التفسير المنير - ج ٣

الدكتور وهبة الزحيلي

يلزمه. وقال الشافعي في الرجل يمرض فيختل لسانه ، فهو كالأخرس في الرجعة والطلاق. وقال أبو حنيفة : ذلك جائز إذا كانت إشارته تعرف ، وإن شك فيها فهي باطل ، وليس ذلك بقياس ، وإنما هو استحسان.

وقد منع زكريا الكلام بآفة دخلت عليه منعته إياه ، وتلك الآفة عدم القدرة على الكلام مع الصحة. أما عن ذكر الله فلا ، فقد أمره الله بألا يترك الذكر في نفسه مع اعتقال لسانه. قال محمد بن كعب القرظي : لو رخص لأحد في ترك الذكر ، لرخص لزكريا بقول الله عزوجل : (أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزاً ، وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً) ولرخص للرجل يكون في الحرب بقول الله عزوجل : (إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا ، وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيراً) [الأنفال ٨ / ٤٥].

وكذلك الصلاة لا تترك ؛ لأن معنى قوله : (وَسَبِّحْ) أي صلّ ، سميت الصلاة سبحة ، لما فيها من تنزيه الله تعالى عن السوء.

قصة زكريا عليه‌السلام :

ذكر زكريا في القرآن الكريم ثماني مرات في آل عمران وفي الأنعام وفي مريم وفي الأنبياء. ويظهر أن لزكريا أبي يحيى شركة في خدمة الهيكل ، فهو «لاوي» وهو زوج خالة «مريم».

لما رأى زكريا آيات الله الباهرات وإكرامه تعالى لمريم ورزقها من حيث لا تحتسب ، فدعا ربه ليرزقه ذرية طيبة مباركة تلي أمور بني إسرائيل ؛ لأنه كان يخشى ابتلاءهم بمواليه الذين لم يكونوا متمسكين بالشريعة ، فحملت زوجه بيحيى وبشره الله بنبوته ، وأعلمه أن آية ذلك أن يعجز عن الكلام مع الناس ثلاثة أيام لا يكلمهم إلا رمزا. وقتل زكريا وابنه يحيى في حادث واحد.

٢٢١

قصة يحيى عليه‌السلام :

ذكر يحيى في مواضع أربعة من القرآن الكريم : في آل عمران ، وفي الأنعام ، وفي مريم ، وفي الأنبياء.

وحملت زوجة زكريا ، واسمها «اليصابات» في الزمن الذي حملت فيه مريم بعيسى ، وولد يحيى ثم شب ونشأ بارعا في الشريعة الموسوية ومرجعا مهما لكل من يستفتي في أحكامها.

وكان «هيرودس» أحد حكام فلسطين ، وله بنت أخ تسمى «هيروديا» بارعة الجمال ، أراد أن يتزوج منها ، وأرادت البنت وأمها ذلك ، فلم يرض يحيى عن هذا الزواج ؛ لأنه حرام. فانتهزت الأم ليلة الزفاف بين العم وابنة أخيه ، فرقصت العروس في زينتها أمامه ، فسر منها ، وطلب منها أن تقول ما تتمناه ، ليعمله لها ، فطلبت منه ـ عملا بمشورة أمها ـ رأس يحيى بن زكريا في هذا الطبق ، فوفى لها عمها الحاكم بذلك وقتل يحيى.

وامتاز يحيى منذ صباه بأكمل أوصاف الصلاح والتقوى ، وأوتي النبوة وهو صبي قبل بلوغ الثلاثين ، كما قال تعالى : (وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا) [مريم ١٩ / ١٢] وكان يدعو الناس إلى التوبة من الذنوب ، وكان يعمّدهم أي يغسلهم في نهر الأردن للتوبة من الخطايا ، وقد عمّد المسيح ، ويسميه المسيحيون «يوحنا المعمدان». ولما قتل يحيى ، جهر المسيح بدعوته ، وبدأ في وعظ الناس.

قصة مريم

(وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ اصْطَفاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ (٤٢)

٢٢٢

يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (٤٣) ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (٤٤))

الإعراب :

(أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ) مبتدأ وخبر ، والجملة منصوبة بفعل مقدر ، تقديره : ينظرون أيهم يكفل مريم.

البلاغة :

(وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ) المراد جبريل ، على سبيل المجاز المرسل من إطلاق الكل ، وإرادة البعض.

(اصْطَفاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفاكِ) تكرار لفظ (اصْطَفاكِ) ولفظ (مَرْيَمَ) من باب الإطناب.

المفردات اللغوية :

(إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ) أي جبريل (يا مَرْيَمُ) مريم في لغتهم : العابدة ، وسميت بذلك تفاؤلا لها بالخير. (اصْطَفاكِ) اختارك. (وَطَهَّرَكِ) من الحيض والنفاس ، ومن مسيس الرجال ، ومن سفساك الأخلاق. (وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ) أي أهل زمانك. والاصطفاء الأول: قبولها محررة لخدمة بيت المقدس ، وكان ذلك خاصا بالرجال. والاصطفاء الثاني : الاختصاص بولادة نبي من غير أن يمسها رجل ، وذلك بمعنى أنها مهيأة ومعدة له ، وفيه شهادة ببراءتها مما قذفها به اليهود.

(اقْنُتِي) أطيعي ، والقنوت : الطاعة مع الخضوع. (وَاسْجُدِي) تذللي. (وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ) صلي مع المصلين ، والمراد من السجود والركوع لازمه وهو التواضع والخشوع في العبادة.

(نُوحِيهِ) الوحي : تعريف الموحى إليه بأمر خفي ، وقد جاء الوحي في القرآن لمعان : لكلام جبريل للأنبياء كما هنا ، ومثل : (نُوحِي إِلَيْهِمْ) ، وللإلهام مثل : (وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى) [القصص ٢٨ / ٧] ولإلقاء المعنى المراد مثل : (بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها) [الزلزلة ٩٩ / ٥] وللإشارة مثل : (فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا) [مريم ١٩ / ١١].

(أَنْباءِ الْغَيْبِ) أخبار ما غاب عنك. (أَقْلامَهُمْ) قداحهم المبرية التي يقترعون بها ،

٢٢٣

وتسمى السهام. أما الأزلام : فهي التي يضربون بها القرعة ويقامرون بها.

(إِذْ يَخْتَصِمُونَ) يتنازعون في كفالتها.

المناسبة :

بعد أن ذكر الله تعالى قصة ولادة يحيى من أب كبير وأم عاقر ، وذلك شيء خارق للعادة ، أعقبه بذكر قصة ولادة عيسى من غير أب ، وهو شيء أغرب من الأول. وغاية القصة : الرد على النصارى الذين ادعوا ألوهية عيسى ، فذكر ولادته من مريم ليدل على بشريته.

التفسير والبيان :

أخبرت الملائكة مريم عليها‌السلام أن الله اختارها لكثرة عبادتها وزهدها وشرفها وطهارتها من الأكدار والوساوس ومن سفساف الأخلاق وذميم الصفات (وهو التطهير المعنوي) ثم اصطفاها ثانيا بالتطهير الحسي كعدم الحيض والنفاس والولادة من غير جماع ، وفضلها على نساء عالمي زمانها ، فهي طاهرة من الأدناس والأرجاس من الحيض والنفاس وغيرهما ، ومن العيوب والنقائص البشرية الحسية والمعنوية. ومثلها السيدة فاطمة الزهراء التي ما كانت تحيض ، ولذلك لقبت بالزهراء.

يا مريم الزمي الطاعة مع الخضوع لله ، واسجدي له مع الخشوع ، وصلي جماعة مع المصلين ، لا وحدك. فالقنوت : الطاعة في خشوع ، كما قال تعالى : (وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ، كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ) [الروم ٣٠ / ٢٦]. والسجود : التذلل ، والركوع : الانحناء ، والمراد : ما يلزمه وهو التواضع والخشوع في العبادة.

تلك القصص التي أخبرناك عنها من أخبار زكريا ويحيى ومريم ، هي من أخبار الغيب التي لم تطلع عليها أنت ولا أحد من قومك ، وإنما هي بالوحي

٢٢٤

الذي نوحيه إليك على يد جبريل الروح الأمين ، لتكون دليلا على صحة نبوتك ، وإلزام المعاندين لك. فهذا تقرير وتثبيت أن ما علمه من ذلك إنما هو بوحي من الله تعالى ، والمعلم به قصتان : قصة مريم ، وقصة زكريا.

وما كنت حاضرا معهم حينما جاءت امرأة عمران ، وألقت مريم في بيت المقدس ، وتنافس الأحبار في رعايتها وخدمتها ، فهي بنت سيدهم وكبيرهم ، وأخذوا يستهمون (يقترعون) في ذلك ، فجاءت القرعة لزكريا ، فكان كافلها.

وما كنت شاهدا عليهم إذ يتنازعون ويتخاصمون في كفالتها ، ولم يتفقوا عليها إلا بعد القرعة. وإذ لم تعلم بهذه القصة ولا قومك لأنك أمي مثلهم ، فلم يبق لك طريق للعلم إلا الوحي من الله تعالى. أما المشاهدة للخصومة فقد نفاها الله تعالى على سبيل التهكم. وهي كما قال تعالى: (تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ، ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا) [هود ١١ / ٤٩].

وأما تعليم البشر ـ كما زعموا ـ فرده الله تعالى بقوله : (لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ ، وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ) [النحل ١٦ / ١٠٣] وهو النبي الأمي الذي لم يقرأ ولم يكتب.

وهذه الآية مثل المذكور عقب قصة نوح عليه‌السلام : (تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ، ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا) [هود ١١ / ٤٩] والمذكور بعد قصة موسى وشعيب : (وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ) [القصص ٢٨ / ٤٤].

فقه الحياة أو الأحكام :

أرشدت الآية إلى تفضيل السيدة مريم عليها‌السلام على نساء العالمين أجمع في قول الزجاج وغيره ، وعلى عالمي زمانها في قول أكثر المفسرين. وكرر الاصطفاء ؛ لأن معنى الأول : الاصطفاء لعبادته ، ومعنى الثاني لولادة عيسى.

٢٢٥

روى مسلم والجماعة إلا أبا داود عن أبي موسى قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كمل من الرجال كثير ، ولم يكمل من النساء غير مريم بنت عمران ، وآسية امرأة عمران ، وإن فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام». والكمال : هو التناهي والتمام ، وكمال كل شيء بحسبه ، والكمال المطلق إنما هو لله تعالى خاصة. ولا شك أن أكمل نوع الإنسان : الأنبياء ثم يليهم الأولياء من الصديقين والشهداء والصالحين.

وروي من طرق صحيحة أنه عليه الصلاة والسلام ـ فيما رواه الترمذي وابن مردويه عن أبي هريرة وأنس بن مالك : «خير نساء العالمين أربع : مريم بنت عمران ، وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون ، وخديجة بنت خويلد ، وفاطمة بنت محمد» وفي رواية أخرى : «سيدة نساء أهل الجنة بعد مريم : فاطمة وخديجة». فهذه الأحاديث تدل على فضيلة مريم وأن روح القدس كلمها ، وظهر لها ، ونفخ في درعها ، ودنا منها للنفخة ، وصدقت بكلمات ربها ، ولذلك سماها الله في تنزيله صدّيقة فقال : (وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ) وقال : (وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها وَكُتُبِهِ ، وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ) [التحريم ٦٦ / ١٢].

ودلت الآية على أن مريم كانت كثيرة العبادة والخشوع والركوع والسجود والدأب في العمل ، مما هيأها لمحنة لها ورفعة في الدارين.

ودل قوله تعالى : (ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ) على نبوة محمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، حيث أخبره الله عن قصة زكريا ومريم ، ولم يكن قرأ الكتب ، وأخبر الناس عن ذلك ، وصدّقه أهل الكتاب بذلك. والإيحاء هنا : الإرسال إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

واستدل بعض علماء المالكية بهذه الآية (وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ ...) على إثبات القرعة ، وهي في أصل شرعنا لكل من أراد العدل في القسمة ، وهي

٢٢٦

سنة عند جمهور الفقهاء في المستويين في الحجة ليعدل بينهم ، وتطمئن قلوبهم ، وترتفع الظّنّة عمن يتولى قسمتهم ، ولا يفضل أحد منهم على صاحبه إذا كان المقسوم من جنس واحد اتباعا للكتاب والسنة. وردّ العمل بالقرعة أبو حنيفة وأصحابه ، وردوا الأحاديث الواردة فيها ، وأنها تشبه الأزلام التي نهى الله عنها. وأجيبوا بالآثار والسنة ، قال أبو عبيد : وقد عمل بالقرعة ثلاثة من الأنبياء : يونس وزكريا ونبينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وحديث أبي هريرة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول ، ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا» (١) وكان النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا أراد السفر أقرع بين نسائه.

ودلت الآية أيضا على أن الخالة أحق بالحضانة من سائر القرابات ما عدا الجدّة ، وقد قضى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في ابنة حمزة ـ واسمها أمة الله ـ لجعفر ، وكانت عنده خالتها ، وقال فيما رواه الترمذي والشيخان عن البراء : «الخالة بمنزلة الأم» وكان زكريا قد قال لأحبار بيت المقدس:ادفعوها لي فإن خالتها تحتي ، فأبوا واقترعوا عليها بأقلامهم التي يكتبون بها التوراة فقرعهم زكريا ، فكفلها.

وكيف تمت القرعة؟ لما نذرت امرأة عمران والدة مريم ما في بطنها لخدمة الهيكل ، جاءت بها إلى خدام الهيكل ، فكل واحد منهم أراد أن يكفلها وألقوا قرعة على ذلك ، فكانت مريم نصيب زكريا ، فقام بأمرها كما قال تعالى : (وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا).

قال بعض العلماء : الحكمة في أنّ الله لم يذكر في القرآن امرأة باسمها إلا (مريم) : هي الإشارة من طرف خفي إلى رد ما قاله النصارى من أنها زوجته ، فإن العظيم يأنف من ذكر اسم زوجته بين الناس ، ولينسب إليها عيسى باعتبار عدم وجود أب له ، ولهذا قال في الآية التالية : (اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ).

__________________

(١) حديث صحيح رواه أحمد والشيخان والنسائي.

٢٢٧

قصة عيسى عليه‌السلام

(إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (٤٥) وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ (٤٦) قالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قالَ كَذلِكِ اللهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٤٧) وَيُعَلِّمُهُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ (٤٨) وَرَسُولاً إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٤٩) وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (٥٠) إِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (٥١))

الإعراب :

(إِذْ) ظرف زمان ماض ، وهو بدل من قوله : (إِذْ يَخْتَصِمُونَ) في الآية السابقة.

(اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى) اسمه المسيح : جملة اسمية في موضع صفة لكلمة. و (عِيسَى): بدل من المسيح.

٢٢٨

(ابْنُ مَرْيَمَ) إما بدل من (عِيسَى) أو خبر مبتدأ محذوف وتقديره : هو ابن مريم ، ولا يجوز أن يكون وصفا لعيسى ؛ لأن اسمه عيسى فقط ، وليس اسمه : عيسى بن مريم. وإذا كان كذلك وجب إثبات الألف في الخط من قوله : ابن مريم ؛ لأن الألف من (ابْنُ) إنما تسقط إذا وقعت وصفا بين علمين ، ولا يجوز أن يكون هاهنا وصفا ، فوجب أن تثبت.

(وَجِيهاً وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ وَيُعَلِّمُهُ الْكِتابَ وَرَسُولاً إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ) : كل ذلك أحوال من عيسى.

(أَنِّي أَخْلُقُ) فيه ثلاثة أوجه : الجر بدلا من (بِآيَةٍ) والرفع خبر مبتدأ محذوف تقديره: هو أني أخلق ، والنصب بدلا من «أن» في قوله : (أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ) وهي في موضع نصب ، وتقديره : جئتكم بأني قد جئتكم ، فحذف حرف الجر ، فاتصل الفعل به. (كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ) الكاف في موضع نصب ؛ لأنها صفة مصدر محذوف وتقديره : خلقا مثل هيئة الطير. وهاء (فِيهِ) إما أن تعود على الهيئة وهي الصورة بمعنى المهيأ ، أو تعود على المخلوق لدلالة : أخلق عليه ، أو تعود على الكاف في : كهيئة الطير ؛ لأنها بمعنى «مثل».

(وَمُصَدِّقاً) منصوب على الحال من تاء (جِئْتُكُمْ) أي جئتكم مصدقا.

البلاغة :

(وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ) كناية عن الجماع ، مثل الكناية عنه بالحرث واللباس والمباشرة.

(وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ) يوجد طباق بين لفظي (لِأُحِلَ) و (حُرِّمَ).

المفردات اللغوية :

(بِكَلِمَةٍ مِنْهُ) المراد بها عيسى ، وسمي بالكلمة لأنه وجد بكلمة (كُنْ فَيَكُونُ).

(الْمَسِيحُ) لفظ معرب من العبرانية ، وأصله : مشيحا ؛ لأنه مسح بالبركة أو بالدهن الذي يمسح به الأنبياء ، وهو دهن طيب الرائحة. وعيسى : معرب يسوع بالعبرانية.

(وَجِيهاً) ذا جاه وكرامة في الدارين (فِي الدُّنْيا) بالنبوة (وَالْآخِرَةِ) بالشفاعة والدرجات العلا (وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ) عند الله (فِي الْمَهْدِ) مقر الصبي حين الرضاع (وَكَهْلاً) الكهل : الرجل التام السوي ، وهو من بلغ الأربعين فأكثر (قَضى) أراد شيئا (الْكِتابَ) الكتابة والخط (وَالْحِكْمَةَ) العلم النافع وهو الذي يبصّر الإنسان بفقه الأحكام وسر التشريع.

(وَالتَّوْراةَ) كتاب موسى (وَالْإِنْجِيلَ) كتاب عيسى الذي أوحي إليه به.

٢٢٩

(أَنِّي أَخْلُقُ) أصور ، والخلق : التصوير والتكوين على مقدار معين ، لا الإنشاء والاختراع (كَهَيْئَةِ) مثل صورة الطير (الْأَكْمَهَ) : من ولد أعمى (الْأَبْرَصَ) : الذي به برص أي بياض في الجلد يتطير به (بِإِذْنِ اللهِ) بإرادته.

المناسبة :

بعد أن ذكر الله تعالى قصة زكريا ويحيى أقارب عيسى ، وذكر قصة أمه ، ناسب أن يذكر قصة عيسى وكيفية ولادته.

التفسير والبيان :

اذكر يا محمد لقومك وقت أن قال جبريل من الملائكة : إن الله يبشرك يا مريم بعيسى الموصوف بالكلمة على معنى : نبشرك بمكون منه أو بموجود من الله ، إيذانا بأنه خلق خلقا غير عادي ، استحق أن يوصف بهذه الصفة ، وإن كان في الواقع أن جميع الكائنات وجدت بكلمة الله كما ذكر عقب خلق عيسى بقوله : (إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ : كُنْ فَيَكُونُ) وذكر في مكان آخر : (إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ : كُنْ فَيَكُونُ) [يس ٣٦ / ٨٢] لكن في العرف تنسب الأشياء الأخرى إلى الأسباب العادية ، وأطلق اسم الكلمة على عيسى مجازا كما قال تعالى : (وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ) [النساء ٤ / ١٧١].

والمراد من الملائكة هنا جبريل ، لقوله تعالى : (فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا ، فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا) [مريم ١٩ / ١٧] وذكر بلفظ الجمع ؛ لأنه رئيسهم.

اسمه المسيح الذي جاء لرفع الظلم وهداية الناس وإشاعة الأخوة الصادقة فيما بينهم ، وكانت مملكته روحانية لا جسدية. والمسيح : لقب الملك عندهم ، فهو من ألقاب المدح. وقال القرطبي : معناه الصدّيق.

وإنما قيل : ابن مريم ، مع أن الخطاب لها ، إشارة إلى أنه ينسب لها ، لولادته من غير أب ، وليظل هذا الوصف ثابتا مقررا في الأذهان في كل زمان ،

٢٣٠

وردا على من ألّهه ، وبيانا لمكانتها وتكريما لها.

وهو ذو وجاهة في الدنيا لما له من مكانة عند أتباعه والمؤمنين ، وفي الآخرة بين الناس ، ومن المقربين إلى الله يوم القيامة.

ويمتاز أيضا بأنه يكلم الناس وهو رضيع في المهد ، وفي حال الكهولة وتمام الرجولة ، كلاما متزنا معقولا. وهذا يشير إلى أنه سيكون رجلا سويا. قال ابن عباس : كان كلامه في المهد لحظة بما قصة الله علينا ، ثم لم يتكلم حتى بلغ أوان الكلام. وكانت العادة أن من تكلم في المهد لم يعش.

وهو كذلك من الصالحين الذين أنعم الله عليهم بالنبوة والاستقامة وصلاح الحال. ولما بشرت مريم بعيسى المتصف بما ذكر ، قالت متعجبة : كيف يكون لي ولد ، وليس لي زوج؟ فأجابها الله : مثل هذا الخلق المتعجب منه وهو خلق الولد بغير أب ، يخلق الله ما شاء ، فخلق السماء والأرض ، وخلق آدم من تراب بلا أب ولا أم ، وخلق جميع الموجودات في الأصل من غير سبب ظاهر.

وسبب التعبير في قصة زكريا وابنه يحيى بقوله تعالى : (كَذلِكَ اللهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ) وفي قصة خلق عيسى بقوله : (كَذلِكِ اللهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ) : هو أن إيجاد يحيى من شيخين عجوزين كإيجاد سائر الناس في العادة ، فعبر عنه بالفعل ، وأما إيجاد عيسى فهو من أم بلا أب ، خلافا للمعتاد في التوالد ، بل بمحض القدرة الإلهية ، وهو أبلغ من إيجاد يحيى ، فناسب التعبير عنه بالخلق والإيجاد والإبداع ، لكونه من غير سبب عادي.

ثم أعقبه بما يناسبه ويؤكده فقال : إذا أراد شيئا قال له : كن فيكون ، والمراد بالأمر هنا الأمر التكويني ، لا الأمر التكليفي في مثل قوله تعالى : (أَقِيمُوا الصَّلاةَ) وهذا تبيان لعظمة الله ، ونفاذ أمره ومشيئته ، وسرعة إنجاز مطلوبه ، تقريبا للأذهان ، وإلا فالإيجاد أسرع مما هو قائم بين حرفي

٢٣١

(كُنْ). وهو يشبه قوله تعالى : (ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ ، فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ : ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً ، قالَتا : أَتَيْنا طائِعِينَ) [فصلت ٤١ / ١١].

وهناك خلق آخر أعظم من خلق عيسى وهو خلق آدم من غير أب ولا أم : (إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ، ثُمَّ قالَ لَهُ : كُنْ فَيَكُونُ) [آل عمران ٣ / ٥٩].

فهذه الأحوال في الخلق على نحو غير عادي دليل على قدرة الله المطلقة ، وإرادة تكميل الكون بعجائب المخلوقات.

ومن أوصاف عيسى : أن الله يعلمه الكتابة والخط ، والعلم النافع الذي يبعث النفس إلى تنفيذ الفعل ويرشد إلى أسرار الأحكام ، ويعرفه التوراة التي أنزلت على موسى ، والإنجيل الذي أوحي إليه.

وأنه رسول مرسل إلى بني إسرائيل ، مؤيد بآيات تدل على صدق رسالته وهي :

١ ـ أنه يصور من الطين صورة على قدر معين كصورة الطير ، لا ينشئ ويخترع من الطين هيئة جديدة ، فينفخ فيه ، فيكون طيرا بقدرة الله ومشيئته ، لا بقدرته وأمره ، فإنه مخلوق لا يقدر على هذا.

روي أنهم طالبوه بخلق خفّاش ، فأخذ طينا وصوره ونفخ فيه ، فإذا هو يطير ، وهم ينظرونه ، فإذا غاب عن أعينهم ، سقط ميتا ، ليتميز فعل المخلوق من فعل الخالق وهو الله تعالى ، وليعلم أن الكمال لله. قال وهب : كان يطير ما دام الناس ينظرون إليه ، فإذا غاب عن أعينهم ، سقط ميتا ، ليتميز من خلق الله.

٢ ، ٣ ـ ويبرئ الأكمه والأبرص ويحيى الموتى بإذن الله : وتخصيصهما بالذكر ؛ لأن مداواتهما أعيت الأطباء ، علما بأن الطب كان متقدما في زمن عيسى ، فأراهم

٢٣٢

الله المعجزة من جنس الطب. قال كثير من العلماء : بعث الله كل نبي من الأنبياء بما يناسب أهل زمانه ، فكان الغالب في مصر على زمان موسى عليه‌السلام السحر وتعظيم السحرة ، فبعثه الله بمعجزة بهرت الأبصار ، وحيرت كل سحّار ، فلما استيقنوا أنها من عند الله العظيم الجبار ، انقادوا للإسلام ، وصاروا من عباد الله الأبرار. وأما عيسى عليه‌السلام فبعث في زمن الأطباء وأصحاب علم الطبيعة ، فجاءهم من الآيات بما لا سبيل لأحد إليه ، إلا أن يكون مؤيدا من الذي شرع الشريعة ، فمن أين للطبيب قدرة على إحياء الجماد ، أو على مداواة الأكمه والأبرص ، وبعث من هو في قبره. وقد أحيا صديقا له اسمه عازر ، وابن العجوز ، وابن العاشر ، فعاشوا وولد لهم ، وأحيا سام بن نوح ومات في الحال.

وكذلك محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعث في زمان الفصحاء والبلغاء وتحليق الشعراء ، فأتاهم بكتاب من الله عزوجل ، فلو اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثله ، أو بعشر سور من مثله ، أو بسورة من مثله ، لم يستطيعوا أبدا ، ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا ، وما ذاك إلا أن كلام الرب عزوجل لا يشبه كلام الخلق أبدا.

٤ ـ وأخبركم بما تأكلونه ، وما تخبئونه وتحفظونه للمستقبل في بيوتكم.

والفرق بين إخبار النبي بالمغيباب وإخبار المنجمين والكهنة : أن النبي يخبر بإعلام الله من غير اعتماد على شيء آخر ، أما الكاهن والمنجم فيعتمد على طرق الاحتيال واستخدام بعض الأسباب المؤدية إلى معرفته كالنجوم والجن وبعض الإنس.

إن في ذلك لدليلا قاطعا على صدق رسالتي ، إن كنتم مصدقين بآيات الله الباهرة ، مقرين بتوحيده وبقدرته الكاملة على كل شيء.

٥ ـ وجئتكم مصدقا لما تقدم من التوراة ، لا ناسخا لها ، ولا مخالفا أحكامها إلا ما خفف الله في الإنجيل مما كان مشددا عليهم فيها ، كما قال تعالى : (وَلِأُحِلَ

٢٣٣

لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ) أي بعض الطيبات التي كانت محرمة على بني إسرائيل بظلمهم ، كما قال تعالى : (فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ) [النساء ٤ / ١٦٠] قيل : من ذلك : السمك ولحوم الإبل والشحوم والعمل يوم السبت.

وما عدا ذلك جئت متفقا مع التوراة في أصول الدين كالتوحيد والبعث وفضائل الأخلاق ، جاء في الإنجيل على لسان عيسى عليه‌السلام : «ما جئت لأنقض الناموس ـ أي شريعة التوراة ـ ولكن لأكمله».

٦ ـ وجئتكم بآية بعد آية من ربكم شاهدة على صدقي وصحة رسالتي. كرر ذلك للتأكيد وليبني عليه الأمر بالتقوى. وقد وحد الآية وهي آيات ؛ لأنها جنس واحد في الدلالة على رسالته.

فاتقوا الله في المخالفة ، وأطيعوا فيما أدعوكم إليه وهو توحيد الإله : إن الله ربي وربكم ، فاعبدوه ، وهذا هو الطريق السوي الذي اتفقت عليه الرسل قاطبة ، وهو المؤدي إلى خيري الدنيا والآخرة ، فمن تعدى ذلك فهو في ضلال.

ففي هذا تلخيص لمهمة الرسالة وهي الأمر بالتقوى وإطاعة الله ، والإقرار بالتوحيد : توحيد الألوهية وتوحيد الربوبية ، والاعتراف بالعبودية والخضوع لله ، وهو منهج الحق المبين في مريم وابنها.

وهذا موجود في الإنجيل ؛ لأن فيه : إني ذاهب إلى أبي وأبيكم وإلهي وإلهكم. والأب : السيد في تلك اللغة ، بدليل أنه قال : وأبي وأبيكم ، فعلم أنه لم يرد به الأبوة المقتضية للبنوة.

فقه الحياة أو الأحكام :

ذكرت الآيات بشارة الملائكة لمريم عليها‌السلام بأنه سيوجد منها ولد

٢٣٤

عظيم ، له شأن كبير ، يكون وجوده بكلمة من الله أي يقول له : كن فيكون ، واسمه المسيح مشهور في الدنيا يعرفه المؤمنون ، وله وجاهة ومكانة عند الله في الدنيا بما يوحيه الله إليه من الشريعة وينزله عليه من الكتاب والحكمة ، وله وجاهة في الآخرة يشفع عند الله فيمن يأذن له فيه ، فيقبل منه أسوة بإخوانه أولي العزم من الرسل عليهم‌السلام.

ويدعو إلى عبادة الله وحده لا شريك له في حال صغره ، وفي حال كهولته حين يوحي الله إليه ، وهو صالح القول والعمل. روى محمد بن إسحاق عن أبي هريرة قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما تكلم أحد في صغره إلا عيسى وصاحب جريج». وروى مسلم وابن أبي حاتم عن أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لم يتكلم في المهد إلا ثلاث : عيسى ، وصبي كان في زمن جريج ، وصبي آخر».

وهذا حصر نسبي في وقت ما ، ثم أخبر الله نبيه في وقت آخر بآخرين ، ومجموعهم سبعة : شاهد يوسف ، وصبي ماشطة امرأة فرعون ، وعيسى ، ويحيى ، وصاحب جريج ، وصاحب الجبار ، وصبي قصة الأخدود : وهو ـ كما في مسلم وغيره ـ أن امرأة جيء بها لتلقى في النار على إيمانها ومعها صبي يرضع ، فتقاعست أن تقع فيها ، فقال الغلام : يا أمّه ، اصبري ، فإنك على الحق.

ودل قوله تعالى : (كَذلِكِ اللهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ) على أن أمر الله عظيم لا يعجزه شيء. وأكده بقوله : (إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ : كُنْ فَيَكُونُ) فلا يتأخر شيئا ، بل يوجد عقيب الأمر بلا مهلة ، كقوله : (وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ) [القمر ٥٤ / ٥٠]. أي إنما نأمر مرة واحدة دون تكرار ولا تثنية ، فيكون ذلك الشيء سريعا كلمح البصر.

ودلت الآيات على خصائص عيسى عليه‌السلام وما أيده الله به من معجزات

٢٣٥

خارقة للعادة ، وهي كلها من صنع الله مباشرة ، ومعناها سنة جديدة بخلاف كل ما نراه يوميا من عظة وعظمة.

وكان عيسى أحد الرسل إلى بني إسرائيل. روي أن الوحي أتاه وهو ابن ثلاثين سنة ، وكانت نبوته ثلاث سنين ، ثم رفع إلى السماء.

ولا تختلف دعوة عيسى عن دعوات سائر الأنبياء ، كما أوضحت هذه الآيات ، فهو يدعو إلى تقوى الله وطاعته فيما جاء به عنه ، ويأمر بالتوحيد والاعتراف بالعبودية لله ، وذلك هو الصراط المستقيم أي أقرب طريق موصل إلى الله تعالى.

عيسى مع قومه المؤمنين والكفار

(فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قالَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللهِ آمَنَّا بِاللهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (٥٢) رَبَّنا آمَنَّا بِما أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ (٥٣) وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ (٥٤) إِذْ قالَ اللهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (٥٥) فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٥٦) وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (٥٧) ذلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآياتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ (٥٨))

٢٣٦

الإعراب :

(إِذْ قالَ اللهُ) إذ : تتعلق بفعل مقدر ، تقديره : اذكر أني متوفيك ورافعك إليّ (وَجاعِلُالَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا) فيه وجهان : إما أنه معطوف على ما قبله ، وهو خطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وما قبله خطاب لعيسى ، وإما أنه معطوف على (مُتَوَفِّيكَ) وكلاهما لعيسى.

(مِنَ الْآياتِ) حال من الهاء في (نَتْلُوهُ) وعامله ما في ذلك من معنى الإشارة.

البلاغة :

(فَلَمَّا أَحَسَ) استعارة ، إذ الكفر ليس بمحسوس وإنما يعلم ويفطن به.

(وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ) من باب المشاكلة. ويوجد جناس اشتقاق بين (مَكَرُوا) و (الْماكِرِينَ).

(فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ) فيه التفات من ضمير المتكلم إلى ضمير الغيبة ، تنويعا للفصاحة.

(ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ) فيه التفات عن الغيبة إلى الخطاب.

المفردات اللغوية :

(أَحَسَ) علم علما لا شبهة فيه ، كعلم ما يدرك بالحواس. واستعمالها في إدراك الأمور المعنوية مجاز (مَنْ أَنْصارِي) أعواني (إِلَى اللهِ) أي مع الله ، فإلى بمعنى مع ، أو من أعواني في السبيل إلى الله ؛ لأنه دعاهم إلى الله عزوجل ، أو من يضم نصرته إلى نصرة الله عزوجل.

(قالَ الْحَوارِيُّونَ) : واحدهم حواري ، وحواري الرجل : صفيّه وناصره ، فالحواريون : هم أصحاب عيسى وأنصاره وأصفياؤه. والحور : البياض الخالص ، وصفوا به لبياض قلوبهم وصفاء سريرتهم (١). ورد في الصحيحين : «لكل نبي حواري ، وحواريّ الزبير».

(نَحْنُ أَنْصارُ اللهِ) أعوان دينه ، وهم أول من آمن به ، وكانوا اثني عشر رجلا.

(بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) منقادون لما تريده منا (مَعَ الشَّاهِدِينَ) أي لك بالوحدانية ولرسولك بالصدق.

__________________

(١) وقيل : كانوا قصارين يحورون الثياب ، أي : يبيضونها.

٢٣٧

(وَمَكَرُوا) المكر : تدبير خفي يفضي بالممكور به إلى ما لم يكن يحتسب ، وغلب استعماله في التدبير السيء. (وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ) أعلمهم به وأعرفهم بالتدابير ، وهو المجازي على المكر. وكان مكر كفار بني إسرائيل بعيسى : أن وكلوا به من يقتله غيلة ، ولكن الله ألقى شبه عيسى على من قصد قتله ، فقتلوه ، ورفع عيسى إلى السماء.

(إِنِّي مُتَوَفِّيكَ) التوفي : أخذ الشيء وافيا تاما ، ثم استعمل بمعنى الإماتة ، كما قال تعالى : (اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها) [الزمر ٣٩ / ٤٢] فمعنى (مُتَوَفِّيكَ) قابضك. (وَرافِعُكَ إِلَيَ) من الدنيا من غير موت ، فإذا كان عيسى حيا حين الرفع كان في الآية تقديم وتأخير ، وتقديره : أني رافعك إليّ ومتوفيك ، والواو لا تدل على الترتيب. وقيل : معنى : إني متوفيك : قابضك ورافعك إلي ، أي إلى كرامتي.

(وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا) مبعدك ، وتطهيره من الذين كفروا : براءته مما كانوا يزمونه به بتهمة أمه بالزنا. (وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ) صدقوا بنبوتك من المسلمين والنصارى (فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا) بك وهم اليهود ، والفوقية بمعنى العلو عليهم بالحجة والسيف. (فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) يشمل المسيح والمختلفين معه والاختلاف بين أتباعه والكافرين به.

(عَذاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيا) بالقتل والسبي والجزية (وَالْآخِرَةِ) بالنار (ناصِرِينَ) مانعين منه (وَاللهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) أي يعاقبهم (ذلِكَ) المذكور من أمر عيسى (نَتْلُوهُ) نقصه (وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ) المحكم أي القرآن.

سبب النزول :

نزول الآية (٥٨):

أخرج ابن أبي حاتم عن الحسن البصري قال : أتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم راهبا نجران ، فقال أحدهما : من أبو عيسى؟ وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يعجل حتى يؤامر ربه ، فنزل عليه (ذلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآياتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ) إلى قوله (مِنَ الْمُمْتَرِينَ). وسيأتي بيان روايات أخرى في بيان سبب نزول آية : (إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ) إلى قوله (مِنَ الْمُمْتَرِينَ).

المناسبة :

بعد أن ذكر الله تعالى معجزات وخصائص عيسى عليه‌السلام ، ذكر هنا

٢٣٨

قصته مع قومه ، حيث دعاهم للإيمان ، فآمن به بعضهم ، وأعرض الآخرون ، وما لقيه منهم من إيذاء وعزم على قتله ، وإنجائه منهم برفعه إليه ، وإنذار الكافرين بالعذاب الشديد ، ومجازاة المؤمنين الذين عملوا الصالحات. وفي ذلك تسلية للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبيان أن الأدلة وحدها لا تؤدي إلى الإيمان ، وإنما لا بد من هداية الله وتوفيقه.

التفسير والبيان :

لما شعر عيسى من قومه بني إسرائيل بالتصميم على الكفر ، والاستمرار على الضلال ، وتحقق من ذلك ، أراد التعرف صراحة عن المؤمنين بدعوته ، فقال : من يتبعني إلى الله ، ومن ينصرني ملتجئا إلى الله؟ والظاهر أنه يريد : من أنصاري في الدعوة إلى الله ، كما كان النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول في مراسم الحج قبل أن يهاجر : «من رجل يؤويني حتى أبلّغ كلام ربي ، فإن قريشا قد منعوني أن أبلّغ كلام ربي؟» فوجد الأنصار ، فآووه ونصروه وهاجر إليهم ، فواسوه ومنعوه من الأعداء.

وهكذا عيسى انتدب طائفة من بني إسرائيل لنصرته ، فآمنوا به وآزروه ونصروه ، كما جاء في آية أخرى : «(كَما قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوارِيِّينَ : مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ؟) [الصف ٦١ / ١٤].

قال الحواريون أي الأنصار : نحن أنصار دين الله وجنوده المخلصون المؤيدون دعوتك ، آمنا بوجود الله وبوحدانيته إيمانا صادقا ، واشهد بأنا مسلمون ، أي خاضعون منقادون لأوامره ، وجوهر الإسلام متفق عليه بين كل الأديان.

ثم تضرعوا إلى الله قائلين : ربنا آمنا وصدقنا بما أنزلت في كتابك واتبعنا الرسول عيسى ابن مريم ، فاكتبنا مع الشاهدين الذين يشهدون لأنبيائك

٢٣٩

بالصدق. وذكر الاتباع في قولهم دليل على صحة الإيمان ، لأن الإيمان يقتضي العمل.

ثم أخبر الله تعالى عن مؤامرة جماعة من بني إسرائيل على قتل عيسى ، فوشوا به إلى ملك ذلك الزمان ، وكان كافرا : أن هنا رجلا يضل الناس ، ويصدهم عن طاعة الملك ، ويفسد الرعايا ، ويفرق بين الأب وابنه ، وهذا هو مكرهم بتوكيل من يقتله غيلة ، فأبطل الله مكرهم وأفسد تدابيرهم ، إذ بعث الملك في طلبه لأخذه وصلبه والتنكيل به ، فلما أحاطوا بمنزله ، وظنوا أنهم قد ظفروا به ، بإلقاء شبهه على رجل ممن كان عنده في المنزل ، نجّاه الله تعالى من بينهم ، ورفعه إلى السماء.

والله خير المدبرين ، وأنفذهم خطة ، وأحكمهم وأقواهم صنعا ، وأقدرهم على إضرارهم ، وإتمام حكمته ، وإنفاذ مشيئته ، وتركهم في ضلالهم يعمهون : يعتقدون أنهم قد ظفروا بمطلبهم ، وحققوا مأربهم.

وقال أبو حيان : معناه : أي المجازين أهل الخير بالفضل وأهل الجور بالعدل ؛ لأنه فاعل حق في ذلك ، والماكر من البشر فاعل باطل في الأغلب (١).

ثم ذكر الله رفع عيسى إلى السماء مخاطبا نبيه محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقائلا : اذكر يا محمد حين قال الله لعيسى : إني موفيك أجلك كاملا ، ورافعك إلي ، وهذه بشارة له بنجاته من كيدهم وتدبيرهم.

وللمفسرين رأيان في تأويل هذه الآية :

١ ـ إن في الآية تقديما وتأخيرا : والتقدير : إني رافعك إلي ومطهرك من

__________________

(١) البحر المحيط : ٢ / ٤٧٢

٢٤٠