التفسير المنير - ج ٣

الدكتور وهبة الزحيلي

أسلموا ، فإن أسلموا فقد اهتدوا إلى الصراط المستقيم ، وتركوا الضلال ، وإن أعرضوا عن الاعتراف بما سألتهم عنه ، فلن يضيرك شيء ، إذ ما عليك إلا البلاغ فقط ، والله خبير بعابده عليم بحالهم وبمن يستحق الهداية ممن يستحق الضلالة ، فيحاسبهم ويجازيهم.

فقه الحياة أو الأحكام :

موضوع الآية (١٨) : إثبات وحدانية الله بالأدلة التكوينية التي أبانها الله في الآفاق والأنفس وإنزال آيات التشريع ، وأخبر الملائكة والعلماء بذلك وبينوه ، قال القرطبي : دلت الآية على فضل العلم وشرف العلماء وفضلهم ، فإنه لو كان أحد أشرف من العلماء لقرنهم الله باسمه واسم ملائكته ، كما قرن اسم العلماء. ويؤكده أنه تعالى أمر نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يستزيد من العلم ، بقوله : (وَقُلْ : رَبِّ زِدْنِي عِلْماً). وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما جاء في السنن : «العلماء ورثة الأنبياء» وقال : «العلماء : أمناء الله على خلقه» (١). وهذا شرف للعلماء عظيم ، ومحلّ لهم في الدّين خطير (٢). روى أنس عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «من قرأ : (شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ ، لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) ، عند منامه ، خلق الله له سبعين ألف ملك يستغفرون له إلى يوم القيامة».

وأعلنت الآية (١٩) أن الدين المرضي عند الله هو الإسلام فقط ، والإسلام هو الإيمان بالله وإطاعة أوامره ، وهو شيء واحد متفق عليه بين جميع الأنبياء. وأما الخلاف في الدين أي الملة فحاصل من قبل الأتباع والأنصار ، حسدا وظلما. ويكون القصد من الآية نبذ الفرقة والخلاف في الدين ، والابتعاد عن التفرق فيه إلى شيع ومذاهب ؛ لأن اختلاف أهل الكتاب في نبوة محمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم كان على علم منهم بالحقائق ، وأنه كان بغيا وطلبا للدنيا ، فقد أبانت كتبهم صفته ونبوته ،

__________________

(١) رواه القضاعي وابن عساكر عن أنس ، وهو حسن.

(٢) تفسير القرطبي : ٤ / ٤١

١٨١

وأوضحت أن الله إله واحد ، وأن جميع الخلائق عبيده ، لذا وجب على أهل الإيمان الصادق نبذ الاختلاف والشقاق ، والعودة إلى الوحدة والاتفاق بين أتباع الدين ، بالاعتقاد بوحدانية الله ، والتصديق برسالة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وهذه الآية وأمثالها من أصرح الدلالات على عموم بعثته صلوات الله وسلامه عليه إلى جميع البشر ، كما دل عليه القرآن والسنة في غير ما آية وحديث ، منها قوله تعالى : (قُلْ : يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً) [الأعراف ٧ / ١٥٨] ومنها أيضا : (تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ ، لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً) [الفرقان ٢٥ / ١]. وفي الصحيحين وغيرهما مما ثبت تواتره بالوقائع المتعددة : أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعث كتبه يدعو إلى الله ملوك الآفاق وطوائف بني آدم ، من عربهم وعجمهم ، كتابيهم ومشركهم ، امتثالا لأمر الله بذلك. وروى مسلم وعبد الرزاق عن أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «والذي نفسي بيده ، لا يسمع بي أحد من هذه الأمة ، يهودي ولا نصراني ، ومات ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أهل النار». وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الحديث الثابت : «بعثت إلى الأحمر والأسود» وقال فيما رواه الشيخان والنسائي عن جابر : «كان النبي يبعث إلى قومه خاصة ، وبعثت إلى الناس عامة». وروى البخاري عن أنس : أن غلاما يهوديا كان يضع للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وضوءه ، ويناوله نعليه ، فمرض ، فأتاه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فدخل عليه ، وأبوه قاعد عند رأسه ، فقال له النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يا فلان ، قل : لا إله إلا الله» فنظر إلى أبيه ، فسكت أبوه ، فأعاد عليه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فنظر إلى أبيه ، فقال أبوه : أطع أبا القاسم ، فقال الغلام : أشهد أن لا إله إلا الله ، وأنك رسول الله ، فخرج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو يقول : «الحمد لله الذي أخرجه بي من النار».

١٨٢

جزاء قتل الأنبياء

(إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٢١) أُولئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٢٢))

الإعراب :

(فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) خبر : (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ). ودخلت الفاء في الخبر ، لشبه اسمها الموصول بالشرط ، أي ضمّن معنى الشرط ، أو للإبهام الذي في (الَّذِينَ) مع كون صلته جملة فعلية. ولا يجوز أن تدخل الفاء في خبر الذي إذا وقع مبتدأ حتى يكون صلته جملة فعلية ، ولم يغيّر العامل معناها. فلو كانت صلته جملة اسمية نحو : الذي أبوه منطلق فقائم ، أو غيّر العامل معناها نحو : ليت الذي انطلق أبوه فقائم ، لم يجز دخول الفاء في خبره.

البلاغة :

(فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) استعمل البشارة في الشّر ، والأصل أن تكون في الخير ، للتهكم ويسمى «الأسلوب التهكمي» مثل قوله : (بَشِّرِ الْمُنافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً) حيث نزل الإنذار منزلة البشارة.

المفردات اللغوية :

(الَّذِينَ يَكْفُرُونَ) المراد بهم اليهود خاصة. (بِغَيْرِ حَقٍ) أي بغير شبهة لديهم. (بِالْقِسْطِ) بالعدل. (مِنَ النَّاسِ) وهم اليهود ، روي أنهم قتلوا ثلاثة وأربعين نبيّا ، فنهاهم مائة وسبعون من عبّادهم ، فقتلوهم من يومهم كما ذكر السيوطي. (فَبَشِّرْهُمْ) أعلمهم ، والبشارة : الخبر السّارّ ، واستعمالها في الشّر من باب التّهكم بهم والسّخرية. (بِعَذابٍ أَلِيمٍ) مؤلم.

(حَبِطَتْ) بطلت. (أَعْمالُهُمْ) ما عملوا من خير ، كصدقة وصلة رحم.

(وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ) مانعين من العذاب.

١٨٣

سبب النزول :

قال أبو العباس المبرد : كان ناس من بني إسرائيل ، جاءهم النّبيون يدعونهم إلى الله عزوجل ، فقتلوهم ، فقام أناس من بعدهم من المؤمنين ، فأمروهم بالإسلام ، فقتلوهم ؛ ففيهم نزلت هذه الآية.

وروى أبو عبيدة بن الجراح أن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «قتلت بنو إسرائيل ثلاثة وأربعين نبيّا من أول النهار في ساعة واحدة ، فقام مائة رجل واثنا عشر رجلا من عبّاد بني إسرائيل ، فأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ، فقتلوا جميعا في آخر النهار من ذلك اليوم ، وهم الذين ذكرهم الله في هذه الآية. ذكره المهدي وغيره.

فهذه الآية جاءت وعيدا لمن كان في زمانه صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

التفسير والبيان :

كانت الآيات السابقة في تبيان اختلاف أهل الكتاب الذي نشأ من البغي بعد أن جاءهم العلم اليقيني ، وفي محاجّة أهل الكتاب والمشركين للنّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم ذكر هنا موقف اليهود من الأنبياء ، ومنهم النّبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذي همّوا أيضا بقتله زمن نزول الآية ، ويتمثّل موقفهم فيما يأتي :

إن الذين يجحدون من اليهود بآيات الله بعد معرفتها في كتبهم ، ويقتلون الأنبياء ، كما فعلوا بزكريا ويحيى عليهما‌السلام بغير شبهة لديهم ، ولا حق ولا ذنب إلا أنهم قالوا : ربّنا الله ، وجهروا بالحق ، وبلغوا الرّسالة ، ويقتلون الحكماء الذين يأمرون الناس بالعدل والقسط ، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ، ومرتبة هؤلاء في الإرشاد تلي مرتبة الأنبياء ، أنبئ هؤلاء بالعذاب الأليم في الدّنيا والآخرة. هؤلاء الذين ارتكبوا هذه الجرائم الشنيعة ، البعيدون في الضلال ، بطلت أعمالهم في الدّنيا والآخرة ، وما لهم في الآخرة من ناصرين ينصرونهم من

١٨٤

بأس الله وعذابه ، كما قال تعالى : (يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ) [الشعراء ٢٦ / ٨٨].

والإخبار عن اليهود السابقين ، ونسبة الكفر إلى اليهود المعاصرين للنّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ لأنهم راضون عنه ، بل إنهم همّوا بمثل فعل آبائهم بقتل النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إمعانا في الفساد والضلال.

فقه الحياة أو الأحكام :

أرشدت الآية إلى وقائع خطيرة وأحكام مهمة متعلقة باليهود وغيرهم :

١ ـ اليهود كانوا قتلة الأنبياء والحكماء أو العلماء ، وكفروا بآيات الله وشرائعه التي بلّغتها إياهم الرّسل ، استكبارا عليهم وعنادا لهم ، وتعاظما على الحق ، واستنكافا عن اتّباعه ، فذمّهم الله على مآثمهم.

٢ ـ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كان واجبا في الأمم المتقدمة ، وهو فائدة الرسالة وخلافة النّبوة. قال الحسن : قال النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من أمر بالمعروف أو نهى عن المنكر ، فهو خليفة الله في أرضه ، وخليفة رسوله ، وخليفة كتابه».

وجعل الله تعالى الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر فارقا بين المؤمنين والمنافقين ، فقال : (الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ) [التوبة ٩ / ٦٧]. ثم قال : (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) [التوبة ٩ / ٧١]. فدلّ على أن أخصّ أوصاف المؤمن : الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر ، ورأسها الدعوة إلى الإسلام والقتال عليه.

وهناك أحكام أخرى متعلقة بمبدإ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر منها :

أ ـ ليس من شرط النّاهي أن يكون عدلا ، عند أهل السّنة ؛ لأن الأمر

١٨٥

بالمعروف والنّهي عن المنكر عام في جميع الناس.

ب ـ أجمع المسلمون ـ فيما ذكر ابن عبد البر ـ أن المنكر واجب تغييره على كل من قدر عليه ، وأنه إذا لم يلحقه بتغييره إلا اللوم الذي لا يتعدّى إلى الأذى ، فإن ذلك لا يجب أن يمنعه من تغييره ، فإن لم يقدر فبلسانه ، فإن لم يقدر فبقلبه ، ليس عليه أكثر من ذلك. وإذا أنكر بقلبه ، فقد أدّى ما عليه إذا لم يستطع سوى ذلك. والأحاديث في هذا المبدأ ومراحل تطبيقه كثيرة جدا ، ولكنها مقيدة بالاستطاعة. روى الأئمة عن أبي سعيد الخدري قال : سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول: «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده ، فإن لم يستطع فبلسانه ، فإن لم يستطع فبقلبه ، وذلك أضعف الإيمان». قال العلماء : الأمر بالمعروف باليد على الأمراء ، وباللسان على العلماء ، وبالقلب على الضعفاء ، يعني عوامّ الناس.

ويبدأ بإزالة المنكر بالأخف فالأخف ، باللسان أولا ، ثم بالعقوبة ، أو بالقتل. وعليه بنى العلماء أنه إذا دفع الصائل على النفس أو على المال عن نفسه أو عن ماله أو نفس غيره ، فله ذلك ولا شيء عليه.

ج ـ متى يترك؟ أخرج ابن ماجه عن أنس بن مالك قال : قيل : يا رسول الله ، متى نترك الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر؟ قال : «إذا ظهر فيكم ما ظهر في الأمم قبلكم» ، قلنا : يا رسول الله ، وما ظهر في الأمم قبلنا؟ قال : «الملك في صغاركم ، والفاحشة في كباركم ، والعلم في رذالتكم» ، قال زيد : تفسير معنى قول النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «والعلم في رذالتكم» إذا كان العلم في الفسّاق.

٣ ـ قد جعل الله وعيد الكفار ومنهم اليهود ثلاثة أنواع :

أ ـ إيقاع العذاب الأليم في الدّنيا والآخرة ، الألم والقلق والاضطراب في الدّنيا ، ونار جهنم في الآخرة.

ب ـ إحباط الأعمال في الدّنيا والآخرة ، ففي الدّنيا الذّم والخزي واللعن ،

١٨٦

وفي الآخرة العذاب كما قال تعالى : (وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ ، فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً) [الفرقان ٢٥ / ٢٣].

ج ـ دوام هذا العذاب لقوله تعالى : (وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ).

والخلاصة : ذكرت هذه الآية ثلاثة أوصاف لليهود :

أولها ـ الكفر بآيات الله ، وهو أقوى الأسباب في عدم المبالاة بما يقع من الأفعال القبيحة.

وثانيها ـ قتل من أظهر آيات الله واستدلّ بها.

وثالثها ـ قتل أتباعهم ممن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر (١).

إعراض أهل الكتاب عن حكم الله

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ (٢٣) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٢٤) فَكَيْفَ إِذا جَمَعْناهُمْ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٢٥))

الإعراب :

(فَكَيْفَ إِذا جَمَعْناهُمْ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ) كيف : استفهام عن الحال ، وهو هاهنا بمعنى التهديد والوعيد ، وهي منصوبة بفعل مقدّر ، وتقديره : في أي حال يكونون إذا جمعناهم. وإذا : منصوب

__________________

(١) البحر المحيط : ٢ / ٤١٣

١٨٧

على الظرف. و (لِيَوْمٍ) اللام تتعلق بجمعناهم. و (لا رَيْبَ فِيهِ) في موضع جرّ صفة ليوم.

المفردات اللغوية :

(أَلَمْ تَرَ) استفهام للتعجب من حالهم. (نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ) حظّا من التّوراة ، والمراد : أحبار اليهود أو اليهود أنفسهم ، ومن : إما للتبعيض ، وإما للبيان. (يُدْعَوْنَ) يطلبون ، وهو حال والداعي هو النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (كِتابِ اللهِ) التوراة أو القرآن. (لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ) أي ليفصل بين اليهود. (ثُمَّ يَتَوَلَّى) يعرض بالبدن أو بالقلب. (مُعْرِضُونَ) عن قبول حكمه. (ذلِكَ) التولي والإعراض. (يَفْتَرُونَ) يختلقون ويكذبون. (لا رَيْبَ فِيهِ) لا شكّ فيه ، وهو يوم القيامة. (ما كَسَبَتْ) عملت من خير أو شرّ. (وَهُمْ) أي الناس. (لا يُظْلَمُونَ) بنقص حسنة أو زيادة سيئة.

سبب النزول : نزول الآية (٢٣ ـ ٢٤):

أخرج ابن أبي حاتم وابن المنذر وابن إسحاق عن ابن عباس قال : دخل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بيت المدراس (١) على جماعة من اليهود ، فدعاهم إلى الله ، فقال له نعيم بن عمرو والحارث بن زيد: على أي دين أنت يا محمد؟ قال : «على ملّة إبراهيم ودينه» ، قالا : فإن إبراهيم كان يهوديا ، فقال لهما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «فهلمّا إلى التّوراة ، فهي بيننا وبينكم» فأبيا عليه ، فأنزل الله : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُدْعَوْنَ) إلى قوله : (يَفْتَرُونَ).

المناسبة :

الآيات استمرار في تعداد قبائح اليهود ، ولكنها خطاب إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم يستدعي التّعجب من شأنهم ، وهو أنهم يرفضون التّحاكم إلى كتابهم ، بدافع الغرور والكبرياء ، واغترارهم باتّصال نسبهم بالأنبياء ، وزعمهم النّجاة من عذاب الله يوم القيامة ، فردّ الله عليهم بأن الجزاء على الأعمال ، لا على الأنساب.

__________________

(١) مدرسة اليهود لدراسة التّوراة.

١٨٨

التفسير والبيان :

انظر يا محمد وتعجّب من صنع هؤلاء اليهود الذين يحفظون بعض كتابهم الذي أوحاه الله لنبيّهم موسى عليه‌السلام ، وفقدوا سائره أو حرّفوه وغيّروه ؛ لأن التّوراة كتبت بعد موسى بخمسمائة سنة ، وبقي الجزء الذي فيه بشارة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وموضع العجب : أنهم يرفضون قبول حكم كتابهم ، حينما زنى بعض أشرافهم ، وحكّموا النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فحكم بمثل حكم التّوراة ، فتولّوا وأعرضوا عن قبول حكمه. وعمم ابن كثير الآية وجعلها إنكارا على اليهود والنصارى المتمسكين فيما يزعمون بكتابيهم اللذين بأيديهم ، وهما التّوراة والإنجيل (١).

فإذا دعوا إلى حكم الكتاب تولى فريق منهم أي بعد تردّد في قبول الحكم ، ثم أدبروا وهم معرضون. وفي قوله : (فَرِيقٌ مِنْهُمْ) إشارة إلى أن منهم طائفة متمسكة بالحق كعبد الله بن سلام وغيره ، كما قال تعالى : (وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ) [الأعراف ٧ / ١٥٩]. وفي قوله : (وَهُمْ مُعْرِضُونَ) إشارة إلى دوام إعراضهم.

ثم ذكر الله تعالى سبب هذا التّولي والإعراض أو العناد والجحود : وهو اعتقادهم النّجاة ، فاليهودي يعتقد أنه مهما فعل لن يدخل النار إلا أياما معدودة ، ثم يدخل الجنة ، فلم يبالوا بارتكاب المعاصي والذنوب ، اعتمادا على اتّصال نسبهم بالأنبياء. وهذه الآية مثل قوله تعالى : (وَقالُوا : لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً ، قُلْ : أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللهِ عَهْداً ، فَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ عَهْدَهُ ، أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ؟) [البقرة ٢ / ٨٠].

ولم يثبت في عدد الأيام التي يدخلون فيها النار شيء ، وقيل : هي أربعون يوما ، وهي مدّة عبادتهم للعجل.

__________________

(١) تفسير ابن كثير : ١ / ٣٥٥

١٨٩

وغرهم افتراؤهم في الدين أي خدعهم ما كانوا يختلقونه في الدّين ، كقولهم : نحن أبناء الله وأحباؤه ، وسيشفع لنا الأنبياء ، ونحن أولاد الأنبياء ، وشعب الله المختار ، وإن الله وعد يعقوب ألا يعذّب أبناءه إلا تحلّة القسم أي مدّة قصيرة.

فكيف يصنعون إذا جمعناهم للجزاء في يوم لا شك فيه ، يوم تتقطع فيه الأنساب ، ولا ينفع فيه مال ولا بنون ، يوم توفّى كل نفس ما عملت من خير أو شرّ ، دون نقص ، وهم لا يظلمون فلا يزاد في العذاب شيء ، كما قال تعالى : (وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ ، فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً ، وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها ، وَكَفى بِنا حاسِبِينَ) [الأنبياء ٢١ / ٤٧].

فقه الحياة أو الأحكام :

توجب الآيات الالتزام في الأحكام الشرعية وأحكام القضاء بما أمر الله به في كتابه ، وتندّد بفعل اليهود وغيرهم الذين إذا دعوا إلى التّحاكم بكتاب الله ، وما فيه من اتّباع محمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، تولوا وهم معرضون عن حكم الله. وهذا في غاية ما يكون من ذمّهم ووصفهم بالمخالفة والعناد.

وتندّد الآيات أيضا بمزاعم اليهود أنهم ناجون يوم القيامة من النّار ، وأنهم يعتمدون على الأنساب ، وكونهم من سلالة الأنبياء ، وأنهم شعب الله المختار. والحقيقة أن الجزاء يكون على قدر العمل من خير أو شرّ.

وفي الآية دليل على أن من دعي إلى مجلس الحاكم ليحكم بينه وبين خصمه بكتاب الله ، وجب عليه أن يجيب ، ما لم يعلم أن الحاكم فاسق ، أو يعلم عداؤه من المدعي والمدعى عليه ، فإن لم يجب زجر وعزر.

واستنبط المالكية من الآية أنها تدلّ على أن شرع من قبلنا شرع لنا ، إلا ما علمنا نسخه ، وأنه يجب علينا الحكم بشرائع الأنبياء قبلنا إذا ثبتت من طريق المسلمين بنقل صحيح. وإنما لا نقرأ التوراة ولا نعمل بما فيها ؛ لأن من هي في يده

١٩٠

غير أمين عليها ، وقد غيّرها وبدّلها ، بل ولم يثبت نقلها إلى موسى عليه‌السلام ، وإنما كتبت بعده بخمسة قرون. ولو علمنا أن شيئا منها لم يتغيّر ولم يتبدّل ، جاز لنا قراءته.

والبرهان القاطع الساطع المصادم أن هؤلاء الكتابيين المعتمدين على مجرد الأوهام والمزاعم والأباطيل ، كيف يصنعون إذا حشروا يوم القيامة ، واضمحلت عنهم تلك الزخارف التي ادّعوها في الدّنيا ، وجوزوا بما اكتسبوه من كفرهم واجترائهم وقبيح أعمالهم. وهذا تهديد ووعيد.

دلائل قدرة الله وعظمته وتصرفه في خلقه والتفويض إليه

(قُلِ اللهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٦) تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَتُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (٢٧))

الإعراب :

الجمل كلها في الآية الأولى جمل فعلية في موضع نصب على الحال من ضمير (مالِكَ) ، ويجوز كونها في موضع رفع خبر مبتدأ محذوف ، وتقديره : أنت تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء. وكذلك الجمل في الآية الثانية مثل الآية الأولى في النصب والرفع.

البلاغة :

يوجد طباق بين (تُؤْتِي) و (تَنْزِعُ) ، و (تُعِزُّ) و (تُذِلُ) ، و (اللَّيْلَ) و (النَّهارِ) ، و (الْحَيَ) و (الْمَيِّتِ). ويوجد جناس ناقص بين (مالِكَ) و (الْمُلْكِ).

١٩١

وهناك ما يسمى بردّ العجز على الصدر في (تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ) و (وَتُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ).

والتّكرار في جمل (تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ) للتفخيم والتعظيم.

والإيجاز بالحذف في قوله : (تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ) أي من تشاء أن تؤتيه. وكذا في قوله : (تَنْزِعُ) و (تُعِزُّ) و (تُذِلُ).

وفي قوله : (تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَتُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ) استعارة لإدخال هذا على هذا ، وهذا على هذا ، فما ينقصه الليل يزيده في النهار والعكس. ولفظ الإيلاج أبلغ في التعبير عن الإدخال.

(الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ ...) الحيّ والميّت مجاز عن المؤمن والكافر ، شبه المؤمن بالحيّ والكافر بالميّت.

(بِيَدِكَ الْخَيْرُ) أي والشر خلقا وتقديرا : (قُلْ : كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ) ، ولكنه ذكر الخير دون الشّر تأدّبا مع الله ، فلا ينسب له الشّر أدبا.

المفردات اللغوية :

(اللهُمَ) أي يا الله. (الْمُلْكِ) السلطة والتصرف في الأمور. (تُؤْتِي) تعطي. (تَنْزِعُ) تقلع وتخلع. (مَنْ تَشاءُ) أي من خلقك. (وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ) بإيتائه. (وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ) بنزعه منه. (بِيَدِكَ الْخَيْرُ) بقدرتك الخير ، أي والشرّ خلقا وتقديرا ، لا كسبا وعملا.

(تُولِجُ) تدخل ، ويراد به زيادة زمان النهار في الليل وبالعكس بحسب الفصول والبلاد ، فيزيد كلّ منهما بما نقص في الآخر.

قال السيوطي : (وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ) كإخراج الإنسان من النطفة ، والطائر من البيضة. (وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ) كالنطفة والبيضة. (بِغَيْرِ حِسابٍ) أي رزقا واسعا.

سبب النزول :

أخرج ابن أبي حاتم عن قتادة قال : ذكر لنا أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سأل ربّه أن يجعل ملك الرّوم وفارس في أمته ، فأنزل الله : (قُلِ اللهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ) الآية.

١٩٢

وقال ابن عباس وأنس بن مالك : لما افتتح رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مكّة ، ووعد أمته ملك فارس والرّوم ، قالت المنافقون واليهود : هيهات هيهات ، من أين لمحمد ملك فارس والرّوم؟ هم أعزّ وأمنع من ذلك ، ألم يكف محمدا مكة والمدينة ، حتى طمع في ملك فارس والرّوم؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية.

المناسبة :

هذه الآية بقصد تسلية النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمام موقف المشركين وأهل الكتاب بإنكار دعوته فيما ذكرته الآيات السابقة ، والتذكير له بقدرته تعالى على نصرة دينه وإعلاء كلمته ، فكان المشركون ينكرون النّبوة لرجل يأكل الطعام ويمشي في الأسواق ، وأهل الكتاب ينكرون النّبوة في غير بني إسرائيل.

التفسير والبيان :

إذا أعرض المشركون وأهل الكتاب كوفد نجران عن قبول دعوتك يا محمد ، فالجأ إلى الله مالك الملك وصاحب الأمر ، وتوجه إليه وقل : يا الله ، يا مالك الملك ، لك السلطان المطلق ، وأنت المتصرف في خلقك ، الفعّال لما تريد ، ومدبّر الأمور على وفق حكمتك ، فأنت المعطي وأنت المانع ، تؤتي الملك والنّبوة من تشاء من عبادك ، وتنزع الملك ممن تشاء من خلقك ، كما نزعت النّبوة من بني إسرائيل ببعثة رسولك العربي القرشي الأمي المكي خاتم الأنبياء على الإطلاق ، ورسول الله إلى جميع الثقلين : الإنس والجن.

والظاهر المتبادر أن المراد بالملك : السلطة والتصرف في الأمور ، وأنه تعالى صاحب السلطان المطلق في تدبير الأمور وتحقيق التوازن في الكائنات.

والله يعطي من يشاء إما النّبوة فقط كهود ولوط ، وإما الملك فقط كالملوك الغابرين والمعاصرين ، وإما الملك والنّبوة كآل إبراهيم ومنهم داود وسليمان :

١٩٣

(فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ ، وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً) [النساء ٤ / ٥٤] ، وهكذا يعطي النّبوة لمن يريد ، كما قال تعالى : (اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ) [الأنعام ٦ / ١٢٤] ، وقال : (انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ) [الإسراء ١٧ / ٢١].

وتعزّ من تشاء وتذلّ من تشاء ، وللعزّة والذلّة مظاهر وآثار ، ولا يتوقف ذلك على الملك أو المال ، فكم من ملك ذليل ، وكم من غني مهين ، وكم من فقير عزيز. ولا عبرة بكثرة عدد الأمة وقلّتها ، فقد كان المشركون في مكة واليهود ومنافقو العرب في المدينة يغترون بكثرتهم على النّبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم والفئة القليلة المؤمنة ، ولكن ذلك لم يغن عنهم شيئا ، كما قال تعالى : (يَقُولُونَ : لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ ، وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ ، وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ) [المنافقون ٦٣ / ٨].

بقدرتك وحدك الخير كلّه ، تتصرّف فيه بحسب مشيئتك ، فكل ما كان أو يكون فيه الخير والنعمة إما لصاحبه أو للجماعة ، إنك صاحب القدرة المطلقة على كل شيء ، خير أو شرّ ، فأنت المفوض إليك كل شيء ، ونحن المتوكّلون عليك.

وذكر الخير ، مع أنّ كلّا من الخير والشّر بقدرته ، لمناسبته للمقام ، بتحويل النّبوة والملك من قوم إلى قوم ومن شخص إلى شخص.

والخير : شامل للنصر والغنيمة والعزّة والجاه والمال ونحو ذلك مما يرغب به الإنسان ويحرص عليه : (وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ).

ومن مظاهر القدرة الإلهية وإبراز تمام الملك والعظمة إدخال الليل في النهار ، زيادة ونقصا ، فتأخذ من طول هذا ، فتزيده في قصر هذا ، فيعتدلان ، ثم تأخذ من هذا في هذا ، فيتفاوتان ، ثم يعتدلان ، وقد يطول التفاوت جدا في بعض البلاد والأوقات ، وهكذا يتفاوت طول الليل والنهار وقصره بحسب فصول

١٩٤

السنة ربيعا وصيفا وخريفا وشتاء ، وبحسب مواقع البلدان الجغرافية ، فقد يكون الليل ستة أشهر والنهار كذلك ، وقد يطول النهار إلى ثماني عشرة أو عشرين ساعة ، وقد تطلع الشمس في بعض البلاد والأزمان بعد غروبها بساعة أو أكثر. بيده تعالى أمر الزمان ، كما قال : (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ ، وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ ، وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ ، سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) [الزمر ٣٩ / ٦٧]. وهو الذي خلق الأرض مكورة يلف عليها الليل والنهار : (يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ) [الزمر ٣٩ / ٥] ، والتّكوير : اللف على الجسم المستدير ، وجعل الشمس دليلا على النّهار.

وتخرج الحيّ من الميّت إما إخراجا ماديا كالنخلة من النواة ، والزرع من الحب ، والإنسان من النّطفة ، والطائر من البيضة ، أو إخراجا معنويا كالعالم من الجاهل والمؤمن من الكافر.

وتخرج الميّت من الحيّ ماديا ومعنويا أيضا كالنّواة من النّخلة ، والبيضة من الطائر ، والجاهل من العالم ، والكافر من المؤمن.

وفسّر بعض الأطباء إخراج الحيّ من الميّت : بأن الحيّ ينمو بأكل أشياء ميتة ، فالصغير يكبر جسمه بتغذية اللبن أو غيره ، والغذاء شيء ميّت. وأما إخراج الميت من الحيّ فهو الإفرازات مثل اللبن ، فهو سائل ليس فيه حياة ، ومثله اللحوم ومنتجات الزروع والنباتات ، بخلاف النّطفة فإن فيها حيوانات حيّة ، وهكذا ينمو الحيّ من الميّت ، ويخرج الميّت من الحيّ.

وترزق من تشاء بغير حساب ، أي تعطي من شئت من المال والرّزق بغير عدّ ولا حصر ولا إحصاء ، ولا إعياء ولا تعب (١) ، فلك خزائن السّموات والأرض ،

__________________

(١) كلمة الحساب في القرآن : إما بمعنى العدد ، مثل : (إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ) ، وإما بمعنى التعب في هذه الآية ، وإما بمعنى المطالبة ، مثل : (فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ).

١٩٥

وتقتّر على آخرين على وفق حكمتك وإرادتك ومشيئتك. فقوله : (بِغَيْرِ حِسابٍ) أي بغير تضييق ولا تقتير ، كما تقول : فلان يعطي بغير حساب ، كأنه لا يحسب ما يعطي.

وأنت القادر على انتزاع الملك من العجم إلى العرب ، والنّبوة من بني إسرائيل إلى العرب.

فقه الحياة أو الأحكام :

دلّت الآيات على أن الله تعالى صاحب السلطان المطلق ، والقدرة الشاملة ، والإرادة والمشيئة العليا ، بيده الخير والشّر خلقا وتقديرا ، لا كسبا ، فالخير منه مطلقا ، والشّر لا ينسب إليه أدبا ، وإنما ينسب لفاعله.

وإنّ النّبوة والملك والرّزق بيده تعالى ، يمنحها بحسب الإرادة ومقتضى الحكمة البالغة ، والحجة التامة.

وإنّ إدخال الليل بالنهار وإدخال النهار بالليل دليل على كروية الأرض ودورانها ؛ لأن تعاقب الليل والنهار ، وتفاوت مقدارهما بحسب الفصول والأزمنة والأمكنة يشير إلى الكروية والدوران.

ويخرج الله الحيّ من الميّت ، والميّت من الحيّ بكلّ من المعنى المادي والمعنوي المتقدم. وإنعامه عام يتولى من يشاء ، والرزق على الله مضمون ، يعطي منه ما يشاء ويمنع بمقتضى الحكمة والإرادة والمشيئة.

روى الطبراني عن ابن عباس عن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «اسم الله الأعظم الذي إذا دعي به أجاب : في هذه الآية من آل عمران : (قُلِ اللهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ ، وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)».

١٩٦

موالاة الكافرين والتحذير من الآخرة

(لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ (٢٨) قُلْ إِنْ تُخْفُوا ما فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللهُ وَيَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٩) يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَاللهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ (٣٠))

الإعراب :

(لا يَتَّخِذِ) لا ناهية ، فالفعل مجزوم ، أو نافية ، فالفعل مرفوع ، وتكون الجملة خبرية في معنى النهي.

(فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ) أي ليس من دين الله أو ثواب الله في شيء ، فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه. (مِنَ اللهِ) في موضع نصب على الحال ؛ لأن التقدير : فليس في شيء كائن من دين الله. فلما قدم صفة النكرة عليها انتصب على الحال. و (فِي شَيْءٍ) : في موضع نصب ، خبر ليس. و (تُقاةً) منصوبة على المصدر. وأصلها وقية فأبدل الواو تاء ومن الياء ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها ، فصارت تقاة.

(يَوْمَ تَجِدُ) يوم : منصوب بفعل مقدر ، وتقديره : اذكر يوم تجد كل نفس.

(وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ) ما : إما بمعنى الذي ، وهي معطوفة بالنصب على (ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ) وجملة : تودّ منصوبة على الحال ، أو هي مرفوعة مبتدأ وخبره : (تَوَدُّ). وإما أن تكون (ما) شرطية مبتدأ ، وعملت : فعل الشرط ، و (تَوَدُّ) : جواب الشرط خبر المبتدأ.

البلاغة :

يوجد طباق في (تُخْفُوا) و (تُبْدُوهُ) ، وفي (مِنْ خَيْرٍ) و (مِنْ سُوءٍ) ، وفي (مُحْضَراً) و (بَعِيداً).

١٩٧

المفردات اللغوية :

(أَوْلِياءَ) مفرده ولي وهو النصير والمعين. (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ) أي يواليهم. (فَلَيْسَ مِنَ اللهِ) أي ليس من دين الله في شيء. (إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً) مصدر تقية ، أي تخافوا مخافة ، فلكم موالاتهم باللسان دون القلب. وهذا في حال ضعف المسلم بأن يكون في بلد ليس قويا فيها. (وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ) يخوّفكم الله أن يغضب عليكم إن واليتموهم. (وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ) المرجع ، فيجازيكم. (مُحْضَراً) حاضرا لديها. (أَمَداً بَعِيداً) الأمد : المدة التي لها حدّ محدود ، والمراد : غاية في نهاية البعد ، فلا يصل إليها. (وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ) كرر للتأكيد.

سبب النزول :

نزول الآية (٢٨):

أخرج ابن جرير الطبري عن ابن عباس قال : كان الحجاج بن عمرو حليف كعب بن الأشرف ، وابن أبي الحقيق ، وقيس بن زيد ـ وهؤلاء كانوا من اليهود ـ قد بطنوا (لازموا) بنفر من الأنصار ، ليفتنوهم عن دينهم ، فقال رفاعة بن المنذر ، وعبد الله بن جبير ، وسعيد بن خيتمة لأولئك النفر : اجتنبوا هؤلاء النفر من يهود ، واحذروا مباطنتهم (ملازمتهم) ، لا يفتنوكم عن دينكم ، فأبوا ، فأنزل الله فيهم : (لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ ..) الآية.

أي أن هذه الآية نزلت في جماعة من المؤمنين كانوا يوالون رجالا من اليهود ، فحذرهم جماعة من المؤمنين من تلك الموالاة أو المخالطة والمصاحبة ، فأبوا النصيحة ، وظلّوا على ملازمة اليهود ومباطنتهم ، فأنزل الله تعالى هذه الآية.

وروي أيضا عن ابن عباس : نزلت في عبادة بن الصامت الأنصاري البدري النقيب ، وكان له حلفاء من اليهود ، فلما خرج النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم الأحزاب ، قال عبادة : يا نبي الله ، إن معي خمسمائة رجل من اليهود ، وقد رأيت أن يخرجوا معي ، فأستظهر بهم على العدو ، فأنزل الله تعالى: (لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ) الآية.

١٩٨

المناسبة :

بعد أن أبان الله تعالى أن الأمر بيد الله ، وأنه مالك الملك ، المعزّ والمذلّ ، المعطي والمانع ، وأنه على كلّ شيء قدير ، نبّه المؤمنين إلى أنه يجب الالتجاء إليه وحده والاستعانة بأوليائه دون أعدائه ، وأنه لا ينبغي لهم أن يوالوا أعداءه ، أو يستعينوا بهم لقرابة أو صداقة قديمة.

وقد جاء في هذا المعنى آيات كثيرة ، منها : (لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبالاً) [آل عمران ٣ / ١١٨] ، (لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ) [المجادلة ٥٨ / ٢٢] ، (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ ، بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ ، وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ) [المائدة ٥ / ٥١] ، (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ ، أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً مُبِيناً) [النساء ٤ / ١٤٤] ، (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ ...)إلى قوله : (وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ) [الممتحنة ٦٠ / ١] ، (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ ، إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسادٌ كَبِيرٌ) [الأنفال ٨ / ٧٣].

وفي مقابل ذلك قال تعالى : (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) [التوبة ٩ / ٧١].

التفسير والبيان :

نهى الله تعالى عباده المؤمنين أن يوالوا الكافرين ، ثم توعّد على ذلك بقوله : (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ) فلا يحلّ للمؤمنين اتّخاذ الكافرين أولياء لقرابة أو صداقة أو جوار ونحو ذلك ، يطلعونهم على أسرارهم ، ويودونهم ، ويقدمون مصلحتهم على مصلحة المؤمنين ، وإن كان في ذلك مصلحة خاصة ،

١٩٩

فالمصلحة العامة أولى وأحقّ بالمراعاة. فإن كانت الموالاة والمحالفة لمصلحة المسلمين ، فلا مانع منها ، فقد حالف النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم خزاعة ، وهم على شركهم.

وإنما الواجب موالاة المؤمنين بعضهم بعضها ، والاعتماد عليهم في الشؤون العامة. قال ابن عباس : نهى الله أن يلاطفوا الكفار ، فيتّخذوهم أولياء.

ومعنى الموالاة الممنوعة : الاستنصار بهم والتعاون معهم والاستعانة بهم لقرابة أو محبة ، مع اعتقاد بطلان دينهم ؛ لأن الموالاة قد تجرّ إلى استحسان طريقتهم ، والموالاة بمعنى الرّضا بكفرهم كفر ، لأن الرّضا بالكفر كفر.

أما الموالاة بمعنى المعاشرة الجميلة في الدّنيا بحسب الظاهر ، مع عدم الرّضا عن حالهم ، فليس ممنوعا منه.

ومن يوالي الكافرين من غير المؤمنين أي يتجاوز المؤمنين إلى الكفار ، كأن يكون جاسوسا للكفار ، فليس من دين الله ولا من حزبه أو من ولاية الله في شيء ، أي يكون بينه وبين الله غاية البعد ، ويطرد من رحمته ، ويكون منهم ، ولا يكون مطيعا لدينه ، كما قال : (وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ) ، وقوله : (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ) : إشارة إلى اتّخاذهم أولياء ، وهذا يدلّ على المبالغة في ترك الموالاة ؛ إذ نفى عن متوليهم أن يكون في شيء من الله.

ثم استثنى سبحانه حالة تجوز فيها موالاة الكفار ، وهي حالة الخوف من شيء ، يجب اتّقاؤه منهم ، كالقتل مثلا أي حال اتّقاء الضّرر ؛ فتجوز موالاتهم حينئذ ؛ لأن «درء المفاسد مقدّم على جلب المصالح». وإذا جازت موالاتهم لدفع الضّرر ، فتجوز لنفع الإسلام والمسلمين. ويكون ذلك للضّرورة ، مثل النّطق بالكفر حال الإكراه : (إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ) [النحل ١٦ / ١٠٦].

ويحذركم الله عقابه ، وفي ذكر (نَفْسَهُ) إشارة إلى أن الوعيد صادر منه

٢٠٠