التفسير المنير - ج ٥

الدكتور وهبة الزحيلي

البلاغة :

(نَطْمِسَ وُجُوهاً) استعارة ، شبه مسخ الوجوه بالصحيفة المطموسة التي أشكلت حروفها وغمضت سطورها.

يوجد طباق بين (وُجُوهاً ... أَدْبارِها).

ويوجد جناس اشتقاق في (نَلْعَنَهُمْ .. لَعَنَّا).

المفردات اللغوية :

(أُوتُوا الْكِتابَ) التوراة (نَطْمِسَ) الطمس : الإزالة ، والمراد به هنا : محو آثار الإنسانية بإزالة ما في الوجوه من العين والأنف والحاجب ، وترددت الكلمة في القرآن ، مثل : (رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ) [يونس ١٠ / ٨٨] أي أزلها وأهلكها ، ومثل : (وَلَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا عَلى أَعْيُنِهِمْ) [يس ٣٦ / ٦٦] إما بإزالة نورها ، وإما بمحو حدقتها (وُجُوهاً) جمع وجه : وهو الوجه المعروف ، وطمسها : هو ردها إلى الأدبار وجعل أبصارهم من ورائهم ، أو المراد : ألا نبقي لها سمعا ولا بصرا ولا أنفا. وقال ابن عباس : وطمسها : أن تعمى.

وقد يطلق الوجه على اتجاه النفس : وهو ما تتوجه إليه من المقاصد ، كما قال تعالى : (أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ) [آل عمران ٣ / ٢٠]. وقال : (وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللهِ) [لقمان ٣١ / ٢٢]. وقال : (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً) [الروم ٣٠ / ٣٠].

(فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها) الأدبار : جمع دبر ، وهو الخلف والقفا. والرد على الأدبار : جعلها كالأقفاء لوحا واحدا. ويستعمل الرد على الأدبار إما في الحسيات وهو الهزيمة أو الفرار في القتال ، وإما في المعنويات : وهو الرجوع إلى الوراء أي العودة إلى الكفر ، كما في قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى ، الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلى لَهُمْ) [محمد ٤٧ / ٢٥].

(أَوْ نَلْعَنَهُمْ) أو نجزيهم بالمسخ كما مسخنا أصحاب السبت قردة وخنازير ، وقيل : أو نهلكهم ، كما أهلكنا أصحاب السبت.

سبب النزول :

أخرج ابن إسحاق عن ابن عباس قال : كلّم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم رؤساء من أحبار اليهود ، منهم عبد الله بن صوريا وكعب بن أسد ، فقال لهم : «يا معشر يهود ، اتقوا الله ، وأسلموا ، فو الله إنكم لتعلمون أن الذي جئتكم به الحق» فقالوا :

١٠١

ما نعرف ذلك يا محمد ، وجحدوا ما عرفوا وأصروا على الكفر ، فأنزل الله عزوجل فيهم : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ آمِنُوا بِما نَزَّلْنا ..) الآية.

التفسير والبيان :

الآية متصلة بما قبلها ، واردة لفتح باب الأمل أمام أهل الكتاب بعد أن اشتروا الضلالة بالهدى بتحريفهم بعض الكتاب وإضاعة بعضه الآخر ، وهي تلزمهم العمل بما عرفوا والإيمان بالقرآن ، لأن إيمانهم بالتوراة يستدعي الإيمان بما يصدقها.

يأمر الله تعالى أهل الكتاب من اليهود والنصارى بالإيمان بما نزل على رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من القرآن المجيد الذي جاء مصدقا لما سبقه من الكتب السماوية في أصولها الأولى الصحيحة ، وليس لما آلت إليه في صورتها الحالية ، من تقرير التوحيد ورفض الشرك وترك الفواحش الظاهرة والباطنة ، وتصديق الاخبار التي بأيديهم من البشارات بالنبي محمد ، وتلك هي أصول الدين وغاياته الأساسية.

خاطبهم القرآن بأنهم أوتوا الكتاب ، مع أنهم ضيعوا جزءا منه ، وأحرقوا جزءا آخر ، مما يدعو إلى إيمانهم بالقرآن ، ويسجل عليهم تقصيرهم واستحقاقهم العقاب.

ومما يدعوهم إلى الإيمان أن الأديان السماوية كلها متفقة في الأصول العامة ، كالتوحيد ، ونبذ الشرك ، والتحلي بكريم الأخلاق ، والبعد عن الفواحش والمنكرات.

وأكد القرآن الكريم نبوة داود وسليمان وموسى وعيسى وإبراهيم ونوح وغيرهم عليهم‌السلام ، فكيف لا يؤمن أتباع أولئك الأنبياء بالقرآن وبرسالة محمد؟ مع أنه جاء مصدقا لما معهم ، وموافقا لملة إبراهيم القائمة على التوحيد.

١٠٢

فقل لهم يا محمد : آمنوا بما نزّلنا ، فكل الكتب المنزلة ذات مصدر واحد ، ولها غاية واحدة.

ثم هددهم إن لم يفعلوا بطمس الوجوه والرد على الأدبار ، فتجعل على هيئة أدبارها وهي الأقفاء ، مطموسة مثلها ، عديمة الإبصار ، أو بالهلاك أو المسخ كما أهلك أصحاب السبت من اليهود ، أو مسخهم قردة وخنازير. وأصحاب السبت : يعني الذين اعتدوا في سبتهم بالحيلة على الاصطياد بحواجز أقاموها يوم الجمعة ، فإذا حدث المد ثم الجزر. تبقى الأسماك في الأحواض المقامة على الشواطئ.

وكان أمر الله مفعولا ، أي أن أمره التكويني وهو قوله : (كُنْ فَيَكُونُ) بإيقاع شيء ما نافذ لا محالة ، فإذا أمر أمرا فإنه لا يخالف ولا يمانع. فاحذروا وعيده ، وخافوا عقابه ، ويراد بالأمر : المأمور ، فالمعنى : أنه متى أراده أوجده.

قال ابن عباس : يريد : لا رادّ لحكمه ، ولا ناقض لأمره. ولا بد أن يقع أحد الأمرين إن لم يؤمنوا. وقد تحقق الوعيد في معاصري الوحي بإذلال بني النضير وإجلائهم ، وإهلاك بني قريظة ، وهو معنى الطمس والارتداد على الأدبار على أنها أمور حسية.

فقه الحياة أو الأحكام :

اختلف العلماء في المعنى المراد بهذه الآية ، هل هو حقيقة ، فيجعل الوجه كالقفا ، فيذهب بالأنف والفم والحاجب والعين ، أو ذلك عبارة عن الضلالة في قلوبهم وسلبهم التوفيق؟

قولان : روي عن أبي بن كعب أنه قال : (مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ) من قبل أن نضلكم إضلالا لا تهتدون بعده. والمراد به التمثيل ، وأنهم إن لم يؤمنوا فعل هذا بهم عقوبة.

١٠٣

وقال قتادة : معناه من قبل أن نجعل الوجوه أقفاء ، أي يذهب الله بالأنف والشفاه والأعين والحواجب ، وهذا معناه عند أهل اللغة. وروي عن ابن عباس وعطية العوفي : أن الطّمس : أن تزال العينان خاصّة وتردّ في القفا ، فيكون ذلك ردّا على الدّبر ويمشي القهقرى.

فإذا آمن هؤلاء ومن اتّبعهم ، رفع الوعيد عن الباقين. وقال المبرّد : الوعيد باق منتظر ، وقال : لا بدّ من طمس في اليهود ومسخ قبل يوم القيامة.

ما يغفره الله تعالى وما لا يغفره

(إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدِ افْتَرى إِثْماً عَظِيماً (٤٨))

المفردات اللغوية :

(وَيَغْفِرُ) المغفرة : ستر الذنب ، والمغفور له : أن يدخله الله الجنة بلا عذاب ، ومن شاء عذّبه من المؤمنين بذنوبه ، ثم يدخله الجنة. (افْتَرى) اختلق واعتمل وارتكب. (إِثْماً عَظِيماً) ذنبا كبيرا.

سبب النزول :

أخرج ابن أبي حاتم والطبراني عن أبي أيوب الأنصاري قال : جاء رجل إلى النّبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : إن لي ابن أخ لا ينتهي عن الحرام ، قال : وما دينه؟ قال : يصلّي ويوحّد الله ، قال : استوهب منه دينه ، فإن أبى فابتعه منه ، فطلب الرجل ذلك منه ، فأبى عليه ، فأتى النّبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم فأخبره ، فقال : وجدته شحيحا

١٠٤

على دينه ، فنزلت : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ ، وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ).

المناسبة :

بعد أن أوعد الله أهل الكتاب وهددهم على الكفر إن لم يؤمنوا ، وأعلن أن الوعيد نافذ المفعول ، بيّن هنا أن هذا الوعيد على الكفر أو الشرك ، فأما سائر الذنوب فقابلة للغفران.

التفسير والبيان :

أخبر الله تعالى أنه لا يغفر أن يشرك به ، أي لا يغفر لعبد لقيه وهو مشرك به ، والمراد بالشرك هنا مطلق الكفر الشامل لكفر اليهود وغيرهم ، ويغفر ما دون ذلك من الذنوب لمن يشاء من عباده. ومن أشرك بالله فقد ارتكب ذنبا كبيرا. قال الطبري : قد أبانت هذه الآية أن كل صاحب كبيرة ، ففي مشيئة الله تعالى : إن شاء عفا عنه ذنبه ، وإن شاء عاقبه عليه ، ما لم تكن كبيرته شركا بالله تعالى. وقال بعضهم : قد بيّن الله تعالى ذلك بقوله : (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ ، نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ) فأعلم أنه يشاء أن يغفر الصغائر لمن اجتنب الكبائر ، ولا يغفرها لمن أتى الكبائر. والظاهر لدي هو قول الطبري.

وهذه الآية مخصصة لقوله تعالى : (قُلْ : يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا ...) : اخرج ابن المنذر عن أبي مجلز قال : لما نزل قوله تعالى : (قُلْ : يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ ، إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً ، إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) [الزمر ٣٩ / ٥٣] ، قام النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على المنبر ، فتلاها على الناس ، فقام إليه رجل فقال : والشرك بالله ، فسكت ، ثم قام إليه فقال : يا رسول الله ، والشرك بالله تعالى ، فسكت مرّتين أو ثلاثا ، فنزلت هذه الآية. أخرج الترمذي عن علي بن أبي طالب قال : ما في القرآن آية أحبّ إليّ من هذه

١٠٥

الآية : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ)(١).

فقه الحياة أو الأحكام :

دلّت الآية على عظم جريمة الشرك ، وأنه لا مغفرة له ، وعلى فضل الله ورحمته بإمكان مغفرة بقية الذنوب لمن يشاء من عباده.

والشرك بالله قسمان :

١ ـ شرك في الألوهية : وهو اتّخاذ شريك مع الله تعالى ، وله سلطة وتدبير في الكون.

٢ ـ وشرك في الربوبية : وهو جعل سلطة التشريع وتبيان أحكام الحلال والحرام لله ولغيره من البشر بغير الوحي ، كما قال الله تعالى : (اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ) [التوبة ٩ / ٣١] ، وقد فسّر النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم اتّخاذهم أربابا بطاعتهم واتّباعهم في أحكام الحلال والحرام.

وفي الآية إيماء إلى اتّصاف أهل الكتاب بالشرك بتأليه العزير والمسيح ، وبجعل الأحبار والرهبان أصحاب السلطة في التحليل والتحريم.

والسبب في شناعة الشرك : أنه كذب محض وافتراء صريح ، وأنه وكر الخرافات والأباطيل ، ومنه تنشأ سائر الجرائم التي تهدم حياة الأفراد ونظام الجماعات ، ويتنافى مع رقي العقول ، وطهارة النفوس ، وصفاء الأرواح ، ويحجب نور الإيمان الصحيح عن النفاذ إلى القلب.

أما التوحيد ففيه عزّة النفس ، وتحرير الإنسان من العبودية لأحد من البشر أو لشيء في الكون ، والسمو بالذات البشرية إلى عبادة الله والاتّكال عليه

__________________

(١) قال الترمذي : هذا حديث حسن غريب.

١٠٦

والإخلاص له ، وفي ذلك كله راحة النفس ، واطمئنان القلب ، وصفاء الروح ، وتنوير البصيرة ، والظفر بعون الله ونصره ، والاستجابة لنداء الفطرة ، والاعتماد على مصدر الخير الحقيقي ، والثقة التامة بمن بيده إنقاذ العبد ونجاته من مخاطر الدنيا ومضارها ، والتخلص من أوزار المعصية في الآخرة.

ومن وسائل المغفرة المتروكة للبشر والمقيدة بالمشيئة الإلهية أيضا : الدعاء مع الإيمان والإخلاص والاستقامة وحسن الظّنّ بالله تعالى ، وفعل الحسنات ، لقوله عزوجل : (إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ) [هود ١١ / ١١٤] ، والتوبة الصادقة النّصوح التي حثّ عليها القرآن بعد التّفريط وارتكاب الذّنب جهلا.

نماذج أخرى من أعمال أهل الكتاب والجزاء عليها

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً (٤٩) انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَكَفى بِهِ إِثْماً مُبِيناً (٥٠) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً (٥١) أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً (٥٢) أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً (٥٣) أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً (٥٤) فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً (٥٥))

١٠٧

البلاغة :

(أَلَمْ تَرَ) استفهام يراد به التّعجب.

(انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ) تعجب بلفظ الأمر ، وعبر بفعل المضارع (يَفْتَرُونَ) عن الماضي للدلالة على الدوام والاستمرار.

(أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ) و (أَمْ يَحْسُدُونَ) استفهام يراد به التوبيخ والتقريع.

(أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ) مجاز مرسل في كلمة (النَّاسَ) يراد بها محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، من باب إطلاق العام على الخاص.

(فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً) تعريض بشدة بخلهم.

ويوجد جناس اشتقاق في (يُؤْتُونَ ... آتاهُمُ).

المفردات اللغوية :

(يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ) يمدحونها وهم اليهود الذين قالوا : نحن أبناء الله وأحباؤه ، وهو استفهام تعجبي أي ليس الأمر بتزكيتهم أنفسهم ، قال تعالى : (فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى) [النجم ٥٣ / ٣٢] ، (بَلِ اللهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ) أي يطهر من يريد بالإيمان (وَلا يُظْلَمُونَ) ينقصون من أعمالهم ، والظلم : النقص وتجاوز الحد ، فله جانبان : سلبي وإيجابي. (فَتِيلاً) قدر قشرة النواة ، والأدقّ : هو ما يكون في شق نواة التمر مثل الخيط. وبه يضرب المثل في الشيء الحقير ، كما يضرب بمثقال الذرة.

(وَكَفى بِهِ إِثْماً مُبِيناً) أي ذنبا واضحا ، والمراد به تعظيم الذّنب وذمّه. وقد يطلق الإثم على ما كان ضارّا.

(بِالْجِبْتِ) الرديء الذي لا خير فيه ، والمراد به هنا الأصنام وما يتبعها من الأوهام والخرافات. (وَالطَّاغُوتِ) مصدر بمعنى الطغيان والجبروت ، ويطلق على كل ما يعبد من دون الله ، وعلى الشيطان. والجبت والطاغوت : صنمان لقريش.

(نَقِيراً) أي شيئا تافها قدر النقرة في ظهر النواة ، ومنها تنبت النخلة ، ويضرب بها المثل في القلة والحقارة ، وهم لا يؤتون الناس نقيرا لفرط بخلهم.

١٠٨

(أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ) بل أيحسدون النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والحسد : تمنّي زوال نعمة الغير. (عَلى ما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) من النّبوة ، والعلم ، والكرامة في الدّين والدّنيا ، ويقولون : لو كان نبيّا لاشتغل عن النّساء. (وَالْحِكْمَةَ) العلم بالأسرار المودعة في أحكام الشريعة. (مُلْكاً عَظِيماً) ما كان لأنبياء بني إسرائيل كداود وسليمان عليهما‌السلام. (صَدَّ عَنْهُ) أعرض عنه. (سَعِيراً) نارا مسعرة أي موقدة ، والمراد عذابا شديدا لمن لا يؤمن.

سبب النزول :

نزول الآية (٤٩):

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ) : أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : كانت اليهود يقدّمون صبيانهم يصلون بهم ، ويقربون قربانهم ، ويزعمون أنهم لا خطايا لهم ولا ذنوب ، فأنزل الله: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ). وأخرج ابن جرير نحوه عن عكرمة ومجاهد وأبي مالك وغيرهم.

وقال الكلبي : نزلت في رجال من اليهود أتوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأطفالهم وقالوا : يا محمد ، هل على أولادنا هؤلاء من ذنب؟ قال : لا ، فقالوا : والذي نحلف به ما نحن إلا كهيئتهم ، ما من ذنب نعمله بالنهار إلا كفّر عنا بالليل ، وما من ذنب نعمله بالليل إلا كفّر عنا بالنهار ، فهذا الذي زكّوا به أنفسهم.

وقال الحسن البصري وقتادة : نزلت هذه الآية وهي قوله : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ) في اليهود والنصارى حين قالوا : (نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ) [المائدة ٥ / ١٨] ، وقالوا أيضا : (لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى) [البقرة ٢ / ١١١].

نزول الآية (٥١):

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا) : أخرج أحمد وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : لما قدم كعب بن الأشرف مكة قالت قريش : ألا ترى هذا المنصبر المنبتر

١٠٩

من قومه يزعم أنه خير منا ، ونحن أهل الحجيج ، وأهل السدانة ، وأهل السقاية ، قال : أنتم خير ، فنزلت فيهم : (إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ) [الكوثر ١٠٨ / ٣] ، ونزلت : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ) إلى قوله : (نَصِيراً) [آل عمران ٣ / ٢٣].

وأخرج ابن إسحاق عن ابن عباس قال : كان الذين حزّبوا الأحزاب من قريش وغطفان وبني قريظة : حييّ بن أخطب ، وسلام بن أبي الحقيق ، وأبو رافع ، والرّبيع بن أبي الحقيق ، وأبو عمارة ، وهوذة بن قيس ، وكان سائرهم من بني النّضير ، فلما قدموا على قريش قالوا :

هؤلاء أحبار يهود ، أهل العلم بالكتب الأولى ، فاسألوهم ، أدينكم خير أم دين محمد؟ فسألوهم فقالوا : دينكم خير من دينه ، وأنتم أهدى منه ، وممن اتبعه ، فأنزل الله : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ) إلى قوله : (مُلْكاً عَظِيماً).

نزول الآية (٥٤):

(أَمْ يَحْسُدُونَ ..) : أخرج ابن أبي حاتم من طريق العوفي عن ابن عباس قال : قال أهل الكتاب : زعم محمد أنه أوتي ما أوتي في تواضع ، وله تسع نسوة ، وليس همه إلا النكاح ، فأي ملك أفضل من هذا ، فأنزل الله : (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ) الآية.

التفسير والبيان :

ألم تنظر إلى حال الذين يمدحون أنفسهم ، ويدّعون ما ليس فيهم ، ويقولون : نحن أبناء الله وأحباؤه ، ونحن شعب الله المختار ، ولا تمسّهم النار مهما فعلوا إلا أياما معدودات ، ولن يدخل الجنّة إلا من كان هودا أو نصارى ، وإن

١١٠

أبناءنا توفوا وهم لنا قربة ، وكذلك آباؤنا يشفعون لنا ويزكوننا ، لكرامتهم على الله ، والتّزكية : التطهير والتبرية من الذنب.

وقد ردّ الله دعواهم بأنه لا قيمة لتزكيتهم أنفسهم ، فإن التزكية تكون بالعمل الصالح ، لا بالادّعاء ، والله هو الذي يزكي من يشاء من عباده بتوفيقه للعمل الصالح ، وهدايته إلى العقيدة الصحيحة ، والآداب الفاضلة.

ولا ينقص الله المزكين أنفسهم شيئا من جزاء عملهم.

ثم أكّد الله تعالى التعجب من حالهم بقوله : (انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ) أي انظر كيف يكذبون على الله بتزكيتهم أنفسهم ، وزعمهم أن لهم امتيازا على غيرهم.

وكفى بهذا الكذب والافتراء والتزكية للنفس إثما ظاهرا ، فالله لا يخصّ شعبا بمعاملة خاصة أو امتياز ، وكل ذلك غرور وأمنيات مزعومة ، وجهل فاضح.

وانظر أيضا حال بعض أهل الكتاب الذين يجاملون المشركين ، ويؤمنون بالأصنام والأوثان ، وينصرون المشركين على المؤمنين بأنبيائهم وكتبهم ، ويقولون : إن المشركين أرشد طريقة في الدّين من المؤمنين الذين صدقوا برسالة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فهم حرموا هداية العقل والفطرة ، وهدموا أساس دينهم ، وتجاوزوا الحقّ ، وأعلنوا الظلم ، حينما نصروا الشرك والوثنية وتكذيب الله ورسوله على مبدأ التدين الصحيح والتصديق بالإله الحق.

وعاقبتهم أنهم مطرودون من رحمة الله وفضله ، ومن يبعده الله من رحمته فلن يجد له نصيرا ينصره أبدا.

ثم وبّخهم الله على البخل والطمع في الملك آخر الزمان ، فذكر أنه لا حظ لهم من الملك ، لظلمهم وطغيانهم وبخلهم ، وحبّهم أنفسهم دون غيرهم ، فهم مطبوعون

١١١

على حبّ الذّات وحبّ المادّة والغرور الكاذب والشّح ، فلا يعطون الناس مقدار النقير (النقرة في ظهر النواة) والملك يحتاج إلى الترفع عن كل ذلك ، وإلى كسب الأعوان بالبذل والسخاء ، وقضاء حوائج الآخرين ، والسمو عن الماديات ، وحبّ الناس.

ثم وبّخهم الله تعالى على الحسد الذي هو أسوأ من البخل ، فهم يتمنون أن يكون الخير كله بأيديهم ، ويريدون قصر فضل الله عليهم ، ولا يحبّون أن يكون لأمة فضل مما لهم ، فهم جماعة يحبون ذواتهم (أنانيّون) حاقدون حاسدون. لذا حسدوا محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم على ما آتاه الله من فضل النّبوة والعلم ، وزعامة الدولة ورئاسة الحكم ، وكثرة الأعوان والأنصار.

ثم بيّن الله تعالى ما يدفع ذلك الحسد ، ويقلل من أهمية الأشياء التي حسدوا عليها محمدا ، فهم إن يحسدوه على ما أوتي ، فقد أخطئوا ؛ إذ له نظائر وأمثال كثيرة وهي أنه تعالى آتى مثل هذا لآل إبراهيم ، والعرب منهم ؛ لأنهم من ذرية ولده إسماعيل ، وآتاهم الله الكتاب الإلهي المشتمل على تشريع الأحكام ، والحكمة التي هي فهم أسرار التشريع ، والملك العظيم في أبنائه وذريته.

وفي هذا إشارة إلى أنه سيكون للمسلمين بزعامة نبيّهم ملك عظيم ، بالإضافة إلى النّبوة والقرآن والحكمة ، وقد بدأت تباشير القوة في المدينة شيئا فشيئا.

والخلاصة : إن اليهود قوم مغرورون مخدوعون يظنون أن فضل الله مقصور عليهم ، ورحمته لا تتعداهم ، ولا يستحقها غيرهم ، وهم واهمون سطحيون يحسبون أن ملك الدنيا بأيديهم ، وحاسدون العرب على ظهور نبي آخر الزمان فيهم ، وعلى ما أعطاهم الله من الكتاب والحكمة.

وأولئك الأنبياء المتقدمون كإبراهيم وذريته بالرغم من اختصاصهم بالنّبوة وإيتائهم الملك ، لم تؤمن أممهم جميعا برسالتهم ، بل منهم من آمن بهم ، ومنهم من

١١٢

أعرض وظلّ على كفره ، فلا تعجب يا محمد من موقف قومك ، فهذه حال الأمم مع أنبيائهم. وفي هذا تسلية للنّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ليشتد صبره على أذى قومه ، ولا ييأس من إيمانهم. وفي رأي القرطبي : أن الضمير في قوله : (فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ) يعني بالنّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. (وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ) أعرض فلم يؤمن به. وقيل : الضمير راجع إلى إبراهيم ، وقيل : يرجع إلى الكتاب.

وإن لم يصبهم عذاب في الدنيا ، فكفاهم عذاب جهنم في النار المسعّرة الشديدة اللظى ، وبئس المصير ، ولكن ذلك بسبب اتّباعهم الباطل وإعراضهم عن الحق.

فقه الحياة أو الأحكام :

دلّت الآيات على ما يأتي :

١ ـ المنع من تزكية الإنسان نفسه : فإن المزكّي نفسه بلسانه يغضّ من قدر نفسه ، ولا عبرة بتزكية الإنسان نفسه ، وإنما العبرة بتزكية الله له ، وقد نهى الله صراحة عن ذلك بقوله : (فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ ، هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى) [النجم ٥٣ / ٣٢]. وكذلك نهى النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن ذلك ، جاء في صحيح مسلم عن محمد بن عمرو بن عطاء قال : سمّيت ابنتي برّة ، فقالت لي زينب بنت أبي سلمة : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم نهى عن هذا الاسم ، وسمّيت برّة ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا تزكّوا أنفسكم ، الله أعلم بأهل البرّ منكم» فقالوا : بم نسمّيها؟ فقال : «سمّوها زينب».

وكذلك نهى النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الإفراط في مدح الرجل بما ليس فيه ، فيدخله بسببه الإعجاب والكبر ، ويظن أنه في الحقيقة بتلك المنزلة ، فيحمله ذلك على تضييع العمل ، وترك الازدياد من الفضل. ثبت في البخاري من حديث أبي بكرة أنّ رجلا ذكر عند النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأثنى عليه رجل خيرا ، فقال

١١٣

النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ويحك قطعت عنق صاحبك ـ يقوله مرارا ـ إن كان أحدكم مادحا لا محالة ، فليقل : أحسب كذا وكذا إن كان يرى أنه كذلك ، وحسيبه الله ، ولا يزكّي على الله أحدا». وفي حديث آخر : «قطعتم ظهر الرجل» حين وصفوه بما ليس فيه.

وعلى هذا تأوّل العلماء قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما رواه الترمذي عن أبي هريرة : «احثوا التراب في وجوه المدّاحين» : أن المراد بهم المداحون في وجوههم بالباطل وبما ليس فيهم ، حتى يجعلوا ذلك بضاعة يفتنون به الممدوح.

أما مدح الرجل بما فيه من الفعل الحسن والأمر المحمود ، ليكون منه ترغيبا له في أمثاله ، وتحريضا للناس على الاقتداء به في أشباهه ، فليس بمدّاح ، وإن كان قد صار مادحا بما تكلم به من جميل القول فيه. وهذا راجع إلى النّيّات ، وقال الله تعالى : (وَاللهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ) [البقرة ٢ / ٢٢٠]. وقد مدح صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الشعر والخطب والمخاطبة ، ولم يحث في وجوه المدّاحين التراب ، ولا أمر بذلك ، كقول أبي طالب :

وأبيض يستسقى الغمام بوجهه

ثمال اليتامى ، عصمة للأرامل

وكمدح العباس وحسّان له في شعرهما ، ومدح كعب بن زهير.

ومدح هو أيضا أصحابه فقال : «إنكم لتقلّون عند الطمع ، وتكثرون عند الفزع».

وأما قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في صحيح الحديث : «لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم ، وقولوا : عبد الله ورسوله» فمعناه لا تصفوني بما ليس فيّ من الصفات ، تلتمسون بذلك مدحي ، كما وصف النصارى عيسى بما لم يكن فيه ، فنسبوه إلى أنه ابن الله ، فكفروا بذلك وضلّوا.

١١٤

وهذا يقتضي أن المبالغ بالمدح آثم.

٢ ـ ترفع الله عن الظلم : لقوله تعالى : (وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً) والفتيل : الخيط الذي في شقّ نواة التمرة. وقيل : القشرة التي حول النواة بينها وبين البسرة. وهو كناية عن تحقير الشيء وتصغيره ، ومثله قوله تعالى : (وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً) [النساء ٤ / ١٢٤] وهي النكتة التي في ظهر النواة ، ومنه تنبت النخلة.

٣ ـ افتراء اليهود الكذب على الله : في قولهم : (نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ) [المائدة ٥ / ١٨] ، وقيل : تزكيتهم لأنفسهم ، وروي أنهم قالوا : ليس لنا ذنوب إلا كذنوب أبنائنا يوم تولد. ومن المتفق عليه أن المراد بالآية : (يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ) : اليهود. والافتراء : الاختلاق.

٤ ـ الخلط في عقيدة اليهود : بالرغم من أن اليهود يؤمنون بالإله وعندهم كتاب سماوي ، يؤمنون أيضا بالجبت والطاغوت أي بالأصنام والأوثان. وهذا ما أعلنه بعض عظمائهم : كعب بن الأشرف وحيي بن أخطب ، بدليل : (يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ) [النساء ٤ / ٦٠] ويقولون لكفار قريش :أنتم أهدى سبيلا من الذين آمنوا بمحمد ، كما تقدّم في سبب النزول.

٥ ـ زوال الملك والسلطة عن اليهود : أنكر الله تعالى وجود السلطة والملك على اليهود في ذلك الزمان ، فقال : (أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ؟) أي ليس لهم من الملك شيء ، ولو كان لهم منه شيء لم يعطوا أحدا منه شيئا ، لبخلهم وحسدهم.

٦ ـ البخل والحسد أسوأ أخلاق اليهود : أخبر الله تعالى عن اليهود بهاتين الصفتين الذميمتين وهما البخل والحسد : الأول في قوله سبحانه : (فَإِذاً لا يُؤْتُونَ

١١٥

النَّاسَ نَقِيراً) أي يمنعون الحقوق ، وهو خبر من الله عزوجل بما يعلمه منهم. والنقير : النكتة في ظهر النواة.

وأخبر عزوجل أيضا عنهم أنهم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله ، والمراد بالناس في رأي ابن عباس ومجاهد وغيرهما : النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، حسدوه على النّبوة ، كما حسدوا أصحابه على الإيمان به. وقال قتادة : الناس : العرب ، حسدتهم اليهود على النّبوة. وقال الضّحّاك : حسدت اليهود قريشا ؛ لأن النّبوة فيهم. والأقوال كلها متقاربة.

والحسد مذموم ، وصاحبه مغموم ، وهو يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب ، كما رواه ابن ماجه عن أنس عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم.

٧ ـ نعم الله وأفضاله على آل إبراهيم : أخبر الله تعالى أنه آتى آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتاهم ملكا عظيما. قال همام بن الحارث : أيّدوا بالملائكة. وقيل عن ابن عباس : يعني ملك سليمان ، وكان لداود تسع وتسعون امرأة ، ولسليمان أكثر من ذلك.

واختار الطبري أن يكون المراد ما أوتيه سليمان من الملك وتحليل النساء. والمراد تكذيب اليهود والرّدّ عليهم في قولهم : لو كان نبيّا ما رغب في كثرة النّساء ، ولشغلته النّبوة عن ذلك ؛ فأخبر تعالى بما كان لداود وسليمان يوبّخهم ، فأقرّت اليهود أنه اجتمع عند سليمان ألف امرأة ، فقال لهم النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ألف امرأة؟!» ، قالوا : نعم ، ثلاثمائة مهريّة ، وسبعمائة سرّية (١) ، وعند داود مائة امرأة. فقال لهم النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ألف عند رجل ، ومائة عند رجل أكثر أو تسع نسوة؟» فسكتوا.

__________________

(١) السّرّية : الأمة التي بوأتها بيتا ، وهي فعليّة منسوبة إلى السّر وهو الإخفاء لسترها عن الحرّة عادة.

١١٦

عقاب الكافرين وثواب المؤمنين

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ ناراً كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ إِنَّ اللهَ كانَ عَزِيزاً حَكِيماً (٥٦) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً لَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلاًّ ظَلِيلاً (٥٧))

الإعراب :

(خالِدِينَ) حال منصوب من ضمير (سَنُدْخِلُهُمْ). (أَبَداً) ظرف زمان منصوب. (لَهُمْ فِيها أَزْواجٌ) مبتدأ وخبر ، والجملة حالية ، أو استئنافية.

البلاغة :

يوجد طباق بين (آمَنُوا ... وكَفَرُوا).

ويوجد جناس اشتقاق في (ظِلًّا ظَلِيلاً).

(لِيَذُوقُوا الْعَذابَ) استعارة ، أستعير لفظ الذوق الذي يكون باللسان ، إلى الألم الذي يصيب الإنسان ، وله صفة الدوام وعدم الانقطاع.

المفردات اللغوية :

(كَفَرُوا) أنكروا وغفلوا عن النظر في آيات الله ، وشككوا فيها مع العلم بصحّتها. (بِآياتِنا) أي بالأدلّة التي ترشد أن هذا الدّين حق ، ومن أجلّها القرآن.

(نُصْلِيهِمْ) نشويهم أو ندخلهم. (نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ) احترقت وتلاشت. (دَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها) بأن تعاد إلى حالها الأولى غير محترقة. (لِيَذُوقُوا الْعَذابَ) ليقاسوا شدّته. (عَزِيزاً) غالبا قادرا لا يعجزه شيء. (حَكِيماً) في خلقه ، يضع الشيء في موضعه المناسب ، أو

١١٧

هو المدبّر للأشياء على وفق الحكمة والصواب. (مُطَهَّرَةٌ) من العيوب والأدناس الحسية كالحيض والمعنوية. (خالِدِينَ) دائمين. (ظِلًّا ظَلِيلاً) ظلّا وارفا دائما لا تنسخه شمس ولا يصحبه حرّ ولا برد ، وهو ظلّ الجنّة. وهذه صيغة مبالغة وتأكيد ، مثل قولهم : ليل أليل. وقد يعبر بالظل عن العزة والنعمة والرفاهية ، فيقال : «السلطان ظل الله في أرضه».

المناسبة :

هذا جزاء الفريقين : المؤمنين والكفار ، الذين أشارت إليهم الآية السابقة بأن بعض الناس صدّق بالأنبياء ، وبعضهم الآخر أعرض عن اتّباع الحق.

التفسير والبيان :

إن الذين كفروا بآياتنا المنزلة على أنبيائنا ، وبخاصة القرآن الذي هو خاتم الكتب الإلهية وأكملها وأبينها ، سوف نحرقهم بالنار ، ثم أخبر الله تعالى عن دوام عقوبتهم ونكالهم فقال : (كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها) أي كلما احترقت جلودهم ، حتى لم تعد صالحة لنقل الإحساس بالألم إلى الدماغ في مركز الشعور ، بدّلناهم جلودا أخرى حيّة تشعر بالألم وتحسّ بالعذاب ، عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «تبدّل جلودهم كلّ يوم سبع مرات».

والسبب هو أن يذوقوا العذاب ، أي يدوم لهم ذوقه ولا ينقطع ، كقولك للعزيز : أعزّك الله ، أي أدامك على عزك وزادك فيه ، وهذا مثل قوله تعالى : (كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيراً) [الإسراء ١٧ / ٩٧].

ثم أكّد الله تعالى علّة العقاب وبيّن مدى القدرة عليه ، فذكر أنه تعالى عزيز قادر لا يمتنع عليه شيء مما يريده بالمجرمين ، حكيم لا يعذب إلا بعدل ، ولا يعاقب إلا على وفق الحكمة. ومن مقتضيات العدل : أن الكفر والمعاصي سبب للعذاب أو العقاب ، وأن الإيمان والعمل الصالح سبب للنعيم والجنة ، فلكل عمل ما يناسبه ، لذا قرن ثواب المؤمن بجزاء الكافر ، لإظهار الفرق بينهما.

١١٨

والذين آمنوا بالله ورسله ، وعملوا صالح الأعمال ، سيدخلهم ربّهم سريعا جنّات تجري من تحتها الأنهار ، يتمتعون فيها بالنعيم الدائم ، وهم خالدون فيها أبدا لا يحولون ولا يزولون ولا يبغون عنها حولا ، فلا ملل ولا سأم ولا ضجر ، جزاء لعملهم الصالح ، إذ لا يكفي الإيمان وحده بغير العمل الصالح.

ولهم أزواج بريئات من العيوب الجسدية والخلقية أو الطباع الرّدية ، فليس فيهنّ ما يعكر المزاج ، أو يكدر الصّفو. ونجعلهم في مكان ممتع ظليل لا حرّ فيه ولا برد ، وتلك نعمة كاملة ، ورفاهية تامة.

ويلاحظ الفرق بين التعبير عن جزاء الكافرين بسوف وعن ثواب المؤمنين بالسين ، ليفيد تحقق الثواب بسرعة ويقين ، ويبيّن بعد العقاب المنتظر للكافرين ؛ لأنهم في أهوال المحشر ربّما كانوا في عذاب أشد من عذاب النّار.

فقه الحياة أو الأحكام :

هاتان الآيتان تعقدان مقارنة واضحة بين مصير الفريقين : فريق الكافرين وفريق المؤمنين.

أما الكافرون : فعذابهم محقق ، والعذاب : هو تعذيب الأبدان وإيلام الأرواح. فإن قيل : كيف جاز أن يعذب جلدا لم يعصه؟ قيل له : ليس الجلد بمعذّب ولا معاقب ، وإنما العذاب للجملة الحساسة وهي التي عصت ، لا للجلد ، والألم واقع على النفوس ؛ لأنها هي التي تحس وتعرف ، فتبديل الجلود زيادة في عذاب النفوس. ولو أراد الجلود لقال : ليذقن العذاب.

وتبديل الجلود : أن تأكله النار كل يوم سبع مرات ، كما قال مقاتل. أو سبعين مرة كما قال الحسن البصري ، أو سبعين ألف مرة ، كلما أكلتهم قيل لهم : عودوا ، فعادوا كما كانوا.

١١٩

والله قادر على ذلك العذاب لا يعجزه شيء ولا يفوته ، حكيم في تدبيره شؤون خلقه وفي إيعاده عباده.

وأما المؤمنون : فثوابهم محقق أيضا ومقطوع به يقينا ، له مظاهر عديدة ، منها التمتع بجنان الخلد ، والتزوج بالحور العين ، والاستظلال بظلّ كثيف لا شمس فيه ، ولا يدخله ما يدخل ظلّ الدّنيا من الحرّ والسّموم (١) ونحو ذلك.

منهاج الحكم الإسلامي

أداء الأمانات والحقوق إلى أهلها والحكم بالعدل

وإطاعة الله والرسول وولاة الأمور

(إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللهَ كانَ سَمِيعاً بَصِيراً (٥٨) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً (٥٩))

الإعراب :

(أَنْ تُؤَدُّوا) و (أَنْ تَحْكُمُوا) في موضع نصب ؛ لأن التقدير : بأن تؤدوا وبأن تحكموا ، فلما حذف حرف الجر ، اتصل الفعل به ، فاستحق النصب.

__________________

(١) السّموم : الريح الحارة ، تؤنث ، وجمعها سمائم.

١٢٠