التفسير المنير - ج ٥

الدكتور وهبة الزحيلي

وشهادة الزور ، وسب الإنسان أبويه ، وكتمان الشهادة بلا عذر ، وأخذ الرشوة ، والقيادة بين الرجال والنساء ، والسعاية عند السلطان ، ومنع الزكاة ، وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع القدرة ، ونسيان القرآن بعد تعلمه ، وإحراق الحيوان بالنار ، وامتناع المرأة من زوجها بلا سبب ، واليأس من رحمة الله ، والأمن من مكر الله ، والظهار ، وأكل لحم الخنزير والميتة إلا عن ضرورة.

قال ابن مسعود : خمس آيات من سورة النساء هي أحب إليّ من الدنيا جميعا :

قوله تعالى : (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ) الآية.

وقوله : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ).

وقوله : (وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ) الآية.

وقوله : (وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها) الآية.

وقوله : (وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ) الآية.

النهي عن التمني (الحسد) وسؤال الله تعالى من فضله

(وَلا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اللهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَسْئَلُوا اللهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (٣٢))

الإعراب :

(وَسْئَلُوا اللهَ مِنْ فَضْلِهِ) مفعوله محذوف لإفادة العموم ، أي واسألوا الله ما شئتم من إحسانه الزائد وإنعامه المتكاثر.

٤١

البلاغة :

يوجد إطناب في قوله : (نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا .. ونَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ).

(مِمَّا اكْتَسَبُوا) فيه استعارة تبعية ، شبه استحقاقهم للإرث وتملكهم له بالاكتساب ، واشتق من لفظ الاكتساب : اكتسبوا. وهذا على رأي ابن عباس أن المراد بذلك الميراث.

المفردات اللغوية :

(وَلا تَتَمَنَّوْا) التمني : طلب حصول الأمر المرغوب فيه ، مما يعلم أو يظن أنه لا يكون. (ما فَضَّلَ اللهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ) من جهة الدنيا أو الدين لئلا يؤدي إلى التحاسد والتباغض. (لِلرِّجالِ نَصِيبٌ) حظ (مِمَّا اكْتَسَبُوا) بسبب ما عملوا من الجهاد وغيره (وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ) من طاعة أزواجهن وحفظ فروجهن. (مِنْ فَضْلِهِ) أي إحسانه ونعمه ، فإذا سألتم ما احتجتم إليه يعطكم (إِنَّ اللهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً) ومنه محل الفضل وسؤالكم.

سبب النزول :

روى الترمذي والحاكم عن أم سلمة أنها قالت : يغزو الرجال ولا يغزو النساء ، وإنما لها نصف الميراث ، فأنزل الله : (وَلا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اللهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ). وأنزل فيها : (إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ).

وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : أتت امرأة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالت : يا نبي الله ، للذكر مثل حظ الأنثيين ، وشهادة امرأتين برجل ، أفنحن في العمل هكذا؟ إن عملت المرأة حسنة كتبت لها نصف حسنة ، فأنزل الله : (وَلا تَتَمَنَّوْا) الآية.

المناسبة :

ينهى الله المؤمنين عن بعض أفعال القلوب وهو الحسد ، ليطهر باطنهم ، بعد أن نهاهم عن أكل الأموال بالباطل ، وقتل النفس ، وهما من أفعال الجوارح الظاهرة ، ليطهر ظاهرهم. ولما فضل الله الرجال في الميراث ، جاءت هذه الآية

٤٢

تنهى عن تمني ما خص الله به كلا من الجنسين ؛ لأنه سبب للحسد والبغضاء.

التفسير والبيان :

ينهى الله المؤمنين عن التحاسد وعن تمني ما فضل الله به بعض الناس على بعض من الجاه والمال ؛ لأن ذلك التفضيل قسمة من الله صادرة عن حكمة وتدبير وعلم بأحوال العباد وبما يصلح المقسوم له من بسط في الرزق أو قبض ، قال الله تعالى : (وَلَوْ بَسَطَ اللهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ) [الشورى ٤٢ / ٢٧] فعلى كل أحد أن يرضى بما قسم له ، علما بأن ما قسم له هو مصلحته ، ولو كان خلافه لكان مفسدة له ، ولا يجوز له أن يحسد أخاه على حظه.

وظاهر الآية يدل على أنه ليس لأحد أن يتمنى ما هو مختص بالآخر من المال والجاه وكل ما فيه تنافس ، فإن التفاضل قسمة صادرة من حكيم خبير كما قال الله تعالى : (نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ، وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ) [الزخرف ٤٢ / ٣٢]. قال ابن عباس : لا يقل أحدكم : ليت ما أعطي فلأن من المال والنعمة والمرأة الحسناء كان عندي ، فإن ذلك يكون حسدا ، ولكن ليقل : اللهم أعطني مثله ، أي أن الحسد ممنوع والغبطة جائزة.

فعلى كل إنسان أن يرضى بما قسم الله له ، ولا يحسد غيره ؛ لأن الحسد أشبه شيء بالاعتراض على من أتقن كل شيء وأحكمه.

وقدر بعضهم محذوفا في الكلام فقال : ولا تتمنوا مثل ما فضل الله به بعضكم على بعض ؛ لأنه ليس المقصود طلب زوال النعمة عن الغير ، وإنما هو طلب نعمة خاصة أن تكون له. وعلى هذا يكون تمني مثل ما للغير منهيا عنه ؛ لأنه قد يكون ذريعة إلى الحسد ، فليس للإنسان أن يقول : اللهم أعطني دارا مثل دار فلان ، ولا ولدا مثل ولده ، بل يقول : اللهم أعطني ما يكون صلاحا لي في ديني ودنياي ومعادي ومعاشي.

٤٣

والتأويل الأول أولى لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا يتمنّ أحد مال أخيه ، ولكن ليقل : اللهم ارزقني ، اللهم أعطني مثله».

وفي الجملة : ينهى الله تعالى كل إنسان أن يتمنى ما فضل الله به غيره ، بل الواجب عليه أن يعمل ما في جهده ويجد ويجتهد ، وحينئذ يكون التفاضل بالأعمال الكسبية ، ولكل من الرجال والنساء ثمرة مكاسبهم ، والله تعالى جعل ما قسم لكل من الرجال والنساء على حسب ما عرف من حاله الموجبة للبسط أو القبض كسبا له ، وما كان خاصا بالرجال من الأعمال لهم نصيب من أجره لا يشاركهم فيه النساء ، وما كان خاصا بالنساء لهن نصيب من أجره لا يشاركهن فيه الرجال.

أي أن الثواب على العمل بحسب ما يتناسب مع طبيعة كل من الرجل والمرأة. وقال ابن عباس : المراد بذلك الميراث ، والاكتساب على هذا القول بمعنى الإصابة.

ثم أراد الله تعالى توجيه الأنظار إلى مصدر الفضل والإحسان والإنعام ، فقال : (وَسْئَلُوا اللهَ مِنْ فَضْلِهِ) أي أسألوا الله ما شئتم من الإحسان والإنعام ، فإنه تعالى يعطيكموه إن شاء ، وخزائنه ملأى لا تنفد ، فلا تتمنوا نصيب غيركم ، ولا تحسدوا أحدا ، ولا تتمنوا ما فضلنا به بعضكم على بعض ؛ لأن التمني لا يجدي شيئا. روى الترمذي وابن مردويه عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «سلوا الله من فضله ، فإن الله يجب أن يسأل ، وإن أفضل العبادة انتظار الفرج» وأخرج ابن ماجه عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من لم يسأل الله يغضب عليه».

ومعنى قوله : (إِنَّ اللهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً) أنه تعالى عليم بمن يستحق الدنيا فيعطيه منها ، وبمن يستحق الفقر فيفقره ، وبمن يستحق الآخرة فيقيّضه

٤٤

لأعمالها ، وبمن يستحق الخذلان فيخذله عن تعاطي الخير وأسبابه. ولذلك فضل بعض الناس على بعض بحسب استعدادهم وتفاوت درجاتهم. والتفاوت يشمل الناحية الجسدية (الخلقية) والناحية الأدبية كالعلم والجاه مثلا.

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت الآية على ما يأتي :

١ ـ نهى الله سبحانه المؤمنين عن التمني ، لأن فيه تعلق البال ونسيان الأجل. والمراد النهي عن الحسد : وهو تمني زوال نعمة الغير ، وصيرورتها إليه أو لا تصير إليه. أما الغبطة : وهي أن يتمنى الرجل أن يكون له حال صاحبه ، وإن لم يتمن زوال حاله ، فهي جائزة في رأي الجمهور ، وهي المراد عند بعضهم في قوله عليه الصلاة والسلام في حديث البخاري وغيره : «لا حسد إلا في اثنتين : رجل آتاه الله القرآن فهو يقوم به آناء الليل وآناء النهار ، ورجل آتاه الله مالا ، فهو ينفقه آناء الليل وآناء النهار» فمعنى قوله : «لا حسد» أي لا غبطة أعظم وأفضل من الغبطة في هذين الأمرين. وقد نبّه البخاري على هذا المعنى ، حيث بوّب لهذا الحديث «باب الاغتباط في العلم والحكمة». قال المهلّب : بيّن الله تعالى في هذه الآية ما لا يجوز تمنّيه ، وذلك ما كان من عرض الدنيا وأشباهها ، أما التمني في الأعمال الصالحة فذلك جائز.

والخلاصة : التمني مقرون عادة بالكسل ، ولا يتمنى إلا ضعيف الهمة ، وضعيف الإيمان. والتمني المنهي عنه في الآية : هو الحسد : وهو أن يتمنى الشخص حال الآخر من دين أو دنيا ، على أن يذهب ما عند الآخر ، وسواء تمنيت مع ذلك أن يعود إليك أولا ، وهو الذي ذمّه الله تعالى بقوله : (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) [النساء ٤ / ٥٤].

٢ ـ المساواة بين الرجال والنساء في ثمرات الأعمال : للرجال ثواب وعقاب

٤٥

وحق في الميراث ، وللنساء مثل ذلك ، فللمرأة الجزاء على الحسنة بعشر أمثالها ، كما للرجال ، ولها الحق أيضا في الميراث مثل الرجال على قول ابن عباس ، فإنه قال : المراد بالاكتساب هو الميراث ، بمعنى الإصابة.

٣ ـ الأمر بالسؤال لله تعالى واجب : إن سؤال الله من فضله في الدين والدنيا أمر واجب شرعا ، لقوله تعالى : (وَسْئَلُوا اللهَ مِنْ فَضْلِهِ) وللحديث المتقدم : «سلوا الله من فضله». قال سفيان بن عيينة : لم يأمر بالسؤال إلا ليعطي.

إعطاء كل وارث حقه من التركة

(وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً (٣٣))

الإعراب :

(وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ) تقديره : ولكل أحد جعلنا موالي ، فحذف المضاف إليه ، وهو في تقدير الإثبات ، ولو لا ذلك لكان مبنيا كما بني : «قبل وبعد» لما اقتطعا عن الإضافة. وقيل: التقدير : ولكل شيء مما ترك الوالدان والأقربون جعلنا موالي ، أي وارثا له.

(وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ) جملة مستقلة عن سابقتها مؤلفة من مبتدأ وخبر. وزيدت الفاء في الخبر لتضمن المبتدأ معنى الشرط.

المفردات اللغوية :

(مَوالِيَ) عصبة أو ورثة يعطون ، وهو جمع مولى : وهو من يحق له الاستيلاء على التركة (مِمَّا تَرَكَ) أي مما ترك المورث لورثته من المال. (وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ) أي الحلفاء الذين

٤٦

عاهدتموهم في الجاهلية على النصرة والإرث ، فآتوهم الآن حظوظهم من الميراث وهو السدس. وقيل : المراد بهم الأزواج. وعلى القول الأول يكون الحكم منسوخا بقوله تعالى : (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ) [الأنفال ٨ / ٧٥]. (شَهِيداً) مطلعا.

سبب النزول :

قوله تعالى : (وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ) أخرج أبو داود في سننه عن داود بن الحصين قال : كنت أقرأ على أم سعد ابنة الربيع ، وكانت مقيمة في حجر أبي بكر ، فقرأت : «والذين عاقدت أيمانكم» فقالت : لا ، ولكن (وَالَّذِينَ عَقَدَتْ) وإنما نزلت في أبي بكر وابنه حين أبى الإسلام ، فحلف أبو بكر ألا يورثه ، فلما أسلم أمر أن يؤتيه نصيبه.

(وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ) : قال سعيد بن المسيب : نزلت هذه الآية : (وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ) في الذين كانوا يتبنون رجالا غير أبنائهم ويورّثونهم ، فأنزل الله تعالى فيهم أن يجعل لهم نصيب في الوصية ، ورد الله تعالى الميراث إلى الموالي من ذوي الرحم والعصبة ، ومنع تعالى أن يجعل للمدعين ميراث من ادعاهم وتبناهم ، ولكن جعل لهم نصيبا في الوصية.

المناسبة :

هذه الآية متعلقة بالمال ، الذي نهى الله فيما سبق عن أكله بالباطل ، وعن التمني أو الحسد فيه ، والآية السابقة قررت قاعدة عامة في حيازة الثروة وهي الكسب ، وهذه الآية قررت نوعا آخر من الحيازة وهو الإرث.

التفسير والبيان :

ولكل من الرجال والنساء جعلنا موالي ، أي ورثة أو عصبة يأخذون مما ترك الوالدان والأقربون من ميراثهم له.

والذين تحالفتم بالأيمان المؤكدة أنتم وهم قبل الإسلام بقول : «ترثني

٤٧

وأرثك» فآتوهم نصيبهم من الميراث ، كما وعدتموهم في الأيمان المغلظة ، إن الله شاهد بينكم في تلك العهود والمعاقدات. وقد كان هذا في ابتداء الإسلام ، ثم نسخ بعد ذلك بآية : (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ).

وكان التوارث أيضا بعد الهجرة بسبب المؤاخاة بين الأنصار والمهاجرين ، يرث المهاجري الأنصاري ، دون ذوي رحمه ، للأخوة التي آخى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بينهم ، ثم نسخ ذلك بآية : (وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ).

أي أن التوارث بالحلف والولاء ، وبالمؤاخاة ، أصبح منسوخا ، واعلموا أن الله كان ولا يزال مطلعا على كل شيء تفعلونه ، فيجازيكم عليه يوم القيامة ، والله شهد معاقدتكم إياهم ، وهو عزوجل يحب الوفاء.

آراء المفسرين في تأويل : (وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ) :

اختلف المفسرون في تأويل هذه الآية على أقوال أربعة هي ما يلي :

١ ـ ولكل إنسان موروث جعلنا وارثا من المال الذي ترك. وبه تم الكلام. وأما قوله تعالى: (الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ) فهو جواب عن سؤال مقدر ، كأنه قيل : ومن الوارث؟ فقيل : الوالدان والأقربون.

٢ ـ ولكل إنسان وارث ممن تركهم الوالدان والأقربون جعلنا موروثين. والجار والمجرور في قوله (مِمَّا تَرَكَ) متعلق بمحذوف صفة للمضاف إليه ، و (مِمَّا) بمعنى «من» والكلام جملة واحدة.

٣ ـ ولكل قوم جعلناهم ورّاثا نصيب مما تركه والدوهم وأقربوهم. فيكون في الكلام مبتدأ محذوف. ويكون قوله : (مِمَّا تَرَكَ) صفة للمبتدأ ، وقوله : (لِكُلٍ) خبره ، والكلام جملة واحدة.

٤٨

٤ ـ ولكل مال من الأموال التي تركها الوالدان والأقربون ، جعلنا ورّاثا يلونه ويحوزونه. وعليه يكون (لِكُلٍ) متعلقا بجعلنا ، ومما ترك : صفة المضاف إليه ، والكلام جملة واحدة أيضا. وهذا هو المختار.

آراء المفسرين في تأويل : (وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ) :

الراجح أن هذه جملة مستقلة عن سابقتها وتأويلها على وجوه هي ما يلي :

١ ـ المراد بالذين عقدت : «الحلفاء» وهم موالي الموالاة ، وكان لهم نصيب من الميراث ثم نسخ. أخرج ابن جرير وغيره عن قتادة قال : كان الرجل يعاقد الرجل في الجاهلية فيقول : دمي دمك ، وهدمي هدمك (١) ، وثأري ثأرك ، وحربي حربك ، وسلمي سلمك ، وترثني وأرثك ، وتطلب بي وأطلب بك ، وتعقل عني وأعقل عنك ، فيكون للحليف السدس من ميراث الحليف ، ثم نسخ بقوله تعالى : (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ) [الأنفال ٨ / ٧٥].

٢ ـ المراد بهم الأدعياء وهم الأبناء بالتبني ، وكانوا يتوارثون بذلك السبب ثم نسخ بآية الأنفال.

٣ ـ المراد بهم إخوان المؤاخاة ، وقد كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يؤاخي بين الرجلين من أصحابه ، وتكون المؤاخاة سببا في التوارث ، ثم نسخ ذلك بآية الأنفال.

٤ ـ المراد بهم ـ في رأي أبي مسلم الأصفهاني ـ الأزواج ، والنكاح يسمى عقدا.

٥ ـ المراد بهم ـ في رأي الجبائي ـ الحلفاء ، وقوله تعالى : (وَالَّذِينَ عَقَدَتْ) معطوف على (الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ) أي ولكل شيء مما ترك الوالدان

__________________

(١) أي نحن شيء واحد في النصرة ، تغضبون لنا ونغضب لكم.

٤٩

والأقربون والذين عقدت أيمانكم موالي أي وارثا ، فآتوا الموالي نصيبهم ، ولا تدفعوا المال إلى الحليف.

٦ ـ المراد بهم الحلفاء يؤتون نصيبهم من النصرة والنصح وحسن العشرة والوصية ، أي لهم حق في الوصية لا في الميراث ، وهو مروي عن ابن عباس (١).

والظاهر هو الرأي الأول وما في معناه.

فقه الحياة أو الأحكام :

أبانت الآية أن لكل إنسان ورثة وموالي ، فلينتفع كل واحد بما قسم الله له من الميراث ، ولا يتمنّ مال غيره.

وأوضحت أيضا وجوب الوفاء بالعقد أو العهد ، فعلى الذين كانوا متحالفين في الجاهلية على التوارث أن يوفوا بالتزامهم ، ويعطوا الحليف نصيبه من الميراث وهو السدس ، ثم نسخ ذلك ، والناسخ في رأي جمهور السلف لقوله : (وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ) هو قوله تعالى : (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ).

وهناك قول آخر عن سعيد بن المسيب قال : أمر الله عزوجل الذين تبنّوا غير أبنائهم في الجاهلية ، وورثوا في الإسلام أن يجعلوا لهم نصيبا في الوصية ، ورد الميراث إلى ذوي الرّحم والعصبة.

وذكر الطبري والبخاري عن ابن عباس : أن قوله : (وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ) محكم غير منسوخ ، وإنما أمر الله المؤمنين أن يعطوا الحلفاء أنصباءهم من النصرة والنصيحة والوصية وما أشبه ذلك. أما الميراث فقد ذهب.

والخلاصة : تقسم التركة بين الورثة على النحو الذي بينه الله تعالى في سورة

__________________

(١) مذكرة تفسير آيات الأحكام للسايس : ٢ / ٩٣ ـ ٩٤

٥٠

النساء (١١ ، ١٢ ، ١٧٦) وهم الأقارب من ذوي الفروض والعصبات وهم الأصول والفروع والحواشي والأزواج ، أما غيرهم فقد زال حكم توريثهم ، ولا مانع من الإيصاء لهم بشيء من المال ، سواء أكانوا حلفاء في الجاهلية ، أم إخوة متآخين بعد الهجرة ، أم أبناء بالتبني (أدعياء).

واحتج الحنفية بآية (وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ) على توريث مولى الموالاة ، فهي تدل على النصيب الثابت له المسمى في عقد المحالفة. وقوله تعالى : (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ) لم ينسخ هذا الحكم ، وإنما أولو الأرحام أولى من الحليف ، فإذا لم يكن رحم ولا عصبة ، فالميراث للحليف الذي حالفه الشخص وجعله وارثا له. واحتجوا أيضا بما روي عن تميم الداري أنه قال : «يا رسول الله ، ما السنة في الرجل يسلم على يدي الرجل من المسلمين؟ قال : هو أولى الناس بمحياه ومماته» أي أولاهم بميراثه.

وقال الجمهور : ميراث مولى الموالاة للمسلمين. وهو : من أسلم على يد رجل ووالاه وعاقده ، ثم مات ولا وارث له غيره ، لأن دلالة الآية على أن الحليف يرث متوقف على ثلاثة أمور : أن يكون المراد بالذين عقدت أيمانكم الحلفاء ، وأن يكون المراد بالنصيب النصيب في الميراث ، وأن تكون الآية محكمة غير منسوخة ، والمفسرون مختلفون في كل ذلك كما تقدم. وحديث تميم الداري ليس نصا في الميراث فإنه يحتمل أنه أولى بمعونته وحفظه في محياه ومماته ، ومع ذلك فهو معارض بما أخرجه مسلم والنسائي عن جبير بن مطعم عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «لا حلف في الإسلام ، وأيما حلف كان في الجاهلية لم يزده الإسلام إلا شدة» (١). فإذا كان الحديثان متعارضين والآية محتملة لعدة أوجه فالأولى الرجوع إلى ما قاله السلف كابن عباس ومجاهد وقتادة وغيرهم من أن الآية منسوخة بآية الأنفال.

__________________

(١) تفسير ابن كثير : ١ / ٤٨٩ ، أحكام الجصاص : ٢ / ١٨٧

٥١

قوامة الرجال على النساء وطرق تسوية النزاع بين الزوجين

(الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ بِما فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ فَالصَّالِحاتُ قانِتاتٌ حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ بِما حَفِظَ اللهُ وَاللاَّتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيًّا كَبِيراً (٣٤) وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللهُ بَيْنَهُما إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً خَبِيراً (٣٥))

الإعراب :

(بِما حَفِظَ اللهُ) : ما : إما مصدرية وتقديره : بحفظ الله لهن ، وإما بمعنى الذي ، أي الشيء الذي حفظ الله.

(وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ) قيل : معناه : من أجل تخلفهن عن المضاجعة معكم ، كما تقول : هجرته في الله. أي : من أجل الله ، فلا يكون (فِي الْمَضاجِعِ) ظرفا للهجران ، لأنهن يردن ذلك. ولا يمتنع أن يكون ظرفا له ، لأن النشوز يكون بترك المضاجعة وغيرها. وقال الزمخشري : «في المضاجع» : في المراقد أي التي لا تداخلوهن تحت اللحف ، أو هي كناية عن الجماع. وقيل : هو أن يوليها ظهره في المضجع ، وقيل : لا تبايتوهن في بيوتهن التي يبتن فيها.

البلاغة :

(وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ) كناية عن الجماع.

(الرِّجالُ قَوَّامُونَ) صيغة مبالغة ، ومجيء الجملة الاسمية لإفادة الدوام والاستمرار.

يوجد جناس اشتقاق في (حافِظاتٌ .. بِما حَفِظَ). ويوجد إطناب في (حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها).

٥٢

المفردات اللغوية :

(قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ) يقومون بأمرهن ويحافظون عليهن ويتسلطون عليهن بحق ، ويؤدبونهن ويأخذون على أيديهن ، أي أن القوامة تعني الرئاسة وتسيير شؤون الأسرة والمنزل ، وليس من لوازمها التسلط بالباطل.

(بِما فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ) أي بتفضيله لهم عليهن بالعلم والعقل والولاية وغير ذلك. (قانِتاتٌ) مطيعات للأزواج (حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ) أي يحفظن ما يغيب ويستتر من أمور الزوجية ، فيحفظن فروجهن ، وما يقال في الخلوة بالمرأة.

(تَخافُونَ) تظنون (نُشُوزَهُنَ) عصيانهن لكم وترفعهن على الزوج ، بظهور أمارة أو قرينة.

(وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ) اعتزلوا إلى فراش آخر إن أظهرن النشوز.

(وَاضْرِبُوهُنَ) ضربا غير مبرّح إن لم يرجعن بالهجران (فَلا تَبْغُوا) تطلبوا.

(عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً) طريقا إلى ضربهن ظلما (إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيًّا كَبِيراً) فاحذروه أن يعاقبكم إن ظلمتموهن.

(وَإِنْ خِفْتُمْ) علمتم. (شِقاقَ) نزاع وخصام أو خلاف ، كأن كلّا منهما في شقّ وجانب. (بَيْنِهِما) بين الزوجين. (فَابْعَثُوا) إليهما برضاهما. (حَكَماً) رجلا عدلا محكما. (مِنْ أَهْلِهِ) أقاربه. (وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها) أقاربها. ويوكل الزوج حكمه في طلاق وقبول عوض عليه ، وتوكل هي حكمها في الفرقة. (إِنْ يُرِيدا) أي الحكمان. (بَيْنِهِما) بين الزوجين ، أي يقدرهما الله على ما هو الطاعة من إصلاح أو فراق. (عَلِيماً) بكل شيء. (خَبِيراً) ببواطن الأمور وظواهرها.

سبب النزول :

(الرِّجالُ قَوَّامُونَ) : أخرج ابن أبي حاتم عن الحسن البصري قال : جاءت امرأة إلى النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم تستعدي على زوجها أنه لطمها ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : القصاص ، فأنزل الله : (الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ) الآية ، فرجعت بغير قصاص.

قال مقاتل : نزلت هذه الآية في سعد بن الرّبيع ، وكان من النّقباء (نقباء

٥٣

الأنصار) وامرأته حبيبة بنت زيد بن أبي هريرة ، وهما من الأنصار ، وذلك أنها نشزت عليه فلطمها ، فقال النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لتقتصّ من زوجها ، وانصرفت مع أبيها لتقتصّ منه ، فقال النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ارجعوا ، هذا جبريل عليه‌السلام أتاني ، وأنزل الله تعالى هذه الآية ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أردنا أمرا وأراد الله أمرا ، والذي أراد الله خير ، ورفع القصاص.

المناسبة :

ذكر الله تعالى هنا سبب تفضيل الرجال على النساء ، بعد أن بيّن نصيب كلّ واحد في الميراث ، ونهى عن تمني الرّجال والنّساء ما فضل الله به بعضهم على بعض.

التفسير والبيان :

الرّجل قيّم على المرأة ، أي هو رئيسها وكبيرها والحاكم عليها ومؤدبها إذا اعوجّت ، وهو القائم عليها بالحماية والرعاية ، فعليه الجهاد دونها ، وله من الميراث ضعف نصيبها ، لأنه هو المكلّف بالنّفقة عليها.

وسبب القوامة أمران :

الأول ـ وجود مقوّمات جسدية خلقية : وهو أنه كامل الخلقة ، قوي الإدراك ، قوي العقل ، معتدل العاطفة ، سليم البنية ، فكان الرجل مفضلا على المرأة في العقل والرأي والعزم والقوة ، لذا خصّ الرّجال بالرّسالة والنّبوة والإمامة الكبرى والقضاء وإقامة الشعائر كالأذان والإقامة والخطبة والجمعة والجهاد ، وجعل الطلاق بيدهم ، وأباح لهم تعدد الزوجات ، وخصهم بالشهادة في الجنايات والحدود ، وزيادة النصيب في الميراث ، والتعصيب.

٥٤

الثاني ـ وجوب الإنفاق على الزوجة والقريبة ، وإلزامه بالمهر على أنه رمز لتكريم المرأة.

وفيما عدا ذلك يتساوى الرجل والمرأة في الحقوق والواجبات ، وهذا من محاسن الإسلام ، قال الله تعالى : (وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ ، وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ) [البقرة ٢ / ٢٢٨] أي في إدارة البيت والإشراف على شؤون الأسرة ، والإرشاد والمراقبة ، وذلك كله غرم يتناسب مع قدرات الرّجل على تحمل المسؤوليات وأعباء الحياة. وأما المرأة فلها ذمة مالية مستقلة وحرية تامة في أموالها.

ثم أبان الله تعالى حالتي النساء في الحياة الزوجية : إما طائعة وإما ناشزة.

الأولى ـ الصالحات :

وهنّ القانتات الطائعات ربّهن وأزواجهنّ ، الحافظات حال الغيبة أنفسهنّ وعفتهنّ ومال أزواجهنّ وأولادهن وحال الخلوة مع الزوج ، وفي حضور الزوج أحفظ.

وقوله : (بِما حَفِظَ اللهُ) أي بسبب أمر الله بحفظه ، فالله أمرهنّ أن يطعن أزواجهنّ ويحفظنهم في مقابلة ما حفظه الله لهنّ من حقوق قبل الأزواج من مهر ونفقة ومعاشرة بالمعروف ، أي أن هذا بذاك. وقد وعدهنّ الله الثواب العظيم على حفظ الغيب ، وأوعدهنّ بالعقاب الشديد على التفريط به. أخرج البيهقي وابن جرير وغيرهما عن أبي هريرة قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «خير النساء : امرأة إذا نظرت إليها سرّتك ، وإذا أمرتها أطاعتك ، وإذا غبت عنها حفظتك في مالك ونفسها ، ثم قرأ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ) إلى قوله تعالى : (حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ)». وفي الحديث الصحيح عند أحمد والشيخين عن أبي هريرة : «خير نساء ركبن الإبل نساء قريش ، أحناه على ولد في صغره ، وأرعاه على زوج في ذات يده».

٥٥

الثانية ـ الناشزات :

وهنّ اللاتي تظنون أو تعلمون منهنّ التّرفع عن حدود الزوجية وحقوقها وواجباتها ، وهؤلاء يتبع الزوج معهنّ المراحل الأربع التالية :

١ ـ الوعظ والإرشاد إذا أثّر في نفوسهنّ :

بأن يقول الرّجل للزّوجة : اتّقي الله ، فإن لي عليك حقّا ، وارجعي عمّا أنت عليه ، واعلمي أن طاعتي فرض عليك ونحو ذلك بما يناسبها من تخويف بالله ، وتهديد بعقاب الله ، وتحذير من سوء العاقبة والمصير والحرمان من نعمة الحياة الزوجية السعيدة. وهذا إنذار وتذكير قد يردها عما عليه من نشوز.

٢ ـ الهجر والإعراض في المضجع (المرقد):

وهو كناية عن ترك الجماع ، أو عدم المبيت معها في فراش واحد ، ولا يحلّ هجر الكلام أكثر من ثلاثة أيام. وهذا أشد شيء في إيحاش المرأة وجعلها تتبصّر في أمرها وتفكّر في فعلها. قال ابن عباس : إذا أطاعته في المضجع ، فليس له أن يضربها.

٣ ـ الضرب غير المبرّح :

أي المؤذي إيذاء شديدا كالضّرب الخفيف باليد على الكتف ثلاث مرات ، أو بالسواك أو بعود خفيف ؛ لأن المقصود منه الصلاح لا غير. أخرج الجصاص عن جابر بن عبد الله عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه خطب بعرفات في بطن الوادي فقال : «اتّقوا الله في النساء ، فإنكم أخذتموهنّ بأمانة الله ، واستحللتم فروجهنّ بكلمة الله ، وإن لكم عليهنّ أن لا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه ، فإن فعلن فاضربوهنّ ضربا غير مبرح ، ولهنّ عليكم رزقهنّ وكسوتهنّ بالمعروف». وروى ابن جرير الطّبري نحوه.

٥٦

وروى ابن جريج عن عطاء قال : الضرب غير المبرح بالسواك ونحوه. ومثله عن ابن عباس. وقال قتادة : ضربا غير شائن (١).

وإذا تجاوز الرجل المشروع فأدى الضرب إلى الهلاك وجب الضمان ، كما يجب على المعلم الضمان في ضربه غلامه لتعلم القرآن والأدب.

وينبغي ألا يوالي الرّجل الضرب في محل واحد ، وأن يتّقي الوجه ، فإنه مجمع المحاسن ، ولا يضربها بسوط ولا بعصا ، وأن يراعي التخفيف ؛ لأن المقصود هو الزّجر والتأديب لا الإيلام والإيذاء ، كما يفعل بعض الجهلة.

ومع أن الضرب مباح فإن العلماء اتّفقوا على أن تركه أفضل. أخرج ابن سعد والبيهقي عن أم كلثوم بنت الصّدّيق رضي‌الله‌عنه قالت : كان الرّجال نهوا عن ضرب النساء ، ثم شكونهنّ إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فخلى بينهم وبين ضربهنّ ، ثم قال : ولن يضرب خياركم. وقال عمر رضي‌الله‌عنه : ولا تجدون أولئكم خياركم. فدلّ الحديث والأثر على أن الأولى ترك الضرب ، بدليل الأمر القرآني بالإحسان في المعاملة : (فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ) [البقرة ٢ / ٢٢٩] ، ويؤيده حديث آخر : «أيضرب أحدكم امرأته كما يضرب العبد ، ثم يضاجعها في آخر اليوم؟!».

فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهنّ سبيلا ، أي إذا تحققت طاعتهنّ حينئذ فلا تطلبوا سبيلا آخر إلى التعدي عليهنّ ولا تتجاوزوا ذلك إلى غيره ، أو فلا تظلموهنّ بطريق آخر فيه تعذيب وإيذاء.

إن الله كان وما يزال عليّا كبيرا ، أي أنه تعالى قاهر كبير قدير ينتصف لهنّ ويستوفي حقهنّ ، فلا تغترّوا بقوّتكم أو علوّكم أو درجتكم. وهذا تهديد للأزواج على

__________________

(١) أحكام القرآن للجصاص : ٢ / ١٨٩

٥٧

ظلم النساء. وقيل : المقصود منه حثّ الأزواج على قبول توبة النساء ، فإذا كان المتعالي المتكبّر يقبل توبة العاصي ، فأنتم أولى بأن تقبلوا توبة المرأة.

وهل العقوبات السابقة مشروعة على الترتيب أو لا؟

يرى بعضهم أن هذه العقوبات مشروعة في مجموعها ، دون ترتيب بينها ؛ لأن الواو لا تقتضي الترتيب.

وذهب آخرون إلى أن ظاهر اللفظ ، وإن دلّ على مطلق الجمع ، فإن فحوى الآية يدلّ على الترتيب ؛ لأن الواو داخلة على جزاءات متفاوتة في القوة ، متدرجة من الضعيف إلى القوي ، إلى الأقوى : الوعظ ، فالهجران ، فالضرب ، وذلك جار مجرى التصريح بالتزام التدرّج. وهذا مروي عن علي رضي‌الله‌عنه.

٤ ـ التحكيم :

خاطب الله الحكام والزوجين وأقاربهما في هذه المرحلة ، فقال : إن علمتم بوجود الخلاف أو النزاع والعداوة بين الزوجين فابعثوا حكمين : أحدهما من أهله ، والآخر من أهلها ، للسعي في إصلاح ذات بينهما بعد استطلاع حقيقة الحال بين الزوجين ، ومعرفة سبب الخلاف ، ومتى صدقت الإرادة وأخلص الحكمان النّيّة والنّصح لوجه الله ، فالله يوفقهما بمهمتهما ويهدي إلى الخير ، ويحقق الوفاق والتفاهم والعودة إلى التوادد والتراحم والألفة بين الزوجين ويبارك وساطتهما. فمعنى قوله : (إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً) أي الحكمان ، و (يُوَفِّقِ اللهُ بَيْنَهُما) أي الزوجين.

إن الله كان وما يزال عليما خبيرا : يعلم كيف يوفق بين المختلفين ويجمع بين المتفرقين ، كما قال : (لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ، ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ ، وَلكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ) [الأنفال ٨ / ٦٣].

٥٨

وهل الأمر في قوله تعالى : (فَابْعَثُوا) للوجوب أو للندب والاستحباب؟ قال الشافعي : الأمر للوجوب ؛ لأنه من باب رفع الظلامات ، وهو من الفروض العامة والمتأكدة على القاضي ، وهو ظاهر الأمر.

أما كون الحكمين من أقارب الزوجين فهو على وجه الاستحباب ، ويجوز كونهما من الأجانب ؛ لأن مهمتهما وهي استطلاع حقيقة الحال بين الزوجين وإجراء الصلح بينهما والشهادة على الظالم منهما ، تتحقق بالأجنبي ، كما تتحقق بالقريب ، لكن الأولى كونهما من أهل الزوجين ، حفاظا على أسرار الحياة الزوجية ، ومنعا من التشهير بالسمعة ، ولأن الأقارب أعرف بحال الزوجين من الأجانب ، وأشدّ حرصا على الإصلاح ، وأبعد عن الميل إلى أحد الزوجين ، وأقرب إلى اطمئنان النفس إليهم.

وأما مهمة الحكمين : فهي في رأي الإمام مالك والشعبي وهو رأي علي وابن عباس الجمع والتفريق بين الزوجين ، وإلزامهما بذلك بدون إذنهما ، يفعلان ما فيه المصلحة من تطليق أو افتداء المرأة بشيء من مالها. ولا يملكان أكثر من طلقة واحدة بائنة. قال ابن العربي في قوله تعالى : (حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها) : هذا نصّ من الله سبحانه في أنهما قاضيان لا وكيلان(١).

ورأى الشافعية والحنابلة : أنه ليس للحكمين أن يفرقا إلا برضا الزوجين ، فهما عندهم وكيلان للزوجين.

وقال الحنفية : يرفع الحكمان ما يريدانه إلى القاضي ، وهو الذي يطلّق طلاقا بائنا ، بناء على تقريرهما ، فليس للحكمين التفريق إلا أن يفوضا فيه. ويكون رأي الحنفية كالشافعية والحنابلة.

__________________

(١) أحكام القرآن : ١ / ٤٢٤

٥٩

وليس في الآية ما يرجّح أحد الرّأيين على الآخر ، بل فيها ما يشهد لكلّ من الرّأيين ، فالرّأي الأول يدلّ عليه تسمية كلّ منهما حكما والحكم هو الحاكم ، والحاكم متمكن من الحكم. والرأي الثاني يدلّ عليه أنه تعالى لم يفوّض إليهما إلا الإصلاح ، وما عدا ذلك غير مفوض إليهما. وبما أن المسألة اجتهادية فالقياس يقتضي ترجيح الرّأي الثاني ؛ لأن الزوجين غير مجبرين على شيء من طلاق أو افتداء قبل التحكيم ، فلا يجبرهما الحكم على شيء بعد التّحكيم ، ويكون كلّ من إيقاع الرّجل الطّلاق ، وبذل المال من الزوجة منوطا برضاهما. فإن اختلف الحكمان لم ينفذ قولهما ولم يلزم شيء إلا ما اتّفقا عليه. ويجوز للزوجين تحكيم شخص واحد ، وينفذ حكمه لرضاهما مسبقا به.

فقه الحياة أو الأحكام :

دلّت الآيتان على ما يلي :

١ ـ إثبات القوامة في الأسرة للرجل ، وتفضيل الرجل على المرأة في المنزلة والشرف.

٢ ـ العجز عن النفقة يسقط القوامة للرجل ، ويمنح المرأة الحق في فسخ العقد ، لزوال المقصود الذي شرع لأجله الزواج ، للآية : (وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ). وفي قوله تعالى هذا أيضا دلالة واضحة على ثبوت فسخ النكاح عند الإعسار بالنفقة والكسوة ، وهو مذهب مالك والشافعي.

وقال أبو حنيفة : لا يفسخ ؛ لقوله تعالى : (وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ) [البقرة ٢ / ٢٨٠].

٣ ـ للزوج الحق في تأديب زوجته ومنعها من الخروج ، وعلى الزوجة بقوله تعالى : (فَالصَّالِحاتُ قانِتاتٌ حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ) طاعة الزوج في غير معصية

٦٠