السلام ، لقوله تعالى : (وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللهُ) [المجادلة ٥٨ / ٨].

فإذا سلم عليكم المسلم فالواجب الرد عليه بأفضل مما سلم ، أو الرد عليه بمثل ما سلم ، فالزيادة مندوبة ، والمماثلة مفروضة. فإذا قال الشخص : السلام عليكم ، أجاب المسلّم عليه إما بقوله : وعليكم السلام ، أو وعليكم السلام ورحمة الله ، وإذا زاد : «وبركاته» كان أفضل ، وفي كل كلمة عشر حسنات. والأولى أن يكون الرد ببشاشة وسرور وحسن استقبال.

روى ابن جرير عن سلمان الفارسي قال : جاء رجل إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال السلام عليك يا رسول الله ، فقال : «وعليك السلام ورحمة الله» ثم جاء آخر فقال : السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله ، فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «وعليك

__________________

(١) الكشاف : ١ / ٤١٣

١٨٣

السلام ورحمة الله وبركاته» ثم جاء آخر فقال : السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته ، فقال له : «وعليك» فقال له الرجل : يا نبي الله ، بأبي أنت وأمي ، أتاك فلان وفلان ، فسلما عليك ، فرددت عليهما أكثر مما رددت علي ، فقال : «إنك لم تدع لنا شيئا» قال الله تعالى : (وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ ، فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها) فرددناها عليك».

(إِنَّ اللهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً) أي يحاسبكم على كل شيء من التحية وغيرها ، وهذا تأكيد لإشاعة السلام ووجوب رد التحية على من سلّم. روى أبو داود عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «والذي نفسي بيده لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ، ولا تؤمنوا حتى تحابوا ، أفلا أدلكم على أمر إذا فعلتموه تحاببتم : أفشوا السلام بينكم».

ثم بيّن الله تعالى أنهم مجزيون على التحية والجهاد وأعمال الخير والشفاعة ، فقرر أن المرجع والمصير إلى الله الواحد الأحد ، وأن البعث والجزاء في الدار الآخرة ثابت. وهذه الآية تقرر ركنين أساسيين للدين وهما : إثبات التوحيد وإخباره تعالى بتفرده بالألوهية لجميع المخلوقات بقوله : (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ). وإثبات البعث والجزاء في الآخرة بالقسم الذي أقسمه : (لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ)(١)(لا رَيْبَ فِيهِ) أي أنه سيجمع الأولين والآخرين في الموت وتحت الأرض ثم يبعثهم في صعيد واحد ، فيجازي كل عامل بعمله. وقد نزلت في الذين شكوا في البعث ، فأقسم الله تعالى بنفسه.

وقوله : (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ حَدِيثاً) معناه : لا أحد أصدق منه عز

__________________

(١) سميت القيامة ؛ لأن الناس يقومون فيه لرب العالمين جل وعز ، قال الله تعالى : أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ ، يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ [المطففين ٨٣ / ٤ ـ ٥]. وقيل : لأن الناس يقومون من قبورهم إليها : يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً [المعارج ٧٠ / ٤٣].

١٨٤

وجل في حديثه وخبره ، ووعده ووعيده ، فلا إله إلا هو ، ولا رب سواه ؛ إذ كلامه تعالى عن علم محيط بسائر الكائنات ، كما قال : (لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى) [طه ٢٠ / ٥٢].

فقه الحياة أو الأحكام :

تضمنت الآيات آدابا وأحكاما مهمة هي :

١ ـ إباحة الشفاعة الحسنة ، أي الموصلة إلى الحق ، غير المقترنة بالرشوة ، وتحريم الشفاعة السيئة ، أي التي فيها التعاون على الباطل أو الإثم والعدوان ، أو المسقطة لحد من حدود الله ، أو المضيعة لحق من الحقوق ، أو المصحوبة بالرشوة.

والحسنة فيما استحسنه الشرع ورضيه أي في البر والطاعة ، والسيئة فيما كرهه الشرع أو حرمه أي في المعاصي.

٢ ـ الترغيب في التحية والسلام على من عرفت ومن لم تعرف ، وعن النخعي : «السلام سنة ، والرد فريضة» وكلما كان الرد أفضل كان الثواب أكثر ، فالسلام وحده من المسلّم والمجيب له من الأجر عشر حسنات ، وضم الرحمة إليه : له عشرون حسنة ، وضم : «وبركاته» له ثلاثون حسنة كما روى النسائي عن عمران بن حصين. وعن ابن عباس : «الرد واجب ، وما من رجل يمر على قوم مسلمين ، فيسلم عليهم ولا يردون عليه ، إلا نزع عنهم روح القدس ، وردت عليه الملائكة» وروى ابن جرير عن ابن عباس أيضا عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من سلم عليك من خلق الله فاردد عليه ، وإن كان مجوسيا ، فإن الله يقول : (وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها) [النساء ٤ / ٨٦].

ومن قال لخصمه : السلام عليكم ، فقد أمنه على نفسه.

والسنة أن يسلم القادم ، والراكب ـ لعلو مرتبته ـ على الماشي ، والماشي على

١٨٥

القاعد لوقاره وسكونه ، والقليل على الكثير ، والصغير على الكبير مراعاة لشرف الجمع وأكثريتهم. ولا يسلم الرجل على المرأة الأجنبية ، ويسلم على زوجته. جاء في الصحيحين أنه «يسلم الراكب على الماشي ، والماشي على القاعد ، والقليل على الكثير». وروي «أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مرّ بصبيان فسلم عليهم» وروى الترمذي : «أنه مر بنسوة فأومأ بيده بالتسليم» وفي الصحيحين : «إن أفضل الإسلام وخيره : إطعام الطعام ، وأن تقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف» وروى الحاكم من قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أفشوا السلام تسلموا» وأجاز المالكية التسليم على النساء إلا على الشابات منهن خوف الفتنة من مكالمتهن بنزعة شيطان أو خائنة عين ، ومنعه الحنفية إذا لم يكن منهن ذوات محرم ، وقالوا : لما سقط عن النساء الأذان والإقامة والجهر بالقراءة في الصلاة سقط عنهن رد السلام ، فلا يسلم عليهن. والصحيح مذهب المالكية لما ثبت في البخاري من تسليم الصحابة في المدينة على عجوز.

وذكر السيوطي : أنه ثبت في السنة أنه لا يجب الرد على الكافر والمبتدع والفاسق وعلى قاضي الحاجة ومن في الحمام والآكل ، بل يكره في غير الأخير ، ويقال للكافر : وعليك. ثبت عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «إذا سلم أهل الكتاب فقولوا : وعليكم» (١) أي وعليكم ما قلتم ؛ لأنهم كانوا يقولون : السام عليكم. وروي : «لا تبتدئ اليهودي بالسلام ، وإن بدأ فقل : وعليك» وهذا مذهب الجمهور.

ولا يرد السلام في الخطبة ، وقراءة القرآن جهرا ، ورواية الحديث ، وعند مذاكرة العلم ، والأذان والإقامة. ولا يسلّم على المصلي ، فإن سلّم عليه فهو بالخيار : إن شاء ردّ بالإشارة بإصبعه ، وإن شاء أمسك حتى يفرغ من الصلاة ثم يرد.

__________________

(١) رواه أحمد والشيخان والترمذي وابن ماجه عن أنس.

١٨٦

وعن أبي يوسف : لا يسلم على لاعب النرد والشطرنج ، والمغنّي ، والقاعد لحاجته ، ومطير الحمام ، والعاري من غير عذر في حمام أو غيره.

وذكر الطحاوي : أن المستحب رد السلام على طهارة ، وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «أنه تيمم لرد السلام».

وعن أبي حنيفة : لا تجهر بالرد يعني الجهر الكثير.

وأجاز الحسن البصري أن تقول للكافر : وعليك السلام ، ولا تقل : ورحمة الله ، فإنها استغفار. وعن الشعبي أنه قال لنصراني سلّم عليه : وعليك السلام ورحمة الله ، فقيل له في ذلك؟ فقال : أليس في رحمة الله يعيش؟

وقد رخص بعض العلماء في أن يبدأ أهل الذمة بالسلام إذا دعت إلى ذلك حادثة تحوج إليهم ، وروي ذلك عن النخعي. والخلاصة : يجوز بدء السلام ورده على غير المسلمين عند بعض الأئمة.

والسنة في السلام والجواب الجهر ، ولا تكفي الإشارة بالإصبع والكف عند الشافعي. وعند المالكية : تكفي إذا كان على بعد.

٣ ـ الله على كل شيء مقيت (شهيد أو مقتدر) وحسيب (أي رقيب وحفيظ ومحاسب على الأعمال) ولا أحد أصدق من الله حديثا في خبره ووعده ووعيده وحديثه.

٤ ـ إثبات التوحيد وتفرد الله بالألوهية والربوبية لجميع المخلوقات ، وإثبات البعث والجزاء في الدار الآخرة.

٥ ـ القرآن كلام الله ؛ لأنه وحي منه : (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ حَدِيثاً) أما كلام غير الله وغير النبي فمحتمل للصدق والكذب عمدا أو سهوا أو جهلا.

١٨٧

أوصاف المنافقين ومراوغتهم ومحاولتهم تكفير المسلمين

وكيفية معاملتهم

(فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللهُ أَرْكَسَهُمْ بِما كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً (٨٨) وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَما كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَواءً فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِياءَ حَتَّى يُهاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (٨٩) إِلاَّ الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقاتِلُوكُمْ أَوْ يُقاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شاءَ اللهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَما جَعَلَ اللهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً (٩٠) سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّما رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيها فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولئِكُمْ جَعَلْنا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطاناً مُبِيناً (٩١))

الإعراب :

(فِئَتَيْنِ) منصوب على الحال من الكاف والميم في (لَكُمْ) أي ما لكم في المنافقين مختلفين؟

١٨٨

(إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ) استثناء من الهاء والميم في (وَاقْتُلُوهُمْ) وهو استثناء موجب.

(حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ) جملة فعلية : إما في موضع جر ، صفة لمجرور وهو (إِلى قَوْمٍ) وإما في موضع نصب ؛ لأنها صفة لقوم مقدر تقديره : أو جاءوكم قوما حصرت صدورهم. والفعل الماضي إذا وقع صفة لمحذوف جاز أن يقع حالا بالإجماع.

(لَسَلَّطَهُمْ) اللام جواب (لَوْ) واللام في «لقاتلوكم» : تأكيد لجواب (لَوْ) في (لَسَلَّطَهُمْ) لأنها حوذيت بها ، وإلا فالمعنى : فسلطهم عليكم فيقاتلوكم ، فزيدت للمحاذاة والازدواج : وهي اللام التي تأتي في إثر جواب «لو» ثم تقترن بها لام أخرى ، يقصد بها التأكيد.

البلاغة :

(فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ) وقوله : (أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا) : استفهام بمعنى الإنكار.

(أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللهُ) : فيه طباق.

(تَكْفُرُونَ كَما كَفَرُوا) : جناس مغاير.

المفردات اللغوية :

(فِئَتَيْنِ) فرقتين أو جماعتين (أَرْكَسَهُمْ) ردهم إلى الكفر والقتال. والمراد هنا تحولهم إلى الغدر والقتال ، بعد أن أظهروا الولاء للمسلمين. (أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللهُ) أي تعدوهم من جملة المهتدين. (سَبِيلاً) طريقا إلى الهدى.

(وَدُّوا) تمنوا (وَلِيًّا) نصيرا ومعينا (يَصِلُونَ) يتصلون بهم أو يلجأون إليهم (مِيثاقٌ) عهد ، كما عاهد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم هلال بن عويمر الأسلمي (حَصِرَتْ) ضاقت عن قتالكم وقتال قومهم (السَّلَمَ) الصلح أو السلام والاستسلام ، أي انقادوا (سَبِيلاً) طريقا بالأخذ والقتل.

(سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ) بإظهار الإيمان عندكم (وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ) بالكفر إذا رجعوا إليهم ، وهم أسد وغطفان (الْفِتْنَةِ) الشرك (أُرْكِسُوا فِيها) وقعوا أشد وقوع (فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ) بترك قتالكم (فَخُذُوهُمْ) بالأسر (ثَقِفْتُمُوهُمْ) وجدتموهم (سُلْطاناً مُبِيناً) برهانا بينا أو حجة واضحة على قتلهم وسبيهم لغدرهم.

١٨٩

سبب النزول :

نزول الآية (٨٨):

(فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ) : روى الشيخان وغيرهما عن زيد بن ثابت أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم خرج إلى أحد ، فرجع ناس خرجوا معه ، فكان أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيهم فرقتين : فرقة تقول : نقتلهم ، وفرقة تقول : لا ، فأنزل الله : (فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ).

وروى ابن جرير عن ابن عباس أنها نزلت في قوم أظهروا الإسلام بمكة ، وكانوا يعينون المشركين على المسلمين ، فاختلف المسلمون في شأنهم وتشاجروا ، فنزلت الآية.

وأخرج سعيد بن منصور وابن أبي حاتم عن سعد بن معاذ بن عبادة قال : خطب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الناس ، فقال : من لي بمن يؤذيني ويجمع في بيته من يؤذيني؟ فقال سعد بن معاذ : إن كان من الأوس قتلناه ، وإن كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا فأطعناك ، فقام سعد بن عبادة ، فقال : يا ابن معاذ : طاعة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولقد عرفت ما هو منك ؛ فقام أسيد بن حضير فقال : إنك يا بن عبادة منافق وتحب المنافقين ؛ فقام محمد بن مسلمة فقال : اسكتوا يا أيها الناس ، فإن فينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهو يأمرنا فننفذ أمره ، فأنزل الله : (فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ) الآية.

وأخرج أحمد عن عبد الرحمن بن عوف أن قوما من العرب أتوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالمدينة ، فأسلموا ، وأصابهم وباء المدينة وحماها ، فأركسوا خرجوا من المدينة ، فاستقبلهم نفر من الصحابة ، فقالوا لهم : ما لكم رجعتم؟ قالوا : أصابنا وباء المدينة ، فقالوا : أما لكم في رسول الله أسوة حسنة؟ فقال بعضهم : نافقوا ، وقال بعضهم : لم ينافقوا ، فأنزل الله : (فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ) الآية ، لكن

١٩٠

في إسناده تدليس وانقطاع ، أي لا يصح الاعتماد على هذه الرواية.

سبب نزول الآية (٩٠):

(إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ) : أخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن الحسن البصري أن سراقة بن مالك المدلجي حدثهم ، قال : لما ظهر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على أهل بدر وأحد ، وأسلم من حولهم ، قال سراقة : بلغني أنه يريد أن يبعث خالد بن الوليد إلى قومي بني مدلج ، فأتيته فقلت : أنشدك النعمة ، إنك تريد أن تبعث إلى قومي ، وأنا أريد أن توادعهم ، فإن أسلم قومك أسلموا ، ودخلوا في الإسلام ، وإن لم يسلموا لم يحسن تغليب قومك عليهم ، فأخذ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بيد خالد ، فقال : اذهب معه ، فافعل ما يريد ، فصالحهم خالد على أن لا يعينوا على رسول الله ، وإن أسلمت قريش أسلموا معهم ، وأنزل الله : (إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ)

فكان من وصل إليهم كان معهم على عهدهم.

وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : نزلت : (إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ) في هلال بن عويمر الأسلمي وسراقة بن مالك المدلجي وفي بني جذيمة بن عامر بن عبد مناف. وأخرج أيضا عن مجاهد أنها نزلت في هلال بن عويمر الأسلمي وكان بينه وبين المسلمين عهد ، وقصده ناس من قومه ، فكره أن يقاتل المسلمين ، وكره أن يقاتل قومه.

المناسبة :

هذه الآيات استمرار في بيان أحوال المنافقين ومواقفهم المخزية ، وهي إنكار على المؤمنين في اختلافهم في شأن المنافقين على رأيين ، وتقسيمهم فئتين ، مع أن كفرهم واضح ، فيجب القطع بكفرهم وقتالهم. وقد كانت الآيات السابقة : ٦٠ ـ ٦٣ ، و ٦٤ ـ ٦٨ ، و ٧٢ ـ ٧٣ ، والآيات اللاحقة ١٤٢ ـ ١٤٣ كلها في مناقشة أعمال المنافقين والتنديد بها وإنكارها.

١٩١

التفسير والبيان :

يخاطب الله المؤمنين مستنكرا عليهم انقسامهم في شأن كفر المنافقين ، مع قيام الأدلة عليه ، فما لكم اختلفتم في شأنهم فئتين : فئة تزكيهم وتشهد لهم بالخير ، وفئة تطعن بهم وتشهد لهم بالكفر؟ والحال أنهم كافرون ، صرفهم الله عن الحق وأوقعهم في الضلال ، بسبب عصيانهم ومخالفتهم الرسول ، واتباعهم الباطل ، ومعاداتهم المسلمين وبغضهم والتآمر عليهم ، وعدم هجرتهم من مكة إلى المدينة ، فكأنهم نكسوا على رءوسهم ، وصاروا يمشون على وجوههم ، لفساد فطرتهم ، كما قال الله تعالى : (أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ أَهْدى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ؟) [الملك ٦٧ / ٢٢]. ومعنى قوله : (أَرْكَسَهُمْ بِما كَسَبُوا) أي ردّهم في حكم المشركين كما كانوا بسبب ارتدادهم ولحوقهم بالمشركين واحتيالهم على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللهُ ..) أي هل تريدون إعادتهم إلى هداية الإسلام مع أنهم ضالون بأنفسهم؟ ومن يكون ضالا عن طريق الحق ، فلن تجد له طريقا للعودة إليه ، أي لا طريق لهم إلا الهدى ولا مخلص لهم إليه ؛ لأن سبيل الحق واضح وهو التزام منهج الفطرة ، وهداية العقل الرشيد ، والتفكير المجرد غير المتحيز في الخير والشر ، والنافع والضار ، والحق والباطل.

ثم ذكر الله تعالى موقفا غريبا لهم وهو أنهم يتمنون الضلالة لكم ، لتستووا أنتم وإياهم فيها ، ليقضى على الإسلام كله ، وما ذاك إلا لشدة عداوتهم وبغضهم لكم ، وتماديهم في الكفر ، حيث لا يكتفون بضلالهم وكفرهم وغوايتهم ، بل يتأملون إضلال غيرهم.

لذا حذر الله المؤمنين من مكائدهم وسعاياتهم هذه ، فلا تتخذوا منهم أنصارا يساعدونكم على المشركين الوثنيين ، حتى يدل الدليل الواضح على إيمانهم

١٩٢

ويهاجروا إلى المدينة ويتعاونوا بصدق معكم في قضاياكم ، فهذا دليل الصدق في الإيمان.

فإن أعرضوا عن الإيمان الظاهر بالهجرة في سبيل الله ، ولزموا أماكنهم خارج المدينة ، فخذوهم واقتلوهم أنى وجدتموهم في أي مكان وزمان ، في الحل أو في الحرم ، ولا توالوهم أو تولوهم شيئا من مهام أموركم ، ولا تستنصروا بهم على أعداء الله ما داموا كذلك.

ثم استثنى الله من هؤلاء أحد صنفين :

الأول :

الذين يتصلون بقوم معاهدين للمسلمين ويلجأون إلى أهل عهدكم بمهادنة أو عقد ذمة ، فينضمون إليهم في عهدهم ، فاجعلوا حكمهم كحكم المعاهدين. وهذا موافق لما جاء في صلح الحديبية في صحيح البخاري : «من أحب أن يدخل في صلح قريش وعهدهم ، دخل فيه ، ومن أحب أن يدخل في صلح محمد وأصحابه وعهدهم ، دخل فيه». قال أبو بكر الرازي : إذا عقد الإمام عهدا بينه وبين قوم من الكفار ، فلا محالة يدخل فيه من كان في حيزهم ممن ينسب إليهم بالرحم أو الحلف أو الولاء ، بعد أن يكون في حيزهم ومن أهل نصرتهم ؛ وأما من كان من قوم آخرين فإنه لا يدخل في العهد ما لم يشرط ، ومن شرط من أهل قبيلة أخرى دخوله في عهد المعاهدين ، فهو داخل فيهم إذا عقد العهد على ذلك ، كما دخلت بنو كنانة في عهد قريش (١).

الثاني :

المحايدين : الذين جاءوكم وقد ضاقت صدورهم بقتالكم وأبغضوا أن

__________________

(١) أحكام القرآن : ١ / ٢٢٠

١٩٣

يقاتلوكم ، ولا يهون عليهم أيضا أن يقاتلوا قومهم معكم ، بل هم لا لكم ولا عليكم ، وهم بتعبير العصر : المحايدون ، فهم لا يقاتلون المسلمين بمقتضى العهد ، ولا يقاتلون قومهم ، حفاظا على أصل الرابطة العرقية أو الجنسية معهم ، فهم قومهم ، وهم بذلك معذورون.

وكلا الفريقين يعاملون بقوله تعالى : (وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ ، وَلا تَعْتَدُوا ، إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) [البقرة ٢ / ١٩٠].

وكان من رحمة الله ولطفه بكم أن سالموكم وكفّ بأس هذين الفريقين عنكم ، ولو شاء الله لسلطهم عليكم بأن يلهمهم القتال فيقاتلوكم.

فإن اعتزلكم هؤلاء وأمثالهم فلم يقاتلوكم ، وألقوا إليكم المسالمة ، فليس لكم أن تقاتلوهم ما دامت حالهم كذلك. وهؤلاء كالجماعة الذين خرجوا يوم بدر من بني هاشم مع المشركين ، فحضروا القتال ، وهم كارهون ، كالعباس ونحوه ، ولهذا نهى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يومئذ عن قتل العباس وأمر بأسره. قال الزمخشري : فقرر أن كفهم عن القتال أحد سببي استحقاقهم لنفي التعرض عنهم وترك الإيقاع بهم.

ثم بيّن الله تعالى حكم جماعة أخرى موافقة في الظاهر للفئة السابقة ، ولكن نية هؤلاء غير نية أولئك ، فإن هؤلاء قوم منافقون يظهرون للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولأصحابه الإسلام ، ليأمنوا بذلك عندهم على دمائهم وأموالهم وذراريهم (النساء والصبيان) ويصانعون الكفار في الباطن ، فيعبدون معهم ما يعبدون ، ليكونوا في أمان من المسلمين ، وهم في الباطن مع الكفار (١) ، كما قال تعالى : (وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا : إِنَّا مَعَكُمْ) [البقرة ٢ / ١٤] وقال هاهنا : (كُلَّما رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيها) أي كلما دعاهم قومهم إلى قتال المسلمين ، أركسوا فيها ، أي قلبوا فيها أقبح قلب وأشنعه وانهمكوا فيها ، وكانوا شرا فيها من كل عدو ، كما قال

__________________

(١) تفسير ابن كثير : ١ / ٥٣٣

١٩٤

الزمخشري (١) ، وقال السدي : الفتنة هاهنا الشرك ، أي كلما دعوا إلى الشرك تحولوا إليه أقبح تحول ، فهم قد مردوا على النفاق. حكى ابن جرير : أنها نزلت في قوم هم بنو أسد وغطفان ، وقيل : غيرهم.

وحكمهم أنه إن لم يعتزلوكم ، ويسالموكم ، ويقفوا على الحياد ، ويكفوا أيديهم عن القتال مع المشركين ، فخذوهم أسراء ، واقتلوهم حيث لقيتموهم ، وأولئكم جعلنا لكم عليهم حجة واضحة ، أو برهانا بيّنا واضحا على قتالهم ، لظهور عداوتهم.

وهذا كله تأكيد لحرص الإسلام على السلم والأمن والعهد والصلح ، قال الرازي : قال الأكثرون : وهذا يدل على أنهم إذا اعتزلوا قتالنا ، وطلبوا الصلح منا ، وكفوا أيديهم عن قتالنا ، لم يجز لنا قتالهم وقتلهم.

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت الآيات على أحكام كثيرة هي :

١ ـ وضوح موقف الإسلام من المنافقين : وهو الحكم عليهم بالكفر وجواز قتلهم ، فلا يصح الانقسام في الحكم عليهم فرقتين مختلفتين ، ما دامت أدلة كفرهم واضحة للعيان. والمنافقون الذين نزلت الآية في شأنهم : هم عبد الله بن أبي وأصحابه الذين خذلوا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم أحد ، ورجعوا بعسكرهم بعد أن خرجوا ؛ كما تقدم في «آل عمران» وقال ابن عباس : هم قوم بمكة آمنوا وتركوا الهجرة. قال الضحاك : وقالوا : إن ظهر محمد فقد عرفنا ، وإن ظهر قومنا فهو أحب إلينا.

فصار المسلمون فيهم فئتين : قوم يتولّونهم ، وقوم يتبرءون منهم ؛ فقال الله عزوجل : (فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ)؟

__________________

(١) الكشاف : ١ / ٤١٥ ـ ٤١٦

١٩٥

٢ ـ تمنيهم أن يكونوا مع المسلمين في الكفر والنفاق على سواء : فأمر الله تعالى بالبراءة

منهم ، فقال : (فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِياءَ حَتَّى يُهاجِرُوا) وقال أيضا : (ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا) [الأنفال ٨ / ٧٢].

والهجرة أنواع :

منها ـ الهجرة إلى المدينة لنصرة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكانت هذه واجبة أول الإسلام ، حتى قال عليه الصلاة والسلام فيما رواه البخاري : «لا هجرة بعد فتح مكة».

ومنها ـ هجرة المنافقين مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الغزوات.

وهجرة من أسلم في دار الحرب ، فإنها واجبة.

وهجرة المسلم ما حرّم الله عليه ؛ كما قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما رواه البخاري وأبو داود والنسائي عن ابن عمرو : «والمهاجر : من هجر ما نهى الله عنه» أو : «من هجر ما حرم الله عليه». وهاتان الهجرتان ثابتتان الآن.

وهجرة أهل المعاصي حتى يرجعوا تأديبا لهم ، فلا يكلّمون ولا يخالطون حتى يتوبوا ؛ كما فعل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مع كعب بن مالك وصاحبيه.

٣ ـ أسر المنافقين وقتلهم : قال الله تعالى : (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ) أي إن أعرضوا عن التوحيد والهجرة فأسروهم واقتلوهم (حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ) أي وجدتموهم في مختلف الأماكن من حلّ وحرم.

٤ ـ تحريم قتال وقتل المنضمين إلى المعاهدين الذين تعاهدوا مع المسلمين ، وكذا المحايدين الذين وقفوا على الحياد ، فلم يقاتلوا المسلمين ولم يقاتلوا قومهم.

٥ ـ دلت الآية (إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ) على مشروعية الموادعة (الهدنة) بين أهل الحرب وأهل الإسلام إذا كان في الموادعة مصلحة للمسلمين.

١٩٦

٦ ـ لله أن يفعل ما يشاء ، ويسلط من يشاء على من يشاء إذا شاء. وتسليط الله تعالى المشركين على المؤمنين : هو بأن يقدرهم على ذلك ويقوّيهم ، إما عقوبة ونقمة عند إذاعة المنكر وظهور المعاصي ، وإما ابتلاء واختبارا ، كما قال تعالى : (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ) [محمد ٤٧ / ٣١] وإما تمحيصا للذنوب ، كما قال تعالى : (وَلِيُمَحِّصَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا) [آل عمران ٣ / ١٤١].

٧ ـ مسالمة الانتهازيين الذين يظهرون الإيمان ، ولكنهم مستعدون للعودة إلى الشرك وهم المذكورون في قوله تعالى : (سَتَجِدُونَ آخَرِينَ ...) الآية.

قال قتادة : نزلت في قوم من تهامة طلبوا الأمان من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليأمنوا عنده وعند قومهم.

وقال مجاهد : هي في قوم من أهل مكة.

وقال السدّي : نزلت في نعيم بن مسعود كان يأمن المسلمين والمشركين. وقال الحسن البصري : هذا في قوم من المنافقين.

وقيل : نزلت في أسد وغطفان قدموا المدينة ، فأسلموا ، ثم رجعوا إلى ديارهم ، فأظهروا الكفر.

وانتهازيتهم واضحة في قوله تعالى : (كُلَّما رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيها) ومعنى (أُرْكِسُوا) : انتكسوا عن عهدهم الذي عاهدوا ، وقيل : إذا دعوا إلى الشرك رجعوا وعادوا إليه.

١٩٧

جزاء القتل الخطأ والقتل العمد

(وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ إِلاَّ أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللهِ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً (٩٢) وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذاباً عَظِيماً (٩٣))

الإعراب :

(أَنْ يَقْتُلَ) أن المصدرية وصلتها اسم كان المرفوع و (لِمُؤْمِنٍ) خبرها مقدم على الاسم. (إِلَّا خَطَأً) استثناء منقطع ، ومثله قوله تعالى : (إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا).

وانتصاب خطأ : إما لأنه مفعول لأجله ، أي ما كان له أن يقتله لعلة من العلل إلا للخطأ ، أو لأنه صفة لمصدر محذوف أي قتلا خطأ ، أو حال.

(فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ) تحرير : مبتدأ ، وخبره محذوف وتقديره : فعليه تحرير رقبة ودية مسلّمة ، وكذلك (فَصِيامُ شَهْرَيْنِ) أي فعليه صيام شهرين.

(تَوْبَةً مِنَ اللهِ) توبة : منصوب على المصدر بفعله المقدر ، وإن شئت على المفعول لأجله.

١٩٨

البلاغة :

(أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً) : إطناب.

(فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ) مجاز مرسل في (رَقَبَةٍ) من باب إطلاق الجزء وإرادة الكل.

المفردات اللغوية :

(خَطَأً) أي مخطئا في قتله بغير قصد للقتل (وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً) بأن قصد رمي غيره كصيد أو شجرة ، فأصابه أو ضربه بما لا يقتل غالبا.

(فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ) أي عتق مملوك (مُؤْمِنَةٍ) أي عليه نفس مؤمنة (وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ) أي مؤداة إلى ورثة المقتول ، والدية : مال يدفع لأهل القتيل عوضا عنه (أَنْ يَصَّدَّقُوا) أن يتصدقوا عليه بها بأن يعفوا عنها. (مِيثاقٌ) عهد كأهل الذمة أو الأمان أو الصلح (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ) الرقبة بأن فقدها أو فقد ثمنها (مُتَتابِعَيْنِ) شهرين قمريين لا يتخللهما فطر إلا لعذر شرعي. ولم يذكر الله تعالى الانتقال إلى الطعام كالظهار ، وبه أخذ الشافعي في أصح قوليه (تَوْبَةً مِنَ اللهِ) تطهيرا لأنفسكم ولأما لجرحكم (عَلِيماً) بخلقه (حَكِيماً) فيما دبره لهم.

سبب النزول :

نزول الآية (٩٢):

(وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ) : أخرج ابن جرير عن عكرمة قال : كان الحارث بن يزيد من بني عامر بن لؤي يعذب عيّاش بن أبي ربيعة مع أبي جهل ، ثم خرج الحارث مهاجرا إلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فلقيه عيّاش بالحرّة ، فعلاه بالسيف ، وهو يحسب أنه كافر ، ثم جاء إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأخبره فنزلت : (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً) الآية.

نزول الآية (٩٣):

(وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً) : أخرج ابن جرير من طريق ابن جريج عن عكرمة أن رجلا من الأنصار قتل أخا مقيس بن صبابة ، فأعطاه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم

١٩٩

الدية ، فقبلها ، ثم وثب على قاتل أخيه فقتله ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لا أؤمنه في حل ولا حرم ، فقتل يوم الفتح. قال ابن جريج : وفيه نزلت هذه الآية : (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً) الآية.

المناسبة :

بعد أن ذكر الله تعالى أحكام قتال المنافقين ، والذين يعاهدون المسلمين على السلم ثم يغدرون بهم ويعينون أعداءهم ، ذكر هنا حكم قتل من لا يحل قتله عمدا أو خطأ ، سواء كان من المؤمنين أو المعاهدين والذميين.

التفسير والبيان :

ليس لمؤمن أن يقتل أخاه المؤمن بأي وجه ، إلا إذا وقع القتل خطأ ، أي ما كان لمؤمن قتل مؤمن إلا خطأ ، والقتل الخطأ : هو الذي يحدث من غير قصد الفعل أو الشخص أو إزهاق الروح غالبا ؛ لأن القتل جريمة عظمي ومن الكبائر أو السبع الموبقات ، قال تعالى : (مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ ، فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً) [المائدة ٥ / ٣٢].

وثبت في الصحيحين عن ابن مسعود أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله ، وأني رسول الله ، إلا بإحدى ثلاث : النفس بالنفس ، والثيب الزاني ، والتارك لدينه المفارق للجماعة» وهذه الخصال الثلاث ليس لأحد من الرعية أن يفعل شيئا منها ، وإنما ذلك إلى الإمام أو نائبه.

وأخرج بن ماجه عن ابن عمر أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من أعان على قتل مسلم مؤمن بشطر كلمة ، جاء يوم القيامة ، مكتوب بين عينيه : آيس من رحمة الله». وأخرج البيهقي عن البراء بن عازب أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لزوال الدنيا أهون عند الله من قتل رجل مؤمن».

٢٠٠