التفسير المنير - ج ٣

الدكتور وهبة الزحيلي

ولا تحلّ المسألة إلا لثلاث حددهم النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقوله :

«المسألة لا تحلّ إلا لذي فقر مدقع ، أو لذي غرم مفظع ، أو لذي دمّ موجع» (١) ، والفقر المدقع : هو الشديد ، وهو الذي يلصق صاحبه بالدقعاء : وهي الأرض التي لا نبات فيها ، والغرم : ما يلزم أداؤه تكلّفا ؛ لا في مقابلة عوض ، كالكفالة والنفقة لإصلاح ذات البين ونحوه من أعمال البرّ ، كدفع مظلمة وحفظ مصلحة ، والمفظع : الشديد ، فلمن تحمل ذلك أن يسأل الإعانة على سداد ما غرم ، وأما ذو الدّم الموجع : فهو الذي يتحمل الدّية عن الجاني من قريب أو نسيب أو صديق لئلا يقتل ، فيتوجع لقتله.

والإلحاح في المسألة مع الغنى عنها حرام لا يحل ، أخرج مسلم عن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من سأل الناس أموالهم تكثّرا ، فإنما يسأل جمرا ، فليستقلّ أو ليستكثر» ، وأخرج أيضا عن ابن عمر أنّ النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لا تزال المسألة بأحدكم ، حتى يلقى الله ، وليس في وجهه مزعة (٢) لحم» ، وروى أحمد وأبو داود وابن حبان عن سهل ابن الحنظلية عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من سأل وعنده ما يغنيه ، فإنما يستكثر من جمر جهنم ، قالوا : يا رسول الله ، وما يغنيه؟ قال : ما يغديه أو يعشيه».

أما إذا كان السائل محتاجا فلا بأس أن يكرّر المسألة ثلاثا إعذارا وإنذارا ، والأفضل تركه. فإن كان المسؤول يعلم بذلك ، وهو قادر على ما سئله ، وجب عليه الإعطاء ، وإن كان جاهلا به ، فيعطيه مخافة أن يكون صادقا في سؤاله ،

__________________

(١) رواه أحمد وأبو داود والترمذي وحسنه وابن ماجه من حديث أنس بن مالك رضي‌الله‌عنه.

(٢) المزعة : القطعة ، قال القاضي عياض : قيل : معناه يأتي يوم القيامة ذليلا ساقطا لا وجه له عند الله. وقيل : هو على ظاهره ، فيحشر ووجهه عظم لا لحم عليه ، عقوبة له ، حين سأل بوجهه.

٨١

فلا يفلح في ردّه (١).

وقوله : (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ ..) مدح منه تعالى للمنفقين في سبيله وابتغاء مرضاته ، في جميع الأوقات ، من ليل أو نهار ، وفي جميع الأحوال سرّا أو علانية ، لكن تقديم الليل على النهار ، والسرّ على العلانية يومئ إلى تفضيل صدقة السرّ على صدقة العلن ، كما بيّنا.

الرّبا وأضراره على الفرد والجماعة

(الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلاَّ كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى فَلَهُ ما سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللهِ وَمَنْ عادَ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٧٥) يَمْحَقُ اللهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ وَاللهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (٢٧٦) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٢٧٧) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٢٧٨) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ (٢٧٩)

__________________

(١) وأما حديث أحمد وأبي داود عن الحسين بن علي : «للمسائل حقّ وإن جاء على فرس» فهو مرسل ، وفيه مجهول.

٨٢

وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٢٨٠) وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٢٨١))

الإعراب ::

(الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ) الذين وصلته : مبتدأ ، ولا يقومون : خبره. (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ) مبتدأ وخبره (بِأَنَّهُمْ). (فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ) إنما ذكّر : جاء ، لثلاثة أوجه: الأول ـ حملا على المعنى ؛ لأن موعظة بمعنى «وعظ». الثاني ـ لأن تأنيث موعظة مجازي ليس بحقيقي. الثالث ـ لوجود الفصل بالهاء.

(وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ) كان هاهنا تامة بمعنى حدث ووقع ، ولا خبر لها ، كقول الشاع : «إذا كان الشتاء فأدفئوني» أي حدث ووقع ، وذو عسرة : عام في حقّ كل أحد. (فَنَظِرَةٌ) خبر مبتدأ محذوف وتقديره : فشأنه أو حاله فنظرة.

(وَأَنْ تَصَدَّقُوا) مبتدأ ، وخبره (لَكُمْ). (وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ) يوما : منصوب ؛ لأنه مفعول (اتَّقُوا) ، وترجعون : جملة فعلية في موضع نصب ؛ لأنه صفة يوم. ورجع : يكون لازما ومتعديا ، يقال : رجع زيد ورجعته ، كما يقال : زاد الشيء وزدته ، ونقص ونقصته.

البلاغة :

(إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا) الأصل أن يقال : الرّبا مثل البيع ، ولكنهم قلبوا التّشبيه ، فجعلوا المشبّه مكان المشبّه به ، على سبيل «التشبيه المقلوب».

ويوجد طباق بين لفظ (أَحَلَ) و (حَرَّمَ) ، وبين (يَمْحَقُ) و (يُرْبِي).

(كَفَّارٍ أَثِيمٍ) كلاهما من صيغ المبالغة ، أي عظيم الكفر شديد الإثم.

(فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ) تنكير «حرب» للتهويل أي بنوع شديد من الحرب.

(لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ) فيه ما يسمى «الجناس الناقص» لاختلاف شكل الحروف.

المفردات اللغوية :

(الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا) أي يأخذون ، عبّر بالأكل عن الأخذ أو الانتفاع بالرّبا ؛ لأنه الغرض الأساسى منه ، أي أن أغلب حالات الانتفاع هو الأكل. ويشمل ذلك الآخذ والمعطي ،

٨٣

لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لعن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم آكل الرّبا وموكله وكاتبه وشاهديه ، وقال : هم سواء» (١).

والرّبا في اللغة : الزّيادة ، وفي الشرع : زيادة مال مخصوص بلا عوض في معاوضة مال بمال ، أو الزّيادة في المعاملة من بيع أو قرض بالنقود والمطعومات في القدر أو الأجل. وهذا في رأي الشافعية ، وحصره المالكية في ربا الفضل بالمقتات المدّخر ، وأما في ربا النّسيئة فهم كالشافعية. وعمه الحنفية والحنابلة على كل مكيل وموزون.

(لا يَقُومُونَ) أي من قبورهم. (يَتَخَبَّطُهُ) يصرعه. (الْمَسِ) الجنون والصرع. (بِأَنَّهُمْ) بسبب أنهم. (مَوْعِظَةٌ) وعظ وزجر. (فَلَهُ ما سَلَفَ) أي لا يسترد منه ما أخذه قبل النّهي. (وَأَمْرُهُ) في العفو عنه إلى الله. (وَمَنْ عادَ) إلى أكل الرّبا مشبّها له بالبيع في الحلّ.

(يَمْحَقُ اللهُ الرِّبا) ينقصه ويذهب بركته. (وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ) يزيدها وينميها ويضاعف ثوابها.

(كَفَّارٍ) مقيم على كفره بتحليل الرّبا. (أَثِيمٍ) فاجر أي بأكله الرّبا ، ومصرّ على الإثم ومبالغ فيه. (لا يُحِبُ) أي يعاقبه.

(اتَّقُوا اللهَ) أي قوا أنفسكم عقابه. (وَذَرُوا) اتركوا. (فَأْذَنُوا) اعلموا ، من أذن بالشيء : علم به. (بِحَرْبٍ مِنَ اللهِ) بغضب منه ، وحرب من رسوله : بمعاملتكم معاملة البغاة وقتالكم بالفعل في عصره ، واعتباركم أعداء له في كلّ عصر.

(وَإِنْ تُبْتُمْ) رجعتم عنه. (فَلَكُمْ رُؤُسُ) أصول. (لا تَظْلِمُونَ) لا تأخذون الزّيادة من الغريم. (وَلا تُظْلَمُونَ) بنقص شيء من رأس المال.

(وَإِنْ كانَ) وجد غريم. (ذُو عُسْرَةٍ) معسر بفقد المال أو كساد المتاع. (فَنَظِرَةٌ) له ، أي فعليكم تأخيره وانتظاره. (مَيْسَرَةٍ) وقت اليسر والرّخاء. (وَأَنْ تَصَدَّقُوا) على المعسر بالإبراء. (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) أنه خير فافعلوه.

سبب النزول : نزول الآيتين (٢٧٨ ـ ٢٧٩):

أخرج أبو يعلى في مسنده وابن منده عن ابن عباس قال : بلغنا أن هذه الآية نزلت في بني عمرو بن عوف من ثقيف ، وفي بني المغيرة من بني مخزوم ، وكان بنو المغيرة يربون لثقيف (٢) ، فلما أظهر الله رسوله على مكة ، وضع يومئذ

__________________

(١) أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه عن ابن مسعود بلفظ : «لعن الله آكل الربا وموكله وشاهده وكاتبه».

(٢) أي فكانت الدّيون لبني عمرو من ثقيف ، انظر البحر المحيط : ٢ / ٣٣٩

٨٤

الرّبا كلّه ، فأتى بنو عمرو وبنو المغيرة إلى عتاب بن أسيد ، وهو على مكة ، فقال بنو المغيرة : ما جعلنا أشقى الناس بالرّبا ، ووضع عن الناس غيرنا.

فقال بنو عمرو : صالحنا على أن لنا ربانا ، فكتب عتاب في ذلك إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فنزلت هذه الآية والتي بعدها.

وأخرج ابن جرير الطبري عن عكرمة قال : نزلت هذه الآية في ثقيف ، منهم مسعود ، وحبيب ، وربيعة ، وعبد ياليل بنو عمرو وبنو عمير.

فقالت ثقيف : لا يد لنا ـ أي لا طاقة لنا ـ بحرب الله ورسوله ، وتابوا ، وأخذوا رؤوس أموالهم فقط.

نزول الآية (٢٨٠):

قال الكلبي : قالت بنو عمرو بن عمير لبني المغيرة : هاتوا رؤوس أموالنا ، ولكم الرّبا ندعه لكم ، فقالت بنو المغيرة : نحن اليوم أهل عسرة ، فأخرونا إلى أن تدرك الثمرة ، فأبوا أن يؤخروهم ، فأنزل الله تعالى : (وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ) الآية.

المناسبة :

كانت الآيات السابقة في النفقة أو الصدقة من المال بغير عوض ، تقرّبا إلى الله ، وطلبا لمرضاته ، وتثبيتا لأنفسهم على الإيمان. وهذه الآيات في المرابين الذين يأخذون المال بلا عوض يقابله ، والصدقة يبارك الله فيها ، وأما الرّبا فيمحقه الله ويبطل بركته ونماءه ، فالمناسبة بين الآيات التّضاد ؛ لأن الضدّ أقرب خطورا بالبال من غيره.

التفسير والبيان :

الذين يأخذون الرّبا ، ويستحلّونه حبّا في المال وعملا بالأهواء ، ويأكلون

٨٥

أموال الناس بالباطل ومن غير عمل ولا جهد : مثلهم في الاضطراب والقلق وتعذيب الضمير والوجدان والانهماك في الأعمال والدّنيا كمثل المصروعين الذين تتخبطهم الشياطين ، وتمسّهم الجنّ ، وتضربهم وتصرعهم ، وهم في الآخرة ـ من وقت قيامهم من قبورهم إلى البعث والنشور ـ أشدّ تخبّطا واضطرابا وتثاقلا في حركاتهم ، بسبب ثقل المال الحرام الذي أكلوه من الرّبا ، مما جعلهم متميزين عن بقية الناس في تعثرهم وسقوطهم كلما همّوا بالنهوض والقيام ، وهذه صورة في غاية القبح والبشاعة ، ودليل على ما يحدثه النظام الرأسمالي الرّبوي في العالم المعاصر من هزّات وقلق واضطراب وخوف وأمراض عصبية ونفسية.

وجمهور المفسرين على أن المراد بقوله تعالى : (لا يَقُومُونَ) القيام من قبورهم يوم القيامة إلى بعثهم ونشورهم ، فعلامتهم أنهم لا يقومون منها إلا كما يقوم المصروع حال صرعة وتخبّط الشيطان له ، قال ابن عباس ـ فيما رواه ابن أبي حاتم ـ : «آكل الرّبا يبعث يوم القيامة مجنونا يخنق».

واقتصر جماعة (وهم ابن عباس وعكرمة وسعيد بن جبير والحسن البصري وقتادة ومقاتل بن حيان) على القول : بأنهم لا يقومون يوم القيامة. وإنما عبّر بالقيام ؛ لأنه أبرز مظاهر النشاط في ممارسة العمل.

وذلك لأنهم فهموا خطأ وتصوروا باطلا أن الرّبا مثل البيع ، أي أن الزّيادة الرّبوية عند حلول أجل الدين آخرا كمثل أصل الثمن في أول العقد ؛ لأن العرب كانت لا تعرف إلا ذلك ، فكانت إذا حلّ دينها قالت للغريم (المدين) : إما أن تقضي ، وإما أن تربي ، أي تزيد في الدّين ، فحرّم الله سبحانه ذلك عليهم. وبعبارة أخرى : كما يجوز لك أن تبيع الشيء في الحال نقدا بدرهمين ، فلما ذا لا يصحّ أن تأخذ درهما في وقت الحاجة ، ثم تدفع في وقت اليسار درهمين؟! وسبب الزيادتين واحد وهو الأجل.

٨٦

فردّ الله تعالى عليهم وأبان قياسهم الفاسد بقوله الحق : (وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ ، وَحَرَّمَ الرِّبا) أي أن البيع لا يكون إلا لحاجة وهو معاوضة لا غبن فيه ، والرّبا محض استغلال لحاجة المضطر ، وليس له مقابل ولا عوض (١) ، فقياسهم فاسد ، فمن يشتري شيئا من الطعام ويدفع ثمنه في الحال ، هو محتاج إليه في الأكل أو البذر أو أي انتفاع يصون به حياته وجسده ، أما من يرابي ، فلا يعقد عقد معاوضة ، وإنما يأخذ الزّيادة عن أصل الدّين وقت حلول أجل الوفاء بدون مقابلة شيء ، بل إن المصارف اليوم تشبه في عملها أفعال الجاهلية بتجميع الفوائد المتراكمة أو المركّبة ، وأخذ الفائدة وفائدة الفائدة مع مرور السنوات ، فصار حملة أسهم المصرف يأكلون الرّبا أضعافا مضاعفة ، وأخذ هذه الزّيادة وتوابعها ظلم موجب للإثم والمعصية الكبيرة.

فمن بلغه تحريم الرّبا ، فانتهى عمّا كان يفعله ، فله ما سلف أخذه من الرّبا في الجاهلية ، وأمره بالعفو عنه أو بالحكم فيه بالعدل ، وإسقاط التّبعة عنه يوم القيامة إلى الله تعالى.

ومن عاد إلى أخذ الرّبا بعد تحريمه ، فقد استوجب العقوبة ، واستحقّ الخلود في نار جهنم. والمراد بالخلود هنا : المكث الطويل إذا كان الفاعل مؤمنا ، وعبّر به تغليظا لفعله.

ثم نبّه الله تعالى على أضرار الرّبا وتبديد أثره ، فالرّبا يذهب الله بركته ، ولا ينميه ولا يزيده في الحقيقة والواقع ، وإن زاد المال بسببه في الظاهر ، فهو إلى ضياع وفناء. أما الصدقة : فالله ينميها ويبارك فيها ، ويضاعف ثوابها ، ففي الدنيا ما نقصت صدقة من مال قط ، والله يعوّض المتصدّق خيرا في بيع أو شراء أو ارتفاع ثمن أرض أو سلعة أو متاع ، وفي الآخرة يجد المتصدق ثواب عمله أضعافا

__________________

(١) البحر المحيط : ٢ / ٣٣٥

٨٧

مضاعفة. ومن مظاهر النّماء المعنوية في الصدقة : أنّ المتصدّق محبوب عند الله وعند الناس ، فلا حسد ولا بغض ولا سرقة ولا إيذاء ، ومن مظاهر المحق الأدبية في الرّبا : أنّ المرابي مبغوض مكروه عند الله وعند الناس ، الكلّ حاسد له وشامت إن ألمّ به أمر مكروه ، والكلّ ينتظر له المصير المشؤوم ، وهذا أمر ملحوظ في واقع المرابين ، فسرعان ما يبدّدون المال ، وعاقبتهم تكون في صحّتهم وثروتهم سيئة للغاية ، فهم إن بدا عليهم الغنى وقتا ما ، فإن الفقر في النهاية هو المحدق بهم غالبا. أخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من تصدّق بعدل تمرة من كسب طيّب ، ولا يقبل الله تعالى إلا طيّبا ، فإن الله تعالى يقبلها بيمينه ، ثم يربيها لصاحبه ، كما يربي أحدكم فلوه ، حتى تكون مثل الجبل».

هذا في نماء الصدقة ، وأمّا الرّبا فقد عبّرت الآية بالإضافة إلى محقه ، بأن الله يعاقب صاحبه ويبغضه ، ولا يرضى عن كل من يصرّ على ارتكاب المحرّمات ويحلّها ، ويبغض كل كفّار أي متماد مبالغ في كفر ما أنعم الله عليه ، فلا ينفق منه في سبيله ، ويبغض كل أثيم أي منهمك في ارتكاب الآثام أو المعاصي ، فيستغل حاجة المعسرين ، ففيه تغليظ أمر الرّبا وإيذان بأنه من فعل الكفار ، لا من فعل أهل الإسلام.

ثم قارن الله ـ كما هو شأن القرآن ـ فعل الكفار الآثمين بفعل المؤمنين الصالحين ، ليظهر الفرق واضحا بين الفريقين ، فيكون ذلك أدعى إلى امتناع الجاحد وامتثال المؤمن الصادق. فقال : إن الذين صدقوا بالله ورسوله وبما جاءهم من الأوامر والنواهي ، وعملوا الصالحات التي تصلح بها نفوسهم كمواساة المحتاجين ، وإنظار المعسرين ، وأقاموا الصلاة التي تذكّر المؤمن بربّه وتقرّبه إليه ، وأتوا الزكاة المفروضة التي تساهم في تخفيف الفقر ومحبة الناس لبعضهم ، لهم

٨٨

ثواب كامل مدّخر عند ربّهم الذي تعهدهم بالرّعاية في شؤونهم ، ولا يخافون مما هو آت ، ولا يحزنون على ما فات.

وخصّ الله تعالى الصّلاة والزّكاة مع شمول الأعمال الصالحة لهما ، اهتماما بشأنهما ؛ لأنهما أعظم أركان العبادة العملية.

وبعد هذه المقارنة بين جزائي أكلة الرّبا والمؤمنين العاملين الصالحات ، جاء الأمر الصريح القاطع بترك الرّبا والتخلّص من مختلف آثاره ، ومضمونه : يا من اتّصفتم بالإيمان المتنافي مع كلّ حرام ، قوا أنفسكم عقاب ربّكم على ترك الأوامر وفعل المنهيات ، واتركوا ما بقي لكم من الرّبا عند الناس حالا ، وإياكم والتعامل به من جديد إن كنتم مؤمنين حقّا ، وإلا فلستم بمؤمنين كاملي الإيمان ؛ لأن الإيمان طاعة والتزام فلا إيمان مع المعاصي ، وهو سلام ورحمة وعطف وصلة ، فلا إيمان مع تعاطي الرّبا ؛ لأن الرّبا ظلم وجشع واستغلال يتنافى مع الإخاء والإنسانية. ثم ذكر الله الوعيد على المخالفة فقال :

فإن لم تتركوا الرّبا وما بقي منه ـ والخطاب للمؤمنين ـ فإنكم محاربون لله ولرسوله أي أعداء خارجون عن شريعته ، وهذا معنى قوله : (فَأْذَنُوا) أي اعلموا ، وحرب الله : غضبه وانتقامه من أكلة الرّبا ، في الدّنيا بإلحاق الضّرر ، وفي الآخرة بالعذاب في النار ، وحرب رسوله : معاداته ، ومن حارب الله ورسوله استحقّ القتال ، لتجاوز شرع الله وأحكامه.

وإن رجعتم عن الرّبا امتثالا لأمر الله ، فتستحقون رؤوس أموالكم كاملة فقط ، لا نقص ولا زيادة ، فلا تظلمون أحدا بأخذ الرّبا ، ولا تظلمون بنقص شيء من أموالكم.

ثم يأمر الله تعالى بالصبر على المعسر الذي لا يجد وفاء ، فقرر ما يلي :

إن تعاملتم مع فقير معسر. ولم يتمكن من سداد دينه في الأجل المحدد ،

٨٩

فأمهلوه وانتظروه إلى وقت اليسر والرّخاء ، حتى يتمكّن من أداء الدّين ، كقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما رواه مسلم وغيره عن أبي هريرة : «من نفّس عن مؤمن كربة ، نفّس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة ، ومن يسّر على معسر يسّر الله عليه في الدّنيا والآخرة» ، والعسرة : ضيق الحال من جهة عدم المال ، والنّظرة : التّأخير ، والميسرة : مصدر بمعنى اليّسر.

وأن تتصدّقوا على المعسر أو الغريم بإبرائه من الدّين كله أو بعضه ، فهو خير لكم من الإنظار والتّأجيل ، وأكثر ثوابا عند الله ، إن كنتم تعلمون أنه خير ، ومن علم بشيء عمل به. وفي هذا حثّ على السماحة للمدين المعسر ، لما فيه من تعاون وتعاضد وتراحم ، كقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما رواه الشيخان والترمذي والنسائي عن أبي موسى : «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشدّ بعضه بعضا» ، وقوله أيضا ـ فيما رواه الطّحاوي عن بريدة بن الخصيب ـ : «من أنظر معسرا كان له بكل يوم صدقة ، ثم قلت : بكل يوم مثله صدقة ؛ قال : بكل يوم صدقة ما لم يحلّ الدّين ، فإذا أنظره بعد الحلّ ، فله بكل يوم مثله صدقة».

وروى الإمام أحمد عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من أراد أن تستجاب دعوته ، وأن تكشف كربته ، فليفرّج عن معسر».

وروى مسلم عن أبي مسعود قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «حوسب رجل ممن كان قبلكم ، فلم يوجد له من الخير شيء ، إلّا أنه كان يخالط الناس ، وكان موسرا ، فكان يأمر غلمانه أن يتجاوزوا عن المعسر ، قال : قال الله عزوجل : نحن أحقّ بذلك منه ، تجاوزوا عنه». وفي حديث طويل لأبي اليسر (كعب بن عمرو) أنه سمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول فيما رواه أحمد ومسلم : «من أنظر معسرا أو وضع عنه ، أظله الله في ظلّه» ، وإنظار المعسر : تأخيره إلى أن يوسر ، والوضع عنه : إسقاط الدّين عن ذمّته.

ثم أمر الله تعالى بالتّقوى أمرا عامّا ونبّه خلقه على محاسبتهم يوم القيامة ،

٩٠

وحدد مصير المتّقين وذكرهم بزوال الدنيا وما فيها من أموال ، ومضمون ذلك : اتّقوا واحذروا يوما عظيما ترجعون فيه إلى الله تعالى ، فيحاسبكم على ما عملتم ، ويجازيكم على ما كسبتم من خير أو شرّ ، فيثيبكم على الخير ويعاقبكم على الشّر ، ويجازى كل امرئ بما يستحق من خير أو شرّ ، ولا تظلمون فلا ينقص من ثوابكم شيئا ، ولا يزاد في عقوبتكم ، كقوله تعالى : (وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ ، فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً ، وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها ، وَكَفى بِنا حاسِبِينَ) [الأنبياء ٢١ / ٤٧].

قال ابن جريج : إنّ آية (وَاتَّقُوا يَوْماً ...) نزلت قبل موت النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بتسع ليال ، ثم لم ينزل بعدها شيء ، وقال ابن جبير ومقاتل : بسبع ليال ، وروي : بثلاث ليال ، أو بثلاث ساعات ، وقال عليه الصلاة والسلام : «اجعلوها بين آية الرّبا وآية الدّين».

وروى ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال : «آخر ما نزل من القرآن كله : (وَاتَّقُوا يَوْماً ..) وعاش النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد نزول هذه الآية تسع ليال ، ثم مات يوم الاثنين لليلتين خلتا من ربيع الأول».

وروى النسائي وغيره عن عبد الله بن عباس قال : آخر شيء نزل من القرآن : (وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ) فكان بين نزولها وموت النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم واحد وثلاثون يوما.

مراحل تحريم الرّبا :

حرّم الله الرّبا في القرآن كتحريم الخمر في أربعة مواضع ، وسار التّحريم في مراحل أربع ، الموضع الأول منها مكي ، والباقي مدني.

١ ـ ففي مكّة أنزل الله : (وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ ، فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللهِ) [الروم ٣٠ / ٣٩] ، وهذا يقابل آية الخمر المكيّة : (وَمِنْ ثَمَراتِ

٩١

النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً) [النحل ١٦ / ٦٧] ، وفي كلا الآيتين تمهيد للتحريم وتعريض به وإيماء إلى ضرورة تجنّبه.

٢ ـ ثم قصّ علينا القرآن في المدينة سيرة اليهود الذين حرّم عليهم الرّبا فأكلوه وعاقبهم الله بمعصيتهم ، فقال : (وَأَخْذِهِمُ الرِّبَوا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ ..)(١) [النساء ٤ / ١٦١] ، وهذا نظير المرحلة الثانية في تحريم الخمر : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ ، قُلْ : فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ ، وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما) [البقرة ٢ / ٢١٩] ، وكلا الآيتين إنذار بالتّحريم ، وتعريض به ، وإيذان بعقوبة المخالف.

٣ ـ ثم نهى تعالى عن الرّبا الفاحش الذي يتزايد حتى يصير أضعافا مضاعفة ، وهو ما كان في الجاهلية : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً ..) [آل عمران ٣ / ١٣٠]. وهذا يشابه المرحلة الثالثة من مراحل تحريم الخمر : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ ..) [النساء ٤ / ٤٣] ، فكلا الآيتين نهي جزئي صريح ، إلا أنّ آية الرّبا نهي عن صورة فاحشة من صور الرّبا وهو الرّبا الجاهلي ، وآية الخمر نهي جزئي عن تناول المسكر وقت إرادة الصلاة.

٤ ـ ثم جاء التّحريم القاطع لكلّ من الرّبا والخمر ، أما الرّبا فقد نهى الله عن كل ما يزيد عن رأس مال المدين : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ..) الآيات. وأما الخمر فقد أمر الله باجتنابه في كل الأحوال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ ، فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [المائدة ٥ / ٩٠].

__________________

(١) قال القرطبي : ولم يرد به الرّبا الشرعي الذي حكم بتحريمه علينا ، و ٧ نما أراد المال الحرام ، كما قال تعالى : أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ أي المال الحرام من الرّبا وما استحلوه من أموال غير اليهود.

٩٢

وقوله تعالى : (وَحَرَّمَ الرِّبا) اللام للجنس أي حرّم جنس الرّبا ، وليست للمعهود الذهني وهو ربا الجاهلية أو ربا النّسيئة ، وإنما يفيد النّص بإلاقه تحريم جميع أنواع الرّبا ، مثل إباحة أنواع البيع في قوله تعالى : (وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ).

فقه الحياة أو الأحكام :

وفيه بيان نوعي الربا وسبب تحريمه :

تضمّنت الآيات أمورا خمسة : إباحة البيوع ، وتحريم الرّبا والحملة الشديدة على أكلة الرّبا ، والصبر على المعسر (نظرية الميسرة) ، وجزاء الإيمان والعمل الصالح ، والأمر بالتقوى والتذكير بزوال الدنيا وإتيان الآخرة.

الموضوع الأول :

إباحة سائر البيوع التي ليس فيها نهي شرعي عنها ، والبيع : هو تمليك مال بمال بإيجاب وقبول عن تراض منهما.

الموضوع الثاني :

تحريم الرّبا وإعلان الحرب على أكلته من الله ورسوله : والرّبا في اللغة : الزيادة مطلقا ، يقال : ربا الشيء يربو : إذا زاد. وفي الشرع : فضل مال بدون عوض في معاوضة مال بمال. والرّبا نوعان : ربا النّسيئة وربا الفضل.

وربا النّسيئة : هو الزيادة الفعلية في أحد العوضين بسبب الأجل ، أو تأخير تسليم أحد العوضين لأجل بدون زيادة. ويكون إما في القرض أو في البيع. وصورته في القرض : أن يتمّ إقراض قدر معيّن من المال لزمن محدود كسنة أو شهر ، مع اشتراط زيادة عند الوفاء بسبب امتداد الأجل. وهذا هو الذي كان متعارفا في الجاهلية بين العرب ، لا يعرفون غيره ، فكانوا يدفعون المال على أن يأخذوا كل شهر

٩٣

قدرا معيّنا ، فإذا حلّ أجل الدّين طولب المدين بكلّ الدّين ، فإذا تعذّر الأداء زادوا في الحقّ والأجل ، قائلين : إما أن تقضي أو تربي ، أي تزيد الدّين مع زيادة الأجل ، فكان الغريم يزيد في عدد المال ، ويصبر الطالب عليه.

وهذا هو المستعمل الآن في المصارف المالية ، وهو الذي نصّ القرآن الكريم على تحريمه. وقد اتّفق العلماء على أنّه محرّم ، وأنه من الكبائر ، وأنّ التّحريم لا يقتصر على آخذ الرّبا ، وإنما يشتمل الدافع والكاتب والشاهدين ، للحديث المتقدم الذي رواه أحمد وغيره عن ابن مسعود : «لعن الله آكل الرّبا وموكله وكاتبه وشاهده».

وأما ربا النّسيئة في البيوع : فمثاله : بيع رطل من القمح برطل ونصف يدفع للبائع بعد شهرين ، أو بيع صاع من القمح بصاعين من الشعير يدفعان له بعد ثلاثة أشهر ، فهو حرام بسبب الزيادة الواضحة ، وقد يكون بدون زيادة وهو حرام أيضا كبيع رطل من التمر ناجز تسليمه برطل آخر من التمر مؤجل التسليم ، ولا يلجأ لهذا البيع عادة إلا بسبب كون الرّطل الحالي أكثر قيمة في الواقع من المؤخر تسليمه ؛ لأن المعيّن خير من الدّين في الذّمة ، والمعجّل أكثر قيمة من المؤجّل. وهذا النوع حرام لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما يرويه الشيخان من حديث أسامة : «لا ربا إلا في النسيئة».

وربا الفضل في البيوع : هو أن يباع مال مخصوص مع زيادة أحد العوضين على الآخر ، كبيع رطل من القمح أو العسل أو التّمر برطلين ، وبيع درهم بدرهمين. وهو حرام للحديث الصحيح الذي رواه أبو سعيد الخدري وعبادة بن الصامت رضي‌الله‌عنهما عن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وأختار هنا ما رواه مسلم ـ قال : «الذهب بالذهب ، والفضة بالفضة ، والبرّ بالبرّ ، والشّعير بالشّعير ، والتّمر بالتّمر ، والملح بالملح ، مثلا بمثل ، سواء بسواء ، يدا بيد ، فإذا اختلفت هذه

٩٤

الأجناس ، فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد» أي مقابضة. وهذا الحديث حينما بلغ ابن عباس الذي كان لا يحرّم إلا ربا النّسيئة ، ويجيز ربا الفضل ، رجع عن قوله. وأجيب عن حديث : «إنما الرّبا في النّسيئة» بأن القصد منه بيان الرّبا الأشد خطورة ، الأكثر وقوعا ، أو أنه محمول على حالة التفاضل بين جنسين مختلفين كبيع رطل من القمح برطلين من الشّعير إلى أجل ، فإن النّسيئة في ذلك حرام ، وأما التفاضل في الحال فليس حراما.

وقد يكون ربا الفضل في القرض : وهو الزيادة المشروطة للدّائن بغير مقابل ، كأن أقرض خالد عليّا مائة دينار على أن يدفع له في العام القادم مائة وعشرة.

والخلاصة : أن الآية دلّت بإطلاقها عن التقييد بربا النّسيئة على تحريم كل من ربا النّسيئة الجاهلي وربا الفضل أيضا بسبب الزيادة ، ويحرم أيضا الصلح على خمسمائة حالّة (معجّلة) مثلا مع من عليه ألف مؤجّلة ، فإن هذا في معنى ربا الجاهلية الذي كان قرضا مؤجّلا بزيادة مشروطة ، فكانت الزّيادة عوضا عن الأجل ، وفي مسألة الصلح انتفع المدين بباقي الدّين مقابل إسقاط الأجل ، فيصبح منتفعا بزيادة (فضل) من المال بدون عوض مالي.

ومن أنواع الرّبا : بيع الدّين بالدّين ، روى الدارقطني عن ابن عمر عن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أنه نهى عن بيع الكالئ بالكالئ».

والخلاصة : أن قوله تعالى : (وَحَرَّمَ الرِّبا) مجمل متوقف على ورود البيان ، فمن الرّبا ما هو بيع ، ومنه ما ليس ببيع وهو ربا الجاهلية : وهو القرض المشروط فيه الأجل وزيادة مال على المستقرض.

وهل تحريم الرّبا مقصور على الأصناف الستّة المذكورة في الحديث السابق ، أو يقاس عليها ما في معناها؟

٩٥

قال نفاة القياس وهم الظاهرية : إن الحرمة مقصورة على هذه الأصناف الستّة ، لا يزاد عليها.

وقال جمهور الفقهاء منهم أئمة المذاهب الأربعة : إن الحرمة غير مقصورة على هذه الأصناف ، وإنما تتعدّاها إلى كل شيء هو في معناها ، لأن النّص معلل بعلة مفهومة منه ، فتتعدى الحرمة إلى كلّ ما توجد فيه العلّة ، إذ لا تعقل التّفرقة بين متماثلين ، وإنما نصّ الحديث على أصول الأشياء في عصر النّبوّة.

فقال الحنفية ، والحنابلة في أشهر الروايات الثلاث عندهم : إنّ العلّة هي اتّحاد هذه الأصناف في الجنس والقدر ، أي الكيل والوزن ، فمتى اتّحد العوضان في الجنس ، والقدر الذي يباع به من كيل أو وزن ، حرم الرّبا بنوعيه ، كبيع الحنطة بالحنطة ، والحديد بالحديد ، وإذا عدما معا حلّ التفاضل والنّسيئة كبيع الحنطة بالدراهم إلى أجل ، وإذا عدم القدر واتّحد الجنس حلّ التفاضل دون النّسيئة ، كتفاحة بتفاحتين ، وإذا عدم الجنس واتّحد القدر حلّ الفضل دون النّسيئة أيضا كبيع الحنطة بالشّعير.

وقال الشافعية ، والمالكية في ظاهر المذهب : علّة تحريم الزيادة في الذهب والفضة هي النقدية (أي الثمنية ـ كونهما ثمنا للأشياء عادة).

والعلّة في الطّعام في ربا النّسيئة : هي مجرّد المطعومية ، لكن عند المالكية : على غير وجه التداوي ، وعند الشافعية : ولو بقصد التداوي ، فيحرم هذا الرّبا في الخضار والفاكهة ، وأما المأخوذ تداويا فلا ربا فيه عند المالكية ، وفيه الرّبا عند الشافعية.

وأما علّة ربا الفضل : فقد اختلف هذان المذهبان فيها ، فذهب المالكية إلى أنّ العلّة هي اتّحاد الجنس مع الاقتيات والادّخار ، فيجري هذا الرّبا في الحبوب كلّها والزّبيب واللحوم والألبان وما يصنع منها ، ولا يجري في الخضروات والفواكه

٩٦

لعدم قابليتها الادّخار ، وفي معنى الاقتيات : إصلاح القوت كملح ونحوه من التوابل والخلّ والبصل والثوم والزيت والسّمن.

وذهب الشافعية إلى أن العلة في الطعام : هي اتّحاد الجنس والطعمية أي كونها مطعومة ، والمطعوم يشمل كل ما يصلح الجسد مما يؤخذ اقتياتا أو تفكها أو تداويا.

واتفق الجمهور على منع بيع التمرة الواحدة بالتمرتين والحبة الواحدة من القمح بحبتين ، إذ لا فرق بين كثرة المال الربوي وقلته ، وأجاز الحنفية هذا البيع ، لأنه لا مكيل ولا موزون ، فجاز فيه التفاضل. وقال الجمهور : عقد الربا مفسوخ لا يجوز بحال ، فيجب فسخ صفقة الربا ولا تصح بحال. وقال الحنفية : بيع الربا فاسد ، لأنه بيع جائز بأصله من حيث هو بيع ، ممنوع بوصفه من حيث هو ربا ، فيسقط الربا ويصح البيع.

ويلاحظ أن أكثر البيوع الممنوعة إنما منعت بسبب وجود معنى الزيادة إما في عين المال ، وإما في منفعة لأحدهما من تأخير ونحوه. وهناك بيوع ممنوعة ليس فيها معنى الزيادة ، كبيع الثمرة قبل بدو صلاحها ، وكالبيع وقت النداء لصلاة الجمعة.

ويلاحظ أيضا أن الجودة والصنعة في الأموال الربوية ملغاة ، فجيدها ورديئها سواء ، سدا للذرائع ، ولا ينظر إلى الصنعة ، فالدينار الذهبي المسكوك والدرهم الفضي المسكوك والذهب والفضة غير المسكوكين (التبر) سواء ، وكذا الذهب أو الفضة غير المصوغ والمصوغ حليا سواء أيضا ، خلافا لما كان يراه معاوية بن أبي سفيان ، فقد اتفق العلماء على أن ما ذهب إليه معاوية غير جائز ، وليس مستبعدا أن يكون قد خفي عليه ما قد علمه أبو الدرداء وعبادة اللذان جادلا معاوية في خطأ رأيه ، لما ثبت عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من تحريم التفاضل في بيع الذهب والفضة والمطعومات.

٩٧

وبناء عليه يجب بيع الشيء بجنسه بوزن مساوله ، وإن اختلفا في الصياغة وعدمها ، ويصح بيع الذهب أو الفضة بالنقود الورقية الحالية مع التفاضل ، لاختلاف الجنس ، بشرط التقابض في مجلس العقد لكونهما نقدين ، سدا للذرائع ، وبسبب تفاوت سعر الذهب والفضة ارتفاعا وانخفاضا بين وقت وآخر ، فما يحدث في أسواق الصاغة من بيع وشراء كيلو ذهب مثلا أو سبيكة بوزن معين وبسعر معين دون قبض المبيع ودفع الثمن نقدا : لا يجوز شرعا ، درءا للمنازعات.

سبب تحريم الربا :

الإسلام دين الجهد والعمل ، والتعاطف والتراحم ، والود والحب والوئام ، والصفاء وسلامة النفوس من الأحقاد ، والحق والعدل.

فلا يجيز كسبا بغير عمل ، ويرغب في الصدقة والقرض الحسن ، ويحرم استغلال حاجة الضعيف ، ويحظر كل ما يؤدي إلى العداوة والبغضاء والمنازعات ، ويستأصل الحقد والحسد والجشع والطمع من النفوس ، ويوجب أخذ المال من طريق مشروع حلال لا ظلم فيه ، ويكره تكديس الثروة في أيدي فئة قليلة من الناس تتحكم في مصائر الآخرين وأقواتهم وتتلاعب باقتصاديات الدولة والأمة.

لهذه المبادئ السامية كلها ، وحفاظا عليها حرم الله الربا للأضرار التالية :

١ ـ إنه يعوّد الإنسان على التكسب بدون عمل أو حرفة ، كالتجارة أو الصناعة أو الزراعة أو المهنة الشريفة التي اقتضتها ظروف الحياة المعاصرة مثل الطبابة والهندسة والصيدلة والمحاماة بشرط الدفاع عن الحق والعدل وتحامي الدفاع بالباطل ، أو تبرئة الجاني أو المجرم. وهذا يجعل المرابين مصاصين لدماء الفئة العاملة الكادحة ، ويعتمد في عيشه ودخله على مورد بغير جهد ، وذلك مما يستفيده من فوائد الأموال المودعة في المصارف الربوية للإقراض بفائدة.

٩٨

٢ ـ والربا هو مجرد كسب من غير عوض ، والشرع يحرم أخذ المال ظلما بغير حق شرعي ، ويمنع استغلال القوي الضعيف.

٣ ـ إنه يؤدي إلى زرع الأحقاد والحسد في قلوب الفئة الفقيرة على الأغنياء ، ويولد العداوة والبغضاء ، ويثير المشاحنات والخصومات بين الناس ، إذ هو يقضي على عاطفة التراحم والتعاون ، ويجعل الإنسان عبدا للمال ، وكأنه ذئب ينقض على ما في جيوب الناس بأسلوب هادئ ماكر خبيث دون إثارة أو معرفة الغريم.

٤ ـ إنه يقضي على وشائج الصلة بين الناس ، ويقطع المعروف بينهم بالقرض الحسن ، ويسلب مال الفقير أو المحتاج وهو في أشد حالات الحاجة والعوز ، لتسيير شؤون عمله وحياته.

٥ ـ إن عاقبته العامة تدمير القيم الإنسانية وتوليد الصراع بين الأفراد ، والتحكم في الاقتصاد العام للأمة ، وعاقبته الخاصة الوقوع في الخراب والفقر والحرمان في نهاية الأمر ، إذ يمحق الله الربا ، ويربي الصدقات ، كما بينا. والخراب يشمل المرابي ، كما يشمل دافع الربا ، فكثير ما أدى اقتراض المزارعين من المصارف الزراعية إلى بيع أراضيهم لتسديد القروض المصرفية وفوائدها ، لأن الزراعة كثيرة النفقات ، معرضة للآفات الزراعية ، والقحط والجدب.

وكذلك أصحاب المعامل وتجار المحلات إذا اقترضوا من المصارف لا يتمكنون غالبا من سداد الديون ، ويصبحون عاجزين عنها وبخاصة في السنوات الأولى من العمل والإنتاج ، فكيف يسددون أصل الدين مع ما يضم إليه من فوائد؟! والفوائد المصرفية تتضاعف مع مرور السنوات ، فتصبح الفوائد تكاد تعادل أصل القرض.

ولا فرق في تحريم الربا بين ما يسمى بالقروض الإنتاجية ، والقروض

٩٩

الاستهلاكية ، إذ لا يجوز الاقتراض بفائدة إلا لضرورة قصوى ، وهي الحالة التي يغلب على الظن فيها الوقوع في الهلاك أو التسيب في الشارع ونحو ذلك من الحالات النادرة التي لا تنطبق على ما يدعيه أصحاب المعامل والمحلات التجارية من ضرورات ، وهم يقصدون بذلك إما توسيع دائرة العمل والنشاط ، أو دعم المصنع بآلات حديثه مثلا ، وكل هذه المزاعم لا تدخل في دائرة الضرورة بحسب ضوابطها الشرعية ، ولا تحل الحرام القطعي التحريم.

والربا حرام ويبطل ما قبض منه ، ولا يجوز أخذ ما زاد على أصل رأس المال ، قلّ أو كثر ، وقد دلت الآية على ذلك : (وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ) ودلت أيضا على أن أكل الربا والعمل به من الكبائر ، لكونه سببا في معاداة الله ورسوله ، جاء رجل إلى مالك بن أنس رضي‌الله‌عنه ، فقال : يا أبا عبد الله ، إني رأيت رجلا سكرانا يتعاقر ، يريد أن يأخذ القمر ، فقلت : امرأتي طالق إن كان يدخل جوف ابن آدم أشرّ من الخمر ، فقال : ارجع حتى أنظر في مسألتك. فأتاه من الغد ، فقال له : ارجع حتى أنظر في مسألتك ، فأتاه من الغد ، فقال له : امرأتك طالق ، إني تصفحت كتاب الله وسنة نبيه ، فلم أر شيئا أشرّ من الربا ، لأن الله أذن فيه بالحرب.

وسبيل التوبة مما بيد الإنسان من الأموال الحرام إن كانت من ربا ، فليردّها على من أربى عليه ، ويطلبه إن لم يكن حاضرا ، فإن أيس من وجوده فليتصدق بذلك عنه. وإن أخذه بظلم فليفعل كذلك في أمر من ظلمه.

الموضوع الثالث ـ نظرية الميسرة :

لما حكم جل وعز لأرباب الربا برؤوس أموالهم عند المدينين ، حكم في ذي العسرة بالانتظار إلى حال الميسرة ، وذلك أن ثقيفا لما طلبوا أموالهم التي لهم على بني المغيرة ، شكوا ـ أي بنو المغيرة ـ العسرة ، كما بينا في سبب النزول ، وقالوا :

١٠٠