التفسير المنير - ج ٥

الدكتور وهبة الزحيلي

عقد لي ، فأقام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على التماسه ، وأقام الناس معه ، وليسوا على ماء ، وليس معهم ماء ... فأنزل الله آية التيمم فتيمموا ، فقال أسيد بن حضير وهو أحد النقباء : ما هي بأول بركتكم يا آل أبي بكر. وفي رواية : يرحمك الله يا عائشة ، ما نزل بك أمر تكرهينه إلا وجعل الله فيه للمسلمين فرجا. قالت عائشة : فبعثنا البعير الذي كنت عليه ، فوجدنا العقد تحته (١).

والظاهر أن صدر الآية نزل في حادثة الخمر ، وعجزها في حادثة السفر ، والجمهور على أنها نزلت في غزوة المريسيع.

المناسبة :

لما نهى الله سبحانه فيما مضى عن الشرك ، ورغب في امتثال الأمر واجتناب النهي ، نهى هنا عن الصلاة التي هي عبادة لله وحده لا شريك له في حال السكر وحال الجنابة ، والخطاب موجه للمؤمنين قبل السكر ليجتنبوه ، وذلك حتى يكون الإنسان في صلاته كامل القوى العقلية ، وطاهرا من الأنجاس أو الأرجاس والأخباث المادية والمعنوية.

التفسير والبيان :

ينهى الله تعالى عباده المؤمنين عن فعل الصلاة في حال السكر الذي لا يدري معه المصلي ما يقول ، وعن قربان مواضعها التي هي المساجد للجنب إلا أن يكون مجتازا المسجد من باب إلى باب من غير مكث. وقد كان هذا قبل تحريم الخمر.

وقد أثر النهي ، وفهم الصحابة أن الممنوع هو قربان الصلاة في حال السكر ، فكانوا يمتنعون من شرب المسكر إلى ما بعد صلاة العشاء ، فإذا صلوا العشاء شربوا ، فقال عمر رضي‌الله‌عنه : اللهم بيّن لنا في الخمر بيانا شافيا ،

__________________

(١) أسباب النزول للواحدي : ص ٨٧ ـ ٨٨

٨١

فنزلت آية المائدة : (إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ ، فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [المائدة ٥ / ٩٠] فتركوا الشراب كله.

ومعنى الآية : يا أيها المؤمنون لا تصلّوا حال السكر حتى تعلموا ما تقولون في الصلاة. وقد كان هذا تمهيدا لتحريم السكر تحريما باتا ، وكان نزول الآية في المرحلة الثالثة من مراحل التدرج في تشريع تحريم الخمر.

واتفق أكثر المفسرين على أن الصلاة باقية على معناها الحقيقي ، والمعنى إذا أردتم الصلاة فلا تسكروا ، ولا تصلوا وأنتم سكارى ولا وأنتم جنب إلا في حال كونكم مسافرين حتى تغتسلوا. ويكون ذكر هذا الحكم قبل قوله : (وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى) تشويقا إلى بيان الحكم عند فقد الماء. ويدل لهذا الرأي قوله تعالى : (حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ) أي لا تقربوا نفس الصلاة ؛ لأن فيها قراءة من آي القرآن ودعاء وأذكارا ، وكلها تتطلب الوعي والإدراك واستكمال القوى العقلية.

وذهب الشافعي وابن عباس وابن مسعود والحسن البصري إلى أن الكلام على حذف مضاف وهو مجاز شائع ، والمراد : لا تقربوا مواضع الصلاة وهي المساجد ، بدليل تفسير (وَصَلَواتٌ) [الحج ٢٢ / ٤٠] بأنها كما قال ابن عباس كنائس اليهود ، وإلا لم يصح الاستثناء في قوله : (إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ) وحتى لا يكون هناك تكرار بين قوله : (إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ) وقوله : (وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ) فمن أجل ذلك حملنا لفظ الصلاة على المسجد.

وقد ترتب على هذا اختلافهم في حكم اجتياز الجنب المسجد ، فعلى الرأي الثاني : يجوز له العبور دون أن يمكث ، ويحرم عليه دخول المسجد في غير حال العبور.

وعلى الرأي الأول : لا تدل الآية على حرمة دخول الجنب المسجد ، وإنما يستدل عليها بمثل ما روت عائشة رضي‌الله‌عنها قالت : جاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ووجوه بيوت أصحابه شارعة في المسجد ، فقال : «وجهوا هذه البيوت عن

٨٢

المسجد» ثم دخل ولم يصنع القوم شيئا ، رجاء أن تنزل لهم رخصة ، فخرج إليهم بعد ، وقال : «وجهوا هذه البيوت ، فإني لا أحل المسجد لجنب ولا حائض» ولم يستثن صلى‌الله‌عليه‌وسلم في آخر عمره إلا خوخة (كوّة أو باب صغير) أبي بكر رضي‌الله‌عنه.

ثم نهى الله تعالى فقال : (وَلا جُنُباً إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ) أي ولا تقربوا الصلاة حال الجنابة إلا إذا كنتم عابري سبيل أي مجتازي الطريق.

(حَتَّى تَغْتَسِلُوا) أي لا تقربوا الصلاة جنبا إلى أن تغتسلوا ، والغسل : أن يعم الماء جميع الجسد.

ثم ذكر الله تعالى في هذه الآية وآية المائدة : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ) [المائدة ٥ / ٦] أسبابا أربعة للتيمم وهي : المرض ، والسفر ، والحدث (المجيء إلى الغائط) وملامسة النساء. فإذا توافر أحد هذه الأسباب ، فاقصدوا صعيدا طيبا أي وجها ظاهرا من الأرض ، طاهرا غير نجس ، فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه إلى المرافق عند الجمهور ، وإلى الرسغين عند مالك ، ثم صلّوا.

هذه رخصة التيمم لأصحاب الأعذار ، وسبب هذا الترخيص والتيسير هو أن الله عفوّ غفور ، أي ذو عفو ومغفرة أي ستر للذنوب ، أي لم يزل كائنا يقبل العفو وهو السهل ، ويغفر الذنب أي يستر عقوبته فلا يعاقب.

ويلاحظ أن قيد عدم وجود الماء راجع إلى قوله : (أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ) [النساء ٤ / ٤٣] فتكون الأعذار ثلاثة : السفر والمرض وفقد الماء في الحضر ، أما الحدث فأمر مفروغ منه ، إنما الكلام في الأعذار المبيحة للتيمم ، ولا سبب في الحقيقة إلا فقد الماء ، والسفر وحده عذر كاف في التيمم ، وجد الماء أو لم يوجد.

٨٣

فقه الحياة أو الأحكام :

تضمنت الآية أحكاما عديدة هي :

١ ـ حرمة الصلاة حال السكر من الخمر وغيره ، وذلك قبل تحريم الخمر تحريما باتا قاطعا ، فقد كان شرب المسكر مباحا في أول الإسلام حتى ينتهي بصاحبه إلى السكر.

٢ ـ السبب في تحريم المسكر في الصلاة هو إدراك معاني التلاوة والأدعية والأذكار الموجودة في الصلاة ، وهذا معنى قوله تعالى : (حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ) أي حتى تعلموه متيقنين فيه من غير غلط ، والسكران لا يعلم ما يقول.

وأراد بعض المفسرين أن يفهم من هذه الآية وجوب القراءة في الصلاة ؛ لأنها تنهى عن قرب الصلاة في حال السكر حتى يعلم المصلي ما يقول ، فلا بد من أن يكون الذي يقول شيئا يمنع منه السكر ، ولا شيء سوى القراءة. ولكن وجوب القراءة في الصلاة له دليل آخر غير هذا ، ومعنى النهي هنا : لا تصلوا حتى تكونوا على درجة من العلم والفهم تمكنكم من مناجاة الله والوقوف بين يدي ملك الملوك.

واستنبط عثمان رضي‌الله‌عنه من الآية : أن السكران لا يلزم طلاقه. وهو مروي عن ابن عباس وطاوس وعطاء والقاسم وربيعة ، وهو قول الليث وجماعة من الشافعية ، واختاره الطحاوي قائلا : أجمع العلماء على أن طلاق المعتوه لا يجوز ، والسكران معتوه كالموسوس معتوه بالوسواس.

وقال الجمهور : طلاق السكران نافذ ، وأفعاله وعقوده كلها ثابتة كأفعال الصاحي ، واستثنى أبو حنيفة الردة ، فإنه إذا ارتد لا تبين منه امرأته إلا استحسانا.

٨٤

٣ ـ تحرم الصلاة حال الجنابة بإنزال مني أو جماع. ويجب الغسل بالتقاء الختانين ، لما أخرجه مسلم عن عائشة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إذا جلس بين شعبها الأربع ومسّ الختان الختان ، فقد وجب الغسل» وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : إذا قعد بين شعبها الأربع ثم جهدها فقد وجب عليه الغسل» زاد مسلم : «وإن لم ينزل». وأجمع التابعون ومن بعدهم على الأخذ بحديث : «إذا التقى الختانان ...».

٤ ـ لا يصح لأحد أن يقرب الصلاة وهو جنب إلا بعد الاغتسال ، إلا المسافر فإنه يتيمم ؛ لأن الغالب في الماء أنه لا يعدم في الحضر ؛ فالحاضر يغتسل لوجود الماء ، والمسافر يتيمم إذا لم يجده ، ولا يدخل المسافر الجنب المسجد إلا بعد أن يتيمم في رأي الحنفية.

ورخص الإمامان مالك والشافعي في دخول الجنب المسجد ؛ لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما رواه الأئمة الستة عن أبي هريرة : «إن المؤمن لا ينجس» ويؤيده أن الصحابة الذين كانت أبواب دورهم شارعة في المسجد ، إذا أجنب أحدهم اضطر إلى المرور في المسجد.

وقال أحمد وإسحاق في الجنب : إذا توضأ لا بأس أن يجلس في المسجد ، عملا بما كان يفعله بعض الصحابة.

ويمنع الجنب عند المالكية وغيرهم من قراءة القرآن غالبا إلا الآيات اليسيرة للتعوذ ، لما أخرجه ابن ماجه عن عمر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا يقرأ الجنب والحائض شيئا من القرآن».

٥ ـ نهى الله سبحانه وتعالى عن الصلاة إلا بعد الاغتسال ، والاغتسال : معنى معقول يعبر به عن إمرار اليد مع الماء على المغسول. ولا بد أن يتدلك الجنب في اغتساله في المشهور من مذهب مالك ؛ لأن هذا هو المعقول من لفظ الغسل ؛

٨٥

لأن الاغتسال في اللغة هو الافتعال ، ومن لم يمرّ يديه فلم يفعل غير صب الماء لا يسميه أهل اللسان العربي غاسلا ، بل يسمونه صابّا للماء ومنغمسا فيه ، ويؤكده الأثر عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «تحت كل شعرة جنابة ، فاغسلوا الشعر ، وأنقوا البشرة» (١) وإنقاؤه : لا يكون إلا بتتبعه. قال ابن العربي : «حتى تغتسلوا» اقتضى هذا عموم إمرار الماء على البدن كله باتفاق ، وهذا لا يتأتى إلا بالدلك.

وقال الجمهور : يجزئ الجنب صبّ الماء والانغماس فيه إذا أسبغ وعمّ ، وإن لم يتدلك ، على مقتضى حديث ميمونة وعائشة في غسل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، رواهما الأئمة ، وأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يفيض الماء على جسده.

وهل يخلل الجنب لحيته؟ روايتان عن مالك : رواية ابن القاسم عنه : ليس عليه ذلك ، وقال ابن عبد الحكم : ذلك هو أحب إلينا ؛ لأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يخلل شعره في غسل الجنابة.

وأوجب الحنفية والحنابلة المضمضة والاستنشاق في الغسل ، لقوله تعالى : (حَتَّى تَغْتَسِلُوا) ؛ ولأنهما من جملة الوجه ، وحكمهما حكم ظاهر الوجه كالخد والجبين ، فمن تركهما وصلّى ، أعاد كمن ترك لمعة (٢) ، ومن تركهما في وضوئه فلا إعادة عليه. وأضاف الحنابلة : هما فرض أيضا في الوضوء ؛ لقوله تعالى : (فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ) ولأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يترك المضمضة والاستنشاق في وضوئه ولا في غسله من الجنابة.

وقال مالك والشافعي : ليستا بفرض لا في الجنابة ولا في الوضوء ؛ لأنهما باطنان كداخل الجسد ؛ لأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فعل المضمضة ولم يأمر بها ، وأفعاله مندوب إليها ليست بواجبة إلا بدليل.

__________________

(١) حديث ضعيف.

(٢) اللمعة : الموضع لا يصيبه الماء.

٨٦

وأما قدر الماء الذي يغتسل به : فروى مالك عن عائشة رضي‌الله‌عنها أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يغتسل من إناء هو الفرق من الجنابة. والفرق ثلاثة آصع ، والصاع ٢٧٥١ غم. وعن أنس قال : كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يتوضأ بالمدّ ، ويغتسل بالصاع (١) إلى خمسة أمداد ، والمد ٦٧٥ غم ، والصاع أربعة أمداد. وهذه الأحاديث تدل على استحباب تقليل الماء من غير كيل ولا وزن ، يأخذ منه الإنسان بقدر ما يكفي ، ولا يكثر منه ، فإن الإكثار منه سرف ، والسّرف مذموم.

٦ ـ إباحة التيمم لفقد الماء ، أو للمرض ، أو للسفر ، لقوله تعالى : (وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى ..) [النساء ٤ / ٤٣] ويؤيده آية : (وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) [الحج ٢٢ / ٧٨] وآية : (وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) [النساء ٤ / ٢٩] وتيمم عمرو بن العاص لما خاف أن يهلك من شدة البرد ، ولم يأمره صلى‌الله‌عليه‌وسلم بغسل ولا إعادة.

والمرض الذي يباح له التيمم على الصحيح من قول الشافعي : هو الذي يخاف فيه فوت الروح ، أو فوات بعض الأعضاء لو استعمل الماء ، أو خاف طول المرض.

والسفر المبيح للتيمم : هو الطويل أو القصير عند عدم الماء ، ولا يشترط أن يكون مما تقصر فيه الصلاة في رأي الجمهور. وقال قوم : لا يتيمم إلا في سفر تقصر فيه الصلاة.

وذهب المالكية وأبو حنيفة ومحمد إلى أن التيمم في الحضر والسفر جائز. وقال الشافعي : لا يجوز للحاضر الصحيح أن يتيمم إلا أن يخاف التلف. فإن عدم الماء في الحضر مع خوف فوات الوقت ، تيمم الصحيح والسقيم وصلّى ثم أعاد.

وقال أبو يوسف وزفر : لا يجوز التيمم في الحضر لا لمرض ولا لخوف الوقت.

__________________

(١) ويؤيده حديث مسلم عن سفينة : «أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يغسله الصاع ، ويوضئه المدّ».

٨٧

ودليل جواز التيمم في الحضر إذا خاف فوات الصلاة إن ذهب إلى الماء : القرآن : (أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ) أي أن المقيم إذا عدم الماء تيمم. والسنة : وهو ما رواه البخاري عن أبي الجهيم بن الحارث بن الصّمة الأنصاري قال : أقبل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من نحو «بئر جمل (١)» فلقيه رجل ، فسلّم عليه ، فلم يردّ عليه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى أقبل على الجدار ، فمسح بوجهه ويديه ، ثم رد عليه‌السلام. وأخرجه مسلم وليس فيه لفظ «بئر».

٧ ـ هل الحدث يبيح التيمم في الحضر؟ قيل : إنه يبيح لآية (أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ) : و «أو» بمعنى الواو ، أي إن كنتم مرضى أو على سفر ، وجاء أحد منكم من الغائط فتيمموا ، فالسبب الموجب للتيمم على هذا هو الحديث ، لا المرض والسفر ، فدل على جواز التيمم في الحضر ، كما تقدم بيانه.

قال القرطبي : والصحيح في «أو» أنها على بابها عند أهل النظر ، أي أنها للتخيير ، فلأو معناها ، وللواو معناها ، وهناك حذف ، والمعنى : وإن كنتم مرضى مرضا لا تقدرون فيه على مسّ الماء أو على سفر ، ولم تجدوا ماء ، واحتجتم إلى الماء (٢).

وقوله : (أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ) كنى بذلك عن التغوط وهو الحدث الأصغر.

٨ ـ ملامسة النساء : كناية عن الجماع (٣) في رأي الحنفية ، فالجنب يتيمم ، واللامس بيده لا ينقض وضوءه ، بدليل ما رواه الدارقطني عن عائشة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبّل بعض نسائه ، ثم خرج إلى الصلاة ولم يتوضأ. والمراد بها عند الشافعي : لمس بشرة المرأة باليد أو بغيرها من أعضاء الجسد ، فمن لمس بشرة امرأة

__________________

(١) بئر جمل : موضع بقرب المدينة.

(٢) تفسير القرطبي : ٥ / ٢٢٠

(٣) قال ابن عباس : إن الله تعالى حيي كريم يعفّ ، كنى باللمس عن الجماع.

٨٨

نقض طهره ، ويتيمم إن فقد الماء. وقال مالك وأحمد وإسحاق : الملامس بالجماع يتيمم ، والملامس باليد يتيمم إذا التذّ ، فإذا لمسها بغير شهوة فلا وضوء ، وهو مقتضى الآية. وأما حديث عائشة فهو مرسل. وتكون الآية مبينة حكمين : الحدث والجنابة عند عدم الماء ، وسبب الحدث : المجيء من الغائط ، وسبب الجنابة : الملامسة. ولا مانع من حمل اللفظ «الملامسة» على الجماع واللمس ، وإفادة الحكمين.

٩ ـ إن طلب الماء للمسافر شرط في صحة التيمم عند مالك والشافعي وأحمد ، وليس بشرط عند أبي حنيفة.

والمقصود بوجود الماء : أن يجد منه ما يكفيه لطهارته ، فإن وجد أقل من كفايته تيمم ولم يستعمل ما وجد منه ، وهذا قول أكثر العلماء.

وأجاز أبو حنيفة الوضوء بالماء المتغير كماء الباقلاء وماء الورد ، لقوله تعالى : (فَلَمْ تَجِدُوا ماءً) فقال : هذا نفي في نكرة ، فيعم لغة ، فيكون مفيدا جواز الوضوء بالماء المتغير وغير المتغير ؛ لإطلاق اسم الماء عليه.

وأجمع العلماء على أن الوضوء والاغتسال لا يجوز بشيء من الأشربة سوى النبيذ عند عدم الماء.

والماء الذي يبيح عدمه التيمم : هو الطاهر المطهر الباقي على أوصاف خلقته.

١٠ ـ قوله تعالى : (فَتَيَمَّمُوا) : يدل على مشروعية التيمم ، وهو من خصائص هذه الأمة ، قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «فضّلنا على الناس بثلاث : جعلت لنا الأرض كلها مسجدا ، وجعلت تربتها لنا طهورا إذا لم نجد الماء» (١) الحديث. والتيمم

__________________

(١) أخرجه أحمد ومسلم والنسائي عن حذيفة.

٨٩

شرعا : مسح الوجه واليدين بالتراب ، لقوله تعالى : (فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً) أي اقصدوا.

ويلزم التيمم كل مكلف لزمته الصلاة إذا عدم الماء ، ودخل وقت الصلاة. وقال أبو حنيفة وصاحباه والمزني صاحب الشافعي : يجوز قبله ؛ لأن طلب الماء عندهم ليس بشرط قياسا على النافلة ، فلما جاز التيمم للنافلة دون طلب الماء ، جاز أيضا للفريضة ، واستدلوا بقوله عليه الصلاة والسلام لأبي ذرّ عند أبي داود والنسائي والترمذي : «الصعيد الطيب وضوء المسلم ، ولو لم يجد الماء عشر حجج». فسمى عليه‌السلام الصعيد وضوءا كما يسمى الماء ، فحكمه إذن حكم الماء. ودليل المالكية والشافعية والحنابلة قوله تعالى : (فَلَمْ تَجِدُوا ماءً) ولا يقال : لم يجد الماء إلا لمن طلب ولم يجد.

وأجمع العلماء على أن التيمم لا يرفع الجنابة ولا الحدث ، وأن المتيمم لهما إذا وجد الماء ، عاد جنبا كما كان أو محدثا ؛ لقوله عليه الصلاة والسلام لأبي ذرّ : «إذا وجدت الماء فأمسّه جلدك».

وأجمعوا على أن من تيمم ثم وجد الماء قبل الدخول في الصلاة بطل تيممه ، وعليه استعمال الماء. والجمهور على أن من تيمم وصلّى وفرغ من صلاته ، وقد كان اجتهد في طلبه الماء ، ولم يكن في رحله : أن صلاته تامة ؛ لأنه أدى فرضه كما أمر ، فغير جائز أن توجب عليه الإعادة بغير حجة ، لما أخرجه أبو داود عن أبي سعيد الخدري قال : خرج رجلان في سفر ، فحضرت الصلاة ، وليس معهما ماء ، فتيمما صعيدا طيبا فصليا ، ثم وجدا الماء في الوقت ، فأعاد أحدهما الصلاة بالوضوء ، ولم يعد الآخر ، ثم أتيا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فذكرا ذلك له ، فقال للذي لم يعد : «أصبت السنة وأجزأتك صلاتك» وقال للذي توضأ وأعاد : «لك الأجر مرتين».

٩٠

واختلف العلماء إذا وجد الماء بعد دخوله في الصلاة ؛ فقال مالك والشافعي : ليس عليه قطع الصلاة واستعمال الماء ، وليتمّ صلاته ، وليتوضأ لما يستقبل ؛ لقوله تعالى : (وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ) وقد اتفق الجميع على جواز الدخول في الصلاة بالتيمم عند عدم الماء ، ومن شرع في صوم عن كفارة ظهار أو قتل ، ثم وجد رقبة لا يلغى صومه ولا يعود إلى الرقبة.

وقال أبو حنيفة وأحمد والمزني : يقطع ويتوضأ ويستأنف الصلاة لوجود الماء. وحجتهم أن التيمم لما بطل بوجود الماء قبل الصلاة ، فكذلك يبطل ما بقي منها ، وإذا بطل بعضها بطل كلها ؛ لإجماع العلماء على أن المعتدة بالشهور لا يبقى عليها إلا أقلها ثم تحيض أنها تستقبل عدتها بالحيض ، ومثل ذلك الذي يطرأ عليه الماء وهو في الصلاة.

واختلفوا : هل يصلّى بالتيمم صلوات أو يلزم التيمم لكل صلاة فرض ونفل؟ فقال مالك والشافعي : لكل فريضة ؛ لأن عليه أن يبتغي الماء لكل صلاة ، فمن ابتغى الماء فلم يجده فإنه يتيمم.

وقال أبو حنيفة وداود الظاهري : يصلي ما شاء بتيمم واحد ما لم يحدث ؛ لأنه طاهر ، ما لم يجد الماء ، وليس عليه طلب الماء إذا يئس منه.

وهل يجوز التيمم قبل دخول الوقت؟ الشافعي ومالك : لا يجوزانه ؛ لأنه لما قال الله تعالى : (فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا) ظهر منه تعلق أجزاء التيمم بالحاجة ، ولا حاجة قبل الوقت ، وعلى هذا فلا يصلّي الشخص فرضين بتيمم واحد. وأجاز أبو حنيفة التيمم قبل دخول الوقت ؛ لأن طلب الماء عنده ليس بشرط.

١١ ـ الصعيد الطيب : الصعيد : وجه الأرض ، كان عليه تراب أو لم يكن. والطيب : الطاهر وقيل : الحلال. وبناء عليه قال مالك وأبو حنيفة : يتيمم بوجه الأرض كله ، ترابا كان أو رملا أو حجارة أو معدنا أو سبخة.

٩١

وقال الشافعي وأبو يوسف : الصعيد : التراب المنبت ، وهو الطيب ، قال تعالى : (وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ) [الأعراف ٧ / ٥٨] فلا يجوز التيمم عندهما على غيره. قال الشافعي : لا يقع الصعيد إلا على تراب ذي غبار.

واشترط الشافعي : أن يعلق التراب باليد ، ويتيمم به نقلا إلى أعضاء التيمم ، كالماء ينقل إلى أعضاء الوضوء.

وأجمع العلماء على أن يتيمم الرجل على تراب منبت طاهر منقول إلى العضو الممسوح لا مغصوب ، وعلى أنه لا يتيمم على الذهب الصّرف والفضة والياقوت والزّمرّد والأطعمة كالخبز واللحم وغيرهما أو على النجاسات. واختلف في غير هذا كالمعادن ، فأجازه مالك وغيره ، ومنعه الشافعي وغيره.

ويجوز عند مالك التيمم على الحشيش إذا كان دون الأرض ، وفي المدونة والمبسوط جواز التيمم على الثلج ، وفي غيرهما منعه. والجمهور على منع التيمم على العود ، وجمهور المالكية أجازوا التيمم على التراب المنقول من طين أو غيره ، وعند المالكية قولان في التيمم على ما طبخ كالجص والاجرّ ، وعلى الجدار ، قال القرطبي : والصحيح الجواز على الجدار ، لحديث أبي جهيم بن الحارث بن الصّمّة الأنصاري الذي أخرجه البخاري ، قال : أقبل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من نحو بئر جمل (موضع قرب المدينة) فلقيه رجل فسلم عليه ، فلم يردّ عليه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى أقبل على الجدار ، فمسح بوجهه ويديه ، ثم رد عليه‌السلام. وهو دليل على صحة التيمم بغير التراب كما يقول مالك ومن وافقه.

وقال الثوري وأحمد : يجوز التيمم بغبار اللّبد. وأجاز أبو حنيفة التيمم بالكحل والزّرنيخ والنّورة والجص والجوهر المسحوق.

١٢ ـ كيفية التيمم : دل قوله تعالى : (فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ) على أن محل التيمم : الوجه واليدان ، وقوله (مِنْهُ) يدل في رأي الشافعي على

٩٢

أنه لا بد من نقل التراب إلى محل التيمم ، ولا يشترط المالكية النقل ، بدليل تيممه عليه الصلاة والسلام على الجدار.

وقال الجمهور : يبدأ بالوجه ثم اليدين لقوله تعالى : (بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ).

وقال الحنفية والشافعية : يبلغ بالتيمم في اليدين إلى المرفقين ، قياسا على الوضوء ، وبدليل رواية التيمم إلى المرفقين عن جابر وابن عمر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وذهب المالكية والحنابلة إلى أنه يبلغ به إلى الكوعين وهما الرسغان ، لحديث عمار بالتيمم إلى الكوعين : وهو أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما رواه أحمد وأبو داود أمره بالتيمم للوجه والكفين.

وذهب الحنفية والشافعية إلى أن التيمم ضربتان : ضربة للوجة ، وضربة لليدين لحديث ابن عمر (١) في ذلك. ورأى المالكية والحنابلة أن الفريضة : الضربة الأولى ، أي وضع اليد على الصعيد ، وأما الضربة الثانية فهي سنة.

أعمال اليهود وتصرفاتهم

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ (٤٤) وَاللهُ أَعْلَمُ بِأَعْدائِكُمْ وَكَفى بِاللهِ وَلِيًّا وَكَفى بِاللهِ نَصِيراً (٤٥) مِنَ الَّذِينَ

__________________

(١) أخرجه الحاكم والدارقطني والبيهقي ، وهو موقوف على ابن عمر.

٩٣

هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَراعِنا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنا لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلكِنْ لَعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (٤٦))

الإعراب :

(يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ) : جملة فعلية في موضع نصب على الحال من واو (أُوتُوا) ومثله (وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا).

(مِنَ الَّذِينَ) تتعلق (مِنَ) إما على أنها تفسير لقوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا ..) أو تتعلق بمحذوف ، وتقديره : من الذين هادوا قوم يحرفون. وقوم : مبتدأ ، ويحرفون : جملة صفة المبتدأ ، وحذف الموصوف وأقيمت الصفة مقامه ، وخبره : (مِنَ الَّذِينَ هادُوا) مقدم عليه. أو تتعلق بقوله : (نَصِيراً) على حد قوله : فمن ينصرنا من بأس الله إن جاءنا.

(غَيْرَ مُسْمَعٍ) حال من ضمير : واسمع ، أي لا سمعت ، ويظهرون أنهم يريدون : واسمع غير مسمع مكروها. وقيل : إنهم يريدون : واسمع غير مسمع ، أي غير مجاب.

(لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً) منصوبان على المصدر ، وتقديره : يلوون بألسنتهم ليّا ، ويطعنون طعنا. وألسنتهم : جمع لسان ، ويجوز فيه التذكير والتأنيث ، ويجمع على ألسنة وألسن ، فمن جمعه على ألسنة جعله مذكرا ، ومن جمعه على ألسن جعله مؤنثا.

(وَلَوْ أَنَّهُمْ ..) لو : حرف يمتنع له الشيء لامتناع غيره ، كقولك : لو جئتني لأكرمتك ، فيكون عدم الإكرام لعدم المجيء. وأنهم : في موضع رفع بفعل مقدر ، تقديره : ولو وقع قولهم : سمعنا وأطعنا ، فإن (لَوْ) يقع بعدها الفعل ولا يقع بعدها المبتدأ. (إِلَّا قَلِيلاً) منصوب لأنه صفة مصدر محذوف وتقديره : إيمانا قليلا.

البلاغة :

(يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ) : استعارة ، وكذا (لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ) استعارة ؛ لأن أصل اللي : فتل الحبل ، فاستعير للكلام الذي قصد به غير ظاهره. (أَلَمْ تَرَ) استفهام للتعجب.

٩٤

المفردات اللغوية :

(أَلَمْ تَرَ) ألم تنظر (أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ) حظا أو جزءا من التوراة وهم اليهود (أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ) تخطئوا الطريق الحق أو القويم لتكونوا مثلهم (وَاللهُ أَعْلَمُ بِأَعْدائِكُمْ) منكم ، فيخبركم بهم لتجتنبوهم (وَكَفى بِاللهِ وَلِيًّا) حافظا لكم منهم يتولى شؤونكم (نَصِيراً) مانعا لكم من كيدهم ، أو معينا يدفع شرهم عنكم (مِنَ الَّذِينَ هادُوا) هم اليهود (يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ) يغيرون الكلام الذي أنزل الله في التوراة من نعت محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن مواضعه التي وضع عليها.

(غَيْرَ مُسْمَعٍ) حال بمعنى الدعاء أي لا سمعت ، ويجوز أن يريدوا : غير مجاب قولك. (وَراعِنا) أصلها : راقبنا وانظرنا نكلمك ، والمراد بها أنها كلمة سب بلغتهم وهي «راعينا» أو من الرعونة والطيش ، وقد نهي عن خطابه بها (لَيًّا) تحريفا بألسنتهم وطعنا وفتلا بها.

(طَعْناً فِي الدِّينِ) قدحا فيه وذما بالإسلام (وَانْظُرْنا) انظر إلينا (وَأَقْوَمَ) أعدل وأسدّ (وَلكِنْ لَعَنَهُمُ اللهُ) أبعدهم عن رحمته (إِلَّا قَلِيلاً) أي إلا إيمانا قليلا لا يعبأ به.

سبب النزول

نزلت في يهود المدينة ، قال ابن إسحاق : كان رفاعة بن زيد بن التابوت من عظماء اليهود ، وإذا كلم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لوى لسانه ، وقال : أرعنا سمعك يا محمد حتى نفهمك ، ثم طعن في الإسلام وعابه ، فأنزل الله فيه : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ ...).

وقال المفسرون : خرج كعب بن الأشرف ـ أحد أحبار اليهود ـ في سبعين راكبا من اليهود إلى مكة بعد وقعة أحد ، ليحالفوا قريشا على غدر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وينقضوا العهد الذي كان بينهم وبين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فنزل كعب على أبي سفيان ، ونزلت اليهود في دور قريش ...

فقال أبو سفيان لكعب : إنك امرؤ تقرأ الكتاب وتعلم ، ونحن أميون لا نعلم ، فأينا أهدى طريقا وأقرب إلى الحق؟ أنحن أم محمد؟ فقال كعب : اعرضوا علي دينكم ، فقال أبو سفيان : نحن ننحر للحجيج الكوماء (الناقة

٩٥

الضخمة السنام) ، ونسقيهم الماء ، ونقري الضيف ، ونفك العاني (الأسير) ، ونصل الرحم ، ونعمر بيت ربنا ونطوف به ، ونحن أهل الحرم ، ومحمد فارق دين آبائه ، وقطع الرحم ، وفارق الحرم ، وديننا القديم ودين محمد الحديث ، فقال كعب : أنتم والله أهدى سبيلا مما هو عليه ، فأنزل الله تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ ...) يعني كعبا وأصحابه ، الآية(١).

المناسبة :

بعد أن أرشد الله تعالى إلى جزيل الثواب بامتثال الأحكام الشرعية ، وحذر المخالف بشديد العقاب ، من خلال الترغيب والترهيب ، ذكر حال بعض أهل الكتاب الذين تركوا بعض أحكام دينهم ، وحرّفوا كتابهم ، واشتروا الضلالة بالهدى ، لينبه المؤمنين إلى وجوب التزام ما أمروا به ، ويحذرهم من إيقاع العقاب عليهم بترك أحكام دينهم ، مثل العقاب الذي استحقه أولئك اليهود في الآخرة حينما يتمنون أن يدفنوا في التراب ، ويزج بهم في نار جهنم.

التفسير والبيان :

ألم تنظر يا محمد إلى الذين أعطوا جزءا من التوراة (الكتاب الإلهي) ثم يستبدلون الضلالة بالهدي ، ويؤثرون الكفر على الإيمان ، ويعرضون عما أنزل الله على رسوله ، ويتركون ما بأيديهم من الأحكام كالكذب وإيذاء الناس وأكل الربا ، ومن العلم عن الأنبياء السابقين في صفة محمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ليشتروا بما اصطنعوه من الطقوس والرسوم الدينية ثمنا قليلا من حطام الدنيا ، ويريدون أن تضلوا معهم الطريق المستقيم ، فتكفرون بما أنزل عليكم أيها المؤمنون ، وتتركون ما أنتم عليه من الهدى والعلم النافع ، والله أعلم بأعدائكم أيها المؤمنون ، ويحذركم منهم ، وكفى بالله وليا : حافظا لكم منهم ويتولى شؤونكم ، وحصنا لمن لجأ إليه ، وكفى

__________________

(١) أسباب النزول للواحدي : ص ٨٩

٩٦

بالله نصيرا لمن استنصره ، ومعينا يدفع شرهم عنكم ، فهو سبحانه الذي يرشدكم إلى ما فيه خيركم وفلاحكم ، وهو الذي ينصركم على أعدائكم بتوفيقكم لصالح العمل والهداية لأسباب النصر من التعاون وإعداد وسائل القوة الحربية ، فلا تطلبوا الولاية من غيره ، ولا النصرة من سواه.

وأما الذي يعملون به من التوراة : فهو ما أضاعوه ونسوه ، وما تركوا العمل به من الأحكام الباقية لديهم.

ثم بيّن الله تعالى المراد بأولئك الذين أوتوا الكتاب بقوله : (مِنَ الَّذِينَ هادُوا) أي اليهود ، و (مِنَ) هنا لبيان الجنس كقوله : (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ) [الحج ٢٢ / ٣٠] وهم قوم يحرفون الكلم الذي أنزله الله في التوراة عن مواضعه الأصلية ، إما بأن يحملوه على غير معناه الذي وضع له ، كتأويل البشارات الواردة في النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وتأويل ما ورد في المسيح وحمله على شخص آخر ، لا يزالون ينتظرونه إلى اليوم ، وإما بنقل كلمة أو جملة من الكتاب ووضعها فيه في موضع آخر ، فقد خلطوا ما أثر عن موسى عليه‌السلام بما كتب بعده بزمن طويل ، كما خلطوا كلام غيره من أنبيائهم بكلام آخر دوّنه واضعو التوراة الحالية ، بدلا عن التوراة المفقودة باعترافهم.

وكانوا يقصدون بهذا التحريف الإصلاح في زعمهم ، ومنشأ ذلك أنه وجدت عندهم قراطيس متفرقة من التوراة بعد فقد النسخة الأصلية التي كتبها موسى عليه‌السلام ، وأرادوا أن يؤلفوا بينها ، فخلطوا فيها بالزيادة والتكرار ، كما أثبت المؤرخون الباحثون الثقات ، مثل الشيخ رحمة الله الهندي في كتابه «إظهار الحق».

ويقول هؤلاء اليهود للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : سمعنا قولك وعصينا أمرك ، قال مجاهد : إنهم قالوا للنبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم : سمعنا قولك ، ولكن لا نطيعك. وكانوا يقولون أيضا

٩٧

حسدا وحقدا على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (اسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ) يدعون عليه بقولهم : لا أسمعك الله ، أو غير مسمع دعاؤك ، أو غير مقبول منك ، بدلا من أن يقولوا أدبا : «لا سمعت مكروها».

وكانوا يقولون كذلك : (راعِنا) اسم فاعل من الرعونة أي الطيش والحمق ، أو هي «راعينا» كلمة سب وطعن عندهم ، بدلا من أن تستعمل بمعنى : أنظرنا وتمهل علينا. وقد نهى الله المؤمنين أن يستعملوا هذه الكلمة بقوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا : راعِنا ، وَقُولُوا : انْظُرْنا) [البقرة ٢ / ١٠٤].

هذه جرائم ثلاث ارتكبوها مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إما في مجلسه أو بعيدا عنه ، بدافع الحسد والحقد ، أو الاستهزاء والسخرية ، يستعملون كلاما محتملا معنيين ، وهم يريدون به الشتيمة والإهانة ، لا التوقير والاحترام والتكريم ، ليا بألسنتهم وفتلا بها وصرفا للكلام عن إرادة الخير إلى إرادة الشر والسب ، وطعنا في الإسلام وقدحا فيه ، فيوهمون أنهم يقولون : راعنا سمعك بقولهم : (راعِنا) وإنما يريدون الرعونة بسبهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وهذا منتهى الوقاحة والجرأة على الباطل.

ومن تحريف لسانهم تحيتهم بقولهم : «السام ـ الموت ـ عليكم» يوهمون بفتل اللسان أنهم يقولون : «السلام عليكم» فيجيبهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقوله : «وعليكم» أي كل أحد يموت.

قال ابن عطية : وهذا موجود حتى الآن في اليهود ، وقد شاهدناهم يربون أولادهم الصغار على ذلك ، ويحفّظونهم ما يخاطبون به المسلمين ، مما ظاهره التوقير ويريدون به التحقير (١).

ثم وجّه الحق تعالى إلى الخطاب الأمثل فذكر : ولو أنهم قالوا : سمعنا وأطعنا ، واسمع منا ما نقول وانظرنا ، أي أمهلنا وانتظرنا ولا تعجل حتى نتفهم

__________________

(١) البحر المحيط : ٣ / ٢٦٤

٩٨

عنك ما تقول ، لكان ذلك خيرا لهم وأصوب مما قالوه ، لما فيه من الفائدة والأدب.

ثم بيّن الله تعالى عاقبة تصرفاتهم النابية وهو الطرد من رحمة الله وعدم التوفيق للخير أبدا ، فذكر أنه تعالى لعنهم وخذلهم بسبب كفرهم ، والكفر يمنع عادة من التفكر والأدب في الخطاب ، وهم لا يؤمنون إلا إيمانا قليلا لا يؤبه به ، وقلوبهم مطرودة عن الخير ، مبعدة عنه ، فلا يدخلها من الإيمان شيء نافع لهم ، وإذا لم يكن هناك إيمان ، لم يبق أمل في صلاح عمل ، ولا رقي عقل ، ولا طهارة نفس.

فقه الحياة أو الأحكام :

الآيات تعجب وتوبيخ وتقريع ليهود المدينة وما والاها ، ولكل من سلك سلوكهم ، وسار على منهجهم ، وسبب ذلك تصرفاتهم الشائنة ، ومواقفهم المستهجنة التي جمعت ألوانا من الجرائم والمنكرات.

فهم اشتروا الضلالة بالهدى ، وأرادوا إضلال المسلمين عن طريق الحق والمنهج القويم ، وأعلنوا عداوتهم للإسلام والمسلمين ، فلا تستصحبوهم فإنهم الأعداء الألداء.

وهم يحرفون الكلام الإلهي عن مواضعه الصحيحة ، ويؤولونه تأويلا باطلا ، أو يخلطونه بكتابات البشر المغلوطة أو المشوهة أو المنفرة ، فإن توراتهم الحالية تمس سمو الذات الإلهية ، وتشوه سمعة أنبيائهم وتطعن فيهم ، وهي مشحونة بالأحقاد والبغضاء على الشعوب الأخرى غير اليهودية ، وتدعو إلى تدمير المدن وتخريب الحضارة وإتلاف الثروات الحيوانية والزراعية والصناعية.

ويعلنون وقاحتهم في خطاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وحب الاستهزاء والسخرية منه ، فيقولون : «سمعنا قولك وعصينا أمرك» ، واسمع لا سمعت ، وهم يظهرون أنهم

٩٩

يريدون اسمع غير مسمع مكروها ولا أذى. وقال الحسن البصري ومجاهد : معناه غير مسمع منك ، أي مقبول ولا مجاب إلى ما تقول. ويقولون : راعنا من الرعونة والحمق.

وقوله : (لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ) يدل على أنهم يلوون ألسنتهم عن الحق ، أي يميلونها إلى ما في قلوبهم ، ويطعنون في الدين ، بقولهم لأصحابهم : لو كان نبيا لدرى أننا نسبّه ، فأظهر الله تعالى نبيه على ذلك ، فكان من علامات نبوته ، ونهاهم عن هذا القول.

ولو خاطبوه بما يقتضيه الأدب واللياقة في الكلام ، لكان ذلك أقوم أي أصوب لهم في الرأي ، والحقيقة أنهم لا يؤمنون إلا إيمانا قليلا لا يستحقون به اسم الإيمان.

أمر أهل الكتاب بالإيمان بالقرآن وتهديدهم باللعنة

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ آمِنُوا بِما نَزَّلْنا مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَما لَعَنَّا أَصْحابَ السَّبْتِ وَكانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولاً (٤٧))

الإعراب :

(كَما لَعَنَّا) الكاف في (كَما) في موضع نصب ، لأنها صفة لمصدر محذوف ، وتقديره : لعنا مثل لعننا أصحاب السبت.

١٠٠