التفسير المنير - ج ٥

الدكتور وهبة الزحيلي

جارك» ومعناه : تساهل في حقك ، ولا تستوفه ، وعجّل في إرسال الماء إلى جارك ، فحضّه على المسامحة والتيسير ، فلما سمع الأنصاري هذا ، لم يرض بذلك وغضب ؛ لأنه كان يريد ألا يمسك الماء أصلا ، فنطق بالكلمة الجائرة المهلكة الفاقرة فقال : «آن كان ابن عمتك؟» بمد همزة «أن» المفتوحة على جهة الإنكار ، أي أتحكم له عليّ لأجل أنه قرابتك؟ فعند ذلك تلوّن وجه النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم غضبا عليه ، وحكم للزبير باستيفاء حقه من غير مسامحة له (١).

وصفة إرسال الماء الأعلى إلى الأسفل : أن يدخل صاحب الأعلى جميع الماء في بستانه ، ويسقي به ، حتى إذا بلغ الماء من قاعة الحائط (البستان) إلى الكعبين (الجذور) من القائم فيه ، أغلق مدخل الماء ، وصرف ما زاد من الماء على مقدار الكعبين إلى من يليه ، فيصنع به مثل ذلك ، حتى يبلغ السيل إلى أقصى الحوائط.

ويؤيده ما روى مالك عن عبد الله بن أبي بكر أنه بلغه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال في سيل مهزور ومذينب (٢) : «يمسك حتى الكعبين ، ثم يرسل الأعلى على الأسفل» (٣).

حب الوطن والتزام أوامر الله والرسول

(وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ ما فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً (٦٦) وَإِذاً لَآتَيْناهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً (٦٧) وَلَهَدَيْناهُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً (٦٨))

__________________

(١) تفسير القرطبي : ٥ / ٢٦٧

(٢) مهزور ومذينب : واديان بالمدينة ، يسيلان بماء المطر خاصة.

(٣) قال ابن عبد البر : لا أعلم هذا الحديث يتصل عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من وجه من الوجوه.

١٤١

الإعراب :

(أَنِ اقْتُلُوا) أن مفسرة (ما فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ) قليل : مرفوع على البدل من الواو في (فَعَلُوهُ) وتقديره : ما فعله إلا قليل منهم. وقرئ بالنصب على الأصل في الاستثناء ، والأصل في الاستثناء : النصب.

(وَلَهَدَيْناهُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً) منصوب ؛ لأنه مفعول ثان لهديناهم ، يقال : هديته الطريق هداية ، وهديت في الدين هدى. وفعل في المصادر قليل.

المفردات اللغوية :

(كَتَبْنا) فرضنا عليهم (اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ) كما كتبنا على بني إسرائيل (ما فَعَلُوهُ) أي المكتوب عليهم (ما يُوعَظُونَ بِهِ) من الأوامر والنواهي المقرونة بذكر حكمها (تَثْبِيتاً) تقوية وجعله ثابتا راسخا (وَإِذاً) لو ثبتوا (مِنْ لَدُنَّا) من عندنا (أَجْراً عَظِيماً) هو الجنة.

سبب النزول :

نزول (وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ) : تفاخر ثابت بن قيس بن شمّاس ورجل من اليهود ، فقال اليهودي : والله لقد كتب الله علينا أن اقتلوا أنفسكم ، فقتلنا أنفسنا ، فقال ثابت : والله لو كتب الله علينا أن اقتلوا أنفسكم لقتلنا أنفسنا ، فأنزل الله : (وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ ، لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً).

المناسبة :

بعد أن أوضح الله تعالى أن الإيمان لا يتم إلا بتحكيم الرسول فيما شجر بينهم ، ذكر هنا تقصير كثير من الناس في ذلك ؛ لضعف إيمانهم.

١٤٢

التفسير والبيان :

يخبر الله تعالى عن أكثر الناس أنهم لو أمروا بالامتناع عما هم عليه من المناهي ، لما فعلوه ؛ لأن طباعهم الرديئة ميّالة إلى مخالفة الأمر. وهذا من علمه تعالى بما لم يكن أو كيف يكون ما كان.

ولو أن الله تعالى فرض على الناس أن يقتلوا أنفسهم ، كما أمر بني إسرائيل بذلك ليتوبوا من عبادة العجل ، فكان قتل النفس (الانتحار) طريق التوبة ، أو لو فرضنا عليهم أن يخرجوا من أوطانهم ، ويهاجروا في سبيل الله إلى بلاد أخرى ، ما فعل المأمور به من قتل النفس وهجر الوطن إلا نفر قليل منهم.

ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به من الأوامر والنواهي المقترنة بأسبابها وعللها أو حكمها ، وبالوعد والوعيد ، لكان ذلك خيرا لهم وأحسن ، وأشد تثبيتا لهم في الدين وأرسخ.

ولو أنهم فعلوا هذا الخير العظيم وامتثلوا ما أمروا به ، لمنحناهم من عندنا أجرا عظيما وهو الجنة التي وصفها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقوله فيما رواه البزار والطبراني في الأوسط عن أبي سعيد الخدري : «في الجنة ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر» ، ولهديناهم إلى الطريق المستقيم في الدنيا والآخرة وهو العمل المؤدي إلى السعادة الدنيوية والأخروية معا.

قه الحياة أو الأحكام :

تتطلب إطاعة الأوامر الإلهية إيمانا راسخا كالجبال الراسيات ، والطاعة : حمل النفس على فعل ما تكره ، لا على ما تحب ، ولا يفعل ذلك إلا فئة قليلة من الناس ، ولو فعلوا المأمور به وتركوا ما ينهون عنه لكان لهم خيرا في الدنيا والآخرة ، ودليلا على الثبات على الحق ، وسببا لاستحقاق الثواب العظيم في

١٤٣

الآخرة ؛ لأن الجنة حفّت بالمكاره ، وحفت النار بالشهوات ، كما ثبت في الحديث.

وحينما نزلت هذه الآية أبدى نفر من المسلمين استعداده لتنفيذ الأمر الإلهي. قال أبو إسحاق السبيعي : لما نزلت (وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ) الآية ، قال رجل : لو أمرنا لفعلنا ، والحمد لله الذي عافانا. فبلغ ذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال : «إن من أمتي رجالا الإيمان أثبت في قلوبهم من الجبال الرواسي» قال ابن وهب : قال مالك : القائل ذلك أبو بكر الصديق رضي‌الله‌عنه. وذكر النقاش أنه عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه. وذكر أبو الليث السمرقندي : أن القائل منهم عمّار بن ياسر وابن مسعود وثابت بن قيس ، قالوا : لو أن الله أمرنا أن نقتل أنفسنا أو نخرج من ديارنا لفعلنا ؛ فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الإيمان أثبت في قلوب الرجال من الجبال الرواسي».

وقال عامر بن عبد الله بن الزبير : لما نزلت : (وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ ..) قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لو نزلت لكان ابن أم عبد منهم» أي ابن مسعود.

وقال شريح بن عبيد : لما تلا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم هذه الآية : (وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ ..) أشار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بيده هذه إلى عبد الله بن رواحة ، فقال : «لو أن الله كتب ذلك لكان هذا من أولئك القليل» يعني ابن رواحة.

وفي قوله : (أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ) إيماء إلى حب الوطن وتعلق الناس به ، وجعله قرين قتل النفس ، وصعوبة الهجرة من الأوطان.

جزاء طاعة الله والرسول

(وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ

١٤٤

وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً (٦٩) ذلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللهِ وَكَفى بِاللهِ عَلِيماً (٧٠))

الإعراب :

(رَفِيقاً) منصوب بأحد وجهين :

أحدهما ـ أن يكون منصوبا على التمييز ، ويراد به هاهنا الجمع ، فوحّد كما وحّد في نح : عشرون رجلا ، وقد يقام الواحد المنكور مقام جنسه.

والثاني ـ أنه منصوب على الحال.

المفردات اللغوية :

(وَالصِّدِّيقِينَ) جمع صدّيق : وهو الصادق في قوله واعتقاده ، كأبي بكر الصديق وغيره من أفاضل الصحابة : أصحاب الأنبياء ، لمبالغتهم في الصدق والتصديق ، قال تعالى : (وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا) [مريم ١٩ / ٥٦].

(وَالشُّهَداءِ) جمع شهيد : وهو الذي يشهد بصحة الدين بالحجة والبرهان ، ويقاتل في سبيله بالسيف والسنان. والشهداء : القتلى في سبيل الله.

(وَالصَّالِحِينَ) جمع صالح : وهو من صلحت نفسه ، وغلبت حسناته سيئاته.

(وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً) رفقاء في الجنة ، بأن يتمتع فيها برؤيتهم وزيارتهم والحضور معهم ، وإن كان مقرهم في الدرجات العالية بالنسبة إلى غيرها. جعلني الله ووالدي وأحبائي معهم.

سبب النزول :

أخرج الطبراني وابن مردويه بسند لا بأس به عن عائشة قالت : جاء رجل إلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال : يا رسول الله ، إنك لأحب إليّ من نفسي ، وإنك لأحب إلي من ولدي ، وإني لأكون في البيت فأذكرك فما أصبر حتى آتي فأنظر إليك ، وإذا ذكرت موتي وموتك عرفت أنك إذا دخلت الجنة رفعت مع النبيين ، وإني

١٤٥

إذا دخلت الجنة ، خشيت أن لا أراك ، فلم يرد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم شيئا ، حتى نزل عليه جبريل بهذه الآية: (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ ..) الآية. قال الكلبي : نزلت في ثوبان مولى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم وكان شديد الحب له ، قليل الصبر عنه ، فأتاه ذات يوم وقد تغير لونه ونحل جسمه ، يعرف في وجهه الحزن ، خوف عدم رؤيته صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد الموت ، فذكر ذلك لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأنزل الله تعالى هذه الآية.

وأخرج ابن أبي حاتم عن مسروق قال : قال أصحاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم : يا رسول الله ، ما ينبغي لنا أن نفارقك ، فإنك لو قدّمت لرفعت فوقنا ، ولم نرك ، فأنزل الله : (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ) الآية.

وأخرج ابن أبي حاتم أيضا عن عكرمة قال : أتى فتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا نبي الله ، إن لنا منك نظرة في الدنيا ، ويوم القيامة لا نراك ، فإنك في الجنة في الدرجات العلى ، فأنزل الله هذه الآية ، فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أنت معي في الجنة إن شاء الله.

المناسبة :

توّج الله تعالى الآيات السابقة الآمرة بطاعة الله والرسول ببيان جزاء الطاعة ، الذي هو الأمل الأسمى الذي تطمح إليه النفوس.

التفسير والبيان :

من عمل بما أمره الله به ورسوله ، وترك ما نهاه الله عنه ورسوله ، فإن الله عزوجل يسكنه دار كرامته ، ويجعله مرافقا لأصحاب الدرجات العليا وهم صفوة الله من عباده ، وهم أربع مراتب :

الأنبياء ، ثم الصدّيقون ، ثم الشهداء ، ثم عموم المؤمنين وهم الصالحون الذين

١٤٦

صلحت سرائرهم وعلانيتهم ، واللفظ يعم كل صالح وشهيد ، فالمطيع يكون مع هؤلاء في دار واحدة ونعيم واحد ، يستمتعون برؤيتهم والحضور معهم ، لا أنهم يساوونهم في الدرجة ، فإنهم يتفاوتون لكنهم يتزاورون للاتباع في الدنيا والاقتداء ، وكل واحد فيها راض بحاله.

ثم أثنى الله تعالى عليهم فقال : (وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً) أي أن الأصناف الأربعة يكونون رفقاء له من شدة محبتهم إياه وسرورهم برؤيته. ورفيقا بمعنى المرافق والمراد به الجمع وهو رفقاء ، فكأن المعنى : وحسن كل واحد منهم رفيقا ، مثل : (ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً) [الحج ٢٢ / ٥] أي نخرج كل واحد منكم طفلا.

ويؤيد الآية : ما رواه الطبراني مرفوعا : «من أحب قوما ، حشره الله معهم» وما أخرجه الشيخان عن أنس : «المرء مع من أحب» والمحبة تقتضي الطاعة ، كما قال الله تعالى : (قُلْ : إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ ..) [آل عمران ٣ / ٣١].

هذا الجزاء لمن يطيع الله والرسول هو الفضل الإلهي العظيم ، والله أعلم بمن يستحقه ، فهو أعلم بمن اتقى ، وكفى به سبحانه عليما بالأتقياء المطيعين ، وبالعصاة المنحرفين ، وبالمنافقين المرائين.

والآية إخبار من الله تعالى أنهم لم ينالوا الدرجة بطاعتهم ، بل نالوها بفضل الله تعالى وكرمه.

فليحذر المنافقون المصير المشؤوم إن لم يصلحوا حالهم ، وليهنأ المؤمنون الطائعون الصادقون بفضل الله ونعمته ، وليفرحوا بما أثابهم به.

فقه الحياة أو الأحكام :

لمّا ذكر الله تعالى الأمر الذي لو فعله المنافقون حين وعظوا به وأنابوا إليه ، لأنعم عليهم ، ذكر بعد ذلك ثواب من يفعله.

١٤٧

وهذه الآية تفسير لقوله تعالى : (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ ، صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) [الفاتحة ١ / ٦ ـ ٧] وهي المراد في قوله عليه‌السلام عند موته : «اللهم الرفيق الأعلى». وفي البخاري عن عائشة قالت : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «ما من نبي يمرض إلا خيّر بين الدنيا والآخرة» كان في شكواه الذي مرض فيه أخذته بحّة (١) شديدة ، فسمعته يقول : «مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصدّيقين والشهداء والصالحين» فعلمت أنه خيّر.

قال القرطبي : في هذه الآية دليل على خلافة أبي بكر رضي‌الله‌عنه ، وذلك أن الله تعالى لما ذكر مراتب أوليائه في كتابه بدأ بالأعلى منهم وهم النبيون ، ثم ثنّى بالصديقين ، ولم يجعل بينهما واسطة. وأجمع المسلمون على تسمية أبي بكر الصديق رضي‌الله‌عنه صدّيقا ، كما أجمعوا على تسمية محمد عليه‌السلام رسولا ، وإذا ثبت هذا وصح أنه الصديق ، وأنه ثاني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لم يجز أن يتقدم بعده أحد (٢).

قواعد القتال في الإسلام

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُباتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً (٧١) وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قالَ قَدْ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيداً (٧٢) وَلَئِنْ أَصابَكُمْ

__________________

(١) البحّة : هي غلظ الصوت وخشونته من داء أو كثرة صياح.

(٢) تفسير القرطبي : ٥ / ٢٧٣

١٤٨

فَضْلٌ مِنَ اللهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً (٧٣) فَلْيُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (٧٤) وَما لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُها وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً (٧٥) الَّذِينَ آمَنُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقاتِلُوا أَوْلِياءَ الشَّيْطانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً (٧٦))

الإعراب :

(ثُباتٍ) حال من واو (فَانْفِرُوا) الأولى. (جَمِيعاً) حال من واو (فَانْفِرُوا) الثانية ، وكل واحد من الفعلين هو العامل في الحال الذي يليه.

(لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَ) اللام في (لَمَنْ) لام الابتداء التي تدخل مع «إن» وهي هنا داخلة على اسم «إن». واللام في (لَيُبَطِّئَنَ) : هي اللام الواقعة في جواب القسم ، وهو هنا محذوف وتقديره : لمن والله ليبطئن. ولام القسم في صلة «من».

(يا لَيْتَنِي) المنادي محذوف وتقديره : يا هذا ليتني ، مثل : «ألا يا اسجدوا لله» أي يا هؤلاء اسجدوا. وحذف المنادي كثير في كلامهم. (فَأَفُوزَ) منصوب بأن مضمرة بعد التمني ، وتقديره : فأن أفوز. وقرئ بالرفع على تقدير : فأنا أفوز. (كَأَنْ) مخففة واسمها محذوف ، أي كأنه. (مَوَدَّةٌ) اسم يكن ، وبينكم وبينه : خبرها المقدم على اسمها. ولا يجوز أن تكون التامة ؛ لأن الكلام لا يتم معناه بدون «بينكم وبينه» فهو الخبر ، وتتم به الفائدة.

(وَما لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ) ما : مبتدأ ، ولكم : خبره ، ولا تقاتلون حال من الكاف واللام في «لكم» وتقديره : أي شيء استقر لكم غير مقاتلين ، مثل : (فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ) [النساء ٤ / ٨٨]. (وَالْمُسْتَضْعَفِينَ) : معطوف على اسم الله تعالى. وقيل : على سبيل. (الظَّالِمِ

١٤٩

أَهْلُها) الظالم صفة للقرية ، وجاز وصف القرية وإن لم يكن الظلم لها ؛ لعود الضمير العائد إليها من «أهلها». وأهلها : فاعل الظالم.

البلاغة :

(يَشْرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ) استعارة ، استعار لفظ الشراء للمبادلة ، أي يبيعون الفانية بالباقية.

(كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ) اعتراض بين القول ومقوله وهو : يا ليتني.

ويوجد مقابلة في قوله : (الَّذِينَ آمَنُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ).

(وَما لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ) استفهام توبيخ ، أي لا مانع لكم من القتال.

المفردات اللغوية :

(خُذُوا حِذْرَكُمْ) أي احترزوا وتيقّظوا من عدوّكم ، والحذر والحذر بمعنى واحد ، كالمثل والمثل : وهو التيقّظ والاستعداد. (فَانْفِرُوا) انهضوا إلى قتاله. ومصدره : النفر : وهو الانزعاج عن الشيء وإلى الشيء ، كالنزوع عن الشيء وإلى الشيء. (ثُباتٍ) متفرقين واحدها ثبة : وهي الجماعة ، أي اخرجوا جماعة تلو جماعة. (لَيُبَطِّئَنَ) ليتأخرن عن القتال ، كعبد الله بن أبي المنافق وأصحابه ، وجعله من المسلمين من حيث الظاهر. والتبطؤ : يطلق على الإبطاء وعلى الحمل على البطء : وهو التأخر في السير عن الانبعاث للجهاد وغيره. (مُصِيبَةٌ) ما يصيب الإنسان من قتل أو هزيمة أو غيرهما. (شَهِيداً) حاضرا معهم. (الْفَضْلُ مِنَ اللهِ) كفتح وغنيمة. (مَوَدَّةٌ) معرفة وصداقة. (فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً) آخذ حظّا وافرا من الغنيمة.

(فَلْيُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ) لإعلاء دينه ، وسبيل الله : تأييد الحق ونصرته ، بإعلاء كلمة الله ونشر دعوته. (الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ) أي يبيعونها ويأخذون بدلها نعيم الآخرة وثوابها. (فَيُقْتَلْ) يستشهد. (أَوْ يَغْلِبْ) يظفر بعدوه. (أَجْراً عَظِيماً) ثوابا جزيلا.

(وَما لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ) أي لا مانع لكم من القتال. (وَالْمُسْتَضْعَفِينَ) أي في تخليص المستضعفين. (وَالْوِلْدانِ) الذين حبسهم الكفار عن الهجرة وآذوهم ، قال ابن عباس رضي‌الله‌عنهما : كنت أنا وأمي منهم. (الْقَرْيَةِ) مكة. (الظَّالِمِ أَهْلُها) بالكفر. (وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا) من عندك من يتولى أمورنا. (نَصِيراً) يمنعنا منهم. وقد استجاب دعاءهم ، فيسّر لبعضهم الخروج ، وبقي بعضهم إلى أن فتحت مكة ، وولّى صلى‌الله‌عليه‌وسلم عتاب بن أسيد ، فأنصف مظلومهم من ظالمهم.

١٥٠

(الطَّاغُوتِ) الشيطان أو الطغيان : وهو مجاوزة الحق والعدل والخير إلى الباطل والظلم والشّر ، والطاغوت يذكّر ويؤنّث. (أَوْلِياءَ الشَّيْطانِ) أنصار دينه ، تغلبوهم لقوتكم بالله. (إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً) أي إن كيد الشيطان بالمؤمنين كان واهيا لا يقاوم كيد الله بالكافرين. وكيد الشيطان : السعي في الفساد بالحيلة.

المناسبة :

لما حذر الله تعالى من المنافقين وأمر بطاعة الله والرسول ، أمر هنا أهل الطاعة بالجهاد في سبيل الله لإعلاء كلمته ورفع شأن دينه ، وأمر بالاستعداد حذرا من مباغتة الكفار ، ثم بيّن حال المنافقين المثبطين العزائم عن الجهاد ، وهذا انتقال من الميدان الداخلي إلى المجال الخارجي ، انتقال من السياسة الاجتماعية في التعامل إلى السياسة الحربية.

التفسير والبيان :

يأمر الله تعالى عباده المؤمنين بأخذ الحذر من عدوّهم ، وهذا يستلزم التأهّب لهم بإعداد الأسلحة وإعداد الجيش المقاتل. ويرسم الله تعالى سياسة الحرب ويضع قواعد القتال المؤدية إلى النصر والفوز الساحق.

يا أيها المؤمنون التزموا الحذر ، واحترسوا من الأعداء ، واستعدوا لردّ العدوان ، فإنكم معرّضون لشنّ معارك كثيرة طاحنة ، وهذا أمر دائم يتكيّف بحسب تطور وسائل الحرب وقواعد القتال على ممر العصور. قال أبو بكر لخالد بن الوليد في حرب اليمامة : حاربهم بمثل ما يحاربونك به ، السيف بالسيف ، والرمح بالرمح. وهكذا بحسب المعروف بين الأمم من وسائل الحرب البرية والبحرية والجوية.

ولا يصح للمؤمن أن يخشى اقتحام المعارك ؛ لأن أجل الإنسان لا يتأخر ساعة ولا يتقدم ، وعلى المؤمنين اتّخاذ ما يمكنهم من أسباب القوة ، غير محتجّين

١٥١

بقدر ، ولا يائسين من حدوث نكسة ما ، أما ما روى الحاكم عن عائشة «لا يغني حذر من قدر» فلا يتناقض مع أخذ الحذر ؛ لأن الحذر داخل في القدر ؛ إذ القدر : هو جريان الأمور على وفق السّببية أي أن المسببات تأتي عادة على قدر الأسباب ، والحذر من جملة الأسباب ، فهو عمل بالقدر.

(فَانْفِرُوا ثُباتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً) أي فانهضوا للقتال جماعة إثر جماعة ، فصائل وفرقا وسرايا ، أو انهضوا جميعا متعاضدين كلكم حسبما ترون من قوة العدو وحاله. وهذا يعني كون الأمة على استعداد دائم للجهاد ، وهذا نظير قوله تعالى : (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ ، وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ ، تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ) [الأنفال ٨ / ٦٠].

لكن بعضا منكم في ساحة الجبهة الداخلية قد يتخلف عن الجهاد ، وقد يعرقل مسيرة المجاهدين ، وقد يعوق أو يسعى لتثبيط العزائم عن الجهاد ، وهؤلاء هم المنافقون وضعاف الإيمان والجبناء.

أما المنافقون فلا يرغبون في القتال ؛ لأنهم لا يحبون الإسلام وأهله ، وأما الجبناء وضعاف الإيمان فيترددون في المشاركة بالجهاد خورا وضعفا وجبنا.

وهؤلاء يصطادون في الماء العكر ويستغلون النتائج والوقائع ، فإن أصابتكم مصيبة كقتل أو هزيمة ، فرحوا فرحا شديدا بنجاة أنفسهم ، وحمدوا الله على أن لم يكن أحدهم حاضرا في المعركة ، يعدون ذلك من نعم الله عليهم ، ولم يدروا ما فاتهم من الأجر في الصبر ، أو الشهادة إن قتلوا.

وإن أصابكم فضل من الله ، أي نصر وظفر وغنيمة قالوا ـ وكأنهم ليسوا من أهل دينكم ـ : يا ليتنا اشتركنا في القتال لنحظى بسهم من الغنيمة.

وهم في الحالين ضعاف العقول ، قاصرو النظر ، ضعاف الإيمان جبناء ، لذا وبّخهم الله تعالى وقرّعهم بعبارة لطيفة تدلّ على انقطاع صلتهم بالمسلمين وهي :

١٥٢

(كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ). وهذا فيه استثارة للتأمل والتفكير في نفس السامع ؛ إذ يدعو صاحبه إلى النظر في حقيقة حاله وعيوب نفسه.

ثم انتقل الله تعالى ببيانه من وصف حال الضعفاء إلى بيان مركز الأقوياء ، ومن دائرة الهبوط في دائرة التخلف عن القيام بالواجب إلى الصعود إلى مرتبة يمكن فيها تطهير النفوس من ذلك الذنب العظيم : ذنب التقاعس عن القتال. فحرض عباده المؤمنين على الجهاد في سبيله ، وعلى السعي في استنقاذ المستضعفين بمكة أو غيرها من الرجال والنساء والصبيان المتبرمين من القيام بها.

فليقاتل في سبيل الله ولإعلاء كلمته ولنصرة دينه ـ دين الحق والتوحيد ، والعدل والكرامة ، والقوة والمدنية : من يبيع دنياه الفانية بالآخرة الباقية ، حتى يحقق علو كلمة الله ، فيجعل كلمة الله هي العليا ، وكلمة الذين كفروا السفلى ، والله عزيز حكيم.

ثم رغّب الله تعالى في القتال بعد الأمر به ببيان الثواب عليه ، فمن يقاتل في سبيل الله ، فيغلبه عدوه ، أو يغلب هو العدو ، فإن الله سيؤتيه ثوابا عظيما هو الجنة والأجر الحسن. وهذا يدلّ على شرف الجهاد والمجاهدة ، وقد عانى المسلمون أشدّ البلاء من الكفار في مكة قبل الفتح ، مثلما حدث لبلال وصهيب وعمار وأسرته.

ثم زاد الترغيب في الجهاد بنفي الأعذار ، فأي عذر لكم يمنعكم عن القتال في سبيل الله لإحلال التوحيد محل الشرك ، والخير محل الشّر ، والعدل والرّحمة في موضع الظلم والقسوة ، وعن إنقاذ المستضعفين إخوانكم في الدّين رجالا ونساء وصبية الذين منعهم كفار قريش من الهجرة وفتنوهم عن دينهم. والتحدث عن هؤلاء يثير النخوة ويهزّ الأريحية ويوقظ الشعور بالواجب والتفاني من أجل رفع الظلم عن الضعفاء.

١٥٣

إن هؤلاء المستضعفين فقدوا النصير والمعين ، وهم يقولون من شدّة الألم والعذاب : ربّنا أخرجنا من تلك القرية «مكة» التي كفر أهلها وظلموا العباد ، واجعل لنا من عندك وليّا يلي أمورنا ، ويستنقذنا ، ويحمي نفوسنا وأعراضنا ، واجعل لنا من عندك نصيرا يمنعنا من الظلم ، وينصرنا عليهم ، ويساعدنا على الهجرة ، فليس أمامنا إلا بابك الكريم يا الله.

ثم عقد الحق سبحانه وتعالى مقارنة بين أهداف الجهاد عند المسلمين وأغراض القتال عند المشركين. وهي أن المؤمنين يقاتلون لأجل إعلاء كلمة الله ـ كلمة الحق والتوحيد والعدل وإنصاف الشعوب ، لا من أجل الاستعمار والاستغلال ، والتعدي والظلم ، وسلب الملكيات ونهب الثروات ، كما هو حاصل الآن ؛ وأما الكافرون فهم يقاتلون لأغراض وهمية ، أو مادية دنيئة ، أو شهوانية ذاتية ، فهم إنما يرضون وسوسة الشيطان ، وإعلاء الوثنية ، ومناصرة الكفر ، أو يطمعون في الحصول على الغنائم ، أو للتفاخر والاعتزاز وإرضاء النفس بمجرد الشعور بالانتصار والغلبة ، وتحقيق السمعة والشهرة أمام القبائل العربية.

ولكن المصير المحتوم هو تغلّب الحق على الباطل في النهاية ؛ لأن الحق قوي ثابت وجنده أعزّ وأمنع ، والباطل ضعيف مهزوم ، وجنده أضعف وأخوف ، والحق يعلو ولا يعلى عليه ، لذا أمر الله تعالى بقوله بما معناه : فقاتلوا أيها المؤمنون أولياء أو نصراء الشيطان الذين أوهمهم ووسوس لهم أن في الظلم والتدمير شرفا وإعلاء مكانة ، ولا تغرنكم قوتهم وأعدادهم وأسلحتهم ، فإن كيد الشيطان وتدبيره أو وسوسته كان ضعيفا لا تأثير له عند ذوي العقول الناضجة ، والأفكار السامية. وأما أنتم فوليكم الرحمن وناصركم ومدبر أموركم ما نصرتموه ، وجند الله هم الغالبون ، وحزب الله هم المفلحون.

١٥٤

فقه الحياة أو الأحكام :

هذه الآيات تبيّن المواقف الثابتة للأمة الإسلامية في علاقاتها الخارجية أثناء الحرب.

فهي أولا خطاب للمؤمنين المخلصين من أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالاستعداد للجهاد ، وأخذ الحذر الدائم ، وأمر لهم بجهاد الأعداء والنضال في سبيل الله ، وحماية الشرع ، وديار الإسلام ، وتخليص المستضعفين ، ومطالبتهم ألا يقتحموا عدوهم على جهالة حتى يستطلعوا ما عندهم من قوى وعدد وعدد ، ويعلموا كيف يردّون عليهم ، فذلك أثبت لهم ، لذا قال لهم : (خُذُوا حِذْرَكُمْ) وهو تعليم لأسلوب مباشرة الحروب.

ولا ينافي أخذ الحذر التوكل على الله ، بل هو مقام عين التوكل ؛ لأن التوكل ليس معناه ترك الأسباب ، وإنما هو الثقة بالله والإيقان بأن قضاءه ماض ، واتّباع سنّة نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وسلم في السّعي فيما لا بدّ منه من الأسباب من مطعم ومشرب ، وتحرز من عدو ، وإعداد أسلحة ، واستعمال ما تقتضيه سنة الله المعتادة. قال سهل : من قال : إن التّوكل يكون بترك السبب ، فقد طعن في سنة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ لأن الله عزوجل يقول : (فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً) [الأنفال ٨ / ٦٩] ، فالغنيمة : اكتساب. وقال تعالى : (فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ) [الأنفال ٨ / ١٢] ، فهذا عمل. وقال النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الله تعالى يحبّ العبد المؤمن المحترف»(١). وكان أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقرضون على السرية (٢).

__________________

(١) رواه الحكيم والطبراني والبيهقي في شعب الإيمان ، عن ابن عمر ، لكنه حديث ضعيف.

(٢) تفسير القرطبي : ٤ / ١٨٩ ، ٥ / ٢٧٣ ، أحكام القرآن للجصاص : ٢ / ٢١٥ ، والسرية : طائفة من الجيش يبلغ أقصاها أربعمائة ، سمّوا بذلك ؛ لأنها تكون من خلاصة العسكر وخيارهم ، من الشيء السري : النفيس.

١٥٥

وليس في الآية دليل على أن الحذر يتعارض مع القدر ، أو يمنع من القدر شيئا ؛ ولكنّا مطالبون بألا نلقي بأيدينا إلى التهلكة ، وورد في الحديث : «اعقلها وتوكل» (١) والقدر جار على ما قضى الله ، ويفعل الله ما يشاء ، ويكون أخذ الحذر من القدر ، كما أوضحت في تفسير الآيات.

ودلّت الآيات ثانيا على قاعدة من قواعد الحرب أو سياسة من سياسات المعركة وخطتها وهي النهوض لقتال العدو إذا دعا الإمام الناس إلى النفر ، أي للخروج إلى قتال العدو إما جماعة إثر جماعة ، أو الزّج بطاقة الجيش الكثيف كله في قلب المعركة ، على وفق ما يرى القائد الحربي من مصلحة ، معتمدا على استطلاع أحوال العدو واستعداداته واستحكاماته ، واحتمالات تطور المعركة. ويقال للقوم الذين ينفرون : النفير.

وبناء على هذا ، فليست الآية منسوخة ولا معارضة لقوله تعالى : (انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالاً) [التوبة ٩ / ٤١] ، وقوله : (إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ) [التوبة ٩ / ٣٩] ، وقوله : (وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً) [التوبة ٩ / ١٢٢] ؛ لأن كل آية يعمل بها بحسب الظرف الحربي الملائم لها ، فإحداها في الوقت الذي يحتاج فيه إلى تعيين الجميع ، والأخرى عند الاكتفاء بطائفة دون غيرها.

وترشد الآيات ثالثا إلى أن في الأمة في كل زمان فئة المثبطين أو المبطئين وهم المنافقون ، والتبطئة والإبطاء : التأخر ، وديدنهم القعود عن القتال ويقعدون غيرهم معهم. فهم من جنس الأمة ودخلائها وممن يظهر الإيمان للجماعة ، ويتظاهر بالإخلاص في رسالتها. وهم جماعة انتهازيون : إن حققت الجماعة فتحا ونصرا وأحرزت غنيمة ، يقول المنافق الواحد منهم : يا ليتني كنت معهم فأفوز فوزا عظيما ، كأنه مقطوع الصلة والمودة بالأمة ولم يعاقد على الجهاد.

__________________

(١) رواه الترمذي عن أنس ، وهو ضعيف.

١٥٦

وإن أصيبت الأمة بمصيبة من قتل وهزيمة ، فرح وقال : قد أنعم الله علي إذ لم أكن معهم شهيدا أي حاضرا. فهؤلاء المنافقون يجب الحذر منهم أشدّ الحذر ، وهم مروجو الإشاعات المغرضة : إشاعة الضعف والهزيمة وعدم تكافؤ القوى في عصرنا الحاضر.

وأكدت الآيات رابعا أمر المؤمنين بالقتال في سبيل الله ، أولئك المؤمنون الذين يبيعون الحياة الدّنيا بالآخرة ، أي يبذلون أنفسهم وأموالهم لله عزوجل مقابل الحصول على ثواب الآخرة.

وثواب الآخرة لمن قتل أو غلب العدو عظيم جدا لا يخضع لتصور إنسان.

وظاهر قوله تعالى : (فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ) يقتضي التسوية بين من قتل شهيدا أو انقلب غانما ، أي إن كلّ من قاتل في سبيل الله ، سواء قتل (استشهد) أو غلب العدو ، فله عند الله مثوبة عظيمة وأجر جزيل ، فللشهيد أجر ، وللغانم أجر ، بدليل ما جاء في صحيح مسلم عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «تضمن الله لمن خرج في سبيله ، لا يخرجه إلا جهاد في سبيلي ، وإيمان بي ، وتصديق برسلي ، فهو عليّ ضامن أن أدخله الجنة ، أو أرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه نائلا ما نال من أجر وغنيمة». ومعنى الجملة الأخيرة : يقتضي أن من لم يستشهد من المجاهدين له أحد الأمرين : إما الأجر إن لم يغنم ، وإما الغنيمة ولا أجر. وهذا كله بالنسبة للمجاهد الذي أخلص النيّة في الجهاد.

أما إن نوى الجهاد ولكن مع نيل المغنم ، فإن أصاب الغنيمة تعجل ثلثي أجره من الآخرة ، ويبقى له الثلث ، وإن لم يصب غنيمة تمّ له أجره. وهذا مستفاد من حديث آخر عن عبد الله بن عمرو (١).

__________________

(١) تفسير القرطبي : ٥ / ٢٧٧ ـ ٢٧٨

١٥٧

وخامسا ـ بيّنت الآية بعض أحوال مشروعية القتال مع الحضّ على الجهاد وهي ما يلي :

١ ـ القتال في سبيل الله : يفسره الحديث النّبوي الذي رواه الجماعة عن أبي موسى : «من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله» أي أنه قاتل لإعلاء كلمة الدّين وإظهاره ، ورفع راية الإسلام المتضمنة توحيد الله ، وإقرار العدل والحقّ ، والدعوة إلى فضائل الأخلاق ، وعبادة الله الواحد القهّار وتعظيمه لا تعظيم أحد من البشر.

٢ ـ استنقاذ الضعفاء المؤمنين من عباد الله من براثن العدو : وهذا واجب وإن كان في ذلك تلف النفوس. ويكون تخليص الأسارى واجبا على جماعة المسلمين إما بالقتل وإما بالأموال ، وهو أوجب لكونها دون النفوس إذ هي أهون منها. قال مالك : واجب على الناس أن يفدوا الأسارى بجمع أموالهم. وهذا لا خلاف فيه ؛ لقوله عليه الصّلاة والسّلام فيما رواه أحمد والبخاري عن أبي موسى : «فكّوا العاني» أي الأسير. وكذلك قال العلماء : عليهم أن يواسوهم ، فإن المواساة دون المفاداة.

ومن أمثلة المستضعفين في التاريخ : من كان بمكة من المؤمنين تحت إذلال كفرة قريش وأذاهم وهم المعنيون بقوله عليه الصّلاة والسّلام : «اللهم أنج الوليد بن الوليد ، وسلمة بن هشام ، وعيّاش بن أبي ربيعة ، والمستضعفين من المؤمنين» ، وقال ابن عباس : كنت أنا وأمي من المستضعفين.

وما أمتع تلك المقارنة في أهداف القتال : المؤمنون يقاتلون في سبيل طاعة الله ، ومن أجل نشر دينه وأحكام شرعه فهو ناصرهم ووليهم ، والكافرون يقاتلون في سبيل الطاغوت (الشيطان وما يمثله من ظلم وخرافة وكهانة ودعوة إلى عبادة الأصنام والأوثان) فلا ولي لهم إلا الشيطان ، وكيد الشيطان للمؤمنين إلى

١٥٨

جنب كيد الله للكافرين أضعف شيء وأوهنه ، فالله هو صاحب القدرة الحقيقية المحققة للنصر ، والشيطان ليس له إلا قدرة وهمية.

قال جابر بن عبد الله ، وقد سئل عن أعداد الطاغوت التي كانوا يتحاكمون إليها : كانت في جهينة واحدة ، وفي أسلم واحدة ، وفي كل حي واحدة.

وقال أبو إسحاق : الدليل على أنه (أي الطاغوت) : الشيطان قوله عزوجل : (فَقاتِلُوا أَوْلِياءَ الشَّيْطانِ ، إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً) أي إن مكره ومكر من اتبعه واه ضعيف التأثير.

أحوال الناس حين فرضية القتال

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقالُوا رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ لَوْ لا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً (٧٧) أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ فَما لِهؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً (٧٨) ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً (٧٩))

١٥٩

الإعراب :

(إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ) فريق : مبتدأ ، وحسن الابتداء به ؛ لأنه وصفه بمنهم.

فتخصص ، فحسن أن يكون مبتدأ ، ويخشون : خبر المبتدأ.

(كَخَشْيَةِ اللهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً) الكاف في موضع نصب ؛ لأنها صفة مصدر محذوف وتقديره : يخشون الناس خشية كخشية الله ، أي : مثل خشية الله. أو أشدّ : منصوب معطوف على الكاف ، أو حال.

(أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ) أين : ظرف مكان فيه معنى الشرط والاستفهام ، ودخلت «ما» ليتمكن الشرط ويحسن. وتكونوا : فعل الشرط مجزوم بأينما ، وأينما : متعلق بتكونوا ، ويدرككم : مجزوم ؛ لأنه جواب الشرط.

(ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ) ما : في موضع رفع مبتدأ ، بمعنى الذي ، وأصابك : صلته ، و (فَمِنَ اللهِ) خبر المبتدأ ، ودخلت الفاء في خبر المبتدأ لما في «ما» من الإبهام ، فأشبهت الشرطية التي تقتضي الفاء. وليست هاهنا شرطية ؛ لأنها نزلت في شيء بعينه وهو الخصب والجدب ، وهما المراد بالحسنة والسيئة ، ولهذا قال : ما أصابك ، ولم يقل : ما أصبت ، والشرط لا يكون إلا مبهما.

(وَأَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً) رسولا : مصدر مؤكد بمعنى إرسالا ، أو حال مؤكدة.

البلاغة :

(يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللهِ) تشبيه مرسل مجمل.

(فَما لِهؤُلاءِ) استفهام يراد به التعجب من فرط جهلهم.

المفردات اللغوية :

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ : كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ) هم جماعة من الصحابة ، قيل لهم : امنعوا أيديكم عن قتال الكفار ، لما طلبوه بمكة ، لأذى الكفار لهم.

(كُتِبَ عَلَيْهِمُ) فرض القتال عليهم وأمروا به. (يَخْشَوْنَ) يخافون. (النَّاسَ) الكفار أي عذابهم بالقتل. (كَخَشْيَةِ اللهِ) أي كخوفهم من بأس الله وعذابه. (لَوْ لا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ) أي هلا تركتنا حتى نموت بآجالنا القريبة. (مَتاعُ الدُّنْيا) ما يتمتع به فيها أو الاستمتاع بها وبلذاتها. (قَلِيلٌ) سريع الزوال. (وَالْآخِرَةُ) الجنة. (لِمَنِ اتَّقى) أي جعل لنفسه وقاية من عقاب الله ، بترك معصيته. (وَلا تُظْلَمُونَ) تنقصون من أعمالكم (فَتِيلاً) هو الخيط البسيط الذي يكون في شقّ النواة ، وهو مثل في القلّة والبساطة.

١٦٠