التفسير المنير - ج ٣

الدكتور وهبة الزحيلي

٥ ـ إثبات الفلاح للمؤمنين : ختمت السورة الثانية بقوله تعالى : (وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) وهو ما بدئت به السّورة الأولى بقوله تعالى واصفا المؤمنين : (أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ).

ما اشتملت عليه السورة :

تضمّنت هذه السّورة الكلام على جانبي العقيدة والتّشريع ، أما العقيدة : فقد أثبتت الآيات وحدانية الله ، والنّبوة ، وصدق القرآن ، وإبطال شبهات أهل الكتاب حول القرآن والنّبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وإعلان كون الدّين المقبول عند الله هو الإسلام ، ومناقشة النصارى في شأن المسيح وألوهيته والتكذيب برسالة الإسلام ، واستغرقت المناقشة قرابة نصف السورة ، كما استغرقت سورة البقرة ما يزيد عن ثلثها في مناقشة اليهود وتعداد قبائحهم وجرائمهم ، بالإضافة إلى ما تضمنته هذه السّورة من تقريعاتهم ، والتحذير من مكائد أهل الكتاب.

وأما التّشريع : فقد أبانت الآيات بعض أحكام الشرع مثل فرضية الحج والجهاد وتحريم الرّبا وجزاء مانع الزّكاة ، وبعض الدروس والعبر والعظات من غزوتي بدر وأحد ، والتّنديد بمواقف أهل النّفاق.

ثم ختمت السورة بما يناسب الجانبين ، فطالبت بالتّفكير والتّدبّر في خلق السّموات والأرض وما فيهما من عجائب وأسرار ، وأوصت بالصبر على الجهاد والمرابطة في سبيل الله ، ليحظى الإنسان برتبة الفلاح : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ).

سبب التّسمية :

سميت السورة سورة آل عمران لإيراد قصة أسرة عمران والد مريم أم عيسى فيها ، وإعداد مريم التي نذرتها أمها للعبادة ، وتسخير الله الرّزق لها في المحراب

١٤١

واصطفائها وتفضيلها على نساء عالمي زمانها ، وتبشيرها بإنجاب عيسى صاحب المعجزات (١)

وسميت آل عمران والبقرة بالزّهراوين ؛ لأنّهما النّيّرتان الهاديتان قارئهما للحقّ بما فيهما من أنوار ، أي معان ، أو لما يترتب على قراءتهما من النور التام يوم القيامة ، أو لأنهما اشتركتا فيما تضمنه اسم الله الأعظم ، روى أبو داود وابن ماجه وغيرهما عن أسماء بن يزيد أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن اسم الله الأعظم في هاتين الآيتين : (وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ) ، والتي في آل عمران : (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ)».

فضلها :

أخرج مسلم عن النّواس بن سمعان قال : سمعت النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «يؤتى يوم القيامة بالقرآن وأهله الذين كانوا يعملون به ، تقدمه سورة البقرة وآل عمران» ، وأخرج أيضا عن أبي أمامة الباهلي قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «اقرؤوا القرآن ، فإنه يأتي يوم القيامة شفيعا لأصحابه ، اقرؤوا الزّهراوين : البقرة وسورة آل عمران ، فإنهما يأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان أو كأنهما غيايتان ، أو كأنهما فرقان من طير صواف ، تحاجّان عن أصحابهما ، اقرؤوا سورة البقرة ، فإن أخذها بركة ، وتركها حسرة ، ولا يستطيعها البطلة» (٢).

__________________

(١) وسميت السورة أيضا : الزهراء والأمان والكنز والمعينة والمجادلة وسورة الاستغفار وطيبة (البحر المحيط : ٢ / ٣٧٣).

(٢) الغمامة : السحاب الملتف ، وهو الغياية ، إذا كانت قريبا من الرأس ، وهي الظّلّة أيضا ، والمعنى أن قارئهما في ظل ثوابهما ، كما جاء في حديث «الرجل في ظل صدقته». تحاجان : أي يخلق الله من يجادل عنه بثوابهما ملائكة. والبطلة : السّحرة.

١٤٢

إثبات التوحيد وإنزال الكتاب

(الم (١) اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (٢) نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ (٣) مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَاللهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ (٤) إِنَّ اللهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ (٥) هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٦))

الإعراب :

(الم) : أحرف مقطعة مبنية غير معربة ، وكذلك سائر حروف الهجاء في أوائل السور ، كما قلنا أول البقرة ، إلا أنه فتحت الميم هاهنا لسكونها وسكون اللام بعدها. وأما قول من قال : إنها فتحت لالتقاء الساكنين ، ففاسد ؛ لأنه لو كان كذلك ، لوجب فتحها في (الم ذلِكَ الْكِتابُ) وفي (حم) وفي (ن) وفي كل حرف من حروف التهجي التي في أوائل السور.

(اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) : الله : مبتدأ ، ولا إله : مبتدأ ثان ، وخبره محذوف وتقديره : لا إله معبود إلا هو ، والمبتدأ الثاني وخبره خبر عن المبتدأ الأول. و «هو» مرفوع لوجهين : أحدهما ـ لكونه مرفوعا على البدل من موضع : لا إله ، والثاني : لكونه خبر : لا إله. ويجوز جعل الجملة في موضع نصب على الحال من الله تعالى ، أو حال من ضمير (نَزَّلَ).

(بِالْحَقِ) جار ومجرور في موضع نصب على الحال وعامله فعل مقدر وتقديره : نزل عليك الكتاب كائنا بالحق.

(مُصَدِّقاً) حال من ضمير الحق ، وتقديره : نزّل عليك الكتاب محققا مصدقا لما بين يديه. وكلتا الحالين مؤكدة.

١٤٣

(التَّوْراةَ) في مذهب البصريين على وزن فوعلة ، وأصله : وورية ، فأبدلت الواو الأولى تاء ، وقلبت الياء ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها. (مِنْ قَبْلُ) مبني ؛ لأنه مقطوع عن الإضافة (هُدىً) حال بمعنى هادين من الضلالة.

البلاغة :

(نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ) عبر عن القرآن بالكتاب ، لكمال تفوقه على بقية الكتب السماوية.

(لِما بَيْنَ يَدَيْهِ) كناية عما تقدمه من الكتب السماوية ، وعبر بذلك لصلته الوثيقة بها ولظهوره واشتهاره.

(وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ) أي أنزل سائر ما يفرق بين الحق والباطل ، وهو من باب عطف العام على الخاص ، حيث ذكر الكتب الثلاثة أولا ، ثم عمّ الكتب كلها.

المفردات اللغوية :

(الم) الحروف المقطعة في أوائل السور للتنبيه مثل ألا ويا ، لتنبيه المخاطب إلى ما يلقى بعدها (إِلهَ) الإله هو المعبود بحق (الْحَيُ) ذو الحياة ، وهي صفة تستلزم الاتصاف بالعلم والإرادة (الْقَيُّومُ) القائم على كل شيء بحفظه ورعايته.

(نَزَّلَ عَلَيْكَ) يا محمد (الْكِتابَ) القرآن مقترنا بالحق أي الصدق في أخباره فكل ما فيه حق لا شك فيه. ونزل : تفيد التدرج ، والقرآن نزل في نيف وعشرين سنة بحسب الحوادث.

(التَّوْراةَ) كلمة عبرية معناها الشريعة ، وتشتمل على خمسة أسفار هي «سفر التكوين ، وسفر الخروج ، وسفر اللاويين ، وسفر العدد ، وسفر تثنية الاشتراع» ويقول اليهود : إن موسى كتبها ، ويسميها النصارى : العهد القديم أو العتيق ، وفيها حكاية قصص الأنبياء وتاريخ بني إسرائيل قبل المسيح. (الْإِنْجِيلَ) كلمة يونانية ، معناها التعليم الجديد أو البشارة. ويسمى العهد الجديد ، ويشتمل في سيرة المسيح عليه‌السلام وبعض تعاليمه على أربعة أناجيل هي إنجيل متى ويوحنا ومرقس ولوقا وعلى أعمال الرسل (الحواريين) ورسائل بولس وبطرس ويوحنا ويعقوب ، ورؤيا يوحنا ، وهي كلها مكتوبة بعد قرن أو قرنين من وفاة المسيح ، وليس لها سند متصل إلى كاتبها.

والتوراة في عرف القرآن : ما أنزل الله على موسى ، والإنجيل : ما أوحاه الله إلى عيسىعليه‌السلام ، وفيه البشارة بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأنه هو الذي يتمم الشريعة.

(مِنْ قَبْلُ) تنزيله (هُدىً) هادين من الضلالة (لِلنَّاسِ) ممن تبعهما. وعبر عن

١٤٤

التوراة والإنجيل بأنزل ، وعن القرآن بنزّل ؛ لأنهما نزلا دفعة واحدة ، وأما القرآن فنزل تدريجيا ، والتعبير عن الوحي بالتنزيل أو بالإنزال للإشارة بأن منزلة الموحي أعلى من منزلة الموحى إليه ، فتكرار (نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ) لاختلاف الإنزال بآيات الله وكيفيته وزمانه ، والله كرر اسمه تعالى تفخيما ؛ لأن في ذكر الظاهر من التفخيم ما ليس في ذكر المضمر.

(الْفُرْقانَ) ما يفرق بين الحق والباطل كالدلائل والبراهين ، وهو عموم بعض خصوص ليعم ما عدا الكتب الثلاثة. (بِآياتِ اللهِ) القرآن وغيره (وَاللهُ عَزِيزٌ) غالب على أمره ، فلا يمنعه شيء من إنجاز وعده ووعيده (ذُو انْتِقامٍ) عقاب شديد ممن عصاه ، لا يقدر على مثله أحد.

(إِنَّ اللهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ) كائن في الأرض ولا في السماء ، لعلمه بما يقع في العالم من كلي وجزئي ، وخصهما بالذكر ؛ لأن الحس لا يتجاوزهما.

(هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ) التصوير : جعل الشيء على صورة لم يكن عليها ، والأرحام : جمع رحم ، وهو مستودع الجنين من المرأة (كَيْفَ يَشاءُ) من ذكورة وأنوثة وبياض وسواد وطبائع وأخلاق وغير ذلك.

(الْعَزِيزُ) في ملكه (الْحَكِيمُ) في صنعه.

سبب النزول :

أخرج ابن أبي حاتم وابن جرير الطبري وابن إسحاق وابن المنذر (١) أن هذه الآيات إلى بضع وثمانين آية نزلت في وفد نصارى نجران ، وفدوا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكانوا نحو ستين راكبا ، فيهم أربعة عشر من أشرافهم ، وعلى رأسهم أميرهم ووزيرهم وحبرهم ، وخاصموه في عيسى ابن مريم ، وقالوا له : من أبوه؟ وتكلم منهم ثلاثة ، فمرة قالوا : عيسى ابن مريم إله ؛ لأنه يحيي الموتى ؛ وتارة هو ابن الله ، إذ لم يكن له أب ؛ وتارة هو ثالث ثلاثة لقوله تعالى : «قلنا ، وفعلنا» ولو كان واحدا ، لقال : قلت وفعلت.

__________________

(١) أسباب النزول للواحدي : ص ٥٣ ، البحر المحيط : ٢ / ٣٧٣ وما بعدها.

١٤٥

وقالوا على الله الكذب والبهتان ، فقال لهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ألستم تعلمون أنه لا يكون ولد إلا وهو يشبه أباه؟ قالوا : بلى. قال : ألستم تعلمون أن ربنا حي لا يموت ، وأن عيسى أتى عليه الفناء؟ قالوا : بلى. قال : ألستم تعلمون أن ربنا حي قيّم على كل شيء يحفظه ويرزقه؟ قالوا : بلى. قال : فهل يملك عيسى من ذلك شيئا؟ قالوا : لا. قال : فإن ربنا صوّر في الرّحم كيف شاء ، وربنا لا يأكل ولا يشرب ولا يحدث؟ قالوا : بلى. قال : ألستم تعلمون أن عيسى حملته أمه كما تحمل المرأة ، ثم وضعته ، كما تضع المرأة ولدها ، ثم غذّي كما يغذّى الصبي ، ثم كان يطعم ويشرب ويحدث؟ قالوا : بلى. قال : فكيف يكون هذا كما زعمتم؟ فسكتوا ، فأنزل الله عزوجل فيهم صدر سورة آل عمران ، إلى بضعة وثمانين آية منها.

التفسير والبيان :

بدأ الله تعالى السورة بإثبات التوحيد أساس الدين لينفي عقيدة التثليث ، ثم أبان أنه تعالى أنزل الكتب على الأنبياء ، وأن عيسى نبي مثلهم فهو منزل عليه ، وأن الله هو صاحب القدرة المطلقة الذي يصور في الأرحام ، ليرد على ولادة عيسى من غير أب ، إذ الولادة من غير أب ليست دليلا على الألوهية ، فآدم مخلوق من غير أب ولا أم ، والخالق هو الإله ، والمخلوق عبد كيفما خلق.

ألم : الحروف المقطعة لتحدي العرب بالإتيان بشيء من مثل القرآن ، ما دام هو مكوّنا من لغتهم ومن الحروف التي ينطقون بها وتتركب منها كلماتهم.

الله لا معبود بحق في الوجود سواه ؛ لأنه الخالق المسيطر على الكون والنفوس ، ولأنه مصدر الخير ودافع الضر ، الحي الدائم الحياة التي لا أول ولا نهاية لها ، القائم على خلقه بالتدبير والتصريف ، وعلى السموات والأرض قبل خلق عيسى ، فكيف قامت ودبّرت قبل وجوده وبعد موته؟!

١٤٦

والله هو الذي نزّل القرآن عليك يا محمد بالحق الذي لا شك ولا شبهة فيه ، مصدقا ومؤيدا ما تقدمه من الكتب المنزلة على الأنبياء السابقين ، وهو تصديق إجمالي لا تفصيلي في أصل الوحي وأصل الرسالة الداعية إلى توحيد الإله ومكارم الأخلاق ، والإخبار والبشارة ، فهي تصدقه بما أخبرت به وبشرت قديما ، وهو يصدقها ؛ لأنه طابق ما أخبرت به وبشرت من الوعد من الله بإرسال محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإنزال القرآن العظيم عليه.

وأنزل التوراة على موسى ، والإنجيل على عيسى من قبل القرآن ، هداية للناس في زمانهما ، وإرشادا ، فالله هو الذي أنزل الوحي والشرائع قبل وجود عيسى وبعده ، وليس عيسى مصدر الوحي ، وإنما هو كغيره من الأنبياء متلقّ للوحي ، فكيف يكون إلها؟!

وأنزل الله الفرقان : وهو الفارق بين الهدى والضلال ، والحق والباطل ، والغي والرشاد ، بالدلائل والبينات الواضحات ، والبراهين القاطعات.

إن الذين كفروا بآيات الله الواضحة الدالة على توحيده وتنزيهه عما لا يليق ، أي جحدوا بها وأنكروها وردوها بالباطل ، لهم عذاب شديد يوم القيامة بسبب كفرهم ، والله منيع الجناب عظيم السلطان ، ذو انتقام ممن كذب بآياته وخالف رسله الكرام ، ينفذ بعزته مراده ، وينتقم ممن خالف وحيه.

وإن الله لا يخفى عليه شيء في الكون ، فيعلم حال الصادق في إيمانه ، وحال الكافر والمنافق والمكره على الكفر وقلبه مطمئن بالإيمان. وعيسى وغيره لا يعلم شيئا من ذلك ، فكيف يكون إلها؟

والله هو الذي يخلق الإنسان في الرحم كما يشاء ، ذكرا أو أنثى ، حسنا وقبيحا وغير ذلك من الطبائع والألوان والمقادير والسلامة والعاهة ، وعيسى وغيره لا يصوّر أحدا في رحم ولا يخلق شيئا ، بل هو مصوّر مخلوق في رحم أمه ،

١٤٧

وخارج منه ، فكيف يكون إلها؟

لا إله إلا هو العزيز الحكيم : أي هو الخالق الموجد المستحق للألوهية وحده لا شريك له ، الواحد الأحد الفرد الصمد ، المنزه عن الوالد والولد ، العزيز الذي لا يغلب ، الحكيم المنزه عن العبث الذي يضع الأمور في محالّها على وفق الحكمة. وهذا دليل صريح بأن عيسى عبد مخلوق ، كما خلق الله سائر البشر ؛ لأن الله صوّره في الرحم ، وخلقه كما يشاء ، فكيف يكون إلها ، كما زعمت النصارى؟ وقد تدرج خلقه ، وتنقل من حال إلى حال ، كما قال تعالى : (يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ ، خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ ، فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ) [الزمر ٣٩ / ٦].

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت الآيات على أن الله تعالى هو الذي أنزل الكتب السماوية على الأنبياء ، وأن هذه الكتب يصدّق بعضها بعضا ؛ لأن غايتها واحدة ، وهدفها واحد وهو إرشاد الناس إلى الحق ، والإقرار بتوحيد الإله ، والاعتراف بوجوده.

وإنزال الكتب ، والخلق والإيجاد في الأرحام ، والعلم بغيب السماء والأرض دون أن يخفى عليه شيء كلي أو جزئي : أدلة وبراهين ثلاثة قاطعة تثبت الألوهية لله وحده ، دون مشاركة أحد من خلقه له ، أو اتصاف بشر بما يزعم المبطلون من ألوهية إنسان مخلوق ضعيف بحاجة إلى الخالق في كل أموره ، سبحانه لا إله إلا هو ، أي لا خالق ولا مصوّر سواه ، وذلك دليل على وحدانيته ، فكيف يكون عيسى إلها مصوّرا وهو بشر مصوّر؟!

١٤٨

المحكم والمتشابه في القرآن

(هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الْأَلْبابِ (٧) رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (٨) رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ (٩))

الإعراب :

(مِنْهُ آياتٌ) جار ومجرور في موضع نصب على الحال من الكتاب ، وتقديره : أنزل عليك الكتاب كائنا منه آيات. وآيات : فاعل لاسم الفاعل : كائن ، المقدر. ومحكمات : صفة لآيات. (هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ) : جملة اسمية في موضع رفع صفة لآيات أيضا. (وَأُخَرُ) معطوف على قوله : آيات محكمات. وأخر : ممنوع من الصرف للوصف والعدل ، معدول عن آخر.

(وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) إما مبتدأ ، وخبره : آمنا به ، وإما عطف على الله تعالى ، فكأنه قال : لا يعلم تأويله إلا الله ويعلمه الراسخون. والهاء في تأويله : تعود على المتشابه.

البلاغة :

(هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ) استعارة ، شبّه أصول الآيات المحكمات بالأم ، وسائر الآيات يتبعها أو يتعلق بها ، كما يتعلق الولد بأمه.

(وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) استعارة أيضا ، شبه المتمكنين في العلم بالأشياء الثقيلة الراسخة في الأرض.

١٤٩

المفردات اللغوية :

(مُحْكَماتٌ) واضحات الدلالة ، لا خلاف في معناها ، من أحكم الشيء : وثقه وأتقنه ، مفردها محكم : وهو ما عرف تأويله وفهم معناه وتفسيره (أُمُّ الْكِتابِ) أصله المعتمد عليه في الأحكام (مُتَشابِهاتٌ) هي التي لم يظهر معناها ولم يتضح ، بل خالف ظاهر اللفظ المعنى المراد ، كأوائل السور. وقال القرطبي : المتشابه : ما استأثر الله بعلمه دون خلقه ، ولم يكن لأحد إلى علمه سبيل ، مثل وقت قيام الساعة ، وخروج يأجوج ومأجوج ، وخروج الدجال ، والدابة التي تكلم الناس إذا وقع القول عليهم ، ونحو ذلك.

وجعل الكتاب في آية أخرى : (أُحْكِمَتْ آياتُهُ) كله محكما : بمعنى أنه ليس فيه عيب ، وفي آية أخرى : (كِتاباً مُتَشابِهاً) كله متشابها : بمعنى أنه يشبه بعضه بعضا في الحسن والصدق. فلكل آية معنى خاص غير الآخر ، فلا تعارض بين الآيات.

(زَيْغٌ) : ميل عن الحق إلى الأهواء الباطلة (ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ) : طلب الفتنة لجهالهم بوقوعهم في الشبهات واللبس (وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ) : تفسيره (وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ) تفسيره ومعرفة حقيقته وبيان ما يؤول إليه في الواقع (الرَّاسِخُونَ) : المتمكنون في العلم المتفقهون في الدين المتأكدون منه ، وهو أبلغ من قول : والثابتون في العلم (آمَنَّا بِهِ) أي بالمتشابه أنه من عند الله ولا نعلم معناه (كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا) : أي كل من المحكم والمتشابه من عند الله. (وَما يَذَّكَّرُ) يتعظ (أُولُوا الْأَلْبابِ) أصحاب العقول.

(رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا) أي ويقولون أيضا إذا رأوا من يتبعه : ربنا لا تمل قلوبنا عن الحق بابتغاء تأويله الذي لا يليق بنا ، كما أزغت قلوب أولئك. (بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا) أرشدتنا إليه (وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ) من عندك (رَحْمَةً) عناية إلهية وتوفيقا وتثبيتا على الحق.

(جامِعُ النَّاسِ) جمع الناس : حشرهم للحساب والجزاء (لا رَيْبَ فِيهِ) لا شك في وقوعه ، وهو يوم القيامة ؛ لأنك أخبرت به ، وقولك الحق ، فتجازي الناس بأعمالهم ، كما وعدت بذلك. (إِنَّ اللهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ) موعده بالبعث فيه. فيه التفات عن الخطاب إلى الغيبة. والغرض من الدعاء بذلك : بيان أن همهم أمر الآخرة ، ولذلك سألوا الثبات على الهداية ، لينالوا ثوابها.

التفسير والبيان :

يخبر الله تعالى أن في القرآن آيات محكمات وآيات متشابهة في الدلالة على كثير من الناس أو بعضهم ، فالمحكم العبارة : هو الواضح الدلالة التي لا التباس فيها

١٥٠

على أحد ، والمتشابه : هو الذي لم يظهر معناه ولم يتضح المراد منه بسبب التعارض بين ظاهر اللفظ والمعنى المراد منه ، أو هو ما استأثر الله بعلمه من أحوال الآخرة. وهذا الإخبار للرد على النصارى الذين يستدلون ببعض آيات القرآن التي يفيد ظاهرها تميز عيسى على غيره من البشر. والمراد بالكتاب هنا : القرآن باتفاق المفسرين.

والمحكم :

مثل قوله تعالى : (قُلْ : تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً) وما بعدها من الآيات [الأنعام ٦ / ١٥١ ـ ١٥٣] ، وقوله تعالى : (وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) والآيات الثلاث بعدها من سورة [الإسراء ١٧ / ٢٣ ـ ٢٦] وقوله عزوجل في شأن عيسى : (إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ وَجَعَلْناهُ مَثَلاً لِبَنِي إِسْرائِيلَ) [الزخرف ٤٣ / ٥٩]. فهذه الآيات وأمثالها وهي تمثل أغلب القرآن في تبيان أحكام الفرائض وأصول الاعتقاد والأمر والنهي والحلال والحرام ، كلها واضحة الدلالة على المعنى المراد ولا تحتمل أي معنى آخر ، هي أم الكتاب أي أصل القرآن وعماده ومعظمه ، وغيرها متفرع عنها تابع لها ، فإن اشتبه علينا آية منها ، ردت إلى المحكم وحملت عليه ، كقوله تعالى في شأن عيسى : (وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ) [النساء ٤ / ١٧١] يحمل على قوله : (إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ) [الزخرف ٤٣ / ٥٩] وقوله سبحانه: (إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ) [آل عمران ٣ / ٥٩] أي أننا نؤمن بأن كل الآيات من عند الله ، وأنه لا ينافي الأصل المحكم.

والمتشابه :

مثل قوله تعالى في عيسى عليه‌السلام (وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ) [النساء ٤ / ١٧١] ، وقوله : (إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَ) [آل عمران ٣ / ٥٥]

١٥١

وقوله تعالى عن ذاته : (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) [طه ٢٠ / ٥] وقوله : (يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ) [الفتح ٤٨ / ١٠].

فهذه الآيات تحتمل عدة معان ، ويخالف ظاهر اللفظ فيها المعنى المراد ، فربما وافقت المحكم ، وربما وافقت شيئا آخر من حيث اللفظ والتركيب ، لا من حيث المراد.

فليس لكم أيها النصارى الاحتجاج بأمثال هذه الآيات التي هي من المتشابه الذي يحتمل أكثر من معنى ، وإنما عليكم الوقوف عند محكم التنزيل ، مثل قوله تعالى : (لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ ، وَلَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ) [النساء ٤ / ١٧٢].

ومعنى المتشابه والمحكم هنا يختلف عن معناه في آيات أخرى ، فقد وصف القرآن كله بالمحكم في قوله تعالى : (كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ) [هود ١١ / ١] والمراد أنه ليس فيه عيب وأنه كلام حق فصيح الألفاظ صحيح المعاني ، أحكم نظمه وأتقن ، واشتمل على الحكمة ، ووصف القرآن أيضا بالمتشابه في قوله : (اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً) [الزمر ٣٩ / ٢٣] والمعنى أنه يشبه بعضه بعضا في الحسن والصدق والهداية ، والسلامة من التناقض والاختلاف ، كما قال : (وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ ، لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) [النساء ٤ / ٨٢].

فأما الذين في قلوبهم زيغ ، أي ضلال وميل عن الحق إلى الباطل ، فيتبعون أهواءهم ، فيأخذون بالمتشابه الذي يتمسكون به ، ويمكنهم أن يحرفوه إلى مقاصدهم الفاسدة ، ويتركون المحكم الذي لا التباس فيه ، بقصد إيقاع الناس في الفتنة في الدين وإضلال أتباعهم ، إيهاما لهم أنهم يحتجون على مزاعمهم بالقرآن ، وهو حجة عليهم لا لهم ، كما لو احتج النصارى بأن القرآن قد نطق بأن عيسى روح الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه ، وتركوا الاحتجاج بقوله تعالى : (إِنْ هُوَ

١٥٢

إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ) [الزخرف ٤٣ / ٥٩] وبقوله : (إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ، ثُمَّ قالَ لَهُ : كُنْ فَيَكُونُ) [آل عمران ٣ / ٥٩].

وهم يفعلون ذلك أيضا بقصد تأويل القرآن على غير حقيقته ، وتحريفه على ما يريدون ، متبعين أهواءهم وتقاليدهم وموروثاتهم ، وتاركين الأصل المحكم الذي بني عليه الاعتقاد ، وهو عبودية عيسى لله وإطاعته إياه.

روى مسلم عن عائشة رضي‌الله‌عنها أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تلا : (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ ، مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ ، هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ ، وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ) الآية ، ثم قال : «إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه ، فأولئك الذين سمّاهم الله ، فاحذروهم». وروى ابن مردويه عن عبد الله بن عمرو بن العاص عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن القرآن لم ينزل ليكذب بعضه بعضا ، فما عرفتم منه فاعملوا به ، وما تشابه منه ، فآمنوا به».

وما يعلم تأويل المتشابه إلا الله ، فهو مما استأثر الله بعلمه ، أو ما خالف ظاهر اللفظ فيه المراد منه ، فلا يعلم حقيقته إلا الله.

ويرى جماعة من الصحابة كأبي بن كعب وعائشة وابن عباس وابن عمر الوقوف على لفظ الجلالة ، فلا يعلم تأويل المتشابه إلا الله ، وأما الراسخون في العلم فكلام مستأنف ، يقولون : آمنا به ؛ لأنه تعالى وصفهم بالتسليم المطلق لله تعالى ، والعارف بالشيء لا يعبر عنه بالتسليم المطلق أو المحض.

ويرى جمهرة من الصحابة كابن عباس ، وتبعهم كثير من المفسرين (١) وأهل

__________________

(١) هذا رأي ابن كثير ، وعكس القرطبي الأمر ، فقال : مذهب أكثر العلماء الوقوف التام عند لفظ الجلالة ، وتم الكلام عند قوله : «إلا الله». والراسخون مقطوع مما قبله ، وهو استئناف كلام آخر.

١٥٣

الأصول أنه لا يوقف على لفظ الجلالة ، والراسخون معطوف عليه ، على معنى : لا يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم. قال ابن عباس : أنا من الراسخين الذين يعلمون تأويله. فالمتشابه يعلمه الراسخون ؛ لأن الله تعالى ذم الذين يبتغون التأويل بقصد الفتنة والإضلال ، ذاهبين فيه إلى ما يخالف المحكم ، والراسخون في العلم ليسوا كذلك ، فهم أهل اليقين الثابت الذي لا اضطراب فيه ، إذ يفهمون المتشابه بما يتفق مع المحكم.

وأما قوله تعالى : (يَقُولُونَ : آمَنَّا) فهو كلام مستأنف ، لا ينافي العلم ، فهم يجعلون المحكم هو الأساس ، ويؤمنون بأن كلا من المحكم والمتشابه من عند الله ، وكلاهما حق وصدق ، وكل واحد منهما يصدق الآخر ، ويدل لذلك أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم دعا لابن عباس بقوله : «اللهم فقهه في الدين ، وعلمه التأويل».

والحكمة من وجود المتشابه مع العلم بأن القرآن نزل هاديا للناس : هو تمييز الصادق الإيمان من ضعيفة ، وبيان فضيلة الراسخين في العلم الذين ينظرون ويبحثون ؛ لأنهم يعلمون ويفهمون ما خوطبوا به ، وإن لم يعلموا بحقائق الأشياء ، ولهذا قال تعالى : (وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ) أي إنما يفهم ويعقل ويتدبر المعاني على وجهها الصحيح أولو العقول السليمة ، والفهوم المستقيمة. ووصف النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الراسخين في العلم ـ فيما يرويه ابن أبي حاتم عن عبيد الله بن يزيد التابعي الذي أدرك أنسا وأبا أمامة وأبا الدرداء : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سئل عن الراسخين في العلم ، فقال : «من برت يمينه ، وصدق لسانه ، واستقام قلبه ، ومن عف بطنه وفرجه ، فذلك من الراسخين في العلم».

ثم ذكر دعاء هؤلاء الراسخين للثبات على فهم المتشابه وهو :

١ ـ (رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا ..) الآية ، أي إن الراسخين في العلم المؤمنين بالمتشابه يطلبون من الله الثبات على الهداية ، والحفظ من الزيغ بعد الهداية ،

١٥٤

وهبة الرحمة والفضل من الله ، والتوفيق إلى الخير والسداد ، إنك أنت الوهاب.

قالت عائشة رضي‌الله‌عنها : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كثيرا ما يدعو : «يا مقلّب القلوب ثبّت قلبي على دينك» قلت : يا رسول الله ، ما أكثر ما تدعو بهذا الدعاء ، فقال : «ليس من قلب إلا وهو بين أصبعين من أصابع الرحمن ، إن شاء أن يقيمه أقامه ، وإن شاء أن يزيغه أزاغه».

٢ ـ (رَبَّنا ، إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ ...) أي ربنا إنك تجمع الناس للجزاء في يوم لا شك فيه ، ووعدك الحق الذي لا يخلف. وتعليمنا هذا الدعاء لنشعر بالخوف من تسرّب الزيغ الذي يسلب الرحمة في ذلك اليوم. وفي هذا إقرار بالبعث يوم القيامة.

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت الآيات على أن آيات القرآن أكثرها محكم ، وبعضها متشابه ، وأن المتشابه لا يعلم المراد منه إلا الله والمتمكنون من العلم ، لكن علمهم الله طريق العصمة من الزيغ في فهم المتشابه بدعاءين : (رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا ... رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ ...) وأما الزائغون فيتبعون المتشابه.

وقد أوردت أمثلة من المحكم والمتشابه ، وأبنت المراد منهما على الأصح ، وسأذكر أمثلة أخرى للمتشابه.

نماذج من المتشابه :

روى البخاري عن سعيد بن جبير قال : قال رجل لابن عباس : إني أجد في القرآن أشياء تختلف علي ، قال : ما هو؟ قال : (فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ) [المؤمنون ٢٣ / ١٠١] وقال : (وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ) [الصافات ٣٧ / ٢٧]. وقال : (وَلا يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثاً) [النساء ٤ / ٤٢] وقال :

١٥٥

(وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) [الأنعام ٦ / ٢٣] فقد كتموا في هذه الآية. وفي النازعات : (أَمِ السَّماءُ بَناها ...) [النازعات ٧٩ / ٢٧] إلى قوله : (وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها) [النازعات ٧٩ / ٣٠] ، فذكر خلق السماء قبل خلق الأرض ، ثم قال : (أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ ...) [فصلت ٤١ / ٩] إلى قوله : (أَتَيْنا طائِعِينَ) فذكر في هذا خلق الأرض قبل خلق السماء. وقال : (وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً). (وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً). (وَكانَ اللهُ سَمِيعاً بَصِيراً) فكأنه كان ثم مضى.

فقال ابن عباس : (فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ) في النفخة الأولى ، ثم ينفخ في الصور فصعق من في السموات ومن في الأرض إلا من شاء الله ، فلا أنساب بينهم في ذلك ولا يتساءلون ، ثم في النفخة الآخرة أقبل بعضهم على بعض يتساءلون.

وأما قوله : (ما كُنَّا مُشْرِكِينَ وَلا يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثاً) فإن الله يغفر لأهل الإخلاص ذنوبهم ، وقال المشركون : تعالوا نقول : لم نكن مشركين ؛ فختم الله على أفواههم ، فتنطق جوارحهم بأعمالهم ، فعند ذلك عرف أن الله لا يكتم حديثا ، وعنده يودّ الذين كفروا لو كانوا مسلمين.

وخلق الله الأرض في يومين ، ثم استوى إلى السماء ، فسوّاهن سبع سماوات في يومين ، ثم دحا الأرض أي بسطها ، فأخرج منها الماء والمرعى ، وخلق فيها الجبال والأشجار والآكام وما بينها في يومين آخرين ؛ فذلك قوله : (وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها). فخلقت الأرض في أربعة أيام ، وخلقت السماء في يومين. وقوله : (وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) يريد نفسه ذلك ، أي لم يزل ولا يزال كذلك ؛ فإن الله لم يرد شيئا إلا أصاب به الذي أراد. ويحك! فلا يختلف عليك القرآن ، فإن كلا من عند الله (١).

__________________

(١) تفسير القرطبي : ١٤ / ١٢.

١٥٦

متبعو المتشابه :

متبعو المتشابه إما أن يتبعوه طلبا للتشكيك في القرآن وإضلال العوامّ ، كما فعلته الزنادقة والقرامطة (١) الطاعنون في القرآن ؛ وإما أن يتبعوه طلبا لاعتقاد ظواهر المتشابه ، كما فعلته المجسّمة الذين جمعوا ما في الكتاب والسنة ، مما ظاهره الجسمية ، حتى اعتقدوا أن البارئ تعالى جسم مجسم ، وصورة مصوّرة ذات وجه وعين ويد وجنب ورجل وأصبع ، تعالى الله عن ذلك!

أو يتبعوه على جهة إبداء تأويلاتها وإيضاح معانيها.

أو يكثروا السؤال عنها.

فهذه أربعة أقسام : أما القسم الأول : فلا شك في كفرهم ، ويقتلون في رأي المالكية من غير استتابة ، وأما القسم الثاني : فالصحيح القول بتكفيرهم ، إذ لا فرق بينهم وبين عباد الأصنام ، وحكمهم كالمرتدين ، يستتابون ، فإن تابوا وإلا قتلوا.

وأما القسم الثالث : فاختلفوا في جواز تأويلها ، فمذهب السلف ترك التعرض لتأويلها مع قطعهم باستحالة ظواهرها ، ويؤمنون بها كما جاءت وهو الأولى. ومذهب آخرين : إبداء تأويلاتها وحملها على مقتضى اللسان العربي من غير قطع بتعيين مجمل منها. وقد قيل : مذهب السلف أسلم ، ومذهب الخلف أعلم.

وأما القسم الرابع : فيعزرون تعزيرا بليغا.

__________________

(١) القرامطة : فرقة من الزنادقة الملاحدة أتباع الفلاسفة الذين يعتقدون نبوّة زرادشت ومزدك وماني ، وكانوا يبيحون المحرمات.

١٥٧

عاقبة الكفار المغرورين بالمال والولد ومثال ذلك

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً وَأُولئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ (١٠) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقابِ (١١) قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهادُ (١٢) قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللهِ وَأُخْرى كافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ (١٣))

الإعراب :

(كَدَأْبِ ...) الكاف إما مرفوع خبر مبتدأ محذوف وتقديره : دأبهم كدأب ، وإما منصوب بفعل مقدر تقديره : يتوقّدون توقّد آل فرعون ، دل عليه ما قبله وهو : فأولئك هم وقود النار.

(وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) إما مرفوع مبتدأ والخبر : (كَذَّبُوا بِآياتِنا) ، وإما مجرور بالعطف على (آلِ فِرْعَوْنَ).

(فِئَةٌ) إما مرفوع خبر مبتدأ محذوف تقديره : إحداهما فئة ، وإما مجرور بدل من (فِئَتَيْنِ وَأُخْرى) يجوز فيه الرفع والجر بالعطف على (فِئَةٌ) بالرفع ولأجر. وجملة (يَرَوْنَهُمْ) حال من كاف (لَكُمْ) أو صفة لأخرى بالرفع أو الجر

البلاغة :

(مِنَ اللهِ) فيه إيجاز بالحذف أي من عذاب الله (شَيْئاً) التنكير للتقليل ، أي لن تنفعهم أي نفع ولو قليلا. (وَأُولئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ) الجملة اسمية للدلالة على ثبوت الأمر وتحققه. (فَأَخَذَهُمُ اللهُ) التفات من الحضور إلى الغيبة ، والأصل : (فأخذناهم). (لَكُمْ آيَةٌ) قدم الجار والمجرور للاعتناء بالمقدم والتشويق إلى المؤخر. وتنكير آية للتفخيم والتهويل ، أي آية عظيمة ، ومثله تنكير «ورضوان». ويوجد جناس اشتقاق بين (يَرَوْنَهُمْ) و (رَأْيَ الْعَيْنِ).

١٥٨

المفردات اللغوية :

(لَنْ تُغْنِيَ) تنفع. (مِنَ اللهِ) أي من عذاب الله. (وَقُودُ النَّارِ) : ما توقد به النار من حطب أو فحم ونحوهما. (كَدَأْبِ) كعادة ، أي دأبهم كدأب. (فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ) أهلكهم بها ، والجملة مفسرة لما قبلها. (الْمِهادُ) الفراش.

(آيَةٌ) علامة على صدق ما يقول الرسول.

(الْتَقَتا) يوم بدر للقتال. (مِثْلَيْهِمْ) ضعفي المسلمين ، بل أكثر منهم ، إذ كانوا نحو ألف ، والمسلمون ثلثمائة وثلاثة عشر رجلا. (رَأْيَ الْعَيْنِ) أي رؤية ظاهرة معاينة. (يُؤَيِّدُ) يقوي. (إِنَّ فِي ذلِكَ) المذكور. (لِأُولِي الْأَبْصارِ) لذوي البصائر ، أفلا تعتبرون بذلك فتؤمنوا.

سبب النزول : نزول الآية (١٢ ـ ١٣):

روى أبو داود في سننه والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لما أصاب من أهل بدر ما أصاب ، ورجع إلى المدينة ، جمع اليهود في سوق بني قينقاع ، وقال : يا معشر يهود أسلموا قبل أن يصيبكم الله بما أصاب قريشا ، فقالوا : يا محمد ، لا يغرّنك من نفسك أن قتلت نفرا من قريش ، كانوا أغمارا لا يعرفون القتال ، إنك ، والله لو قاتلتنا لعرفت أنا نحن الناس ، وأنك لم تلق مثلنا ، فأنزل الله : (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ) إلى قوله : (لِأُولِي الْأَبْصارِ)(١)

المناسبة :

ذكر الله تعالى في مطلع السورة مبدأ التوحيد والكتب الناطقة به وبخاصة القرآن وإيمان العلماء الراسخين به كله ، ثم ذكر حال الكفرة وسبب كفرهم وهو اغترارهم في الدنيا بالمال والولد ، وبيّن أنها لن تغني عنهم شيئا في الآخرة والدنيا.

__________________

(١) البحر المحيط : ٢ / ٣٩٢

١٥٩

وضرب على ذلك المثل بغزوة بدر حيث التقى جند الإيمان والرحمن بجند الكفر والشيطان ، فانتصرت الفئة المؤمنة القليلة على الفئة الكثيرة ، فلم تنفعهم كثرة الأموال والأولاد والسلاح.

التفسير والبيان :

يخبر الله تعالى عن الكفار بأنهم وقود النار يوم القيامة ، وليس ما أوتوه في الدنيا من الأموال والأولاد بنافع لهم عند الله ، ولا بمنجيهم من عذابه وأليم عقابه ، كما قال تعالى : (وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ ، إِنَّما يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الدُّنْيا ، وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ ، وَهُمْ كافِرُونَ) [التوبة ٩ / ٨٥]. وقد كانوا يقولون : نحن أكثر أموالا وأولادا ، وما نحن بمعذبين ، فرد الله عليهم بقوله: (وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً) [سبأ ٣٤ / ٣٧].

ومعنى قوله : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي كذبوا بآياته ورسله وخالفوا كتابه ولم ينتفعوا بوحيه إلى أنبيائه ، وذلك يشمل وفد نجران والنصارى واليهود والمشركين ، وكل كافر.

فهؤلاء كلهم لن تنجيهم أموالهم ولا أولادهم ، وأولئك المبعدون هم وقود النار وأهلها ، وحطبها الذي تسجر به وتوقد به ، كقوله تعالى : (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ ، أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ) [الأنبياء ٢١ / ٩٨].

وصنيعهم وحالهم في تكذيب محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وشريعته كحال آل فرعون ومن قبلهم من المؤتفكات كقبائل عاد وثمود ، كذبوا بآيات الله ، فأخذهم الله أخذ عزيز مقتدر ، والله شديد العقاب قوي العذاب.

ثم هددهم الله وتوعدهم بالعقاب في الدنيا ، فقال : قل يا محمد للكافرين ومنهم اليهود ستغلبون في الدنيا ، وتحشرون يوم القيامة إلى جهنم وبئس المهاد الذي

١٦٠