التفسير المنير - ج ٣

الدكتور وهبة الزحيلي

المناسبة :

حددت آية الكرسي ما يتصف به الله عزوجل من تفرد بالألوهية والملك والسلطان في السموات والأرض ، والحياة ، والقيام بأمر الخلائق دون عناء ولا مشقة ، وإحاطة العلم بكل شيء ، فلا يصح بعدئذ أن يكون هناك إكراه على الدخول في الدين ؛ لأن الفطرة ، والمشاهدات الكونية ، والفكر السليم تهدي إلى الإيمان بوجود الله ووحدانيته والاقتناع بالإسلام دينا ومنهج حياة.

التفسير والبيان :

لا تكرهوا أحدا على الدخول في الإسلام ، فإن دلائل صحته لا تحتاج بعدها إلى إكراه ، ولأن الإيمان يقوم على الاقتناع والحجة والبرهان ، فلا يفيد فيه الإلجاء أو القسر أو الإلزام والإكراه ، كقوله تعالى : (أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) [يونس ١٠ / ٩٩].

وقد بان طريق الحق من الباطل ، وعرف سبيل الرشد والفلاح ، وظهر الغي والضلال ، وأن الإسلام هو منهج الرشد ، وغيره طريق الضلال ، فمن شاء فليؤمن به ومن شاء فليكفر.

وهذه الآية أوضح دليل على بطلان زعم أن الإسلام قام بالسيف ، فلم يكن المسلمون قبل الهجرة قادرين على مجابهة الكفار أو إكراههم ، وبعد أن تقووا في المدينة وعلى مدى القرون الماضية لم يكرهوا أحدا على الإسلام ، كما يفعل أتباع الملل الأخرى كالنصارى ، وقد نزلت هذه الآية في بداية السنة الرابعة من الهجرة ، حيث كان المسلمون أعزاء وأقوياء.

ولم يلجأ المسلمون إلى الحرب أو الجهاد إلا لرد العدوان ، والتمكين من حرية التدين ، ومنع تعسف السلطة الظالمة الحاكمة من استعمال المسلمين حقهم في الدعوة

٢١

إلى الله ، ونشر الإسلام في أنحاء الأرض ، بدليل قبول المعاهدات والصلح على دفع الجزية وتخيير العدو بين ذلك وبين الاحتكام إلى القتال.

ومن هداه الله للإسلام ، وشرح صدره ونور بصيرته ، دخل فيه على بينة ، ومن أعمى الله قلبه ، وختم على سمعه وبصره ، بسبب عدم استخدامه وسائل النظر والمعرفة الصحيحة ، فإنه لا يفيده الدخول في الدين مكرها مقسورا.

وبناء عليه ، من خلع الأنداد والأوثان وما يدعو إليه الشيطان من عبادة غير الله ، وكفر بعبادة أي مخلوق من الناس أو الجن أو الشيطان أو الكواكب أو الأوثان والأصنام ، وعبد الله وحده وشهد أن لا إله إلا هو ، فقد تمسك بالحق ، وثبت على الهدى ، واستقام على الطريق المستقيم ، وكان مثله مثل الممسك بعروة حبل محكم مأمون الانقطاع ، أي أن الله تعالى شبه من استمسك من الدين بأقوى سبب بمن استمسك بالعروة القوية التي لا تنفصم ، فصارت محكمة مبرمة قوية ، لا يحلّ ربطها القوي الشديد. والعروة الوثقى فسرت بعبارات ترجع إلى معنى واحد : وهي الإيمان ، أو الإسلام ، أو لا إله إلا الله.

والله يرصد بدقة أقوال الناس وأفعالهم وتصوراتهم وأفكارهم ، فهو سميع لقول من يدعي الكفر بالطاغوت والإيمان بالله ، عليم بما يضمره قلبه من تصديق أو تكذيب ؛ لأن الإيمان : ما نطق به اللسان واعتقده القلب ، والله سميع عليم بكل شيء ظاهر وباطن ، يعلم حقائق الأشياء والأقوال والمعتقدات والأفعال. قال القرطبي : ولما كان الكفر بالطاغوت ، والإيمان بالله مما ينطق به اللسان ويعتقده القلب حسن في الصفات : (سَمِيعٌ) من أجل النطق ، (عَلِيمٌ) من أجل المعتقد.

والله يتولى أمور المؤمنين بالرعاية والعناية والهداية لأرشد الأمور ، وهو يخرجهم بهداية الحواس والعقل والدين من ظلمات الشك والشبهة ، والجهل

٢٢

والضلالة ، والكفر والانحراف ، إلى نور العلم والمعرفة واليقين والإيمان الصحيح ، كما قال : (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا ، فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ) [الأعراف ٧ / ٢٠١] قال مجاهد وعبدة بن أبي لبابة : نزلت في قوم آمنوا بعيسى ، فلما جاء محمد عليه‌السلام كفروا به ، فذلك إخراجهم من النور إلى الظلمات (١).

وأما الكافرون بالله ورسوله فلا سلطان على نفوسهم إلا لمعبوداتهم الباطلة التي تقودهم إلى الضلال ، فإن لاح لهم نور الحق والإيمان ، بادر الشيطان وما يلقيه من وساوس إلى إطفاء هذا النور ، وإبقاء الكفار في ظلمات الشك والضلال ، والكفر والعصيان ، أو النفاق والتردد.

وكان جزاؤهم الحق المنتظر هو الخلود في النار والملازمة لها بسبب بعدهم عن الهدى ، وتماديهم في الضلال ، وعدم استنارة قلوبهم بنور الحق.

وبما أن الحق واحد وحّد الله تعالى لفظ النور ، وجمع الظلمات ؛ لأن الكفر أجناس مختلفة كثيرة ، وكلها باطلة ، كما قال : (وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ ، وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ ، فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ، ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [الأنعام ٦ / ١٥٣] وقال تعالى : (وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ) [الأنعام ٦ / ١] ونحو ذلك من الآيات التي في لفظها إشعار بتفرد الحق وانتشار الباطل وتشعبه.

فقه الحياة أو الأحكام :

هذه الآية قاعدة من قواعد الإسلام الكبرى ، وركن عظيم من أركان سياسته ومنهجه ، فهو لا يجيز إكراه أحد على الدخول فيه ، ولا يسمح لأحد أن يكره أحدا من أهله على الخروج منه.

__________________

(١) البحر المحيط : ٢ / ٢٨٣

٢٣

وهذا يكون إذا كنا أصحاب قوة ومنعة نحمي بها ديننا وأنفسنا ممن يحاول فتنتنا في ديننا ، ويكون الجهاد ضد السلطة الباغية أمرا اضطراريا لتأمين حرية الدعوة ، وأمن الفتنة ، وتترك قضية التدين أو اعتناق الإسلام في المجال الفردي أو الجماعي أو الشعبي للمجادلة بالتي هي أحسن ، وللإقناع بالحجة والبرهان.

وأما ادعاء كون هذه الآية منسوخة بآية (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ) [التوبة ٩ / ٧٣] كما روي عن ابن مسعود ، فهو يتنافى مع كون هذه الآية نزلت في السنة الثالثة أو الرابعة من الهجرة ، بعد تشريع الجهاد والإذن بالقتال ، ويتناقض مع سبب بالنزول كما بينا ، فضلا عن الاختلاف في النسخ على ستة أقوال أوردها القرطبي (١).

فقال الشعبي وقتادة والحسن البصري والضحاك : ليست بمنسوخة ، وإنما نزلت في أهل الكتاب خاصة ، وأنهم لا يكرهون على الإسلام إذا أدوا الجزية ، والذين يكرهون : أهل الأوثان من العرب ، فلا يقبل منهم إلا الإسلام ، فهم الذين نزل فيهم : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ) وحجتهم : ما رواه زيد بن أسلم عن أبيه ، قال : سمعت عمر بن الخطاب يقول لعجوز نصرانية : أسلمي أيتها العجوز تسلمي ، إن الله بعث محمدا بالحق ، فقالت : أنا عجوز كبيرة والموت إلي قريب! فقال عمر : اللهم اشهد ، وتلا : (لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ).

وضعّف ابن العربي القول بنسخ الآية ، وقال : (لا إِكْراهَ) عموم في نفي إكراه الباطل ، فأما الإكراه بحق فإنه من الدين ، ورأى أن قتل الكافر في الحرب قتل على الدين (٢) ، لقولهصلى‌الله‌عليه‌وسلم في الحديث المتواتر الذي رواه الأئمة عن أبي هريرة : «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا : لا إله إلا الله» وهو مأخوذ من قوله تعالى : (وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ ، وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ)

__________________

(١) تفسير القرطبي : ٣ / ٢٨٠

(٢) أحكام القرآن : ١ / ٢٣٣

٢٤

[البقرة ٢ / ١٩٣] لكن فاته أن المراد بالناس بإجماع العلماء هم مشركو العرب. وهذا راجع لسبب خاص بالعرب ؛ لأنهم حملة رسالة الإسلام ، وبلادهم منطلق الإسلام ، فجاز إكراههم بحق لهذين السببين.

ودلت آية (لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ) على ظهور أدلة الرشد والإيمان وتميز الدين الحق عن الغي والضلال والجهالة ، وأن الإسلام هو دين الحق ، وأن أنواع الكفر كلها باطلة.

ودلت آية (اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا) على أن من آمن من الناس ، فالله متولي أموره ، يخرجه من ظلمة الكفر إلى نور الإيمان ، ومن كفر بعد وجود النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، الداعي المرسل ، فشيطانه مغويه ، كأنه أخرجه من الإيمان ، إذ هو معه. ودلت أيضا على أن الحكم على الكفار بالدخول في النار ، لكفرهم هو عدل منه تعالى ، ولا يسأل عما يفعل.

وهذه الآية بمثابة الدليل على منع الإكراه في الدين ؛ لأن الولاية على العقول والقلوب هي لله تعالى وحده ، والهداية إلى الإيمان تكون بتوفيق الله تعالى من شاء ، وإعداده للنظر في الآيات والخروج من الشبهات ، بما ينقدح لنظره من نور الدليل ، لا بالإجبار والإكراه.

والخلاصة : أن المؤمن لا ولي له ولا سلطان لأحد على اعتقاده إلا الله تعالى ، وتكوين الإيمان يكون باستعمال الهدايات التي وهبها الله للإنسان وهي الحواس والعقل والدين.

أما الكفار فلا سلطان على نفوسهم إلا لتلك المعبودات الباطلة المؤدية إلى الطغيان ، فهي التي تقوده إلى إخلاء قلبه من الإيمان ، والانصراف إلى التمتع بالشهوات الحسية أو المعنوية كالسلطة أو الجاه ، والاسترسال في الفواحش والمنكرات أو الظلم والطغيان. وعرف ابن القيم الطاغوت : بأنه ما تجاوز به

٢٥

العبد حده من معبود أو متبوع أو مطاع ، وقال : الطواغيت كثيرة ، ورؤوسهم خمسة : إبليس لعنه الله ، من عبد وهو راض ، من دعا الناس إلى عبادة نفسه ، من ادعى شيئا من علم الغيب ، من حكم بغير ما أنزل الله.

قصة النّمروذ الملك

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتاهُ اللهُ الْمُلْكَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قالَ إِبْراهِيمُ فَإِنَّ اللهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٢٥٨))

الإعراب :

(رَبِّهِ) الهاء تعود على الذي وهو نمروذ (آتاهُ اللهُ الْمُلْكَ) في موضع نصب لأنه مفعول لأجله ، وتقديره : لأن آتاه الله ، فحذف اللام فاتصل الفعل به. والهاء في (آتاهُ) فيها وجهان : إما أن تكون عائدة على إبراهيم ، أي : أن آتى الله إبراهيم النبوة ، وإما أن تعود على (الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ) وهو نمروذ الذي خاصم إبراهيم لأن آتاه الله الملك. (إِذْ قالَ) إذ : ظرف زمان والعامل فيه (تَرَ). والياء في (رَبِّيَ) يجوز فيها التحريك والإسكان ، فمن حركها شبهها بالكاف في (رَأَيْتَكَ) ، ومن سكّنها استثقل الحركة عليها ، لأن الحركات تستثقل على حرف العلة.

البلاغة :

(أَلَمْ تَرَ) الاستفهام للتعجب ، والرؤية قلبية.

(يُحْيِي وَيُمِيتُ) عبر بالمضارع لأنه يفيد التجدد والاستمرار. وصيغة (رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ) تفيد القصر لورود المبتدأ والخبر معرفتين ، أي أنه تعالى وحده هو الذي يحيي ويميت. ويوجد طباق بين يحيي ويميت أو بين المشرق والمغرب.

(فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ) يشعر التعبير بأن العلة وسبب الحيرة هو كفره ، ولو قال : فبهت الكافر لما أدى ذلك المعنى.

٢٦

المفردات اللغوية :

(أَلَمْ تَرَ) الاستفهام للتعجب والإنكار (حَاجَ) جادل (أَنْ آتاهُ اللهُ الْمُلْكَ) أي حمله بطره بنعمة الله على ذلك وهو نمروذ.

(فَبُهِتَ) تحير ودهش ، وفي الحديث : «إن اليهود قوم بهت» ، (الظَّالِمِينَ) المعرضين عن قبول الهداية بالنظر فيما يؤدي إلى الحق.

المناسبة :

لما ذكر الله تعالى فيما سبق أن الله ولي الذين آمنوا ، وأن الطاغوت ولي الكافرين ، أعقبه بذكر نموذج للإيمان ونموذج للطغيان ، ليبين تلك القضية ويشهد على صدقها وصحتها ، وهو أن إبراهيم وفقه الله للأدلة التي تدحض الشبهات ، وأن الملك عمي عن نور الحق ، فكانت حججه متهافتة ساقطة ، تتردد في ظلمات الشكوك والأوهام ، فصارت هذه القصة مثلا للمؤمن والكافر اللذين تقدم ذكرهما (١).

التفسير والبيان :

ألم تعلم قصة النمروذ الملك الذي تجبر وادعى الربوبية وهو النّمروذ بن كوش بن كنعان بن سام بن نوح عليه‌السلام ملك زمانه ، وعارض إبراهيم في ربوبية الله (٢).

والذي حمله على المجادلة : هو الملك وما يعقبه من كبر وبطر وغرور ، وهو ملك بابل ، وقيل : إنه ملك زمانه ، ملك الدنيا بأجمعها ، قال مجاهد : وملك الدنيا مشارقها ومغاربها أربعة : مؤمنان وكافران : فالمؤمنان : سليمان بن داود

__________________

(١) البحر المحيط : ٢ / ٢٨٦

(٢) تفسير ابن كثير : ١ / ٣١٣

٢٧

وذو القرنين ، والكافران : نمروذ وبختنصّر (١). فالنمروذ الملك لم يشكر النعمة ، بل أبطرته ، وجعلته يطغى ، مع أن النعمة مدعاة الشكر ، فجعل ما كان سببا في الطاعة سببا في المعصية.

وهو في رأي ابن عباس ومجاهد وجماعة آخرين : صاحب النار والبعوضة ، فهو الذي أضرم النار لإحراق إبراهيم عليه‌السلام ، وكان إهلاكه لما قصد المحاربة مع الله تعالى : بأن فتح الله تعالى عليه بابا من البعوض ، وبعثها على عسكره ، فأكلت لحومهم ، وشربت دماءهم ، ودخلت واحدة منها في دماغه ، فأكلته حتى صارت مثل الفأرة ، فكان أعز الناس عنده بعد ذلك من يضرب دماغه بمطرقة عتيدة لذلك ، فبقي في البلاء أربعين يوما (٢).

وكان قوم الملك يعبدون ملوكهم مع آلهتهم ، فأحب الملك أن يرجع إبراهيم عن نحلته الجديدة المخالفة لنحلة قومه ، وان يعبده وآلهته.

وهذه قصة المجادلة (٣) :

حينما كسّر إبراهيم عليه‌السلام الأصنام التي تعبد من دون الله ، وسفّه عقول عابديها ، سأله نمروذ عن ربه الذي يدعو إلى عبادته ، فأجابه : ربي الذي يحيي ويميت فهو مصدر الحياة وسبب الممات ، أي ينشئ الحياة والموت ، فأنكر الملك الطاغية الذي كان أول من تجبر وقال : أنا أحيي بعض البشر بالعفو عمن حكم عليه بالإعدام ، وأميت البعض الآخر بالقتل وتنفيذ الحكم المقرر عليه ، وأحضر رجلين عفا عن أحدهما ، وقتل الآخر ، وأخذ أربعة نفر فأدخلهم بيتا وتركهم بدون طعام وشراب ، ثم أطعم اثنين فحييا ، وترك اثنين فماتا.

__________________

(١) تفسير ابن كثير : ١ / ٣١٣

(٢) تفسير القرطبي : ٣ / ٢٨٤

(٣) قصص الأنبياء للأستاذ عبد الوهاب النجار : ص ٨١

٢٨

وهذا أول السقوط والضعف في حجة النمروذ ، لأن المراد في قول إبراهيم : إنشاء الحياة وتكوينها بعد العدم ، وإزالة الحياة القائمة لجميع الكائنات الحية من نبات وحيوان وغيرهما ، لا مجرد التسبب في بقاء الحياة ، وإعدامها لفئة من الناس حكم عليهم بالإعدام ، فجواب النمروذ بمعنى أنه يكون سببا في الإحياء والإماتة.

ولما رأى إبراهيم مغالطة الطاغية وتجاهله المقصود من معنى الإحياء والإماتة ، انتقل إلى حجة أخرى لا مجال فيها للمكابرة أو المغالطة ، فقال : إن ربي الذي يمنح الحياة ويسلبها بقدرته وإرادته المطلقة هو الذي يطلع الشمس من المشرق ، فإن كنت تدعي الربوبية ، فغيّر نظام طلوع الشمس وغروبها ، وائت بها من جهة المغرب.

فلم يجد من تولى كبره جوابا ، ودهش وتحير ، وأعجزته الحجة ، وأفحمه إبراهيم ، وغلبه وأسكته ، وقطع حجته ، ولم يمكنه ، أن يقول : آنا الآتي بها من المشرق ، لأن الواقع يكذبه.

والله لا يهدي الظالمين أنفسهم المعرضين عن قبول هداية الله إلى طريق الخير والفلاح أبدا ، بل يطمس الله على قلوبهم وبصائرهم ، ويفضح شأنهم في أحلك أوقات الشدة والأزمة أمام الملأ من الناس. وهذا يدل على أن عدم الهداية ليس للطائعين ، وإنما للظالمين ، والمراد : هداية خاصة ، أو ظالمون مخصوصون (١).

وقد ذكر السّدّي أن هذه المناظرة كانت بين إبراهيم ونمرود بعد خروج إبراهيم من النار ، ولم يكن اجتمع بالملك ، إلا في ذلك اليوم ، فجرت بينهما هذه المناظرة ، وكان ذلك نصرا لخليل الله إبراهيم بعد نصر ، وهكذا تتوالى الانتصارات لأولياء الله وأصفيائه ، وتتعاقب الهزائم لأعداء الله ، وتبدو مواقف الخذلان لهم

__________________

(١) البحر المحيط : ٢ / ٢٨٩

٢٩

لكل ناظر عاقل متأمل ، كما قال تعالى : (بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ ، فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ) [الأنبياء ٢١ / ١٨].

فقه الحياة أو الأحكام :

تدل هذه الآية على جواز تسمية الكافر ملكا إذا آتاه الله الملك والعزّ والرّفعة في الدنيا ، وتدل أيضا على جواز أن ينعم الله على الكافرين في الدنيا ، ثم يحرم منها في الآخرة ، ولا يجد إلا النار. وتدل على إثبات المناظرة وصحة المجادلة في الدين وإقامة الحجة ، وفي القرآن والسنة مواقف كثيرة من هذا الجدال ، كما في قصة نوح عليه‌السلام مثلا : (قالُوا : يا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا) [هود ١١ / ٣٢ ـ ٣٥] إلى قوله : (وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ) ، لأن الجدال في الدّين لا يظهر فيه الفرق بين الحق والباطل إلا بظهور حجة الحق ودحض حجة الباطل. وجادل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أهل الكتاب ، وباهلهم (١) بعد بيان الحجة. وتجادل أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم السقيفة وتدافعوا وتناظروا حتى صدر الحق في أهله ، ثم تناظروا أيضا بعد مبايعة أبي بكر في أهل الردة ، إلى غير ذلك مما يكثر إيراده.

وفي قول الله عزوجل : (فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ) [آل عمران ٣ / ٦٦] دليل على أن الاحتجاج بالعلم مباح شائع لمن تدبر.

وأدب المجادلة محدد مرسوم في القرآن الكريم في قوله تعالى : (ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ، وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) [النحل ١٦ / ١٢٥].

__________________

(١) المباهلة : الملاعنة ، ومعنى المباهلة : أن يجتمع القوم إذا اختلفوا في شيء ، فيقولوا : لعنة الله على الظالم منا.

٣٠

وذكر الأصوليون في ، هذه الآية : أن إبراهيم عليه‌السلام ، لما وصف ربه تعالى بالإحياء والإماتة ، قصد إلى الحقيقة ، وأما النمرود فلجأ إلى المجاز وموّه على قومه ، فسلّم له إبراهيم تسليم الجدل ، وانتقل معه إلى أمر لا مجاز فيه ، وعارضة بالشمس ، فبهت الذي كفر.

ويستفاد من الآية أيضا أن الله تعالى لا يشبهه شيء من خلقه ، وأن طريق معرفته : ما في الكون من الدلائل القاطعة على توحيده ، لأن أنبياء الله عليهم‌السلام إنما حاجوا الكفار بمثل ذلك ، ولم يصفوا الله تعالى بصفة توجب التشبيه ، وإنما وصفوه بأفعاله واستدلوا بها وبآثاره عليه.

قصة العزير وحماره

(أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها قالَ أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللهُ بَعْدَ مَوْتِها فَأَماتَهُ اللهُ مِائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قالَ كَمْ لَبِثْتَ قالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وَشَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلى حِمارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٥٩))

الإعراب :

(أَوْ كَالَّذِي) : الكاف إما زائدة ، وتقديره : أو الذي مر على قرية على عروشها ، وهي خاوية. والذي : في موضع جر ، معطوف على قوله : (إِلَى الَّذِي حَاجَ) ، وإما للتشبيه ، معطوفا على معنى ما تقدمه من الكلام ، لأن معنى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَ) ، وألم تر كالذي حاج : واحد. (عَلى عُرُوشِها) في موضع نصب ، لأنه بدل من قوله : (عَلى قَرْيَةٍ) ، ويكون

٣١

(وَهِيَ خاوِيَةٌ) جملة اعتراضية. وفسر قوم : (وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها) أي ساقطة سقوفها ، فلا يكون هناك اعتراض.

(كَمْ لَبِثْتَ) : كم : في موضع نصب على الظرفية الزمانية ، وتقديره : كم لبثت يوما.

(لَمْ يَتَسَنَّهْ) إما أصله : يتسنّن ، من قوله : (حَمَإٍ مَسْنُونٍ) أي متغير ، قلبت النون الثالثة ياء كراهية اجتماع ثلاث نونات ، ثم قلبت الياء ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها ، فصار «يتسنّى» ثم حذفت الألف للجزم ، فصار : يتسن ، وأدخلت عليه هاء السكت ، وإما مأخوذ من «تسنّه وسانهت» تفعل من السنة ، فيكون المعنى : لم يتغير بمرّ السنين ، وأصل سنة : سنهة. (وَلِنَجْعَلَكَ) الواو عطف على فعل مقدر ، تقديره : انظر إلى حمارك لتتيقن ما تعجبت منه ، حين قلت : أنى يحيي هذه الله بعد موتها ، ولنجعلك آية للناس.

البلاغة :

(بَعْدَ مَوْتِها) أي موت سكان القرية ، مجاز مرسل من قبيل إطلاق المحل وإرادة الحال.

(ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً) فيها استعارة الكسوة للحم الذي غطى العظم ، كما يستر الجسد باللباس ، ثم حذف المشبه به وهو الثوب ، وأتى بشيء من لوازمه وهو الكسوة على سبيل الاستعارة المكنية.

المفردات اللغوية :

(أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ) أي عزير الذي مر على ضيعة هي بيت المقدس ، راكبا ومعه سلة تين وقدح عصير (خاوِيَةٌ) ساقطة ، أو خالية من السكان ، والعروش : السقوف ، لما خربها بختنصر. (أَنَّى يُحْيِي) كيف ، وهو استبعاد منه للإحياء بعد الموت ، والمراد بالإحياء هنا : العمارة بالبناء والسكان (بَعْدَ مَوْتِها) خرابها (فَأَماتَهُ اللهُ) أي جعله فاقدا للحس والحركة والإدراك بدون أن تفارق الروح البدن بتاتا ، كما حدث لأهل الكهف (ثُمَّ بَعَثَهُ) أرسله من بعثت الناقة : إذا أطلقتها من مكانها ، وعبر بالبعث دون الإحياء إيذانا بأنه عاد كما كان أولا حيا عاقلا كامل المدارك. ويرى الأطباء أن من الناس من يبقى حيا زمنا طويلا ، لكنه يكون فاقد الحس والشعور ، وهو المسمى لديهم بالسبات : وهو النوم المستغرق ، ومرد كل ذلك إلى قدرة الله بالحفظ مائة سنة أو ثلثمائة سنة أو أكثر أو أقل ، وقال القرطبي : وظاهر هذه الإماتة أنها بإخراج الروح من الجسد. (طَعامِكَ) التين (وَشَرابِكَ) العصير (لَمْ يَتَسَنَّهْ) لم يتغير مع طول الزمان ، والهاء إما للسكت من سانيت ، وإما من أصل الكلمة وهي سانهت (وَانْظُرْ إِلى حِمارِكَ) كيف هو ، فرآه ميتا وعظامه باقية (وَلِنَجْعَلَكَ) فعلنا ذلك لتعلم ولنجعلك آية على البعث ، أي علامة على قدرة

٣٢

الله (نُنْشِزُها) نرفعها من الأرض ثم نردها إلى أماكنها من الجسد وقرئ «ننشرها» أي نحييها (ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً) فنظر إليها وقد تركبت وكسيت لحما ، ونفخ في الجسد الروح ، وظهرت عليه علائم الحياة (أَعْلَمُ) علم مشاهدة.

المناسبة :

القصة السابقة لإثبات وجود الله ، وهذه القصّة والتي تليها في قوله تعالى : (وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ) لإثبات الحشر والبعث بعد الفناء.

التفسير والبيان :

أرأيت مثل هذا الذي مرّ على قرية وهي خاوية على عروشها ، أي ساقطة جدرانها على سقوفها (١) ، وهي معطوفة على قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ) وهي بمعنى قوله : هل رأيت مثل الذي حاجّ في ربّه. وما هي القرية؟ ومن هو المارّ؟ قيل : إنّه بيت المقدس ، والمارّ : هو عزير بن شرخيا ، وهو القول المشهور ، وقيل : هي دير هرقل على شطّ الدّجلة ، والمارّ : هو أرميا من سبط هارون عليه‌السلام. وقيل : إنه الخضر عليه‌السلام ، وقيل : اسمه حزقيل بن بوار ، وقال مجاهد : هو رجل من بني إسرائيل.

فقال : كيف يعمّر الله هذه القرية بعد خرابها ، والمراد استبعاد عمرانها بالبناء والسّكان ، بعد أن خربت وتفرّق أهلها ، ولكنّه في الوقت نفسه يستعظم قدرة الله تعالى لما رأى شدّة خرابها ، فقوله : اعتراف بالعجز عن معرفة طريقة الأحياء ، واستعظام لقدرة المحيي.

فجعله الله فاقد الحسّ والحركة مائة عام ، مع بقائه حيّا ، ثمّ أطلق فيه

__________________

(١) قال السّدي : يقول : هي ساقطة على سقفها ، أي سقطت السّقف ، ثم سقطت الحيطان عليها. واختاره الطّبري. وقال غير السّدّي : معناه خاوية من الناس ، والبيوت قائمة ، وخاوية معناها خالية.

٣٣

الحركة وبعثه بسرعة وسهولة ، كأنّه كان نائما ثم استيقظ ، فوجد القرية قد عمرت بعد سبعين سنة من موته ، وتكامل ساكنوها ، ورجع إليها بنو إسرائيل. فقيل له بواسطة الملك : كم وقتا لبثت؟ وسئل هذا السؤال ليظهر عجزه عن الإحاطة بشؤون الله تعالى. وأكثر المفسّرين على أن ظاهر هذه الإماتة : أنها بإخراج الرّوح من الجسد ، والأظهر أن القائل : هو الله تعالى ، من طريق ملك أو هاتف من السماء يقول له ذلك.

فقال : لبثت يوما أو بعض يوم ، على التّقريب والظنّ والتّخمين ، لأنّه مات أوّل النهار ، ثم بعثه الله في آخر النهار ، فلما رأى الشمس باقية ظنّ أنها شمس ذلك اليوم ، فقوله هذا على ما عنده وفي ظنّه ، فلا يكون كاذبا فيما أخبر به ، ومثله قول أصحاب الكهف : (قالُوا : لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ) [الكهف ١٨ / ١٩] ، وإنّما لبثوا ثلثمائة سنة وتسع سنين.

فأجيب : بل لبثت مائة عام ، فانظر لترى دلائل قدرتنا إلى طعامك وشرابك طوال هذه المدّة ، لم يتغيّر ولم يفسد ، مع أنّ العادة جرت بفساد مثله بمضي مدّة قليلة.

وانظر أيضا لترى الدّليل على قدرتنا إلى حمارك كيف نخرت عظامه وتقطّعت أوصاله ، لتتبيّن تطاوّل مرور الزّمان عليه وعليك وأنت راقد أو نائم فعلنا بك ما فعلنا لتعاين ما استبعدته ، ولتتيقّن ما تعجبت منه ، ولنجعلك دليلا على المعاد ، وآية دالّة على تمام قدرتنا على البعث يوم القيامة ، كقوله تعالى : (ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ) [لقمان ٣١ / ٢٨] ، فقوله : (وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ) دليل على البعث بعد الموت.

وانظر كيف نرفع عظام حمارك المتناثرة يمينا وشمالا ، فيركب بعضها على بعض ، ونردها إلى أماكنها من الجسد ، ثم نكسوها لحما وعصبا وعروقا وجلدا ،

٣٤

كما يستر الثوب الجسد ، ثم بعث الله ملكا فنفخ الرّوح في هذا الجسم ، فنهق كله بإذن الله عزوجل ، وذلك كلّه بمرأى من العزير. فالقادر على هذا الإحياء بعد موت مائة سنة قادر على الإحياء بعد آلاف السنين ، لأن الأفعال الإلهية تشبه بعضها.

فلما تبيّن له هذا كله قال : أنا عالم بهذا ، وقد رأيته عيانا ، وأعلم علما يقينيا أن الله على كل شيء من الأشياء قدير لا يستعصي عليه أمر.

فقه الحياة أو الأحكام :

هذه القصة دليل واضح على إمكان البعث بعد الفناء ، والحشر بعد النشر من القبور ، والدليل الثابت الذي يمكن أن يحتجّ به على البعث في كل زمان ومكان : هو سنته تعالى في تكوين الحيوان وإنشاء لحمه وعظمه ، والإنشاء معناه : التقوية ، والإنشاز معناه : التنمية. وهذه حالة خاصة ، وأما الآية الكبرى العامة وهي كيفية التّكوين الدّالة على قدرة الله على البعث ، فهي قوله تعالى : (كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ) [الأعراف ٧ / ٢٩] ، وقوله : (كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ) [الأنبياء ٢١ / ١٠٤].

والرّاجح أن الذي مرّ على القرية كان من الصدّيقين أو الأنبياء ، وقيل : إنه كان من الكافرين ، وهو ضعيف ، لأن الكافر لا يؤيّد بآيات الله. والكلام على الوجه الأوّل الصّحيح مثل لهداية الله تعالى للمؤمنين ، وإخراجهم من الظّلمات إلى النّور ، كما كان شأن إبراهيم مع ذلك الكافر.

والإخبار أو اليمين على الظنّ لا يكون كذبا ، ولا يوجب كفارة اليمين ، وهذا هو المراد عند الحنفية والمالكية والحنابلة (الجمهور) بلغو اليمين الذي عفا الله عنه ، أخذا بقوله تعالى : (قالَ : لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ) ، وقوله في سورة الكهف : (قالُوا : لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ) [الكهف ١٨ / ١٩] ، ونظيره قول

٣٥

النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قصة ذي اليدين (الخرباق بن عمرو) في حديث متفق عليه عن أبي هريرة : «لم أقصر ولم أنس».

وعلى هذا يجوز أن يقال : إن الأنبياء لا يعصمون عن الإخبار عن الشيء على خلاف ما هو عليه ، إذا لم يكن عن قصد ، كما لا يعصمون عن السّهو والنسيان.

وجعل عزيز آية للناس : كان في إماتته مدة مائة عام ، ثم إحيائه بعدها.

حبّ الاستطلاع عند إبراهيم عليه‌السلام

(وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٦٠))

الإعراب :

(كَيْفَ تُحْيِ) كيف : في موضع نصب بفعل (يحيي) وهو سؤال عن الحال ، وتقديره : بأي حال تحيي؟ ولا يجوز أن يكون العامل فيه (أَرِنِي) لأن كيف للاستفهام ، والاستفهام لا يعمل فيه ما قبله.

(أَوَلَمْ) دخلت همزة الاستفهام على واو العطف ، ولا يدخل شيء من حروف الاستفهام على حروف العطف إلا الهمزة ؛ لأنها الأصل في حروف الاستفهام.

(لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) اللام إما لام «كي» وهي متعلقة بفعل مقدر ، وتقديره : ولكن سألتك ليطمئن قلبي ، أو أرني ليطمئن قلبي ، وإما لام الأمر والدعاء ، كأنه دعا لقلبه بالطمأنينة ، والوجه الأول أوجه.

(سَعْياً) مصدر منصوب في موضع الحال ، أي يأتينك ساعيات ، كقولهم : جاء زيد ركضا أي راكضا.

٣٦

المفردات اللغوية :

(وَإِذْ قالَ) واذكر حين قال (رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى) قال الجمهور : لم يكن إبراهيم عليه‌السلام شاكّا في إحياء الله الموتى قط ، ولا في قدرة الله ، وإنّما طلب المعاينة لكيفية الإحياء ؛ لأن النفوس تحبّ الاطلاع على المجهول ورؤية ما أخبرت به ، ولهذا قال عليه‌السلام : «ليس الخبر كالمعاينة» رواه الطبراني عن أنس.

(أَوَلَمْ تُؤْمِنْ) بقدرتي على الإحياء ، والسؤال والجواب مع علمه تعالى بإيمان إبراهيم لتعليم السامعين. (بَلى) حرف جواب أي آمنت. (وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) أي سألتك ليسكن قلبي بالمعاينة المضمومة إلى الاستدلال.

(فَصُرْهُنَ) أي قطعهنّ ، وقيل : المعنى : أملهنّ إليك أي ضمهنّ واجمعهنّ إليك ، وقوله : (إِلَيْكَ) على تأويل التقطيع ، متعلق بفعل «خذ» أي اجمعهنّ عندك ثم قطّعهن ، واخلط لحمهن وريشهن ، ثم وزّع أجزاءهنّ على مجموعة من الجبال ، (ثُمَّ ادْعُهُنَ) (نادهنّ) إليك ، (يَأْتِينَكَ سَعْياً) مسرعات ، طيرانا ومشيّا.

(عَزِيزٌ) غالب لا يعجزه شيء. (حَكِيمٌ) في صنعه وتدبيره.

التفسير والبيان :

ونفّذ إبراهيم الخطّة ولم يعين الله تعالى الأربعة من أي جنس هي من الطّير ، وقيل عن ابن عباس : أخذ طاووسا ونسرا وغرابا وديكا ، وفعل بهنّ ما ذكر ، وأمسك رؤوسهن عنده ، ودعاهنّ ، فتطايرت الأجزاء إلى بعضها ، حتى تكاملت ، ثم أقبلت إلى رؤوسها.

وقال مجاهد : كانت طاووسا وغرابا وحمامة وديكا (١) ، فذبحهنّ ، ثمّ فعل بهنّ ما فعل ، ثمّ دعاهنّ ، فأتين مسرعات ، وهكذا يحيي الله الموتى بمجرد الأمر الإلهي : (إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) [يس ٣٦ / ٨٢] ، (فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً ، قالَتا : أَتَيْنا طائِعِينَ) [فصلت ٤١ / ١١].

__________________

(١) البحر المحيط : ٢ / ٢٩٩

٣٧

وخلاصة القصّة : كان إبراهيم عليه‌السلام محبّا للاستطلاع ، فلما أوحى الله تعالى إليه أنه سيحيي الموتى ويحشرهم يوم القيامة ، ليجازي المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته ، فأحبّ أن يرى ميتا عاد حيّا ، فسأل الله ذلك ، ليطمئن قلبه ، فأمره الله تعالى أن يأخذ أربعة طيور ، فيذبحها ، ويفرّق أجزاءها على الجبال ، ثم يدعوها إليه ، وحينئذ يرى كيف يعود الميت حيّا ، ففعل ودعا الطيور إليه ، فجاءت صحيحة ، كأنها لم تمت أصلا.

فقه الحياة أو الأحكام :

هذه القصة دليل آخر على إثبات قدرة الله على إحياء الموتى ، مهما تلاشت أجزاؤها ، وتفتت ذراتها ، وتطاول الزمان على موتها. ولم يكن إبراهيم عليه‌السلام شاكّا في القدرة الإلهية على ذلك ، وإنما ليثبت الاعتقاد بالتجربة الحسيّة أو الخبر والمعاينة ، وهذا يشير إلى أهمية العلم التجريبي ، والاختبارات العملية ، لمعرفة كيفية تركيب الأشياء.

ولا يجوز على الأنبياء صلوات الله عليهم مثل هذا الشّك ، فإنه كفر ، والأنبياء متفقون على الإيمان بالبعث ، وقد أخبر الله تعالى أن أنبياءه وأولياءه ليس للشيطان عليهم سبيل ، فقال : (إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ) [الإسراء ١٧ / ٦٥] ، وقال الشيطان : إلا عبادك منهم المخلصين ، وإذا لم يكن له عليهم سلطنة ، فكيف يشككهم؟!

وإنما سأل إبراهيم عليه‌السلام أن يشاهد كيفية جمع أجزاء الموتى بعد تفريقها ، وإيصال الأعصاب والجلود بعد تمزيقها ، فأراد أن يترقى من علم اليقين إلى علم اليقين ، فقوله : (أَرِنِي كَيْفَ) طلب مشاهدة الكيفية ، وليس اختبار القدرة الإلهية على الإحياء أو الإنشاء.

ثم إنه طلب طمأنينة القلب : وهي أن يسكن فكره في الشيء المعتقد ،

٣٨

ليتبيّن الفرق بين المعلوم برهانا والمعلوم عيانا.

ولقد ذهبت كلمة إبراهيم مثلا بين الناس عند التصديق بالشيء ، وطلب التأكّد من حصول الفعل ، فيطلب الشخص من غيره ما يؤكد الوعد أو القول أو الفعل قائلا : (وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) مع توافر الثقة والائتمان.

وطلب إبراهيم وجيه ، وبخاصة في عصرنا ، حيث كثرت الشكوك ، وسخر بعض الناس من احتمال بعث الأجساد والأرواح التي مات أصحابها في البرّ والبحر والجوّ ، على مدى مرور آلاف السنين ، وكثرة ملايين البشر من بدء الخليقة إلى يوم القيامة ، فكان هذا الطلب في محله ليخرس الألسنة ، ويطمئن الأفئدة ، ويزيل الشكوك في المعتقدات.

وهو أيضا مثال ثالث لولاية الله تعالى للمؤمنين ، وإخراجه إياهم من الظلمات إلى النور ، وهو كالذي قبله من آيات البعث. وكان المثال الأول : وهو محاجّة من آتاه الله الملك لإبراهيم ، للدّلالة على وجود الله ، والمثال الثاني : إماتة العزير مائة عام ، والمثال الثالث : إماتة أربعة من الطيور. والحكمة في ذكر مثال واحد في إثبات الرّبوبيّة ومثالين في إثبات البعث أن منكري البعث أكثر من منكري الألوهيّة.

وأرشد قوله تعالى : (أَوَلَمْ تُؤْمِنْ) إلى ما ينبغي للإنسان أن يقف عنده ، فلا يتعداه إلى ما ليس من شأنه. وفي هذا الإرشاد لخليل الرحمن تأديب للمؤمنين كافة ، ومنع لهم عن التّفكر في كيفية التّكوين ، وشغل نفوسهم بما استأثر الله تعالى به ، فلا يليق بهم البحث عنه.

والحكمة في اختيار الطير على غيره : أن الطّير أقرب إلى الإنسان ، وأجمع لخواص الحيوان ، ولسهولة إجراء التجربة عليها ، ولأن الطير أكثر نفورا من الإنسان في الغالب ، فإتيانها بمجرد الدعوة أبلغ في المثل.

٣٩

وأما كون الطيور أربعة فيفوّض فيه أمره إلى الله تعالى ؛ لأن العدد تعبدي غالبا ، وقيل : إنه الموافق لعدد الطبائع أو لعدد الرياح ، وهو ليس بشيء ، كما جاء في تفسير المنار.

ثواب الإنفاق في سبيل الله وآدابه

(مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٢٦١) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ ما أَنْفَقُوا مَنًّا وَلا أَذىً لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٢٦٢) قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُها أَذىً وَاللهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ (٢٦٣) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوانٍ عَلَيْهِ تُرابٌ فَأَصابَهُ وابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (٢٦٤))

الإعراب :

(أَنْبَتَتْ) جملة فعلية في موضع جر صفة «لحبة». (فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ) مبتدأ مؤخر وخبر مقدم.

(قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ) قول : مبتدأ ، ومغفرة : معطوف عليه ، وخير : خبر.

٤٠