التفسير المنير - ج ٣

الدكتور وهبة الزحيلي

ليس لنا شيء ، وطلبوا الأجل إلى وقت ثمارهم ، فنزلت هذه الآية : (وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ).

ودل قوله تعالى : (وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ) مع قوله : (وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ) على ثبوت حق المطالبة لصاحب الدين (الدائن) على المدين ، وجواز أخذ ماله بغير رضاه ، ودل أيضا على أن الغريم متى امتنع من أداء الدين مع الإمكان ، كان ظالما ، فإن الله تعالى يقول : (فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ) فجعل له المطالبة برأس ماله ، فإذا كان له حق المطالبة ، فعلى من عليه الدين (المدين) لا محالة وجوب قضائه.

ومن كثرت ديونه وطلب غرماؤه مالهم ، فللحاكم أن يخلعه عن كل ماله ويترك له ما كان من ضرورته ، والمشهور عن مالك أنه يترك له كسوته المعتادة ، ما لم يكن فيها فضل ، ولا ينزع منه رداؤه إن كان ذلك مزريا به. وفي ترك كسوة زوجته وفي بيع كتبه إن كان عالما خلاف. ولا يترك له مسكن ولا خادم ، ولا ثوب جمعة ما لم تقلّ قيمتها ، والأصل في هذا قوله تعالى : (وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ).

ويحبس المفلس في قول مالك وأبي حنيفة والشافعي وغيرهم حتى يتبين عدمه. ولا يحبس عند مالك إن لم يتّهم أنه غيّب ماله ، ولم يتبين لدده أي خصومته ومماطلته. وكذلك لا يحبس إن ثبت عسره ، للآية المتقدمة : (وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ ..).

وقوله : (وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ) يدل على أن الله تعالى ندب بهذه الألفاظ إلى الصدقة على المعسر ، وجعل ذلك خيرا من إنظاره. وقد أوردت سابقا الأحاديث الكثيرة الدالة على فضل إنظار المعسر وإبرائه من الدين ، ومدى الثواب العظيم في ذلك عند الله تعالى.

١٠١

الموضوع الرابع ـ جزاء الإيمان والعمل الصالح :

مدح الحق تعالى المؤمنين بربهم ، المطيعين أمره ، المؤدين شكره ، المحسنين إلى خلقه في إقامة الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، مخبرا عما أعد لهم من الكرامة ، وأنهم يوم القيامة من التبعات آمنون ، ليكون ذلك في خلال المقارنة مع أكلة الربا أدعى إلى الامتثال ، والبعد عن الربا الحرام ، وفي هذا تعريض بأكلة الربا وأنهم لو كانوا من الذين آمنوا وعملوا الصالحات ، لكفوا عن تعاملهم الربوي.

والخلاصة : أن الله تعالى أتبع وعيد المرابي بهذا الوعد ، وإنما خص الصلاة والزكاة بالذكر مع اندراجهما في الصالحات لمنزلتهما العظمى في الإسلام.

الموضوع الخامس ـ التحذير من أهوال يوم القيامة :

ختم الله تعالى آيات الربا بموعظة بالغة ، إذا وعاها المؤمن هانت عليه الدنيا ومطامعها وسامح بالمال والنفس ، فالدنيا زائلة ، والأموال فانية ، والآخرة آتية خالدة باقية ، والحساب أمام الله أمر حتمي ، يجازي كل امرئ بما عمل من خير أو شر ، دون بخس أو ظلم أو نقصان ، فليحذر المؤمن عقوبة ربه ، وليتق الله بامتثال الأوامر الإلهية ، واجتناب النواهي ومن أخطرها الربا ، فمن التقى وحذر العقوبة لقي خيرا ، ونال سعادة دائمة في جنان الخلد الباقية.

آية الدين وآية الرهن

توثيق الدين المؤجل بالكتابة أو الشهادة أو الرهن

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلا يَأْبَ كاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَما عَلَّمَهُ اللهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ

١٠٢

مِنْهُ شَيْئاً فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا وَلا تَسْئَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلى أَجَلِهِ ذلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ وَأَدْنى أَلاَّ تَرْتابُوا إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوها وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٢٨٢) وَإِنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كاتِباً فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (٢٨٣))

الإعراب :

(كَما عَلَّمَهُ اللهُ) كما : في موضع نصب متعلق بفعل (لْيَكْتُبْ) أو بقوله : (فَلْيَكْتُبْ) أو بقوله : (يَأْبَ). (وَلِيُّهُ) الضمير يعود على المدين. (فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ): إما خبر مبتدأ محذوف وتقديره : فالشاهد رجل وامرأتان ، وإما مرفوع بتقدير فعل وتقديره : فليكن رجل وامرأتان. ويكون «فليكن» تامة. و (مِنْ رِجالِكُمْ) : متعلق باستشهدوا ، ومن ابتدائية ، أو متعلق بمحذوف صفة لشهيدين ، ومن تبعيضية ، أي بعض رجالكم المسلمين الأحرار ، لأن الكلام في معاملاتهم.

(مِمَّنْ تَرْضَوْنَ) في موضعه ثلاثة أوجه : الجر والنصب والرفع ، فالجر : على أنه بدل من قوله : (مِنْ رِجالِكُمْ) والنصب على أنه صفة لشهيدين ، والرفع على أنه وصف لقوله : رجل وامرأتان.

(أَنْ تَضِلَ) أن : مصدرية في موضع نصب بتقدير فعل ، وتقديره : يشهدون أن تضل إحداهما ، وقرئ بكسر إن الشرطية ورفع : تذكر.

١٠٣

(صَغِيراً أَوْ كَبِيراً) منصوبان على الحال من هاء (تَكْتُبُوهُ) وهي عائدة على الدين. (إِذا ما دُعُوا) ما : زائدة.

(أَلَّا تَرْتابُوا) أن وصلتها في موضع نصب بأدنى ، وتقديره : وأدنى من ألا ترتابوا ، فحذف حرف الجر فاتصل به.

(إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً) أن وصلتها في موضع نصب على الاستثناء المنقطع. وتجارة : بالنصب خبر تكون الناقصة ، واسمها مقدر فيها ، والتقدير : إلا أن تكون التجارة تجارة حاضرة. وعلى قراءة الرفع : (تَكُونَ) تامة أي تقع.

(وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ) : الكاتب والشهيد إما فاعلان ليضارّ وهو الأحسن ، فيكون أصله : يضارر : بكسر الراء. وإما نائب فاعل فيكون أصله : يضارر بفتحها ، فأدغمت الراء الأولى في الثانية.

(وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ) حال مقدرة ، أو مستأنف.

(فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ) وقرئ «فرهنّ» وكلاهما جمع رهن عند الأكثرين ، وهو مبتدأ ، وخبره مقدّر ، وتقديره : فرهان مقبوضة تكفي من ذلك.

(اؤْتُمِنَ) أصله أؤتمن على وزن افتعل ، إلا أنه أبدلت الهمزة الثانية واوا لسكونها وانضمام ما قبلها ، فصار : اؤتمن.

(آثِمٌ قَلْبُهُ) فيه ثلاثة أوجه : أن يكون آثم خبر «إن» وقلبه فاعل له ، أو أن يكون (قَلْبُهُ) مبتدأ ، و (آثِمٌ) خبره ، والجملة منهما في موضع رفع خبر إن ، أو أن يكون (آثِمٌ) خبر إن ، و (قَلْبُهُ) : بدل من الضمير المرفوع في (آثِمٌ) ، بدل بعض من كل.

البلاغة :

توجد أنواع من الجناس في قوله (تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ) و (اسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ) و (اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ) و (يُعَلِّمُكُمُ) و (عَلِيمٌ).

ويوجد طباق في قوله : (صَغِيراً أَوْ كَبِيراً) و (أَنْ تَضِلَ) و (فَتُذَكِّرَ) تضل : أي تنسى.

وتشتمل الآية على إطناب في قوله : (فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلا يَأْبَ كاتِبٌ) وفي (وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ ... فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُ) وفي (أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى).

١٠٤

وتكرار لفظ الجلالة في جمل (وَاتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) لتربية المهابة في النفس وتعظيم الأمر.

(وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ) الجمع بين لفظ الجلالة والوصف بالربوبية : للمبالغة في التحذير.

المفردات اللغوية :

(تَدايَنْتُمْ) : داين بعضكم بعضا أي تعاملتم بدين مؤجل (بِدَيْنٍ) : أي ببيع مؤجل أو سلم أو قرض ، والدين : هو المال الذي يثبت في الذمة (إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) الأجل : هو الوقت المحدد لانتهاء شيء ، والمسمى : الموعد المعلوم أو المحدود بالأيام أو الشهور أو السنين ، ويشمل الدين المؤجل : بيع الأعيان إلى أجل ، والسلم (السلف) ، والقرض (فَاكْتُبُوهُ) ندبا استيثاقا للدين ودفعا للنزاع (وَلْيَكْتُبْ) سند الدين أو كتابه (بِالْعَدْلِ) بالحق في كتابته ، أو بالتسوية بين الجانبين ، من غير ميل إلى أحدهما ، ولا زيادة أو نقص في المال والأجل.

(وَلا يَأْبَ) أي لا يمتنع (كَما عَلَّمَهُ اللهُ) أي على الطريق التي علمه الله إياها من كتابة الوثائق ، فلا يبخل بها ولا يقصر في شيء (وَلْيُمْلِلِ) أي وليلق على الكاتب ما يكتبه ، والإملال والإملاء بمعنى واحد (الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُ) أي الدين ، والمراد به هنا المدين ، لأنه المشهود عليه ، فيقر بكامل الحق ، ليعلم ما عليه.

(وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ) في إملائه (وَلا يَبْخَسْ) لا ينقص من الحق شيئا (فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً) مبذرا (ضَعِيفاً) عن الإملاء لصغر أو كبر بأن كان صبيا أو شيخا هرما (أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ) بأن كان جاهلا أو أخرس أو نحو ذلك.

(فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ) متولي أمره من والد ووصي وقيّم ومترجم (وَاسْتَشْهِدُوا) اطلبوا أن يشهد على الدين شاهدان (مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ) لدينه وعدالته.

(أَنْ تَضِلَ) لأجل أن تنسى أو تخطئ إحداهما الشهادة لعدم ضبطها وقلة عنايتها فتذكر إحداهما (الذاكرة) الأخرى (الناسية) ، وجملة «تذكر» للتعليل أي لتذكر إن ضلت. وقرئ بكسر إن شرطية ، ورفع فعل «تذكر» المستأنف ، وهو جواب الشرط ، والشرط والجزاء يكونان صفة للنكرة : (وَامْرَأَتانِ). (دُعُوا) إلى تحمل الشهادة وأدائها (وَلا تَسْئَمُوا) تملوا وتضجروا من (أَنْ تَكْتُبُوهُ) أي ما شهدتم عليه من الحق ، لكثرة وقوع ذلك. (إِلى أَجَلِهِ) وقت حلول أجله.

(ذلِكُمْ) أي الكتب (أَقْسَطُ) أعدل (وَأَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ) أي أعون على إقامتها وأثبت لها ، لأنه يذكّرها. (وَأَدْنى أَلَّا تَرْتابُوا) أي أقرب إلى ألا تشكوا في قدر الدين وأجله

١٠٥

(تُدِيرُونَها) أي تقبضونها ولا أجل فيها ، والمراد تتعاملون بها يدا بيد. (وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ) نهي عن وقوع الضرر من الجانبين ، فلا يضر الكاتب والشاهد صاحب الحق ومن عليه الحق بتحريف أو زيادة أو نقص ، أو امتناع من الشهادة أو الكتابة ، ولا يضرهما صاحب الحق بتكليفهما ما لا يليق في الكتابة والشهادة.

(وَإِنْ تَفْعَلُوا) ما نهيتم عنه (فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ) خروج عن الطاعة لا حق بكم. (وَاتَّقُوا اللهَ) في أمره ونهيه (وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ) مصالح أموركم.

(وَإِنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ) أي مسافرين وتداينتم ، وبينت السنة جواز الرهن ووجود الكاتب في الحضر. وذكرت حالة السفر ؛ لأن التوثيق فيه أشد (فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ) تستوثقون بها ، ودل قوله : مقبوضة على اشتراط القبض في الرهن ، والاكتفاء بقبض المرهون من المرتهن أو وكيله. (فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً) أي أمن الدائن المدين على حقه ، فلم يرتهن أو لم يكتب الدين (فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ) أي المدين (أَمانَتَهُ) دينه (وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ) في أدائه (وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ) إذا دعيتم لأدائها (فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ) خص القلب بالذكر ؛ لأنه محل الشهادة ، ولأنه إذا أثم تبعه غيره ، فيعاقب عليه معاقبة الآثمين. (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) أي لا يخفى عليه شيء من أعمالكم.

المناسبة :

لما ذكر الله تعالى الإنفاق وجزاءه الطيب ، والربا وقباحته وخطره ، أعقبه بذكر القرض الحسن بلا فائدة ، والتعامل بالدين المؤجل ، وطريق توثيقه وحفظه بالكتابة والشهادة والرهن ، وطريق تنميته بالتجارة التي تقتضي السرعة ، ففي الصدقة والقرض الحسن تراحم وتعاون ، وفي الربا قسوة وطغيان ، وفي أحكام التعامل بالدين المؤجل والتجارة الحاضرة غاية الحكمة والمصلحة والعدل ؛ إذ من يؤمر بالإنفاق والصدقة والقرض ، وينهى عن التعامل بالربا لا بد له من تنمية ماله بالتجارة ، وحفظ حقه من الضياع. فتكون مناسبة الآية لما قبلها بيان حالة المداينة الواقعة في المعاوضات الجارية بين الناس ، ببيع السلع بالدين المؤجل ، بطريقة تحفظ الأموال وتصونها عن الضياع ، بعد بيان حكم التعامل بالربا ومنعه ، أو أن المراد بيان كيفية حفظ المال الحلال ، بعد بيان الإنفاق في سبيل الله وتحريم الربا ، اللذين يترتب عليهما نقص المال إما حالا أو مآلا.

١٠٦

وكون هذه الآية أطول آية في القرآن الكريم دليل على أن المال في ذاته ليس مبغوضا عند الله ، وعلى أن الإسلام معني باقتصاديات الأمة ، وأنه دين ودولة وحياة ونظام مجتمع ، وليس دين رهبنة وفقر ، وانعزال عن الحياة ، فتنظيم التعامل بين الناس ، وتبيان طريق حفظ الحقوق ، وتعاطي التجارة وتنمية المال ، يدل كل ذلك على أن الإسلام دين عمل وجهد وكفاح ، وحرص على الكسب والربح من أوجه الحلال ، روى أحمد والطبراني من حديث عمرو بن العاص : «نعمّا المال الصالح للمرء الصالح».

وأما البذل في المصالح العامة وتحريم الربا فهو عنوان على تضامن الأمة وتراحمها ، ونبذها الظلم والاستغلال والكسب من غير جهد وكدّ وعمل. وأما ذمّ الدنيا أو المال في بعض الآيات والأحاديث : فإنما هو عند نسيان جانب الآخرة ، واستعباد المال صاحبه ، فيبخل في إنفاقه ، ولا يبالي في جمعه من طريق حلال أو حرام ، قال تعالى : (إِنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ ، وَاللهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) [التغابن ٦٤ / ١٥] وقال سبحانه : (اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ ، وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ ، ثُمَّ يَهِيجُ ، فَتَراهُ مُصْفَرًّا ، ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً ، وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ ، وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرِضْوانٌ ، وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ) [الحديد ٥٧ / ٢٠]. وروى البخاري عن أبي هريرة أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «تعس عبد الدينار ، تعس عبد الدرهم».

التفسير والبيان :

يا من اتصفتم بالإيمان إذ تعاملتم بالدّين المؤجل في الذمة بيعا أو سلما أو قرضا ، كبيع شيء بثمن مؤجل ، أو بيع سلعة مؤجلة إلى أجل مسمى مع بيان الجنس والنوع والقدر ، بثمن معجل وهو المسمى بالسلم أو السلف ، وقرض مبلغ من المال ، إذا تعاملتم ببدل مؤجل ، فاكتبوا ما يدل على هذا التعامل ، مع بيان الأجل بالأيام أو بالأشهر أو بالسنين ، أي بكونه معلوما ، لا بالتأجيل إلى

١٠٧

الحصاد والدياس مما لا يرفع الجهالة في رأي الجمهور ؛ لأن الكتابة أوثق في ضبط المتفق عليه ، وأرفع للنزاع.

ثم بيّن الله كيفية الكتابة وعين من يتولاها : بأن يكتب كاتب مأمون عادل محايد ، فقيه متدين يقظ : الحقّ دون ميل لأحد الجانبين ، مع وضوح المعاني ، وتجنب الألفاظ المحتملة للمعاني الكثيرة ، فهو كالقاضي بين الدائن والمدين. وهذا يدل على اشتراط العدالة في الكاتب.

ثم أوصى الكاتب ونهاه عن الإباء : فلا يمتنع أحد من الكتاب عن كتابة وثيقة الدين ، ما دام يمكنه ذلك ، على الطريقة التي علمه الله في كتابة الوثائق ، أو كالتي علمه الله ، فالكاف صفة لموصوف محذوف ، فلا يزيد ولا ينقص ولا يضر أحدا ، والكتابة نعمة من الله عليه ، فمن شكرها ألا يمتنع عنها ، وإن كانت بأجر ، وهذا يدل على اشتراط كون الكاتب عالما بالأحكام الشرعية والشروط المرعية عرفا ونظاما. وقدّم اشتراط العدالة على العلم ؛ لأنها أهم من العلم. فالعادل يمكنه تعلم ما تتطلبه كتابة الوثائق ، وأما العالم غير العادل فلا يهديه علمه للعدالة ، وإنما يفسد ولا يصلح.

ودل قوله : (وَلا يَأْبَ) على أن العالم العادل إذا دعي للقيام بالكتابة ونحوها ، وجب عليه تلبية الدعوة ، ثم أكد الله تعالى النهي عن الإباء بالأمر بالكتابة بالحق ، لكون الوثيقة متعلقة بحفظ الحقوق.

ثم أرشد الله تعالى إلى أن الذي يتولى إملاء البيانات على الكاتب إنما هو المدين ، فإنه المكلف بأداء مضمون الكتابة ، ليكون بيانه وإملاؤه حجة عليه ، ثم أوصاه تعالى بأمرين : هما تقوى الله في الإملاء ، بأن يذكر ما عليه كاملا ، وألا ينقص من الحق الذي عليه شيئا.

ويلاحظ أن الكاتب أمر بالعدل فلا يزيد ولا ينقص ، والمدين نهي عن

١٠٨

النقص فقط ؛ لأن هذا هو المنتظر منه أو المتصور منه دون سواه.

ثم أوضح تعالى أحوال ناقصي الأهلية ، فإن كان المدين (الذي عليه الحق) سفيها أي مبذرا في ماله ناقص العقل والتدبير ، أو ضعيفا بأن كان صبيا أو مجنونا أو جاهلا أو هرما لم تساعده قواه العقلية على ضبط الأمور ، أو عاجزا عن الإملاء لكونه جاهلا أو ألكن أو أخرس أو معتقل اللسان ، أو أعمى ، فعلى وليه الذي يتولى أموره من قيّم أو وكيل أو مترجم أن يملي الحق على الكاتب بالعدل والإنصاف ، بلا زيادة ولا نقص.

ثم جاء دور الإثبات ، فأرشد تعالى على سبيل الندب لضبط الوقائع وحفظ الأموال إلى الشهادة على المداينة ، ونصاب الشهادة : رجلان أو رجل وامرأتان.

وقوله : (مِنْ رِجالِكُمْ) دليل على اشتراط الإسلام والحرية في الشهود ؛ لأن الكلام وارد في معاملاتهم. وأما العدالة في الشهود فاشترطوها بقوله تعالى : (وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ) [الطلاق ٦٥ / ٢].

مقبول الشهادة ومرفوضها :

يرى أبو يوسف أن من سلم من الفواحش التي يجب فيها الحدود ، وما يجب فيها من العظائم ، وأدّى الفرائض ، وأخلاق البر فيه أكثر من المعاصي الصغار ، قبلت شهادته ؛ لأنه لا يسلم عبد من ذنب ، ولا تقبل شهادة من ذنوبه أكثر من أخلاق البر ، ولا من يلعب الشطرنج يقامر عليها ، ولا من يلعب بالحمام ويطيرها ، ولا تارك الصلوات الخمس في جماعة استخفافا أو فسقا ، لا أن تركها على تأويل ، وكان عدلا ، ومن يكثر الحلف بالكذب ، ولا مداوم على ترك ركعتي الفجر ، ولا معروف بالكذب الفاحش ، ولا مظهر شتيمة أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولا شتام الناس والجيران ، ولا من اتهمه الناس بالفسق والفجور ، ولا متهم بسب الصحابة حتى يقولوا : سمعناه يشتم.

١٠٩

وقال ابن أبي ليلى وأبو حنيفة : تقبل شهادة أهل الأهواء العدول إلا صنفا من الرافضة وهم الخطابية. وقال محمد : لا أقبل شهادة الخوارج ، وأقبل شهادة الحرورية ؛ لأنهم لا يستحلون أموالنا ، فإذا خرجوا استحلوا (١).

واشتراط إسلام الشهود هو مذهب الجمهور (مالك والشافعي وأحمد) وأجاز الحنفية قبول شهادة الكفار بعضهم على بعض ؛ لأنه عليه الصلاة والسلام رجم يهوديين بشهادة اليهود عليهما بالزنى.

وقال ابن القيم في (أعلام الموقعين والطرق الحكمية) : البينة في الشرع أعم من الشهادة ، فكل ما يتبين به الحق كالقرائن القطعية يسمى بيّنة ، فلا مانع أن تدخل شهادة غير المسلم في البينة بذلك المعنى ، إذا تبين للحاكم الحق بها.

وقوله تعالى : (مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ) مؤكد لاشتراط الإسلام والعدالة ؛ لأن المعنى : ممن ترضون دينهم وعدالتهم من الشهداء ، أو من النساء ؛ وجيء بهذا الوصف لضعف شهادة النساء وقلة ثقة الناس بها ، والخطاب يعم جميع الناس ، حكاما وغيرهم ، ولا بد في رأي الجمهور من ثبوت العدالة للشهود بالتزكية. وقال أبو حنيفة : لا حاجة للتزكية ، فكل مسلم ظاهر الإسلام مع السلامة من فسق ظاهر فهو عدل ، وإن كان مجهول الحال.

وذكر الله تعالى السبب في جعل شهادة المرأتين بشهادة رجل ، أي اعتبار العدد في شهادة النساء : وهو التذكير صونا لحكم الشهادة ؛ لعدم ضبط المرأة وقلة عنايتها ونسيانها ، فتذكر كل منهما الأخرى. وبما أن العلة في الحقيقة هي التذكير ، وكان الشأن في النساء النسيان ، نزّل النسيان منزلة العلة ، أي نزل السبب منزلة المسبب. فقد جرت العادة أن المرأة لا تهتم كثيرا بالمعاملات المالية

__________________

(١) البحر المحيط : ٢ / ٣٤٧

١١٠

ونحوها من المعاوضات ، فتكون معلوماتها محدودة ، وخبرتها قليلة ، واهتمامها بالوقائع المالية ضعيفا ، وأما اشتغال النساء في هذا العصر بالمسائل المالية فلا يغير الحكم ؛ لأن الأحكام إنما للأعم الأغلب ، وبالرغم من إسناد الوظائف المالية للمرأة ، فإنها لا تأبه بغير العمل الذي وكّلت به وفوض إليها ، فلا تلتفت لما يجري بين الآخرين من منازعات على قضايا مالية ، ويظل اهتمامها بالنواحي المالية أو العامة بالرغم من توظفها محصورا بشؤون منزلها أثاثا وترفها ونظافة ، وتوفير مواد تموينية ، وإعداد طعام وشراب لأسرتها ، وتربية أولاد ، فكان تذكرها للمعاملات ـ فيما عدا مشترياتها الخاصة ـ قليلا. والخلاصة : أن الحكم للأغلب ، ولا عبرة بالنادر ، والشرع ينظر للمجموع.

ثم نبّه القرآن إلى قضية مهمة ، فشا بين الناس في عصرنا بل وفي الماضي نقيضها ، وهي الإدلاء بالشهادة ، فأوصى تعالى الشهود ، ونهاهم عن الإباء عن الشهادة أو التقاعس في أدائها وتحملها ، كما نهى الكاتب عن الامتناع عن الكتابة ، فلا يجوز للشهود الامتناع عن تحمّل الشهادة (أي استيعاب وقائع القضية المشهود عليها) وأدائها أمام القاضي ، كقوله تعالى بعدئذ : (وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ) [البقرة ٢ / ٢٨٣] إذ بالشهادة تثبت الحقوق ويمنع الجور والظلم والتسلط على الضعفاء. ودلت الآية أيضا على أن الشاهد هو الذي يمشي إلى الحاكم.

روى الربيع أن الآية نزلت حين كان الرجل يطوف في القوم الكثير ، فيدعوهم إلى الشهادة ، فلا يتبعه أحد منهم.

ثم عاد إلى أمر الكتابة ، فأكد طلبها في عقود المداينات ، فنهى عن الملل أو الضجر من كتابة الدين ، فلا ينبغي التكاسل أو التقصير أو الاستحياء في كتابة الدين ، مهما قلّ ، وسواء أكان صغيرا أم كبيرا تطلب كتابته ، قطعا للنزاع والشقاق ، وحفظا لأصل الحق.

١١١

وهذا دليل على اعتبار الكتابة في أدلة الإثبات ، وعلى أنها مطلوبة في القليل والكثير إلى أجل الحق ، أي وقت وفائه الذي أقر به المدين.

ثم بيّن الله تعالى الحكمة من الأوامر والنواهي المتقدمة ، وهو أن ذلك البيان الذي أمر به القرآن من الكتابة والإشهاد أعدل في إصابة حكم الله تعالى ؛ لأنه يكون إلى الصدق أقرب وعن الكذب أبعد ، وهو أيضا أحرى بإقامة العدل بين المتعاملين ، وأعون على أداء الشهادة على وجهها الصحيح ، وأقرب إلى إزالة الشكوك في تعيين جنس الدين ونوعه وقدره وأجله ، فهذه مزايا ثلاث تؤكد العمل بكتابة الدين.

وهذا يدل على أن للشاهد طلب وثيقة الدين المكتوب ليتذكر وضعه.

ثم خفف القرآن من قيد المطالبة بالكتابة أخذا بما تقتضيه ظروف التجارة من حرية وحركة وسرعة ، فأبان أن الكتابة مطلوبة إلا إذا تمت مبادلة العوضين في التجارة وقبضهما في الحال ، فلا داعي للكتابة ، ولا حرج ولا إثم في تركها حينئذ ، إذ لا يترتب عليها شيء من التنازع والتخاصم ، وهذا يدل على أن الإسلام متمش مع الواقع ، متجاوب مع ما تقتضيه المعاملات من تطور وسرعة ورعاية مصلحة.

وإذ لا بأس من عدم الكتابة في التجارة الحاضرة أو التعامل يدا بيد ، فيطلب الإشهاد على التبايع ؛ لأن اليد الظاهرة التي تحوز الشيء قد لا تكون محقة ، فيحدث النزاع والخلاف ، فكان الإشهاد أحوط ، ويكفي. أما المعاملات والديون المؤجلة والسّلم فتجب كتابتها ؛ لأن مرور الزمان قد ينسي بعضها ، فيقع التنازع.

والمبدأ الواجب اتباعه في علاقة الكاتب والشاهد بالمتعاملين هو عدم المضارّة ، فلا يجوز لهما إلحاق ضرر بأحد المتعاملين أو كليهما بزيادة أو نقص أو

١١٢

تحريف أو ترك الإجابة بالاستفسار عن بعض ظروف الواقعة ، أو عما يطلب منهما من توضيح بعض الأمور الغامضة ، كما لا يجوز أيضا للمتعاملين إلحاق الضرر أو الأذى بالكاتب أو الشاهد ، كتحريف وتغيير بعض الوقائع ، أو إهمال الإشارة إلى كلمة أو قيد مثلا ، أو محاولة المنع من أداء الشهادة بالترهيب أو الترغيب برشوة أو وعد بمال ؛ لأن الإسلام دين الحق والعدل ، والله تعالى يأمر بإقامة الحق والعدل كاملا غير منقوص.

ويؤيد ذلك الآية التالية : (وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ) أي أن التحريف والتغيير في الكتابة والشهادة فسق وإثم ، أو إن تفعلوا ما نهيتكم عنه من الضرار ، فإن فعلكم هذا فسوق بكم ، وخروج عن الطاعة ملتبس بكم.

ومنع المضارّة مستفاد من تحليل أصل (يُضَارَّ) : فإن كان أصله «يضارر» بكسر الراء الأولى ، ثم وقع الإدغام ، وفتحت الراء في الجزم لخفة الفتحة ، فالمعنى : لا يضر الكاتب ولا الشهيد غيره بترك الإجابة ، أو التغيير ، والتحريف في الكتابة والشهادة. وإن كان أصله «يضارر» بفتح الراء الأولى ، وكذا قرأ ابن مسعود ، فالمعنى لا يجوز لطالب الحق أو المطالب به أن يضرّ الكاتب والشهيد ، بأن يقهر هما على الانحراف في الكتابة والشهادة.

ثم ذكّر تعالى بالقاعدة العتيدة العامة إثر الأمر والنهي وهي التزام التقوى بامتثال ما أمر الله به واجتناب ما نهى عنه ، والمعنى : فاتقوا الله في جميع ما أمركم به وما نهاكم عنه ، ومن جملة ذلك: ما حذركم منه من الضرار ، وهو سبحانه يعلمكم ما فيه صلاح دنياكم وحفظ أموالكم ، كما يعلمكم ما يصلح أمر الدين ، وهو العليم بكل شيء ، لا يخفى عليه حالكم الظاهر والباطن ، فإذا شرع شيئا فإنما يشرعه عن علم دقيق شامل بما يدرأ المفاسد ويجلب المصالح ، وشرعه كله حكمة وعدل.

وختم الآية بهذه الموعظة الحسنة للتذكير بامتثال جميع الأحكام السابقة.

١١٣

وتكرار لفظ الجلالة في الجمل الثلاث : (وَاتَّقُوا اللهَ ، وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ ، وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) لتربية المهابة في نفس السامع ، ولتقرير استقلال كل منها بحكم معين.

ثم انتقل البيان إلى تشريع حكم يتناسب مع السفر ، وهو الرهان التي يستوثق بها في الحصول على الدين ، فإن إثبات المبايعات المؤجلة بالكتابة والإشهاد عليها أمر ممكن في الحضر ، أما في السفر فالغالب عدم التمكن من ذلك ، فشرع تعالى ما يناسبه وهو الرهن ، ودلت السنة على جوازه في الحضر ، فقد أخرج النسائي عن ابن عباس ، والشيخان عن عائشة : «أنه عليه الصلاة والسلام رهن درعه في المدينة من يهودي بعشرين صاعا من شعير أخذه لأهله».

ومعنى آية الرهان : إن كنتم مسافرين ، ولم تجدوا كاتبا يحسن كتابة المداينة ، أو لم تسمح ظروف السفر بالجلوس والكتابة ، أو لم تجدوا أدوات الكتابة ، فاستوثقوا برهن تقبضونه.

وتقييد الرهان في الآية بوصف السفر ، وعدم وجود الكاتب : بيان للعذر الذي رخص في ترك الكتابة ، ووضع الرهن وثيقة للدين محلها. وإنما نص على السفر دون الأعذار الأخرى ؛ لأنه هو غالب الأعذار ، لا سيما في وقت نزول القرآن ، لكثرة المعارك والحروب. ويدخل في ذلك بالمعنى كل عذر ، مثل ظرف الليل ، وزحمة الأشغال والأعمال ، وتهديد حالة الغريم (المدين) بالإفلاس. وأشارت الآية إلى أن عدم وجود الكاتب مقيد بحال السفر ، لا في حال الإقامة والحضر.

لكن وصف الرهان بكونها مقبوضة : يدل على أنه ما لم يقبض المرهون لا يظهر وجه للتوثق به. واشتراط القبض يستلزم عند الحنفية أن يكون المرهون معينا مفرزا ، فلا يجوز لديهم رهن المشاع سواء فيما يقسم وفيما لا يقسم ؛ لتعذر

١١٤

القبض ، وأجاز الجمهور رهن المشاع مثل بيعه وهبته ، ويسلّم للمرتهن كل الشيء المشترك ، ويتم التناوب عليه بطريق المهايأة.

ثم عادت الآية إلى تقرير احتمال وجود الثقة والائتمان بين المتعاملين ، فصرحت بأنه إن أمن بعض الدائنين بعض المدنيين ، لحسن ظنه به ، وثقته بأنه لا يجحد الحق ولا ينكره ، وهذا هو البيع بالأمانة ، فليؤد المدين الذي اؤتمن أمانته أي دينه الذي ائتمنه الدائن عليه ، فلم يأخذ منه رهنا ، وليكن عند حسن ظن الدائن به ، وليتق الله ربه في رعاية حقوق الأمانة ، وعدم خيانتها ولا جحودها ولا التأخر في دفعها ، فالله خير الشاهدين ، وهو أولى أن يتّقى.

وسمي الدين أمانة لائتمان المدين عليه بترك الارتهان عليه.

وجمع في قوله : (وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ) بين الألوهية وصفة الربوبية للمبالغة في التحذير من الخيانة التي تغضب الإله المعبود بحق ، وربه الذي يربيه ويلي شؤونه ويدبر مصالحه.

ثم أكد سبحانه النهي السابق عن الإباء عن أداء الشهادة وتحملها ، فنهى عن كتمانها أي إخفائها بالامتناع عن أدائها ، مجددا النهي فيما يليق ببيع الأمانة ، مع ما فيها من زيادة تزعج الشاهد ، وتهدده بعقوبة كتمان الشهادة واستحقاق الإثم ، والآثم والفاسق متقاربان ، فقال بالمعنى : لا تمتنعوا عن أداء الشهادة إذا احتيج إليها ، ومن يكتمها أو يمتنع عنها كان مرتكبا للذنب ، مجترحا للمعصية والإثم ، وخص القلب بالذكر في تحمل الإثم ؛ لأنه مركز الإحساس والشعور ووعي الوقائع وإدراكها ، ولأنه أحد الأعضاء التي تقترف ذنبا ، كما يسند الزنى إلى العين والأذن ونحوهما ، فالإثم قد يكون بعمل القلب كما يكون بعمل بقية الأعضاء ، كقوله تعالى : (إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ ، كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً) [الإسراء ١٧ / ٣٦] ومن آثام القلب : إضمار السوء وسوء النية والقصد ، والحقد والحسد.

١١٥

وكل ما سبق من أعمال كأداء الشهادة وكتمها وغيرها يعلمه الله ، والله بكل شيء عليم وبصير ، يجازي عليه ، إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر ، فاحذروا مخالفة الأوامر واقتراف المعاصي ، ومنها كتمان الشهادة ، واعلموا بما أمركم به ، فإن علم الله عام في جميع الأعمال.

فقه الحياة أو الأحكام :

موضوع آية الدين في توثيق المبايعات المؤجلة والديون والسّلم (١) بالكتابة والشهادة والرهن ، فإن لم يكن توثيق برهن أو بكتابة جاز البيع بالأمانة ، فالمبايعات في هذه الآية ثلاثة أنواع : بيع بكتابة وشهود ، وبيع برهان مقبوضة ، وبيع بالأمانة.

قال ابن عباس : هذه الآية نزلت في السّلم خاصة ، معناه أن سلم أهل المدينة كان سبب الآية ، ثم هي تتناول جميع المداينات إجماعا.

وقال ابن خويز منداد : إنها تضمنت ثلاثين حكما ، منها ما يلي :

١ ـ استدل بها بعض علماء المالكية على جواز التأجيل في القروض ، على ما قال مالك ؛ إذ لم يفصل بين القرض وسائر العقود في المداينات. وخالف في ذلك الشافعية وقالوا : الآية ليس فيها جواز التأجيل في سائر الديون ، وإنما فيها الأمر بالإشهاد إذا كان دينا مؤجلا ؛ ثم يعلم بدلالة أخرى جواز التأجيل في الدين وامتناعه.

٢ ـ مشروعية تأجيل الديون ، لقوله تعالى : (بِدَيْنٍ) : وحقيقة الدين : عبارة عن كل معاملة ، كان أحد العوضين فيها نقدا ، والآخر في الذمة

__________________

(١) السّلم : هو بيع آجل بعاجل. ويقال له السلف ، غير أن السلم خاص به ، والسلف يطلق أيضا على القرض.

١١٦

نسيئة ؛ فإن العين عند العرب ما كان حاضرا ، والذين : ما كان غائبا. وتشمل الآية كلا من بيع العين بالدين كبيع كتاب حاضر بثمن مؤجل ، وبيع الدين بالعين : وهو السلم. أما بيع العين بالعين كبيع سلعة حاضرة بنقد حاضر فهو جائز ، وأما بيع الدين بالدين كبيع صاع من القمح في ذمة إنسان ، بصاعين من الشعير في ذمة إنسان آخر ، فهو باطل للنهي عنه.

٣ ـ دل قوله : (إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) على أن السلم إلى الأجل المجهول غير جائز ، وأكدت السنة ذلك ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من أسلف في تمر ، فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم» (١). وأجمع أهل العلم على مشروعية السلم : وهو أن يسلم الرجل إلى صاحبه في طعام معلوم موصوف ، من طعام أرض عامّة لا يخطئ مثلها ، بكيل معلوم ، إلى أجل معلوم بدنانير أو دراهم معلومة ، يدفع ثمن ما أسلم منه قبل أن يفترق العاقدان من مقامهما الذي تبايعا فيه ، وسمّيا المكان الذي يقبض فيه الطعام. والسلم بيع من البيوع الجائزة بالاتفاق ، وهو مستثنى من نهيه عليه الصلاة والسلام عن بيع ما ليس عندك ، وأرخص في السلم ، لحاجة الناس إليه ، وقد سماه الفقهاء بيع المحاويج أو بيع المفاليس.

وأجاز المالكية السّلم إلى الحصاد والجذاذ ، إذ ذاك يختص بوقت وزمن معلوم. وأجازوا أيضا تأخير قبض رأس المال (الثمن) يومين أو ثلاثة ، بشرط وبغير شرط ، لأن ذلك في حكم المقبوض في المجلس ، لقرب هذه المدة. ولم يجز باقي الأئمة تأخير شيء من رأس مال السّلم عن مجلس العقد والاتفاق ؛ ورأوا أنه كالصرف ، وتحرزا من بيع الدّين بالدّين.

__________________

(١) أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما عن ابن عباس.

١١٧

وأجاز الشافعي السلم الحالّ ، ولم يجزه باقي الأئمة ، للحديث المتقدم : «إلى أجل معلوم».

٤ ـ ودل قوله : (فَاكْتُبُوهُ) أي الدّين والأجل على مشروعية الاحتجاج بالكتابة. ويقال : أمر بالكتابة ، ولكن المراد الكتابة والإشهاد ؛ لأن الكتابة بغير شهود لا تكون حجة.

وهل كتابة الكاتب فرض أو ندب؟ قيل : إنها فرض كفاية ، وقيل : فرض عين على الكاتب متى طلب منه ، وكان في حال فراغه لقوله تعالى : (وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ) وقوله : (وَلا يَأْبَ كاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ) وقيل : إنه ندب ، والصحيح أنه أمر إرشاد ، فيجوز له أن يتخلف عن الكتابة ، حتى يأخذ أجره ؛ إذ لو كانت الكتابة واجبة على الكاتب ما صح الاستئجار بها ؛ لأن الإجارة على فعل الفروض باطلة.

٥ ـ هل الكتابة والإشهاد واجبان؟ ذهب جماعة إلى أن الكتابة والشهادة على الديون المؤجلة واجبان ، بقوله تعالى : (فَاكْتُبُوهُ) وقوله : (وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ) ثم نسخ الوجوب بقوله : (فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ). واختار الطبري أن كتب الديون واجب على أربابها بهذه الآية ، بيعا كان أو قرضا ، لئلا يقع فيه نسيان أو جحود.

وقال الجمهور : الأمر بالكتابة والإشهاد للندب ، وهما مندوبان ، لحفظ ما يقع بين المتعاقدين إلى حلول الأجل ؛ لأن النسيان يقع كثيرا في المدة التي بين العقد وحلول الأجل ، وقد تطرأ عوارض من موت أو غيره ، فشرع الله الكتابة والإشهاد لحفظ المال وضبط الواقع ، ولم ينقل عن الصحابة والتابعين وفقهاء الأمصار أنهم كانوا يتشددون فيهما ، بل كانت تقع المداينات والمبايعات بينهم من غير كتابة ولا إشهاد ، ولم يقع نكير منهم ، فدل ذلك على أن الأمر للندب.

١١٨

وقرينة صرف ظاهر الأمر من الوجوب إلى الندب منصوص عليها في الآية ذاتها ، وهو قوله تعالى : (فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ).

٦ ـ التزام العدل : طالبت الآية بالتزام العدل في الكتابة ، وفي الإملاء ، وفي إملاء الولي عن السفيه والضعيف ، وهذا واضح من قوله : (وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ) وقوله : (كَما عَلَّمَهُ اللهُ) وقوله : (وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ) وقوله : (فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ). وهل يحجر على السفيه؟ أجاز الجمهور الحجر على السفيه المبذر من قبل القاضي حتى لا يصبح عالة على الناس ، وقال أبو حنيفة : يمنع السفيه من ماله ما لم يبلغ خمسا وعشرين سنة ، فإذا بلغها دفع إليه ماله ، وإن لم يؤنس منه رشد ؛ لأن الحجر عليه إهدار لآدميته.

٧ ـ نصاب الشهادة : رجلان أو رجل وامرأتان. وتجوز شهادة النساء مع الرجال عند المالكية في الأموال وتوابعها خاصة ، ولا تقبل في أحكام الأبدان مثل الحدود والقصاص ، والنكاح والطلاق والرجعة. وتجوز عند الحنفية في الأموال والطلاق والنكاح والرجعة. واتفق الفقهاء على رد الشهادة بسبب التهمة : وهي التي تجلب للمشهود له نفعا أو تدفع عنه ضررا ، وترد شهادة أحد الزوجين للآخر في رأي الجمهور ، ولا ترد في رأي الشافعية وإنما تقبل لأن عقد الزوجية أمر طارئ ويزول. وقال أبو حنيفة : إن شهادة الأجير غير جائزة لمستأجره في شيء ، وإن كان عدلا استحسانا.

ولا يجوز في رأي الحنفية القضاء بشاهد ويمين المدعي ؛ لأن الله لم يذكر في الآية إلا قسمين وهما : شهادة رجلين ، وشهادة رجل وامرأتين ، فلا ثالث لهما. وأجاز الجمهور القضاء بشاهد ويمين في الأموال لا في الأبدان ، لا باعتباره قسما ثالثا للشهادة ، وإنما هو باعتبار اليمين مع الشاهد ترجيحا لجانب المدعي ، بدليل ما ثبت عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «أنه قضى بشاهد ويمين» (١). وأما عدم ذكر ذلك في

__________________

(١) رواه الجماعة إلا البخاري عن ابن عباس.

١١٩

القرآن ، فلا يمنع مشروعيته والعمل به ، بدليل جواز القضاء بالنكول عند الحنفية ، وهو قسم ثالث لم يذكره القرآن.

٨ ـ ودل قوله تعالى : (وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا) على منع الإباء عن تحمل الشهادة وأدائها وإثباتها عند اللزوم أمام القاضي ، وأن الشاهد هو الذي يمشي إلى الحاكم. وهذا في حال طلب الشهادة ، فأما في غير حال طلبها من القاضي فأداؤها مندوب ، فقد فرض الله الأداء عند الدعاء (الطلب) ، فإذا لم يدع الشاهد ، كان أداء الشهادة ندبا ؛ لقوله عليه الصلاة والسلام : «خير الشهداء : الذي يأتي بشهادته قبل أن يسألها» (١).

ورأى المالكية في الصحيح أن أداء الشهادة فرض ، وإن لم يسألها ، إذا خاف على الحق ضياعه أو فوته ، حتى لا يضيع الحق ، سواء في حقوق الله تعالى ، وحقوق الآدميين ، لقوله تعالى: (وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ) [الطلاق ٦٥ / ٢] وقوله : (إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) [الزخرف ٤٣ / ٨٦] وفي الصحيح عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «انصر أخاك ظالما أو مظلوما» فقد تعين عليه نصره إذا كان مظلوما بأداء الشهادة التي له عنده ، إحياء لحقه الذي أماته الإنكار.

وذهب الحنفية إلى أن أداء الشهادة في حقوق الله تعالى قبل سؤالها مطلوب ، أما في حقوق العباد فلا يشهد الشاهد قبل أن يستشهد ، لما أخرجه الصحيحان عن عمران بن حصين : «إن خيركم قرني ، ثم الذين يلونهم ، ثم الذين يلونهم ، ثم الذين يلونهم ، ثم يكون بعدهم قوم يشهدون ولا يستشهدون ، ويخونون ولا يؤتمنون ، وينذرون ولا يوفون ، ويظهر فيهم السّمن» وأوّله المالكية وحملوه على شاهد الزور فإنه يشهد بما لم يستشهد ، أي بما لم يتحمّله ولا حمّله ، أو على الذي يحمله الشّرة على تنفيذ ما يشهد به ، فيبادر بالشهادة قبل أن يسألها ، فهي شهادة مردودة ، أو على الغلمان. واتفق الجميع على أن أداء الشهادة فرض كفاية ،

__________________

(١) رواه مسلم عن زيد بن خالد الجهني.

١٢٠