التفسير المنير - ج ٥

الدكتور وهبة الزحيلي

(أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ) أي في أي مكان كنتم يلحقكم الموت. (بُرُوجٍ) جمع برج وهو القصر أو الحصن. (مُشَيَّدَةٍ) عالية مرتفعة ، وقيل : مطليّة بالشّيد : وهو الجصّ (الجبس) وقد يراد بالبروج المشيدة : القلاع أو الحصون المتينة التي يحتمي فيها الجند من العدو. (حَسَنَةٌ) شيء حسن عند صاحبه كالخصب والسعة والظفر بالغنيمة. (سَيِّئَةٌ) ما تسوء صاحبها كالشدة والبلاء والجدب والهزيمة والجرح والقتل.

(يَفْقَهُونَ حَدِيثاً) يفهمون كلاما يلقى إليهم ، أي لا يقاربون أن يفهموا ، ونفي مقاربة الفعل أشدّ من نفيه.

سبب النزول :

نزول الآية (٧٧):

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ) : أخرج النسائي والحاكم عن ابن عباس أن عبد الرحمن بن عوف وأصحابا له أتوا النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقالوا : يا نبي الله ، كنا في عز ، ونحن مشركون ، فلما آمنا صرنا أذلة؟ قال : إني أمرت بالعفو ، فلا تقاتلوا القوم ، فلما حوّله الله إلى المدينة ، أمره بالقتال ، فكفّوا ، فأنزل الله : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ : كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ). قال الحسن البصري : هي في المؤمنين ، وقال مجاهد : هي في اليهود ، وقيل : هي في المنافقين ، والمعنى : يخشون القتل من المشركين كما يخشون الموت من الله.

وأما قوله تعالى : (أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ) الآية [٧٨] فروي عن ابن عباس أنه قال : لما استشهد الله من المسلمين من استشهد يوم أحد ، قال المنافقون الذين تخلّفوا عن الجهاد: لو كان إخواننا الذين قتلوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا ، فأنزل الله تعالى هذه الآية.

المناسبة :

بعد أن أمر الله بالاستعداد للقتال وأخذ الحذر ، وذكر حال المبطئين ، وأمر بالقتال في سبيله ومن أجل إنقاذ الضعفاء ، ذكر هنا حال جماعة كانوا يريدون

١٦١

قتال المشركين في مكة ، فلما فرض عليهم القتال ، كرهه المنافقون والضعفاء ، فوبّخهم الله على ذلك الموقف المتناقض.

التفسير والبيان :

كان المؤمنون في مكة مأمورين بالصلاة والزكاة ومواساة الفقراء ، وبالصفح والعفو عن المشركين ، وكانوا يودّون الإذن لهم بالقتال ليثأروا من أعدائهم ، ولم يكن الحال مناسبا لذاك لأسباب كثيرة منها : قلّة عددهم بالنسبة إلى كثرة عدد عدوهم ، ومنها كونهم في بلد حرام وأشرف بقاع الأرض ، فلهذا لم يؤمروا بالجهاد إلا بالمدينة لما صارت لهم دار ومنعة وأنصار. ومع هذا لما أمروا بما كانوا يودّونه جزع بعضهم منه ، وخافوا من مواجهة الناس خوفا شديدا ، فقصّ الله علينا قصّتهم.

ألم تنظر إلى أولئك الذين قيل لهم في مكة في ابتداء الإسلام : التزموا السلم وامنعوا أيديكم وأنفسكم عن الحروب الجاهلية ، وأدّوا الصلاة بخشوع مقوّمة تامة الأركان ، وأدّوا الزكاة التي تؤدي إلى التراحم بين الخلق ، وكانوا في الجاهلية يشنون الحروب لأتفه الأسباب ، وتطفح قلوبهم بالأحقاد ، ولكن حين فرض عليهم القتال في المدينة ، كرهه جماعة وهم المنافقون والضعفاء ، وخافوا أن يقاتلهم الكفار ويقتلوهم ، كخوفهم من إنزال عذاب الله وبأسه بهم ، بل أشدّ خوفا من الله تعالى.

وحكى الله تعالى قولهم لشدة هلعهم وخوفهم من القتال وقالوا : ربّنا لم فرضت علينا القتال ، لو لا تركتنا نموت موتا طبيعيّا ، ولو بعد أجل قريب ، ولو لا أخرت فرض القتال إلى مدّة أخرى ، فإن في القتال سفك الدماء ، ويتم الأولاد ، وتأيم النساء. وهذا كقوله تعالى : (وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا : لَوْ لا نُزِّلَتْ سُورَةٌ ، فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ ، وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ) [محمد ٤٧ / ٢٠].

١٦٢

ثم أمر الله نبيّه بردّ شبهتهم قائلا (قُلْ : مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ ..) أي : إن طلبكم التأخير وقعودكم عن القتال خشية الموت ناشئ من الرغبة في متاع الدّنيا ولذّاتها ، مع أن كلّ ما يتمتع به في الدّنيا زائل وقليل بالنسبة إلى متاع الآخرة ، وآخرة المتّقي خير من دنياه ؛ لأن نعيم الدّنيا محدود فان ، ومتاع الآخرة كثير باق لا كدر فيه ولا تعب ، ولا يناله إلا من اتّقى الله ، فامتثل ما أمره الله به ، واجتنب ما نهى الله عنه ، وستحاسبون على كلّ شيء.

ولا تنقصون شيئا مهما قلّ كالفتيل (ما يكون في شقّ نواة التمر كالخيط) من أعمالكم ، بل توفونها أتمّ الجزاء. وهذا تسلية لهم عن الدّنيا ، وترغيب لهم في الآخرة ، وتحريض لهم على الجهاد.

وإن الموت أمر محتم لا مفرّ منه ، وأنتم صائرون إلى الموت لا محالة ، ولا ينجو منه أحد ولو كان في قصر محصن منيع مرتفع مشيد ، فملك الموت لا تحجزه حواجز ولا تعوقه عوائق ، كما قال تعالى : (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ) [آل عمران ٣ / ١٨٥] ، وقوله : (كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ) [الرحمن ٥٥ / ٢٦] ، وقوله : (وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ) [الأنبياء ٢١ / ٣٤]. وإذا كان الموت مصير الخلائق جميعهم ، وفي أجل محدود لا يستأخرون عنه ساعة ولا يستقدمون ، فلا خشية من الجهاد ، فسواء جاهد الإنسان أو لم يجاهد ، فإن له أجلا محتوما ومقاما مقسوما ، كما قال خالد بن الوليد حين جاء الموت على فراشه : «لقد شهدت كذا وكذا موقفا ، وما من عضو من أعضائي إلا وفيه جرح من طعنة أو رمية ، وها أنا أموت على فراشي ، فلا نامت أعين الجبناء». وكم من محارب نجا ، وقاعد على فراشه عن الحرب مات حتف أنفه.

ثم ذكر سبحانه وتعالى ما يتعجب منه بسبب مقالة أولئك المنافقين ، فإذا أصابتهم حسنة من غنيمة أو خصب أو رزق من ثمار وزروع وأولاد ونحو ذلك ،

١٦٣

قالوا : هذه من عند الله ومن فضله وإحسانه ، لا دخل لأحد فيها ، وإذا أصابتهم سيئة من هزيمة أو قحط وجدب ونقص في الثمار والزروع أو موت الأولاد أو النتاج أو غير ذلك ، قالوا : هذه من قبلك يا محمد ، وبسبب اتّباعنا لك واقتدائنا بدينك ، كما قال الله تعالى عن قوم فرعون : (فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قالُوا : لَنا هذِهِ ، وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ ، أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللهِ) [الأعراف ٧ / ١٣١] ، وكما قال تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلى حَرْفٍ) الآية [الحج ٢٢ / ١١].

وهكذا قال اليهود والمنافقون الذين دخلوا في الإسلام ظاهرا ، وهم كارهون له في حقيقة الأمر ، حتى إنه إذا أصابهم شرّ أسندوه إلى اتّباعهم للنّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وتشاءموا بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقالوا : «هذه من عندك» أي أنه بتركنا ديننا واتّباعنا محمدا أصابنا هذا البلاء.

فردّ الله عليهم بأن هذا زعم باطل منهم ، وكلّ من عند الله ، أي الجميع بقضاء الله وقدره ، وهو نافذ في البرّ والفاجر ، والمؤمن والكافر ، بحسب سنّة الله في ربط المسببات بالأسباب.

فما ذا أصاب هؤلاء القوم في عقولهم ، وما لهم لا يفهمون حقيقة ما يلقى إليهم من حديث وما يلقونه من كلام؟ وما الذي دهاهم في عقولهم حتى وصلوا إلى هذا الفهم السقيم؟ فقد ربطت الأسباب بمسبباتها ، وإن كان الله خالقا لكلّ شيء.

ثم خاطب الله تعالى رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والمراد بالخطاب جنس الإنسان ليحصل على الجواب : ما أصابك من حسنة فمن الله ، أي من فضل الله ورحمته ولطفه وتوفيقه حتى تسلك سبيل النجاة والخير ؛ وما أصابك من سيئة فمن نفسك ، أي من قبلك ومن عملك أنت ؛ لأنك لم تسلك سبيل العقل والحكمة والاسترشاد بقواعد الهداية الإلهية وبمعطيات العلم والتجربة ، حتى قالوا : إن المرض بسببك ،

١٦٤

والحقيقة أن الأمراض الوراثية بسبب الإنسان وسلوكه الطرق غير الصحيحة!!

وذلك كما قال الله تعالى : (وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ ، وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ) [الشورى ٤٢ / ٣٠].

وأما أنت يا محمد فرسول من عندنا أرسلناك للناس ، تبلغهم شرائع الله ، وما يحبه ويرضاه ، وما يكرهه ويأباه ، وكفى بالله شهيدا على أنه أرسلك ، وهو شهيد أيضا بينك وبينهم ، وعالم بما تبلغهم إياه ، وبما يردون عليك من الحق كفرا وعنادا ، وما عليك إلا البلاغ ، والخير والشّر من عند الله خلقا وإيجادا ، والشّر من العبد كسبا واختيارا.

والخلاصة : هناك شيئان :

١ ـ كل شيء من عند الله : أي أنه خالق الأشياء وواضع النظم والسّنن للوصول إليها بسعي الإنسان وكسبه.

٢ ـ ما يصيب الإنسان من السّوء والشّر : يكون بتقصير منه في معرفة السّنن والأسباب.

ولا تعارض بين قوله تعالى : (كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ) أي كلّ من الحسنة والسّيئة ، وبين قوله: (وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ) لأن الآية الأولى تعني كون الأشياء كلها من الله خلقا وإيجادا ، والثانية تسبّبا وكسبا بسبب الذنوب ، أو التقصير في فهم النظم والقواعد العامة.

فقه الحياة أو الأحكام :

الراجح لدي أن آية : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ ..) واردة في جماعة من اليهود والمنافقين وضعفاء الإيمان ؛ إذ لم يعرف في تاريخ الصحابة أنهم اعترضوا على نزول الوحي بحكم من الأحكام التشريعية ، ويدلّ له سياق الآية :

١٦٥

(وَقالُوا : رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ ، لَوْ لا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ). ومعاذ الله أن يصدر هذا القول من صحابي كريم ، يعلم أن الآجال محدودة ، والأرزاق مقسومة ، بل كانوا لأوامر الله ممتثلين سامعين طائعين ، يرون الوصول إلى الدار الآخرة خيرا من المقام في الدّنيا ، على ما هو معروف من سيرتهم رضي‌الله‌عنهم.

أما ما رواه النسائي والحاكم في سبب النزول فيحتاج إلى تحقق ونظر ، ويستبعد أن يكون عبد الرّحمن بن عوف المبشّر بالجنّة ممن يقول القول المتقدّم.

ومما أرشدت إليه الآية ما يأتي :

١ ـ الدّنيا وما فيها من متع ولذات وشهوات قليلة فانية محدودة ، والآخرة بما فيها من نعيم مقيم وخلود في الجنان خير لمن اتّقى المعاصي. قال النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «مثلي ومثل الدّنيا كراكب قال قيلولة (١) تحت شجرة ثم راح وتركها».

٢ ـ الموت أمر محتم لا يتأخر عمن انتهى أجله ، سواء أكان في الحصون المحصنة في الأراضي المبنية ، أم في ساحات المعركة ، وموت خالد بن الوليد على فراشه أكبر عبرة.

وبعبارة أخرى : الآجال متى انقضت لا بدّ من مفارقة الرّوح الجسد ، كان ذلك بقتل أو موت أو غير ذلك مما أجرى الله العادة بزهوقها به.

٣ ـ اتّخاذ البلاد وبناؤها وتشييد العمارات للمعيشة فيها وحفظ الأموال والنّفوس هي سنّة الله في عباده. وهو من أكبر الأسباب وأعظمها ، وقد أمرنا بها ، واتّخذها الأنبياء وحفروا حولها الخنادق عدّة وزيادة في التّمنع ، وذلك أبلغ ردّ على قول من يقول : التّوكل ترك الأسباب.

٤ ـ قوله تعالى : (وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا : هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ ، وَإِنْ

__________________

(١) القيلولة : النوم في الظهيرة ، والفعل : قال ، فهو قائل.

١٦٦

تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا : هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ) : نزلت هذه الآية في رأي المفسّرين وعلماء التأويل كابن عباس وغيره في اليهود والمنافقين ، وذلك أنهم لما قدم عليهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في المدينة ، قالوا : ما زلنا نعرف النقص في ثمارنا ومزارعنا مذ قدم علينا هذا الرجل وأصحابه.

٥ ـ الشدّة والرّخاء والظفر والهزيمة من عند الله ، أي بقضاء الله وقدره ، ومن خلقه وإيجاده.

٦ ـ ما أصابكم يا معشر الناس من خصب واتّساع رزق فمن تفضل الله عليكم ، وما أصابكم من جدب وضيق رزق فمن أنفسكم ، أي من أجل ذنوبكم ، وقع ذلك بكم ، كما قال الحسن البصري والسّدّي وغيرهما.

والجهّال هم الذين أخطئوا في فهم آية : (قُلْ : كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ) على أن الحسنة والسيئة من الله دون خلقه ، ومصدر الخطأ أنهم فسّروا السّيئة بالمعصية ، وليست كذلك ، فإن المراد بالسّيئة شيء معين وهو القحط والجدب ونحوه. ولأنه لو كان المراد بالحسنة فعل المحسن وبالسيئة فعل المسيء ، لكان يقول : ما أصبت من حسنة ، وما أصبت من سيئة ؛ لأنه الفاعل للحسنة والسيئة جميعا ، فلا يضاف إليه إلا بفعله لهما ، لا بفعل غيره.

٧ ـ النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذو رسالة سماوية إلهية موحى إليه بها ، وكفى بالله شهيدا على صدق رسالة نبيّه وأنه صادق.

طاعة الرسول طاعة لله وتدبّر القرآن وكونه من عند الله

(مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً (٨٠)

١٦٧

وَيَقُولُونَ طاعَةٌ فَإِذا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللهُ يَكْتُبُ ما يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً (٨١) أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً (٨٢))

الإعراب :

(وَيَقُولُونَ طاعَةٌ) طاعة : خبر مبتدأ محذوف تقديره : أمرنا طاعة.

(بَيَّتَ طائِفَةٌ) ذكّر الفعل لتقدّمه ولأن تأنيث الفاعل غير حقيقي ، أي أن تأنيث الطائفة مجازي غير حقيقي ، ولأنها في معنى الفريق والفوج.

البلاغة :

(أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ) استفهام يراد به الإنكار.

المفردات اللغوية :

(تَوَلَّى) أعرض عن طاعته. (حَفِيظاً) حافظا لأعمالهم ، بل نذيرا ، وإلينا أمرهم. فنجازيهم ، وهذا قبل الأمر بالقتال.

(طاعَةٌ) أي يقول المنافقون : أمرنا طاعة لك. (بَرَزُوا) خرجوا. (بَيَّتَ طائِفَةٌ) أضمرت طائفة ، أو دبرت جماعة منهم ليلا رأيا غير الذي قالوه لك ، أو زوّرت وسوّت خلاف ما قلت وما أمرت به ، أو خلاف ما قالت وما ضمنت من الطاعة ؛ لأنهم أضمروا الرّدّ لا القبول ، والعصيان لا الطاعة ، وإنما ينافقون بما يقولون ويظهرون.

(وَاللهُ يَكْتُبُ ما يُبَيِّتُونَ) يأمر بكتب ما يبيّتون في صحائفهم ، ليجازوا عليه. (فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ) بالصفح. (وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ) ثق به ، فإنه كافيك. (وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً) مفوضا إليه.

(أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ) يتأملون القرآن وينظرون ما فيه من المعاني البديعة ، فمعنى تدبّر القرآن : تأمل معانيه والتّبصر بما فيه. (اخْتِلافاً كَثِيراً) تناقضا في معانيه ، وتباينا في نظمه وبلاغته ، فكان بعضه بالغا حدّ الإعجاز ، وبعضه قاصرا عنه يمكن معارضته ، وبعضه إخبارا بغيب

١٦٨

وافق المخبر عنه ، وبعضه إخبارا مخالفا للمخبر عنه ، وبعضه دالّا على معنى صحيح ، وبعضه دالّا على معنى فاسد غير ملتئم.

سبب النزول :

روى مقاتل أن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يقول : «من أحبّني فقد أحبّ الله ، ومن أطاعني فقد أطاع الله» فقال المنافقون : ألا تسمعون إلى ما يقول هذا الرجل؟ لقد قارف الشرك ، وقد نهى أن نعبد غير الله ، ويريد أن نتخذه ربّا كما اتّخذت النصارى عيسى ، فأنزل الله هذه الآية.

المناسبة :

أكّد الله تعالى هنا ما سبق من الأمر بطاعة الله والرسول ، وأوضح أن طاعة الرسول تعود في النهاية لله تعالى ، وكشف مراوغة المنافقين.

التفسير والبيان :

يخبر الله تعالى عن عبده ورسوله محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن من أطاعه فقد أطاع الله ، ومن عصاه فقد عصى الله ، وما ذاك إلا لأنه ما ينطق عن الهوى ، إن هو إلا وحي يوحى. ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من أطاعني فقد أطاع الله ، ومن عصاني فقد عصى الله ؛ ومن أطاع الأمير فقد أطاعني ، ومن عصى الأمير فقد عصاني».

معنى الآية : من أطاع الرسول فقد أطاع الله ؛ لأنه الآمر والناهي في الحقيقة ، والرسول مبلّغ للأمر والنّهي ، فليست الطاعة له بالذات ، وإنما هي لمن بلّغ عنه ، وهو الله عزوجل.

أما ما يأمر به الرّسول من الأمور الدّنيوية ، كتأبير النخل (تلقيحه بطلع الذكور) وأكل الزيت والادّهان به ، وكيل الطعام من قمح وغيره عند طحنه

١٦٩

وعجنه ، فهو مجرّد اجتهاد برأيه ، لا تجب طاعته فيه.

وكان الصحابة رضي‌الله‌عنهم إذا شكّوا في الأمر ، أهو وحي من عند الله أم اجتهاد من الرّسول؟ سألوه ، فإن كان وحيا أطاعوه بلا تردّد ، وإن كان رأيا من عنده ، ذكروا رأيا آخر وأشاروا بما هو أولى ، كما حدث في غزوتي بدر وأحد ، وربما رجع إلى رأيهم.

ومن أعرض عن طاعتك خاب وخسر ، وليس عليك من أمره شيء ، وليس لك أن تكرهه على ما تريد ، إن عليك إلا البلاغ ، لست عليهم بمسيطر ، والخسران لاحق به ، كما جاء في الحديث الصحيح : «من يطع الله ورسوله فقد رشد ، ومن يعص الله ورسوله ، فإنه لا يضر إلا نفسه».

ثم أخبر الله تعالى عن المنافقين بأنهم يظهرون الموافقة والطاعة ، فيقولون : أمرنا طاعة لك ، أو أمرك طاعة أي أمرك مطاع ، نفاقا وانقيادا ظاهرا ، فإذا خرجوا من مكانك وتواروا عنك ، دبروا ليلا فيما بينهم رأيا غير ما أظهروه لك. روى ابن جرير الطبري عن ابن عباس أنه قال : هم ناس يقولون عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : آمنا بالله ورسوله ، ليأمنوا على دمائهم وأموالهم ، وإذا برزوا من عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خالفوا إلى غير ما قالوا عنده ، فعاتبهم الله على ذلك.

والله يعلم ما يبيتون ، ويكتبه عليهم بما يأمر به حفظته الكاتبين الذين هم موكلون بالعباد. والمعنى في هذا التهديد أنه تعالى يخبر بأنه عالم بما يضمرونه ويسرونه فيما بينهم ، وما يتفقون عليه ليلا من مخالفة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعصيانه ، وإن كانوا قد أظهروا له الطاعة والموافقة ، وسيجزيهم على ذلك.

فأعرض عنهم ، أي اصفح عنهم واحلم عليهم ولا تؤاخذهم ولا تهتم بمؤامراتهم ، ولا تكشف أمورهم للناس ، ولا تخف منهم أيضا. وتوكل على الله أي فوض الأمر

١٧٠

إليه ، وثق به في جميع أمورك ، فإن الله كافيك شرهم ، وكفى به وليا وناصرا ومعينا لمن توكل عليه وأناب إليه.

ثم يأمرهم الله تعالى بتدبر القرآن وتفهم معانيه المحكمة وألفاظه البليغة ، فهو الكفيل بتصحيح خطتهم ومنهجهم ، ويخبرهم أنه لا اختلاف فيه ولا اضطراب ولا تعارض ؛ لأنه تنزيل من حكيم حميد ، فهو حق من حق ، ولهذا قال تعالى : (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها) [محمد ٤٧ / ٢٤] ثم قال : (وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ) [النساء ٤ / ٨٢] أي لو كان مفتعلا مختلقا ، كما يقول جهلة المشركين والمنافقين في بواطنهم ، لوجدوا فيه اختلافا كثيرا ، أي اضطرابا وتضادا كثيرا ، وهذا سالم من الاختلاف ، فهو من عند الله.

ومظاهر الاختلاف المفترضة إما في نظمه وإما في معانيه.

أما في نظمه وبلاغته : فقد يكون بعضه بالغا حد الإعجاز ، وبعضه قاصرا عنه.

وأما في معانيه : فقد يكون بعضه صحيح المعنى وبعضه فاسدا سقيما. وقد يخبر عن الغيب وقصص السابقين بما يوافق الواقع وبما يخالفه ، وقد يصيب في تصوير حقائق الأحوال الاجتماعية والاقتصادية والسياسية للأمم ، وقد يجانب الصواب. وقد يأتي بحقائق العقيدة وأسس الأحكام التشريعية ، وأحكم القواعد العامة ، وقد تكون مفندة.

أما ترتيبه فبالرغم من نزوله منجما مفرقا بحسب الوقائع والمناسبات على مدى ثلاث وعشرين سنة فهو في غاية الإبداع والإحكام ، إذ كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عند نزول آية أو آيات أو سورة يأمر بما يوحي إليه بأن توضع كل آية في محلها من سورة كذا ، وهو يحفظه حفظا ثابتا لا ينمحي من ذاكرته : (سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى) [الأعلى ٨٧ / ٦].

١٧١

كل هذه الألوان من الاختلافات والاحتمالات لا نجدها في القرآن الكريم ، مما يدل قطعا على أنه كلام الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، فهو قد أعجز ببلاغته وفصاحته وجزالته البلغاء والفصحاء ، وصور الحقائق تصويرا تاما بلا اختلاف ولا تناقض ، وأخبر عن الماضي السحيق خبرا صدقا موافقا للواقع ، وتحدث عن الحاضر ومكنونات الأنفس والضمائر بما يبهر ويعجب ويخرس الألسنة الناقدة ، وأنبأ عن بعض الأمور في المستقبل ، فجاء الحدث مطابقا لما أنبأ عنه ، ووضع أصول العقيدة ، والتشريع في القضايا العامة والخاصة ، وسياسة الأمم والحكم بما لم يسبق إليه ، وبما تطابق مع أحدث وأصح ما توصلت إليه البشرية بعد مخاضات طويلة في مجال النظريات والفلسفات.

وصوّر لنا عالم الغيب ومشاهد القيامة بصور مرئية محسوسة كأننا نشاهدها وننجذب إليها وترتسم صورها في أذهاننا دون أن تفارقها لشدة وقعها ، وبراعة تصويرها ، وصدق حكايتها وواقعيتها : (اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ، ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللهِ) [الزمر ٣٩ / ٢٣].

ولو أنصف المسلمون أنفسهم ما اتخذوا هذا القرآن مهجورا ، ولو تدبروا ما فيه وفهموا ما رسمه لهم من طريق الحياة السوية ، لما انحدروا إلى ما هم عليه الآن ، فهو مرشد الهداية ، ونور الأمة ، وصراط الله المستقيم ، ومفتاح السعادة ، وطريق تحقق المصلحة ، وبناء الأمة وتحضرها ، قال الله تعالى : (إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ ، وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً) [الإسراء ١٧ / ٩].

فقه الحياة أو الأحكام :

أرشدت الآيات إلى ما يلي :

١٧٢

١ ـ وجوب طاعة الرسول ، وأن طاعته طاعة لله تعالى.

٢ ـ المعرض عن طاعة الرسول متبع هواه ، منقاد لشهواته ، مضيع لصلحته ، يقود نفسه إلى الهاوية في الدنيا ونار جهنم في الآخرة.

٣ ـ مراوغة المنافقين مكشوفة ، فهم يقولون عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أمرنا طاعة ، أو نطيع طاعة ، أو أمرك طاعة ، ثم يظهرون بسرعة نقيض ما يقولون. وهذا موقف يأباه صغار الناس وجهالهم وسفهاؤهم ، فقولهم ذلك أمام النبي ليس بنافع ؛ لأن من لم يعتقد الطاعة ليس بمطيع حقيقة ، والعبرة بالنتائج ، فثبت أن الطاعة بالاعتقاد مع وجودها فعلا.

ولم يحصد هؤلاء المنافقون من موقفهم هذا أي شيء ، وإنما هو على العكس كان سبب افتضاح شأنهم في الدنيا أمام الناس ، وسبب دمارهم وإهلاكهم في الآخرة ؛ لأن الله تعالى يثبته في صحائف أعمالهم ، ليجازيهم عليه.

لذا لا داعي للاهتمام بشأنهم ، وقد أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالإعراض عنهم ، وتفويض أمره إلى الله تعالى والتوكل عليه والثقة به في النصر على عدوه ، فهو نعم المولى ونعم الوكيل.

٤ ـ وجوب تدبر القرآن لمعرفة معانيه ، هذا أمر مفروض على كل مسلم ، ولا تكفيه التلاوة من غير تأمل ونظر في معانيه وأهدافه. وفيه دليل على الأمر بالنظر والاستدلال ، وإبطال التقليد في العقائد وأصول الدين. كما أن فيه دليلا على إثبات القياس.

٥ ـ ليس المراد من قوله (اخْتِلافاً كَثِيراً) اختلاف ألفاظ القراءات وألفاظ الأمثال والدلالات ، ومقادير السور والآيات ، وإنما أراد اختلاف التناقض والتفاوت في المستوى البلاغي والنظم المعجز ، وفي المعاني والأفكار ، وفي الأخبار والمغيبات ، وفي أصول تنظيم الحياة.

١٧٣

إذاعة الأخبار من غير اعتماد على مصدر صحيح

(وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ إِلاَّ قَلِيلاً (٨٣))

الإعراب :

(إِلَّا قَلِيلاً) في هذا الاستثناء ستة أوجه ذكرها ابن الأنباري : ١ / ٢٦٢ وهي :

١ ـ أن يكون استثناء من قوله تعالى : (لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ).

٢ ـ أن يكون استثناء من واو (يَسْتَنْبِطُونَهُ).

٣ ـ أن يكون استثناء من واو (أَذاعُوا بِهِ) أي أذاعوا بالخبر.

٤ ـ أن يكون استثناء من هاء (بِهِ).

٥ ـ أن يكون استثناء من الهاء والميم في (جاءَهُمْ).

٦ ـ أن يكون استثناء من الكاف والميم في (عَلَيْكُمْ).

وقيل : إلا قليلا : منصوب ؛ لأنه صفة مصدر محذوف وتقديره : إلا اتباعا قليلا ، فحذف الموصوف وأقام الصفة مقامه. وقال الزمخشري : إلا قليلا منكم ، أو إلا اتباعا قليلا.

المفردات اللغوية :

(وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ) عن سرايا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بما حصل لهم (مِنَ الْأَمْنِ) النصر. (أَوِ الْخَوْفِ) بالهزيمة. (أَذاعُوا بِهِ) أفشوه وأشاعوه بين الناس. (وَلَوْ رَدُّوهُ) أي أرجعوا الخبر. (أُولِي الْأَمْرِ) أي ذوي الرأي من أكابر الصحابة ، أي لو سكتوا عنه حتى يخبروا به. (لَعَلِمَهُ) لعرفوا : هل هو مما ينبغي أن يذاع أو لا؟

(يَسْتَنْبِطُونَهُ) استنبط الماء : استخرجه من البئر ، والمراد هنا : ما يستخرجه الرجل العالم بفضل عقله وعلمه من الأفكار والأحكام وحلول القضايا. وهم المذيعون منهم من الرسول وأولي

١٧٤

الأمر. (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ) بالإسلام. (وَرَحْمَتُهُ) لكم بالقرآن. (لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ) فيما يأمركم به من الفواحش.

سبب النزول :

روى مسلم عن عمر بن الخطاب قال : لما اعتزل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم نساءه ، دخلت المسجد ، فإذا الناس ينكتون بالحصى ، ويقولون : طلق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم نساءه ، فقمت على باب المسجد ، فناديت بأعلى صوتي : لم يطلق نساءه ، ونزلت هذه الآية : (وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ ، أَذاعُوا بِهِ ، وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ ، لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ) فكنت أنا استنبطت ذلك الأمر.

قال ابن جرير الطبري : إن هذه الآية نزلت في الطائفة التي كانت تبيّت غير ما يقول لها الرسول أو تقول له. اه.

وذكر السيوطي : نزلت الآية في جماعة من المنافقين أو في ضعفاء المؤمنين كانوا يفعلون ذلك ، فتضعف قلوب المؤمنين ، ويتأذى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

والظاهر لدي ما يقوله السيوطي ؛ فإن إشاعة الأخبار وترويج الإشاعات إما أن تكون من المنافقين أعداء الأمة بقصد سيء ، وإما أن تكون من ضعاف الإيمان وعوام الناس الجهلة بقصد حسن. وربما كان موقف عمر أحد أسباب النزول.

قال الزمخشري : هم ناس من ضعفة المسلمين الذين لم تكن فيهم خبرة بالأحوال ، ولا استبطان للأمور ، كانوا إذا بلغهم خبر عن سرايا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أمن وسلامة ، أو خوف وخلل ، أذاعوا به ، وكانت إذاعتهم مفسدة (١).

__________________

(١) الكشاف : ١ / ٤١٢

١٧٥

المناسبة :

مناسبة الآية واضحة بالنسبة لما قبلها ، فإنه تعالى أمر بتدبر القرآن ووعيه والتثبت من فهمه ، وذلك مدعاة للتعلم بضرورة التثبت في كل شؤون الحياة ، كنقل الأخبار وغيرها.

التفسير والبيان :

هذا إنكار على من يبادر إلى الأمور قبل تحققها ، فيخبر بها ويفشيها وينشرها ، وقد لا تكون صحيحة. روى مسلم في صحيحة عن أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «كفى بالمرء كذبا أن يحدث بكل ما سمع». وفي الصحيح : «من حدث بحديث وهو يرى أنه كذب ، فهو أحد الكاذبين» وفي الصحيحين عن المغيرة بن شعبة : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «نهى عن قيل وقال» أي الذي يكثر من الحديث عما يقول الناس ، من غير تثبت ، ولا تدبر ، ولا تبين. وفي سنن أبي داود : «بئس مطية الرجل : زعموا».

معنى الآية : قد يبلغ الخبر عن أحوال الأمن (السلم) والخوف (الحرب) من مصادر غير موثوقة إلى الجهلة أو المنافقين أو ضعفة المسلمين الذين لا خبرة لهم بالقضايا العامة ، فيبادرون إلى إذاعته ونشره وترويجه بين الناس ، وهذا أمر منكر يضر بالمصلحة العامة.

لذا يجب أن يترك الحديث في الشؤون العامة الى قائد المسلمين وهو الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أو إلى أولي الأمر وهم أهل الرأي والحل والعقد ورجال الشورى في الأمة ، فهم أولى الناس وأدراهم بالكلام فيها ، فهم الذين يتمكنون من استنباط الأخبار الصحيحة ، واستخراج ما يلزم تدبيره وقوله بفطنتهم وتجاربهم ومعرفتهم بأمور الحرب ومكايدها.

أما التحدث بكل ما نسمع ، ونقل الأخبار من غير تثبت ، ففيه ضرر واضح

١٧٦

بالدولة ، لذا فإن كل الدول المعاصرة تفرض رقابة على الأخبار في الصحف والإذاعة وغيرها ، حتى لا تشوه المواقف وتستغل عقول الناس ، سواء في السلم أو في الحرب.

ثم امتنّ الله تعالى على صادقي الإيمان فعصمهم من الانزلاق في تلك التيارات ، فذكر : ولو لا فضل الله عليكم ورحمته بكم إذ هداكم ووفقكم لطاعة الله والرسول ، وأرشدكم إلى الرجوع إلى المصدر العلمي الصحيح وهو الرسول وأولو الأمر من الأمة ، لاتبعتم وساوس الشيطان ، أو لبقيتم على الكفر ـ كما قال الزمخشري ـ إلا قليلا منكم ، أو إلا اتباعا قليلا. وهي نظير قوله تعالى : (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً) [النور ٢٤ / ٢١].

فقه الحياة أو الأحكام :

وجّهت الآية النصائح والإرشادات التالية :

١ ـ وجوب التثبت من الأخبار قبل روايتها وحكايتها ، وضرورة الرقابة العامة على الأخبار المعلنة ، حفاظا على أسرار الأمة ووحدتها ، والعمل على إبقائها قوية متماسكة متعاضدة ، لا تتأثر بالدعايات الكاذبة والإشاعات المغرضة.

٢ ـ أهل العلم والخبرة والقادة هم أولى الناس بالتحدث عن القضايا أو الشؤون العامة ، وهم أيضا أهل الاجتهاد في الدين.

٣ ـ الانزلاق في وساوس الشيطان كثير شائع لو لا فضل الله ورحمته.

٤ ـ قال الجصاص الرازي : في الآية دلالة على وجوب القول بالقياس واجتهاد الرأي في أحكام الحوادث ؛ وذلك لأنه أمر برد الحوادث إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم في حياته إذا كانوا بحضرته ، وإلى العلماء بعد وفاته والغيبة عن حضرته صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وهذا لا محالة فيما لا نص فيه ؛ لأن المنصوص عليه لا يحتاج إلى استنباطه ، فثبت

١٧٧

بذلك أن من أحكام الله ما هو منصوص عليه ، ومنها ما هو مودع في النص ، قد كلفنا الوصول إلى علمه بالاستدلال عليه واستنباطه.

فقد حوت هذه الآية معاني منها : أن في أحكام الحوادث ما ليس بمنصوص عليه ، بل مدلول عليه. ومنها : أن على العلماء استنباطه ، والتوصل إلى معرفته برده إلى نظائره من المنصوص. ومنها أن العامي عليه تقليد العلماء في أحكام الحوادث. ومنها أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد كان مكلفا باستنباط الأحكام والاستدلال عليها بدلائلها ؛ لأنه تعالى أمر بالرد إلى الرسول وإلى أولي الأمر. ثم قال : (لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ) ولم يخص أولي الأمر بذلك دون الرسول ، وفي ذلك دليل على أن للجميع الاستنباط والتوصل إلى معرفة الحكم بالاستدلال (١).

التحريض على الجهاد

(فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ لا تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللهُ أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنْكِيلاً (٨٤))

المفردات اللغوية :

(لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ) لا تهتم بتخلفهم عنك ، وقاتل ولو وحدك ، فإنك موعود بالنصر. (وَحَرِّضِ) حثهم على القتال ورغبهم فيه. (بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي شدتهم وقوتهم. (وَأَشَدُّ تَنْكِيلاً) تعذيبا ومعاقبة بما فيه عبرة ونكال لغيرهم.

المناسبة :

لما ذكر الله تعالى في الآية المتقدمة تثبيطهم (شغلهم) عن القتال وإظهارهم

__________________

(١) أحكام القرآن : ٢ / ٢١٥

١٧٨

الطاعة وإضمارهم خلافها ، قال : (فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ ..).

التفسير والبيان :

يأمر الله تعالى عبده ورسوله محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن يباشر القتال بنفسه ، وأما من نكل عنه فليتركه.

فقاتل يا محمد في سبيل الله إن أفردوك وتركوك وحدك إن أردت الظفر على الأعداء ، لا تكلف غير نفسك وحدها أن تقدمها إلى الجهاد ، فإن الله هو ناصرك ، لا الجنود ، فإن شاء نصرك وحدك ، كما ينصرك وحولك الألوف.

أما غيرك الذين يقولون : لم كتبت علينا القتال ، ويبيتون غير ما يعلنون أمامك من الطاعة ، فاتركهم وشأنهم ، والله مجازيهم على أعمالهم.

وما عليك في شأنهم إلا التحريض على القتال فحسب ، لا التعنيف بهم ، عسى الله ـ هنا بمعنى الخبر والوعد ووعد الله لا يخلف ـ أن يرد عنك بأس أي شدة وقوة الذين كفروا وهم قريش ، والله أشد بأسا ـ قوة ـ من قريش ، وأشد تنكيلا : تعذيبا ومعاقبة وهو قادر عليهم في الدنيا والآخرة لكفرهم وجرأتهم على الحق.

وقد تحقق هذا الوعد الإلهي ، فكفّ بأس الكافرين ، وذلك أن أبا سفيان بعد موقعة أحد كان قد طلب اللقاء في بدر في العام المقبل ، فأجابه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى مطلبه ، فحينما حل موعد بدر الصغرى في السنة الثالثة لغزوة أحد ، صمم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على الخروج ، وقال : «والذي نفسي بيده لأخرجن ولو وحدي» فخرج ومعه سبعون فقط ، وتحقق لهم النصر ؛ لأن أبا سفيان بدا له وقال : هذا عام مجدب ، وما كان معهم زاد إلا السويق ، ولا يلقون إلا في عام مخصب ، فرجع من الطريق ، وصرفه الله عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

١٧٩

فقه الحياة أو الأحكام :

هذه الآية في الغاية القصوى من التحريض على القتال وخوض المعارك ، فلا يكلف إلا النبي وحده إذا امتنع المسلمون عن مشاركته في الجهاد ، والمعنى لا تدع جهاد العدو والاستنصار عليهم للمستضعفين من المؤمنين ، ولو وحدك ؛ لأنه وعده بالنصر. قال الزجاج : أمر الله تعالى رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالجهاد وإن قاتل وحده ؛ لأنه قد ضمن له النصرة.

وهي تدل على أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمر بقتال المشركين الذين قاوموا دعوته بقوتهم وإن كان وحده ، كما أنها تدل على اتصاف النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بشجاعة لا نظير لها ، وقد ثبت وحده في أحد وحنين وكان الأبطال يتقون به ، قال علي كرم الله وجهه : «كنا إذا حمي الوطيس واحمرت الحدق اتقينا برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فما يكون أحد أقرب إلى العدو منه».

واشتملت الآية على حض المؤمنين على الجهاد والقتال ، ودلت على وعد من الله بنصر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وتحقق هذا الوعد ، كما أوضحت ، ولا يلزم وجوده على الاستمرار والدوام ، فمتى وجد ولو لحظة مثلا ، فقد صدق الوعد ، فكف الله بأس المشركين ببدر الصغرى ، وأخلفوا ما كانوا عاهدوه من الحرب والقتال : (وَكَفَى اللهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ) [الأحزاب ٣٣ / ٢٥]. وكذلك انتصر المؤمنون على المشركين في الحديبية أيضا عما راموه من الغدر وانتهاز الفرصة ، ففطن بهم المسلمون ، فخرجوا فأخذوهم أسرى ، وكان ذلك والسفراء يمشون بينهم في الصلح ، وهو المراد بقوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ) [الفتح ٤٨ / ٢٤].

وألقى الله الرعب في قلوب الأحزاب يوم الخندق ، وانصرفوا من غير قتل ولا قتال ، كما قال تعالى : (وَكَفَى اللهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ) [الأحزاب ٣٣ / ٢٥].

وخرج اليهود من ديارهم وأموالهم بغير قتال المؤمنين لهم. وقبل كثير من

١٨٠