التفسير المنير - ج ٥

الدكتور وهبة الزحيلي

وورد في السّنّة منع المرأة من السفر فوق ثلاث إلا مع زوج أو محرم. فدلّ هذا على أن ما دون الثلاث ليس سفرا ، بل هو في حكم الإقامة.

٢ ـ وقال مالك والشافعي : أربعة برد ، كل بريد أربعة فراسخ ؛ لما روى الدارقطني عن ابن عباس أنّ النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «يا أهل مكة لا تقصروا في أدنى من أربعة برد ، من مكة إلى عسفا». والفرسخ (٥٥٤٤ م).

صلاة الخوف :

ثم بيّن الله تعالى كيفية صلاة الخوف ومجملها في القرآن ما يأتي :

وإذا كنت يا محمد أو من يقوم مقامك من الأئمة في جماعة المؤمنين ، وأردت أن تقيم بهم الصلاة وناديتهم بالأذان والإقامة فاقسم الجيش طائفتين : تصلّي طائفة معك الرّكعة الأولى بجماعة ، ومعهم أسلحتهم حتى يستعدّوا عقب الصلاة لمجابهة العدوّ الذي قد يباغتهم ، فإذا سجدوا حرستكم الطائفة الأخرى من خلفكم ؛ لأن المصلّي أشدّ ما يكون حاجة للحراسة حين السجود ، لعدم رؤيته العدوّ. ثم تتمّ الطائفة الأولى الرّكعة الثانية وحدها ، وأنت واقف في أول الرّكعة الثانية.

ثم تأتي الطائفة الأخرى فتصلّي معك أيضا ركعة هي الثانية لك ، كما صلّت الطائفة الأولى ، وعليها أن تأخذ حذرها وأسلحتها في الصلاة ، كما فعل الذين من قبلهم. والحكمة في الأمر بالحذر للطائفة الثانية أن العدو قلّما يتنبّه لصلاة الطائفة الأولى ، فإذا سجدوا فربّما باغتهم.

ثم تنتظر الطائفة الثانية في جلوس التّشهد الأخير ، حتى تقوم هي ، وتصلّي الرّكعة الثانية ، ثم تسلّم بها.

وعلى هذا تحظى الطائفة الأولى بالتّكبير مع الإمام ، والثانية بالتّسليم معه.

ثم بيّن الله تعالى علّة الأمر بأخذ الحذر والسلاح في الصلاة ، وهي أن الكفار

٢٤١

يودّون ويتمنّون أن تغفلوا عن أسلحتكم وأمتعتكم بسبب انشغالكم بالصلاة ، فينقضّون عليكم ويميلون ميلة واحدة أو حملة واحدة بالقتل والنّهب ، والله يريد لكم الفوز والنصر ، فيحذركم ويأمركم بالاستعداد الدائم.

ثم أبان الأعذار التي يشقّ معها حمل السلاح ، فذكر :

ولا إثم عليكم في وضع أسلحتكم إذا أصابكم أذى من مطر أو مرض أو عذر ، ولكن مع أخذ الحذر والاستعداد للعدوّ ؛ لأن العدوّ ينتظر أي فرصة من الضعف ، ويراقب تحركاتكم ، فاحذروه ولا تغفلوا عنه.

إن الله أعدّ للكافرين عذابا شديد الإهانة في الدّنيا والآخرة. أما في الدّنيا فهو تغلّب المسلمين عليهم ، وأما في الآخرة فهو العذاب الخالد في نار جهنم ، وهذا وعيد للكفار بأنه مهينهم وخاذلهم وغير ناصرهم ، لكن الحذر مطلوب من المؤمنين أخذا بسنّة الله في إتباع المسببات الأسباب ، حتى لا يتهاونوا ويتركوا الأسباب جانبا.

وقد روى الجماعة إلا ابن ماجه عن سهل بن أبي حثمة عن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم ذات الرقاع : «أن طائفة صفت مع النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وطائفة وجاه العدوّ (أي جهته) فصلّى بالتي معه ركعة ، ثم ثبت قائما ، فأتموا لأنفسهم ، ثم انصرفوا وجاه العدوّ. وجاءت الطائفة الأخرى فصلّى بهم الرّكعة الثانية التي بقيت من صلاته ، فأتمّوا فسلّم بهم».

فإذا أدّيتم الصلاة أي صلاة الخوف على هذه الصورة ، فاذكروا الله تعالى في أنفسكم ، بتذكّر نعمه ووعده بنصر من ينصرونه في الدّنيا ونيل الثواب في الآخرة. وبألسنتكم بالحمد والتكبير والدعاء ، فذكر الله مما يقوي القلب ، ويعلي الهمّة ، وبالثبات والصبر يتحقق النصر ، كما قال تعالى : (إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [الأنفال ٨ / ٤٥].

٢٤٢

فإذا اطمأننتم بانتهاء الحرب والإقامة في بلادكم بعد السفر ، فأقيموا الصلاة كالمعتاد تامة الأركان والشروط ؛ لأن الصلاة عماد الدّين.

والسبب في فرضية الصلاة حتى في وقت الخوف : أن الصلاة مفروضة فرضا ثابتا في أوقات معلومة ، فلا يصحّ تركها أبدا حتى في الحروب وساعة الخوف ، كما قال تعالى : (فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالاً أَوْ رُكْباناً فَإِذا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللهَ كَما عَلَّمَكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ) [البقرة ٢ / ٢٣٩].

فقه الحياة أو الأحكام :

الآيات في مشروعية قصر الصلاة الرباعية في السفر ، وكيفية صلاة الخوف. فآية (وَإِذا ضَرَبْتُمْ) واضحة الدّلالة ـ بغضّ النّظر عن الاختلاف الفقهي ـ على حكم القصر في السفر.

أما العلماء فاختلفوا في حكم القصر ، كما سبق بيانه ، فقال جماعة منهم الحنفية : إنه فرض ؛ لحديث عائشة رضي‌الله‌عنها : «فرضت الصلاة ركعتين ركعتين» لكن قال القرطبي : ولا حجّة فيه لمخالفتها له ، فإنها كانت تتمّ في السفر ، وذلك يوهنه ، وإجماع فقهاء الأمصار على أنه ليس بأصل يعتبر : صلاة المسافر خلف المقيم ، أي أنه إذا اقتدى المسافر بالمقيم أتمّ صلاته بالإجماع.

وقال آخرون منهم عمر وابن عباس وجبير بن مطعم : «إن الصلاة فرضت في الحضر أربعا وفي السفر ركعتين ، وفي الخوف ركعة».

ومشهور مذهب المالكية : أن القصر سنة ، وذهب الشافعي وأحمد إلى أنه رخصة يخير فيها المسافر بين القصر والإتمام ، وهو الظاهر من قوله تعالى : (فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ). وأيهما أفضل؟ الصحيح في مذهب مالك التّخيير للمسافر بين الإتمام والقصر ، وأما مالك رحمه‌الله فيستحب له القصر ، ويرى عليه الإعادة في الوقت إن أتمّ ، والقصر أفضل من الإتمام مطلقا

٢٤٣

عند الحنابلة ؛ لأن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم داوم عليه. وهو عند الشافعية أفضل من الإتمام إذا وجد في نفسه كراهة القصر ، أو إذا بلغ ثلاث مراحل عند الحنفية تقدر ب ٩٦ كم ، اتّباعا للسّنة ، وخروجا من خلاف من أوجبه كأبي حنيفة.

والسفر المبيح للقصر : هو السفر الطويل الذي تلحق به المشقة غالبا ، وهو عند الحنفية بمقدار ثلاثة أيام تقدر ب ٩٦ كم ، عملا بقول عثمان وابن مسعود وحذيفة ، وبالأدلّة السابقة. وعند الجمهور : بمقدار ثمانية وأربعين ميلا هاشمية أو مرحلتين وهما سير يومين بلا ليلة معتدلين أو ليلتين بلا يوم معتدلتين ، أو أربعة برد وهي ستة عشر فرسخا ؛ لأن ابن عمر وابن عباس كانا يفطران ويقصران في أربعة برد ، تقدر ب ٨٩ كم.

وأجمع الناس على جواز القصر في الجهاد والحج والعمرة ونحوها من صلة رحم وإحياء نفس ، واختلفوا فيما سوى ذلك.

فالجمهور : على جواز القصر في السفر المباح كالتّجارة ونحوها ؛ لقول ابن مسعود : لا تقصر الصلاة إلا في حج أو جهاد ، ولا قصر في سفر المعصية ، كالباغي وقاطع الطريق وما في معناهما.

وأباح أبو حنيفة والأوزاعي القصر في جميع ذلك ، فيصحّ القصر ولو لعاص بسفره.

واختلفوا متى يقصر المسافر؟

فالجمهور على أن المسافر لا يقصر حتى يخرج من بيوت القرية ، وحينئذ هو ضارب في الأرض.

وروي عن الحارث بن أبي ربيعة أنه أراد سفرا ، فصلّى بهم ركعتين في منزله ، وفيهم الأسود بن يزيد وغير واحد من أصحاب ابن مسعود ، وبه قال

٢٤٤

عطاء بن أبي رباح وسليمان بن موسى. ويكون معنى الآية على هذا : (وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ) أي إذا عزمتم على الضرب في الأرض.

وعلى المسافر أن ينوي القصر من حين الإحرام ، فإن افتتح الصلاة بنيّة القصر ، ثم عزم على المقام في أثناء صلاته ، جعلها نافلة.

واختلف العلماء في مدّة الإقامة التي إذا نواها المسافر أتمّ :

فقال مالك والشافعي وأحمد : إذا نوى الإقامة أربعة أيام أتمّ ، إلا أن الإمام أحمد قال : إذا نوى الإقامة مدة تتسع لإحدى وعشرين فريضة قصر. وقال الحنفية : إذا نوى إقامة خمس عشرة ليلة أتمّ ، وإن كان أقل قصر ، عملا بقول ابن عمر وابن عباس.

والمسافر يقصر أبدا حتى يرجع إلى وطنه ، أو ينزل وطنا له ، وإن بقي سنين.

أما صلاة الخوف المذكورة في القرآن فيحتاج إليها ، والمسلمون مستدبرون القبلة ، ووجه العدو القبلة ، وهذا موافق لصلاة النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بذات الرقاع. أما صلاته عليه الصّلاة والسّلام بعسفان والموضع الآخر المروي عن ابن عمر فالمسلمون كانوا في قبالة القبلة.

واختلفت الرّوايات في السّنة النبويّة في هيئة صلاة الخوف ، واختلف العلماء لاختلافها ، فذكر ابن القصّار أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم صلاها في عشرة مواضع. قال ابن العربي : روي عن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه صلّى صلاة الخوف أربعا وعشرين مرة (١). وقال الإمام أحمد : لا أعلم أنه روي في صلاة الخوف إلا حديث ثابت. وهي كلها

__________________

(١) أحكام القرآن : ١ / ٤٩١

٢٤٥

صحاح ثابتة ، فعلى أي حديث منها صلّى المصلّي صلاة الخوف أجزأه إن شاء الله (١).

وأذكر هنا أقوال الفقهاء بصفتها نموذجا عمليا مطبّقا بين المسلمين ، ويمكن تأويل الآية بما يوافق هذه الأقوال :

١ ـ ذهب أبو حنيفة ومحمد رحمهما‌الله إلى الكيفية التالية لصلاة الخوف وهي : أن يقسم الإمام القوم طائفتين : تقوم طائفة مع الإمام ، وطائفة إزاء العدوّ ، فيصلّي بهم ركعة وسجدتين ، ثم ينصرفون إلى مقام أصحابهم ، ثم تأتي الطائفة الأخرى التي بإزاء العدوّ ، فيصلّي بهم الإمام ركعة وسجدتين ويسلّم هو ، ولم يسلّموا ؛ لأنهم مسبوقون ، وإنما يذهبون مشاة للحراسة في وجه العدو ، ثم تجيء الطائفة الأولى إلى مكانها الأول ، أو تصلي في مكانها تقليلا للمشي ، فتتمم صلاتها وحدها بغير قراءة ؛ لأنهم في حكم اللاحقين ، ثم تشهدوا ، وسلموا ، وعادوا لحراسة العدوّ.

ثم تأتي الطائفة الثانية ، فتتمم صلاتها بقراءة سورة مع الفاتحة ؛ لأنهم لم يدخلوا مع الإمام في أول الصلاة ، فاعتبروا في حكم السابقين. وهذه الكيفية مروية عن الزهري عن سالم عن أبيه : وهي أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم صلّى بإحدى الطائفتين ركعة ، والطائفة الأخرى مواجهة للعدو ، ثم انصرفوا وقاموا في مقام أولئك ، وجاء أولئك فصلّى بهم ركعة أخرى ثم سلّم ، ثم قام هؤلاء ، فقضوا ركعتهم ، وهؤلاء فقضوا ركعتهم.

وروي مثله أيضا عن نافع ، وابن عمر في حديث متفق عليه ، وابن عباس.

٢ ـ قال عبد الرّحمن بن أبي ليلى : إذا كان العدوّ بينهم وبين القبلة ، جعل

__________________

(١) تفسير القرطبي : ٥ / ٣٦٥ وما بعدها.

٢٤٦

الناس طائفتين ، فيكبر ويكبرون جميعا ، ويركع ويركعون جميعا ، ويسجد الإمام والصف الأول ، ويقوم الصف الآخر في وجه العدو ، فإذا قاموا من السجود سجد الصف الآخر ، فإذا فرغوا من سجودهم قاموا ، وتقدم الصف المؤخر ، وتأخر الصف المقدم ، فيصلي بهم الإمام الركعة الأخرى كذلك.

وإذا كان العدوّ في دبر القبلة ، قام الإمام ومعه صف مستقبل القبلة والصف الآخر يستقبل العدو ، فيكبر ويكبرون جميعا ، ويركع ويركعون جميعا ، ثم يسجد الصف الذي مع الإمام سجدتين ، ثم ينقلبون فيكونون مستقبلي العدو ، ثم يجيء الآخرون ، فيسجدون ، ويصلي بهم الإمام الركعة الثانية ، فيركعون جميعا ، ويسجد الصف الذي معه ، ثم ينقلبون إلى وجه العدوّ ، ويجيء الآخرون ، فيسجدون معه ، ويفرغون ، ثم يسلم الإمام وهم جميعا.

وهذه الكيفية رواها ابن عباس في صلاة النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعسفان ، ورواها أيضا أحمد ومسلم وابن ماجه من حديث جابر.

وقد اعتمدها الشافعية والحنابلة إذا كان العدوّ في جهة القبلة.

٣ ـ قال مالك رضي‌الله‌عنه : يتقدم الإمام بطائفة ، وطائفة بإزاء العدوّ ، فيصلّي بالتي معه ركعة وسجدتين ، ويقوم قائما ، وتتم الطائفة التي معه لأنفسها ركعة أخرى ، ثم يتشهدون ويسلّمون ، ثم يذهبون إلى مكان الطائفة التي لم تصلّ ، فيقومون مكانهم ، وتأتي الطائفة الأخرى ، فيصلي بهم ركعة وسجدتين ، ثم يتشهدون ويسلّم ، ويقومون فيتمّون لأنفسهم الرّكعة التي بقيت.

وهذه كيفية صلاة النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في غزوة ذات الرّقاع ، رواها الجماعة إلا ابن ماجه عن سهل بن أبي حثمة ، وهي التي قال عنها أحمد : وأما حديث سهل فأنا أختاره.

٢٤٧

وقد اعتمدها الشافعية والحنابلة إذا كان العدوّ في غير جهة القبلة. لكن الفرق بين مالك وبين هؤلاء أنهم قالوا : لا يسلم الإمام حتى تتم الطائفة الثانية لأنفسها ثم يسلّم معهم.

صلاة الخوف في المغرب :

اختلف الفقهاء في كيفية صلاة الخوف في المغرب : فقال الحنفية والمالكية والشافعية : يصلّي بالطائفة الأولى ركعتين ، وبالطائفة الثانية ركعة ، غير أن المالكية والشافعية يقولون : إن الإمام ينتظر قائما حتى تتم الطائفة الأولى لنفسها ، وتجيء الثانية ، لكن لا يسلم الإمام في رأي الشافعية ، كما تقدم (١).

الصلاة حال اشتباك القتال :

اختلف الفقهاء أيضا في صلاة الخوف عند التحام الحرب وشدّة القتال ، وخيف خروج الوقت :

فقال الحنفية : لا صلاة حال اشتباك القتال ، فإن قاتلوا فيها ، فسدت صلاتهم ، ويؤخرون الصلاة.

وقال مالك والثوري والأوزاعي والشافعي وعامة العلماء : يصلي المجاهد كيفما أمكن ؛ لقول ابن عمر : فإن كان خوف أكثر من ذلك ، فيصلي راكبا أو قائما ، يومئ إيماء. قال مالك في الموطأ : مستقبل القبلة وغير مستقبلها ، أي أن الصلاة تكون بالإيماء إذا لم يقدر على الرّكوع والسجود. وقال الشافعي : لا بأس أن يضرب الضربة ، ويطعن الطعنة ، فإن تابع الضرب والطعن ، فسدت صلاته. والأدلّة من غير الآية (٢).

__________________

(١) أحكام القرآن للجصاص : ٢ / ٢٦٣

(٢) المرجع والمكان السابق.

٢٤٨

صلاة الطالب والمطلوب :

واختلفوا أيضا في صلاة الطالب والمطلوب : فقال مالك وجماعة من أصحابه : هما سواء ، كلّ واحد منهما يصلّي على دابته. وقال الأوزاعي والشافعي وفقهاء الحديث : لا يصلّي الطالب إلا بالأرض. وقال القرطبي : وهو الصحيح ؛ لأن الطلب تطوّع ، والصلاة المكتوبة فرضها أن تصلّى بالأرض حيثما أمكن ذلك ، ولا يصلّيها راكب إلا خائف شديد خوفه ، وليس كذلك الطالب.

العسكر إذا رأوا سوادا فظنوه عدوّا فصلّوا صلاة الخوف ، ثم بان لهم أنه غير شيء : اختلفوا أيضا في ذلك :

قال بعض المالكية وأبو حنيفة : يعيدون الصلاة ؛ لأنه تبيّن لهم الخطأ فعادوا إلى الصواب كحكم الحاكم. وقال بعض آخر من المالكية ، وهو أظهر قولي الشافعي : لا إعادة عليهم ؛ لأنهم عملوا على اجتهادهم ، فجاز لهم ، كما لو أخطئوا القبلة ، وهذا أولى ؛ لأنهم فعلوا ما أمروا به.

أخذ الحذر وحمل السلاح :

تأمر الآيتان : (وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ) و (وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ) بالحذر وأخذ السلاح ، لئلا ينال العدوّ أمله ويدرك فرصته. والسلاح : ما يدفع به المرء عن نفسه في الحرب.

وهل حمل السلاح في الصلاة مندوب أو واجب؟

قال أبو حنيفة : لا يحملون الأسلحة ؛ لأنه لو وجب عليهم حملها لبطلت الصلاة بتركها. وردّ عليه : بأنه لم يجب حملها لأجل الصلاة ، وإنما وجب عليهم قوة لهم ونظرا لمصلحتهم.

وقال ابن عبد البرّ : أكثر أهل العلم يستحبّون للمصلّي أخذ سلاحه إذا صلّى

٢٤٩

في الخوف ، ويحملون قوله : (وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ) على النّدب ؛ لأنه شيء لو لا الخوف لم يجب أخذه ، فكان الأمر به ندبا.

وقال ابن العربي المالكي والشافعي والظاهرية : أخذ السلاح في صلاة الخوف واجب ؛ لأمر الله به ، إلا لمن كان به أذى من مطر ، فإن كان ذلك جاز له وضع سلاحه. وعلى كلّ حال : إن لم يجب فيستحب للاحتياط ، كما قال القرطبي.

هذا .. وقوله تعالى : (فَإِذا سَجَدُوا) أي إذا سجدوا ركعة القضاء ، وهم الطائفة المصلّية فلينصرفوا ، دلّ على أنّ السجود قد يعبر به عن جميع الصلاة ، مثل قوله عليه الصّلاة والسّلام : «إذا دخل أحدكم المسجد فليسجد سجدتين» (١) أي فليصلّ ركعتين.

وقوله تعالى : (وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) بيّن وجه الحكمة في الأمر بأخذ السلاح. وذكر الحذر في الطائفة الثانية دون الأولى ؛ لأنها أولى بأخذ الحذر ؛ لأن العدوّ لا يؤخّر قصده عن هذا الوقت ؛ لأنه آخر الصلاة ؛ وأيضا يقول العدوّ : قد أثقلهم السلاح وكلّوا.

وفي هذه الآية دليل على تعاطي الأسباب ، واتّخاذ وسائل النجاة وما يوصل إلى السلامة.

ثم أمر الله تعالى بشيئين : ذكر الله ، وأداء الصلاة في أوقات معلومة.

أما ذكر الله تعالى فأبان سبحانه أنه متى فرغتم أيها المؤمنون من صلاة الخوف ، فاذكروا الله في مختلف أحوالكم ، حال القيام وحال القعود ، وحال الاضطجاع على الجنوب ، وذكره تعالى يكون في أنفسكم بتذكر وعده بنصر من

__________________

(١) الرواية المشهورة عند أحمد وأصحاب الكتب الستة (الجماعة) عن أبي قتادة : «إذا دخل أحدكم المسجد ، فلا يجلس حتى يصلي ركعتين» ورواه ابن ماجه عن أبي هريرة.

٢٥٠

ينصرونه في الدّنيا ونيل الثواب في الآخرة ، وبألسنتكم بالحمد والتكبير والتهليل والدّعاء بالنّصر ، فالذكر يكون بالقلب واللسان ، أما الذكر بالقلب : فهو التّفكر في عظمة الله وجلاله وقدرته وفيما في خلقه وصنعه من الدّلائل عليه وعلى حكمه وجميل صنعه. وأما الذكر باللسان فهو بالتعظيم والتّسبيح والتّقديس.

وهذا الذكر المأمور به في رأي الجمهور إنما هو إثر صلاة الخوف ، والذكر يكون مع التعظيم والخشوع ، والحكمة فيه ربط المؤمنين المجاهدين بالله تعالى في كل الأحوال حتى يعتمدوا في جهادهم على الله تعالى ، ويكون طلب النصر والظفر منه ، فإنه الذي بيده النصر ، وهو القادر على كل شيء ، كما قال تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [الأنفال ٨ / ٤٥].

والذكر كما طلب الله تعالى يكون دائما وبكثرة ؛ لأنه أداة الفلاح ؛ إذ هو وسيلة الخشية ، ومتى وجدت الخشية وجدت الطاعة واجتنبت المعصية ، وذلك هو الفوز والسعادة. روى ابن جرير عن ابن عباس في قوله تعالى : (فَاذْكُرُوا اللهَ قِياماً وَقُعُوداً) : أنه كان يقول : لم يفرض الله على عباده فريضة إلا جعل لها جزاء ، ثم عذرهم إن عنّ ما يمنعهم من أدائها من العذر ، إلا الذكر ، فإن الله لم يجعل له حدّا ينتهي إليه ، ولم يعذر أحدا في تركه إلا مغلوبا على عقله ، فقال : فاذكروا الله قياما وقعودا وعلى جنوبكم بالليل والنهار ، في البّر والبحر ، والسفر والحضر ، والغنى والفقر ، والصّحة والسّر والعلانية ، وعلى كلّ حال.

وأما فرضية الصلاة بنحو دائم : فإن الله تعالى أبان أنه إذا أقمتم ، وهو مقابل لقوله : (وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ) وزال عنكم الخوف الذي ترتب عليه قصر الصلاة وقصر صفتها وهيئتها ، فأدّوا الصلاة على وجهها الأكمل تامّة الأركان والعدد والهيئة ، إن الصلاة مفروضة عليكم في وقت معين ، أي إنها مفروضة

٢٥١

مؤقتة ، لا يجوز تجاوز أوقاتها المعلومة ، بل لا بدّ من أدائها في أوقاتها سفرا وحضرا. وبيّنت السّنّة النّبوية أحوال القصر والجمع تقديما وتأخيرا في السفر تخفيفا ورخصة وتيسيرا على المسافر.

والسبب في جعل الصلوات الخمس مفروضة بأوقات معينة : أن تكون مذكرة للمؤمن بربّه في الليل والنهار ، وفي أوقات دورية ، لئلا تحمله الغفلة على الشّر أو التّقصير في الخير.

الحث على القتال بعدم التفكير في الآلام

وانتظار إحدى الحسنيين

(وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَما تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللهِ ما لا يَرْجُونَ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً (١٠٤))

المفردات اللغوية :

(وَلا تَهِنُوا) لا تضعفوا. (فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ) في طلب القوم ، وهم الكفار ، لتقاتلوهم. (يَأْلَمُونَ) تجدون ألم الجراح (فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَما تَأْلَمُونَ) أي مثلكم ولا يجبنون عن قتالكم. (وَكانَ اللهُ عَلِيماً) بكل شيء «حكيما» في صنعه.

سبب النزول :

قيل : نزلت في حرب أحد ، حيث أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالخروج في آثار المشركين ، وكان بالمسلمين جراحات ، وقد أمر ألا يخرج معه إلا من كان في الوقعة ، كما تقدم في «آل عمران».

٢٥٢

المناسبة :

الآيات السابقة في بيان كيفية الصلاة في أثناء المعركة ، وقد نبهت إلى شدة عداوة الكفار وانتظار هم الفرصة المواتية لضرب المسلمين ، ونبهت أيضا إلى ما يجب أن يكون عليه المؤمنون من أخذ الحذر أثناء الصلاة.

وهنا ينهى الله تعالى عن الضعف في القتال ؛ لأن الألم في الحروب وإن كان مشتركا بين الفريقين ، فإن المؤمن يمتاز بما له من الرجاء عند ربه ، بأنه ينتظر إحدى الحسنيين : إما النصر وإما الجنة والثواب ، فهذه الآية عود إلى بعث المؤمنين وحثهم على القتال بأسلوب إقناعي مستمد من الواقع.

التفسير والبيان :

ولا تضعفوا في قتال الأعداء ولا تتواكلوا ، واستعدوا لقتالهم دائما بعد الفراغ من الصلاة ، ولا تترددوا في خوض المعارك الفاصلة مع الأعداء بحجة ما يصيبكم من آلام القتل والجرح ، فذلك أمر مشترك بين كل فريقين متحاربين ؛ لأنهم بشر مثلكم يتألمون ويصبرون ، فما لكم لا تصبرون وأنتم أولى بالصبر؟!

والحقيقة أنه لا يوجد لقتالهم هدف مقبول ؛ لأنهم على الباطل ، والباطل في النهاية زائل ، وأنتم على حق ، ولم يعدهم الله بالنصر كما وعدكم ، وليس لهم ثواب ولا ثمرة عائدة إليهم من قتالهم والله ضمن لكم الجنة ، وليس عندهم ملجأ يستمدون منه النصر إلا الأصنام وهي لا تضر ولا تنفع ، وأنتم بعبادتكم الله وحده تلجؤون إليه في طلب النصر والرحمة ، وهو الذي بيده مفاتيح السموات والأرض ، وبقدرته ومشيئته يتحقق النصر.

وإنكم ترجون من الله ما لا يرجون من ظهور الدين الحق على سائر الأديان الباطلة ، ومن الثواب الجزيل ونعيم الجنة.

٢٥٣

والله تعالى وعدكم إحدى الحسنيين : النصر أو الجنة بالشهادة إذا أخلصتم النية ، ونصرتم دين الله ، ودافعتم عن حرماته.

أما فاقد الأمل ، اليائس من الآخرة ، فإنه يكون عادة جبانا ضعيف العزيمة فاتر الهمة ، يقاتل فقط تنفيذا للأوامر أو للعصبية ، والعنصرية ، والنزعة الجامحة في التفوق والسيادة على الأمم.

وكان الله عليما حكيما ، عليما بحالكم ، حكيما فيما يأمركم به وينهاكم عنه ، فلا يكلفكم شيئا إلا ما فيه صلاحكم في دينكم ودنياكم على مقتضى علمه وحكمته.

فقه الحياة أو الأحكام :

نظير هذه الآية : (إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ) [آل عمران ٣ / ١٤٠] ، وكلتا الآيتين تحضّان على القتال ، والصبر في ميدان المعركة ، والثبات أمام الأعداء ، وتجنب الاستضعاف والتراخي وفتور الهمة والعزيمة.

وفيهما إقناع بأدلة واقعية ، فإن الحرب دمار وخراب وتقتيل وجراح وخسارة مال للفريقين المتحاربين ، فإن كان المؤمنون يتألمون مما أصابهم من الجراح ، فأعداؤهم يتألمون أيضا مما يصيبهم.

ولكن للمؤمنين مزية : وهي أنهم يرجون النصر وثواب الله ، وغيرهم لا يرجونه ؛ لأن من لا يؤمن بالله لا يرجو من الله شيئا ، فينبغي أن تكونوا أرغب منهم في القتال.

والله تعالى عليم بكل الأشياء وأحوال عباده المؤمنين ، فلا يشرع لهم إلا ما فيه الحكمة البالغة والمصلحة المؤكدة ، والنفع الثابت الدائم.

٢٥٤

القضاء بالحق والعدل المطلق

(إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللهُ وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً (١٠٥) وَاسْتَغْفِرِ اللهَ إِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (١٠٦) وَلا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ خَوَّاناً أَثِيماً (١٠٧) يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ ما لا يَرْضى مِنَ الْقَوْلِ وَكانَ اللهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطاً (١٠٨) ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ جادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا فَمَنْ يُجادِلُ اللهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً (١٠٩) وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ يَجِدِ اللهَ غَفُوراً رَحِيماً (١١٠) وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّما يَكْسِبُهُ عَلى نَفْسِهِ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً (١١١) وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (١١٢) وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَما يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيماً (١١٣))

٢٥٥

الإعراب :

(بِالْحَقِ) حال مؤكدة من الكاف في (إِلَيْكَ).

(بِما أَراكَ اللهُ) أي أراكه الله ، فالكاف المفعول الأول ، والهاء المحذوفة : المفعول الثاني ؛ لأن «أرى» هنا تتعدى إلى مفعولين ؛ لأنها قلبية اعتقادية. ولا يجوز أن تكون «أرى» بمعنى «أعلم» ؛ لأن «أعلم يتعدى إلى ثلاثة مفاعيل ، وليس في الآية إلا مفعولان : الكاف والهاء. (ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ) ها : للتنبيه في أنتم وأولاء ، وهما مبتدأ وخبر.

(ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً) لم يقل : بهما ؛ لأن معنى قوله : ومن يكسب خطيئة أو إثما : ومن يكسب أحد هذين الشيئين ، ثم يرم به ؛ لأن «أو» لأحد الشيئين.

البلاغة :

يوجد جناس مغاير في (يَخْتانُونَ .. خَوَّاناً) وفي (خَصِيماً .. اسْتَغْفِرِ) وفي (يَسْتَغْفِرِ .. غَفُوراً).

ويوجد طباق السلب في (يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللهِ).

المفردات اللغوية :

(بِما أَراكَ) بما عرّفك وأوحى به إليك (لِلْخائِنِينَ) الذين يخونون الناس وأنفسهم بالسرقة وارتكاب المعاصي واتهام الآخرين بها. (خَصِيماً) مخاصما ومدافعا عنهم. (وَلا تُجادِلْ) الجدال : أشد أنواع المخاصمة. (يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ) يخونونها بالمعاصي ؛ لأن وبال خيانتهم عليهم. (خَوَّاناً) كثير الخيانة.

(أَثِيماً) مبالغا في ارتكاب الإثم. (يَسْتَخْفُونَ) يستترون من الناس حياء وخوفا. (يُبَيِّتُونَ) يضمرون ويدبرون. (ما لا يَرْضى مِنَ الْقَوْلِ) من عزمهم على الحلف على نفي السرقة ورمي اليهودي بها. (مُحِيطاً) عالما بكل شيء ، أي شاملا علمه الأشياء كلها.

(جادَلْتُمْ) خاصمتم. (وَكِيلاً) مدافعا محاميا يتولى أمرهم ويذب عنهم ، أي لا أحد يفعل ذلك. (سُوءاً) ذنبا يسوء به غيره. (أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ) يعمل ذنبا قاصرا عليه. (ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ) منه أي يتب ، والاستغفار : طلب المغفرة من الله مع الندم على الذنب والتوبة منه. (إِثْماً) ذنبا فإنما يكسبه على نفسه ؛ لأن وباله عليها ولا يضر غيره.

(خَطِيئَةً) ذنبا صغيرا ، والفرق بين الخطيئة والإثم : أن الخطيئة هي الذنب المتعمد أو غير المتعمد ، أو الذنب الصغير. والإثم : الذنب المتعمد الملحوظ فيه أنه ذنب ، أو أنه الذنب الكبير.

٢٥٦

(يَرْمِ بِهِ) ينسبه إليه ويقذفه به. (احْتَمَلَ) تحمل أي كلف نفسه أن تحمل. (بُهْتاناً) البهتان : افتراء الكذب على غيرك ، مما يجعله يتحير عند سماعه ويصطدم بما يبهته.

(لَهَمَّتْ) أضمرت. (أَنْ يُضِلُّوكَ) أن يصرفوك عن القضاء بالحق بتلبيسه عليك. (وَما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ) لأن وبال إضلالهم عليهم. ومن : زائدة.

سبب النزول :

روى الترمذي والحاكم وابن جرير عن قتادة بن النعمان : أن هؤلاء الآيات أنزلت في شأن طعمة بن أبيرق ، وكان رجلا من الأنصار ، ثم أحد بني ظفر ، سرق درعا لعمه كان وديعة عنده ، وقد خبأها في جراب دقيق ، فجعل الدقيق ينتثر من خرق فيه ، وخبأها عند زيد بن السمين من اليهود ، فالتمسوا الدرع عند طعمة ، فلم يجدوها ، وحلف بالله : ما أخذها وما له به من علم ، فساروا في أثر الدقيق حتى انتهوا إلى منزل اليهودي ، فأخذوها ، فقال : دفعها إليّ طعمة ، وشهد له ناس من اليهود بذلك ، ولكن طعمة أنكر ذلك ، فقالت بنو ظفر وهم قوم طعمة : انطلقوا بنا إلى رسول الله ، فسألوه أن يجادل عن صاحبهم ، وقالوا : إن لم تفعل هلك صاحبنا وافتضح وبرئ اليهودي ؛ فهمّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يفعل وكان هواه معهم ، وأن يعاقب اليهودي فنزلت. وهذا قول جماعة من المفسرين (١).

وروي أن طعمة هرب إلى مكة وارتد ، وسقط عليه حائط في سرقة ، فمات.

المناسبة :

هذه الآيات استمرار في تحذير المؤمنين من المنافقين ، والاستعداد لمجاهدتهم ، ومن أخطر حالات الحذر : القضاء بين الناس ، فعلى المؤمنين القضاء بالحق والعدل دون محاباة أحد.

__________________

(١) أسباب النزول للواحدي : ص ١٠٣

٢٥٧

وقال العلماء : إن طعمة وقومه كانوا منافقين ، وإلا لما طلبوا من الرسول إلصاق تهمة السرقة باليهودي على سبيل التخرص والبهتان ، بدليل قوله تعالى : (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ ، وَما يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ).

التفسير والبيان :

أمر الله تعالى رسوله أن يقضي بين الناس بالحق والعدل دون محاباة أحد ، ولا إلحاق ظلم بأحد ولو كان غير مسلم ، فقال له : إنا أنزلنا إليك هذا القرآن بالحق في خبره وطلبه وحكمه بتحقيق الحق وبيانه ، لأجل أن تحكم بين الناس بما أوحى إليك وأعلمك من الأحكام ، فتقضي بالوحي إن وجد ، أو تقضي بالاجتهاد إن لم يوجد وحي صريح ؛ فاحكم بين الناس بشريعة الله ، ولا تكن لمن خان نفسه مخاصما ومدافعا تدافع عنه ، وترد من طالبه بالحق ، أي لا تتهاون في تحري الحق تأثرا بقوة جدل خصم في الخصومة.

وفي هذا دلالة ـ كما ذكر علماء الأصول ـ على أنه كان للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يحكم بالاجتهاد ، بهذه الآية ، وبما ثبت في الصحيحين عن أم سلمة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سمع جلبة خصم بباب حجرته ، فخرج إليهم فقال : «ألا إنما أنا بشر ، وإنما أقضي بنحو مما أسمع ، ولعل أحدكم أن يكون ألحن بحجته من بعض ، فأقضي له ، فمن قضيت له بحق مسلم ، فإنما هي قطعة من النار ، فليحملها أو ليذرها».

وفي رواية الإمام أحمد عن أم سلمة قالت : جاء رجلان من الأنصار يختصمان إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في مواريث بينهما قد درست (١) ، ليس عندهما بينة ، فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنكم تختصمون إليّ ، وإنما أنا بشر ، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض ، وإنما أقضي بينكم على نحو مما أسمع ، فمن قضيت له من حق

__________________

(١) درس الرسم : عفا.

٢٥٨

أخيه شيئا ، فلا يأخذه ، فإنما أقطع له قطعة من النار يأتي بها ، انتظاما في عنقه يوم القيامة» فبكى الرجلان ، وقال كل منهما : حقي لأخي ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أما إذا قلتما فاذهبا فاقتسما ، ثم توخيا الحق بينكما ، ثم استهما ، ثم ليحلل كل منكم صاحبه».

وفي رواية أبي داود من حديث أسامة بن زيد زيادة هي : «إني إنما أقضي بينكما برأي فيما لم ينزل علي فيه».

ومن أجاز الاجتهاد للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهم الجمهور يقول : يجوز عليه الخطأ ، لكنه لا يقر على الخطأ ، بدليل هذه الحادثة ، وحادثة قبول الفداء من أسارى بدر.

واللام في قوله : (لِلْخائِنِينَ) للتعليل ، أي لا تكن لأجل الخائنين مخاصما لما يستعدونك عليه. والخائنون : هم طعمة وقومه.

واستغفر الله مما هممت به في أمر طعمة وبراءته التي لم تتثبت في شأنها ، وعقاب اليهودي.

والأمر بالاستغفار في هذا ونحوه لا يقدح في عصمة الأنبياء ؛ لأنه لم يكن منه إلا الهم ، والهم لا يوصف بأنه ذنب ، بل إن ذلك من قبيل «حسنات الأبرار سيئات المقربين» وما أمره بالاستغفار إلا لزيادة الثواب ، وإرشاده وإرشاد أمته إلى وجوب التثبت في القضاء.

والنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يحكم في هذه القضية قبل نزول الآيات ، ولم يعمل بغير ما يعتقد أنه حق ، وإنما أحسن الظن بدفاع قوم طعمة ، فبيّن الله تعالى له حقيقة الأمر ، خلافا لما ظنه من غلبة الصدق على المسلم وغلبة الكذب على اليهودي.

ثم رغب الله تعالى قوم طعمة وغيرهم بقوله : (إِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً)

٢٥٩

أي إنه تعالى كثير المغفرة لمن استغفره ، واسع الرحمة لمن استرحمه.

ولا تجادل يا محمد عن هؤلاء الذين يخونون أنفسهم بتعديهم على حقوق الغير ، وسمى خيانة غيرهم خيانة لأنفسهم ؛ لأن ضررها عائد إليهم ، أي لا تدافع عن هؤلاء الخونة ، ولا تساعدهم عند التخاصم.

إن الله يبغض كثير الخيانة معتاد الإثم أي ارتكاب الذنب واجتراح السيئة ، ويحب أي يثيب أهل الأمانة والاستقامة. وجاء الكلام بصيغة المبالغة ، لعلم الله بإفراط طعمة في الخيانة وركوب المآثم.

وعبر بقوله : (لِلْخائِنِينَ) و (يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ) مع أن السارق طعمة وحده ؛ لوجهين : أحدهما ـ أن بني ظفر قومه شهدوا له بالبراءة ونصروه ، فكانوا شركاء له في الإثم. والثاني ـ أنه جمع ليتناول طعمة وكل من خان خيانته ، فلا تخاصم لخائن قط ولا تجادل عنه (١).

ثم بيّن الله تعالى أحوال الخائنين وخصالهم المنكرة ، فقال : إن شأن هؤلاء الخائنين أنهم يستترون من الناس عند ارتكاب الجريمة إما حياء وإما خوفا ، ولا يستترون ولا يستحيون من الله عالم الغيب والشهادة ، الذي هو معهم أي عالم بهم مطلع عليهم ، لا يخفى عليه خاف من سرهم ، إذ يدبرون ويزورون ما لا يرضى الله من القول ، وهو تدبير طعمة أن يرمي بالدرع في دار زيد اليهودي ، ليسرق دونه ، ويحلف بالبراءة.

وكان الله محيطا بأعمالهم ، حافظا لها ، فلا أمل في نجاتهم من عقابه. قال الزمخشري : وكفى بهذه الآية ناعية على الناس ما هم فيه من قلة الحياء ، والخشية من ربهم ، مع علمهم إن كانوا مؤمنين أنهم في حضرته لا سترة ولا غفلة ولا غيبة (٢).

__________________

(١) الكشاف : ١ / ٤٢٣

(٢) المرجع والمكان السابق.

٢٦٠