التفسير المنير - ج ٣

الدكتور وهبة الزحيلي

(يَتْبَعُها أَذىً) جملة فعلية في موضع جر صفة (صَدَقَةٍ).

(كَالَّذِي يُنْفِقُ) الكاف في موضع نصب صفة لمصدر محذوف وتقديره : إبطالا كالذي.

(رِئاءَ النَّاسِ) منصوب : إما لأنه مفعول لأجله ، أو لأنه حال ، أو صفة لمصدر محذوف تقديره ، إنفاقا.

(كَمَثَلِ) في موضع رفع لأنه خبر المبتدأ وهو : مثله. وصفوان : إما مفرد أو اسم جنس واحده صفوانة ، مثل درّ ودرّة. وقال (عَلَيْهِ) بالتذكير ؛ لأن اسم الجنس مذكر.

(عَلَيْهِ تُرابٌ) جملة اسمية في موضع جر لأنها صفة لصفوان.

البلاغة :

(كَمَثَلِ حَبَّةٍ) تشبيه مرسل لذكر أداة التشبيه وحذف وجه الشبه ، شبه تعالى الصدقة التي تنفق في سبيله بحبة زرعت وباركها الله ، فأصبحت سبعمائة حبّة.

(أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ) مجاز عقلي ؛ إذا أسند الإنبات إلى الحبة ، مع أن المنبت هو الله تعالى.

(مَنًّا وَلا أَذىً) ذكر العام بعد الخاص لإفادة الشمول ؛ لأن الأذى أعمّ من المنّ.

(كَمَثَلِ صَفْوانٍ عَلَيْهِ تُرابٌ) فيه تشبيه تمثيلي ؛ لأن وجه الشبه منتزع من متعدد.

المفردات اللغوية :

(مَثَلُ) صفة نفقات المنفقين في سبيل الله. (سَبِيلِ اللهِ) ما يؤدي إلى مرضاته تعالى. (حَبَّةٍ) واحدة الحبّ الذي يزرع. (واسِعٌ) فضله. (عَلِيمٌ) بمن يستحقّ مضاعفة الثواب.

(مَنًّا) المنّ : أن يذكر المحسن إحسانه على المنفق عليه ، ويظهر تفضله عليه ، فيقول : قد أحسنت إليه وجبرت حاله. (أَذىً) الأذى : التّطاول والتّفاخر بالإنفاق ، وذكره إلى من لا يحبّ اطّلاعه عليه ، أو التّبرّم منه.

(لَهُمْ أَجْرُهُمْ) ثواب إنفاقهم. (يَحْزَنُونَ) في الآخرة. (قَوْلٌ مَعْرُوفٌ) كلام حسن وردّ جميل على السائل. (وَمَغْفِرَةٌ) ستر وتجاوز لإلحاحه في السؤال وغيره.

(خَيْرٌ) أنفع وأكثر فائدة. (غَنِيٌ) عن صدقة العباد. (حَلِيمٌ) بتأخير العقوبة عن المانّ والمؤذي. (لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ) أي أجورها كإبطال نفقة المرائي للناس.

٤١

(رِئاءَ النَّاسِ) مراءة لهم وسمعة ، أي يفعل الخير مباهاة أو لأجل أن يروه فيحمدوه.

(صَفْوانٍ) حجر أملس. (وابِلٌ) مطر شديد. (صَلْداً) صلبا أملس ليس عليه تراب أو غبار. (لا يَقْدِرُونَ) استئناف كلام لبيان مثل المنافق المنفق رئاء الناس. وجمع الضمير باعتبار معنى الذي ، والمراد لا يجدون ولا يملكون شيئا. (مِمَّا كَسَبُوا) عملوا ، أي لا يجدون له ثوابا في الآخرة ، كما لا يوجد على الصفوان شيء من التراب الذي كان عليه ، لإذهاب المطر له.

سبب النزول :

قال الكلبي : نزلت في عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف ، أما عبد الرحمن بن عوف فإنه جاء إلى النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأربعة آلاف درهم صدقة ، فقال : كان عندي ثمانية آلاف درهم ، فأمسكت منها لنفسي ولعيالي أربعة آلاف درهم ، وأربعة آلاف أقرضتها ربي ، فقال له رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «بارك الله لك فيما أمسكت وفيما أعطيت».

وأما عثمان رضي‌الله‌عنه ، فقال : عليّ جهاز من لا جهاز له في غزوة تبوك ، فجهّز المسلمين بألف بعير بأقتابها وأحلاسها ، وتصدّق برومة ركية كانت له على المسلمين (١) ، فنزلت فيهما هذه الآية.

وقال أبو سعيد الخدري : رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم رافعا يده يدعو لعثمان ، ويقول : «يا ربّ ، إن عثمان بن عفان رضيت عنه ، فارض عنه» فما زال رافعا يده حتى طلع الفجر ، فأنزل الله تعالى فيه : (مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ) الآية (٢).

__________________

(١) وفي رواية : ووضع بين يدي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ألف دينار ، فصار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقلّبها ويقول : «ما ضرّ عثمان ما فعل بعد اليوم».

(٢) أسباب النزول للنيسابوري : ص ٤٧ ـ ٤٨ ، تفسير القرطبي : ٣ / ٣٠٣

٤٢

المناسبة :

أثبتت الآيات السابقة أمر البعث ، وأن الناس يبعثون إلى دار يوفون فيها أجورهم بغير حساب ، وذكر هنا فضيلة الإنفاق في سبيل الله ، وسبل الله كثيرة ، مثل نشر العلم ومحاولة القضاء على الجهل والفقر والمرض ، وأعظمها الجهاد لتكون كلمة الله (أي دين الإسلام) هي العليا ، فمن جاهد بعد هذا البرهان على البعث الذي لا يأتي به إلا نبيّ ، فله في جهاده الثواب العظيم.

وقد رغّب القرآن الكريم في مواضع عديدة بالإنفاق ؛ لأنه وسيلة إغناء وتحقيق رفاه للجميع ، وواسطة متعيّنة لصون عزّة الأمة وكرامتها ودحر عدوان المعتدين عليها ، فما بخلت أمة بمالها إلا حاق بها الذّل والاستعباد ، وتكالبت عليها الأمم ، روى البستي في صحيح مسنده عن ابن عمر قال : لما نزلت هذه الآية ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ربّ زد أمتي» فنزلت : (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً ، فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً) قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ربّ زد أمتي» فنزلت : (إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ).

التفسير والبيان :

هذا مثل ضربه الله تعالى لتضعيف الثواب لمن أنفق في سبيله وابتغاء مرضاته ، وأن الحسنة تضاعف بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف ، فأبان تعالى أن صفة نفقات المنفقين أموالهم في طاعة الله تعالى وابتغاء رضوانه وحسن مثوبته كنشر العلم والجهاد وإعداد السلاح والحج والدفاع عن الوطن والأهل ، كصفة حبة زرعت في أرض خصبة ، فأنبتت سبع سنابل ، في كلّ سنبلة مائة حبة ، وقد ثبت لدى متخصصي الزراعة أن الحبة الواحدة من قمح أو أرز أو ذرة مثلا لا تنبت سنبلة واحدة ، بل أكثر ، قد تصل إلى أربعين أو ست وخمسين أو سبعين ، وأن السنبلة قد تشتمل على أكثر من مائة حبة ، وقد أنبتت فعلا مائة

٤٣

وسبع حبات. وهذا تصوير لمضاعفة ثواب المنفق.

(وَاللهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ) أي بحسب إخلاصه في عمله ، فيزيده أكثر من ذلك ، والله تعالى لا ينحصر فضله ، ولا يحدّ عطاؤه ، ففضله واسع كثير ، أكثر من خلقه ، عليم بمن يستحق هذه المضاعفة ممن لا يستحقها.

وهذا المثل أبلغ في النفوس من ذكر عدد السبعمائة ؛ لأن التحديد والتعداد يظل فيه قصور ، وأما عدم التحديد بحدّ فيشير إلى احتمال النمو والبركة والزيادة. وفيه إشارة إلى أن الأعمال الصالحة ينميها الله عزوجل لأصحابها ، كما ينمي الزرع لمن بذره في الأرض الطيبة ، وقد وردت السّنة بتضعيف الحسنة إلى سبعمائة ضعف.

روى ابن ماجه وابن أبي حاتم الحديث الأول عن علي وأبي الدّرداء ، والثاني عن عمران بن حصين عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من أرسل بنفقة في سبيل الله ، وأقام في بيته ، فله بكل درهم سبعمائة درهم يوم القيامة ، ومن غزا في سبيل الله ، وأنفق في جهة ذلك ، فله بكل درهم سبعمائة درهم» ، ثم تلا هذه الآية : (وَاللهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ).

وروى الإمام أحمد عن أبي عبيدة ، قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «من أنفق نفقة في سبيل الله ، فسبع مائة ، ومن أنفق على نفسه وأهله ، أو عاد مريضا أو ماز أذى ، فالحسنة بعشر أمثالها ، والصوم جنّة ما لم يخرقها ، ومن ابتلاه الله عزوجل ببلاء في جسده ، فهو له حطة» وروى النسائي بعضه في الصوم.

ومن شروط الإنفاق وآدابه لاستحقاق هذا الثواب في الآخرة : ألا يتبعوا ما أنفقوا أو بذلوا منّا على الفقير بأن يحاسبه على ما أعطاه ويظهر تفضّله عليه ، ولا أذى أو ضررا بأن يتطاول عليه ويطلب جزاء عمله. فهؤلاء الباذلون الذين

٤٤

لا يمتنون ولا يؤذون من أحسنوا إليهم لهم ثواب كامل لا يقدر قدره ، ولا خوف عليهم حين يخاف الناس ، ولا هم يحزنون حين يحزن الناس البخلاء الذين لا ينفقون شيئا في سبيل الله ، فيندمون ، كما قال تعالى : (وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ ، فَيَقُولَ : رَبِّ لَوْ لا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ ، فَأَصَّدَّقَ ، وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ) [المنافقون ٦٣ / ١٠].

والكلام الحسن ، والرّد الجميل على السائل وعدم الصدقة ، وستر ما يقع منه من إلحاف في السؤال وغيره ، خير للسائل والمسؤول من صدقة يتبعها أذى وضرر ؛ إذ الصدقة شرعت للأخذ بيد الضعيف ، وتخفيف حدّة الحسد والحقد على الأغنياء ، ولتحصين مال الغني من السرقة والنهب والضياع ؛ والمنّ والأذى يخرجها عن هذه الغاية السامية التي شرعت لها ، والله غني عن صدقة عباده ، فيستطيع أن يرزق الجميع ، حليم لا يعجل بعقوبة المسيء ، كمن يمنّ أو يؤذي ، ولكنها الحكمة البالغة التي مدارها الابتلاء والاختبار ، ومعرفة من يجاهد نفسه الشحيحة ، فيحملها على البذل وتنفيذ التكاليف الإلهية عن رضا وطيب خاطر ، وقد شرع الله الصدقة سبيلا لكسب المودّة ، وجلب المحبّة ، وتأكيد الصلة والتعاطف والتعاون بين الجميع.

ومن أجل استئصال طبيعة المنّ والأذى في نفوس الناس ، أكّد سبحانه ما أخبر به من صفات المستحقين للثواب العظيم وهو عدم إتباع صدقاتهم بالمنّ والأذى ، وأن الأذى من شوائب الصدقة المكروه الذي يسقط الأجر والثواب ، أكّد ذلك بخطاب المؤمنين بصفة الإيمان التي تدعو إلى التقيّد بالأمر الإلهي ، فنهاهم وحرم عليهم المنّ والأذى ؛ لأن صفاء الصدقة وجعلها خالصة لله أدعى لقبولها واستحقاق ثوابها.

ولأن من يتبع صدقته بمنّ أو أذى يشبه حال من ينفق ماله رياء وسمعة ، لأجل أن يحمده الناس ، وليقال عنه : إنه كريم جواد ، ونحو ذلك من مقاصد

٤٥

الدّنيا الفانية ، لا لابتغاء رضوان الله ، وترقية شؤون الأمة ، وهذا المرائي في الواقع لا يؤمن بالله واليوم الآخر إيمانا صحيحا ، حتى يرجو ثوابا أو يخشى عقابا ، ومثله الذي يمنّ ويؤذي السائل.

وصفة عمل كل من المرائي والذي يمنّ ويؤذي كصفة تراب على حجر أملس ، نزل عليه مطر شديد ، فأزال التراب وترك الحجر أملس لا شيء عليه ، أي أنه لا ثمرة ولا بقاء لعمله ، وإنما يضمحل ويتبدد بالظواهر الطارئة ، ويبقى فارغا لا أثر لعمله ، ولا ينتفع بشيء مما فعل لا في الدّنيا ولا في الآخرة ، أما في الدّنيا فلأنّ المنّان بغيض إلى الناس ، والمرائي مذموم منبوذ لدى المجتمع ، وأما في الآخرة فإن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصا له وابتغي به وجهه ، والرّياء ومثله المنّ والأذى ينافي الإخلاص ، وهو نوع من الشرك بالله إذ هو الشرك الخفي ؛ فإن صاحبه يقصد به غير الله.

والله لا يهدي القوم الكافرين لما فيه خيرهم ورشادهم ما داموا على الكفر ، أو لا يهديهم في أعمالهم وهم على الكفر (١) ، وأما الإيمان فهو الذي يهدي صاحبه إلى الإخلاص والخير وابتغاء وجه الله ، والتأدّب بالإنفاق بما أدّب الله به أهل الإيمان. وهذا يشير إلى أنّ كلّا من الرياء والمنّ من صفات الكافرين لا من صفات المؤمنين.

فقه الحياة أو الأحكام :

١ ـ تضمنت الآية بيان مثال لشرف النفقة في سبيل الله ، والتحريض والحثّ على الإنفاق في سبيل الله ، إما عن طريق حذف مضاف تقديره : مثل نفقة الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة ، وإما بطريق آخر : مثل الذين

__________________

(١) البحر المحيط : ٢ / ٣١٠

٤٦

ينفقون أموالهم كمثل زارع زرع في الأرض حبة ، فأنبتت الحبة سبع سنابل ، فشبه المتصدّق بالزارع ، وشبّه الصدقة بالبذر ، فيعطيه الله بكل صدقة له سبعمائة حسنة.

٢ ـ وهي تشمل الإنفاق المندوب إليه ، والواجب أيضا ؛ لأن سبل الله كثيرة ، ولا حاجة للقول : بأنها نزلت قبل آية الزكاة ، ثم نسخت بآية الزكاة ؛ لأن الإنفاق في سبيل الله مندوب إليه في كلّ وقت.

٣ ـ وقد ورد القرآن بأن الحسنة في جميع أعمال البر بعشر أمثالها ، واقتضت هذه الآية أن نفقة الجهاد حسنتها بسبعمائة ضعف ، ثم دلّ قوله تعالى : (وَاللهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ) على أنه تعالى يضاعف لمن يشاء أكثر من سبعمائة ضعف ، بدليل حديث ابن عمر المتقدم في مناسبة الآية.

٤ ـ وفي هذه الآية دليل على أن اتّخاذ الزرع من أعلى الحرف التي يتّخذها الناس ، والمكاسب التي يشتغل بها العمال ، ولذلك ضرب الله به المثل ، فقال : (مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ). وفي صحيح مسلم عن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما من مسلم يغرس غرسا ، أو يزرع زرعا ، فيأكل منه طير ، أو إنسان ، أو بهيمة ، إلا كان له صدقة» ، وأخرج الترمذي عن عائشة قالت : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «التمسوا الرزق في خبايا الأرض» يعني الزرع. والزراعة من فروض الكفاية ، فيجب على الإمام أن يجبر الناس عليها ، وغرس الأشجار في معناها.

٥ ـ الإنفاق في سبيل الله دون منّ ولا أذى سبب لرضوان الله ، كما رضي الله ورسوله عن عثمان الذي جهز جيش العسرة ، وجاء بألف دينار ووضعها بين يدي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال : «ما ضرّ ابن عفان ما عمل بعد اليوم ، اللهم لا تنس هذا اليوم لعثمان».

وهذا الرضا الإلهي والثواب العظيم إنما هو لمن لا يتبع إنفاقه منّا ولا أذى ؛

٤٧

لأن المنّ والأذى مبطلان لثواب الصدقة ، كما أخبر تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى ..) وإنما على المرء أن يريد وجه الله تعالى وثوابه بإنفاقه على المنفق عليه ، ولا يرجو منه شيئا ، قال تعالى : (إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ ، لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً) [الإنسان ٧٦ / ٩]. ومن طلب بعطائه الجزاء والشكر والثناء ، كان صاحب سمعة ورياء. قال ابن عباس : في قوله تعالى : (وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ) [المدثر ٧٤ / ٦] ، أي لا تعط عطية تلتمس بها أفضل منها.

٦ ـ المنّ من الكبائر ، والمنّ : ذكر النعمة على معنى التعديد لها والتقريع بها ، مثل أن يقول : قد أحسنت إليك ، ونعشتك ونحوه ، وقال بعضهم : المنّ : التحدّث بما أعطى حتى يبلغ ذلك المعطى فيؤذيه. ودليل كونه من الكبائر : ما ثبت في صحيح مسلم وغيره ، وأنه أحد الثلاثة الذين لا ينظر الله إليهم ، ولا يزكيهم ، ولهم عذاب أليم. وروى النسائي عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة : العاق لوالديه ، والمرأة المترجّلة تتشبه بالرجال ، والدّيوث. وثلاثة لا يدخلون الجنة : العاقّ لوالديه ، والمدمن الخمر ، والمنّان بما أعطى»(١).

والأذى : السب والتشكي ، وهو أعم من المنّ ؛ لأن المنّ جزء من الأذى ، لكنه نص عليه لكثرة وقوعه.

والمن والأذى هادم للفائدة المقصودة من الصدقة ومبطل لها : وهو تخفيف بؤس المحتاجين ودفع غائلة الفقر عنهم.

٧ ـ جعل الله تعالى ثواب النفقة في سبيله أمورا ثلاثة : ضمن الله له الأجر ،

__________________

(١) وروى القسم الأخير أيضا ابن مردويه وابن حبان والحاكم في مستدركه.

٤٨

والأجر الجنة ، ونفى عنه الخوف بعد موته في المستقبل ، وأذهب عنه الحزن أو الألم على ما سلف في الدنيا ؛ لأنه يغتبط بآخرته ، فقال : (لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ ، وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ، وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) وفيها دلالة لمن فضّل الغنى على الفقر.

٨ ـ القول المعروف خير من صدقة الأذى ، والقول المعروف : هو الدعاء والتأنيس والترجية بما عند الله. وهذا فيه أجر ، ولا أجر فيها ، قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما أخرجه مسلم : «الكلمة الطيبة صدقة ، وإن من المعروف أن تلقى أخاك بوجه طلق» أي يتلقى السائل بالبشر والترحيب ، ويقابله بالطلاقة والتقريب ، ليكون مشكورا إن أعطى ، ومعذورا إن منع ، وهو نظير قوله تعالى : (وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها ، فَقُلْ لَهُمْ قَوْلاً مَيْسُوراً) [الإسراء ١٧ / ٢٨].

وأيضا الفعل المؤدي إلى المغفرة خير من صدقة يتبعها أذى. والمغفرة : ستر سوء حالة المحتاج ، أو التجاوز عن السائل إذا ألحّ وأغلظ وجفا.

ودلت آية (قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ) على مبدأ مهم عام في الشريعة وهو «درء المفاسد مقدم على جلب المصالح».

٩ ـ لا تقبل الصدقة التي يعلم الله من صاحبها أنه يمنّ أو يؤذي بها ، وعبر الله تعالى عن عدم القبول وحرمان الثواب بالإبطال. والمراد إبطال الصدقة المصحوبة بالمن أو الأذى ، لا غيرها ، فالمن والأذى في صدقة لا يبطل صدقة غيرها ، وإنما يقتصر الأمر على حرمان المرائي والمنان من الانتفاع بصدقته المشتملة على الرياء أو المن.

ودل قوله تعالى : (وَاللهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ) على تسلية الفقراء ، وتعليق قلوبهم بحبل الرجاء بالله الغني الحليم ، وتهديد الأغنياء وإنذارهم بأن لا يغتروا بحلم الله وإمهاله إياهم.

٤٩

١٠ ـ كره الإمام مالك لهذه الآية : (لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ) أن يعطي الرجل صدقته الواجبة أقاربه ، لئلا يعتاض منهم الحمد والثناء ، ويظهر منّته عليهم ، ويكافئوه عليها ، فلا تخلص

لوجه الله تعالى. واستحب أن يعطيها الأجانب ، وأن يولّي غيره تفريقها إذا لم يكن الإمام عدلا ، لئلا تحبط بالمن والأذى والشكر والثناء والمكافأة بالخدمة من المعطى.

وهذا بخلاف صدقة التطوع السرّية ؛ لأن ثوابها إذا حبط سلم من الوعيد ، وصار في حكم من لم يفعل ، والواجب إذا حبط ثوابه توجه الوعيد عليه ، لكونه في حكم من لم يفعل.

١١ ـ صاحب المن والأذى مثل المرائي المنافق ، عمل كل منهما باطل لا فائدة فيه ، ولا فضل له ، ولا دوام لأثره. وإنما ينمحي بسرعة ، كما تعصف الرياح بالغبار الموجود على الحجارة أو الصخور الصلبة الملساء ، وتعد أفعال المرائي الواجبة أو الخيرية من صلاة وصيام وتطوع كلها باطلة ، لا تجاه قلبه إلى من يرائيه ، لا إلى الله الصمد الذي يستحق العبادة دون سواه.

ويوصف كل من المرائي والمنّان أيضا بأنه لا يؤمن حقا بالله ولا باليوم الآخر ؛ لأن قصده من فعله مدح الناس له ، أو شهرته بالصفات الجميلة ليشكره الناس أو ليقال : إنه كريم ونحو ذلك من المقاصد الدنيوية.

ولا يقدر المرائي الكافر والمانّ على الانتفاع بثواب شيء من إنفاقهم وهو كسبهم ، عند حاجتهم إليه ؛ إذ كان لغير الله ، فعبّر عن النفقة بالكسب ؛ لأنهم قصدوا بها الكسب. وفي قوله تعالى : (لا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا) تعريض بأن كلا من الرياء والمن والأذى من صفات الكافرين ، لا المؤمنين ، فلا ينبغي للمؤمنين الاتصاف بها ، وعليهم تجنبها ؛ لأن الإخلاص لله هو من صفات الإيمان ، قال تعالى : (وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) [البينة ٩٨ / ٥].

٥٠

الإنفاق لمرضاة الله والإنفاق لغير وجه الله

(وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصابَها وابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَها ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْها وابِلٌ فَطَلٌّ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٢٦٥) أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَأَصابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفاءُ فَأَصابَها إِعْصارٌ فِيهِ نارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (٢٦٦))

الإعراب :

(ابْتِغاءَ) و (وَتَثْبِيتاً) منصوبان على المفعول لأجله. (كَمَثَلِ جَنَّةٍ) الكاف في موضع رفع خبر مبتدأ وهو قوله : (وَمَثَلُ الَّذِينَ). (بِرَبْوَةٍ) جار ومجرور في موضع جر صفة لجنة (أَصابَها وابِلٌ) جملة فعلية في موضع جر صفة لجنة أو لربوة. (مِنْ نَخِيلٍ) جار ومجرور في موضع رفع وصف لجنة (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا) إما مرفوع وصف ثان للجنة ، وإما منصوب على الحال من (جَنَّةٌ) لأنها قد وصفت. (لَهُ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ) في موضع نصب على الحال من (أَحَدُكُمْ). و (وَأَصابَهُ الْكِبَرُ) عطف على قوله : (فِيها). وقال الزمخشري : الواو للحال ، لا للعطف ، ومعناه : أن تكون له جنة ، وقد أصابه الكبر.

البلاغة :

(لَهُ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ) ذكر العام بعد الخاص وهو النخيل والعنب ؛ لأنهما أكرم الشجر وأكثرهما منافع فخصهما بالذكر تغليبا لهما على غيرهما ، ثم أردفهما ذكر كل الثمرات. ويجوز أن يريد بالثمرات : المنافع التي كانت تحصل له فيها.

(أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ) استعارة تمثيلية ، وهي تشبيه حال بحال ، لم يذكر المشبه

٥١

ولا أداة التشبيه ، وإنما ذكر المشبه به فقط ، ودلت القرائن على إرادة التشبيه. وهمزة (أَيَوَدُّ) للاستفهام الإنكاري أي ما يود أحد ذلك.

المفردات اللغوية :

(وَمَثَلُ) صفة نفقات المنفقين (ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ) أي طلبا لرضوانه (وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ) تحقيقا للثواب أو تصديقا ويقينا بثواب الإنفاق من عند أنفسهم ، ومن : ابتدائية ، أي مبتدأ من أنفسهم ، أو تمكين أنفسهم في مرتبة الإيمان والإحسان ، بخلاف المنافقين المترددين في إيمانهم ولا يرجون الثواب ، وقال ابن كثير : أي وهم متحققون ومتثبتون أن الله سيجزيهم على ذلك أوفر الجزاء ، ونظير هذا الحديث المتفق على صحته : «من صام رمضان إيمانا واحتسابا» أي يؤمن أن الله شرعه ويحتسب عند الله ثوابه (كَمَثَلِ جَنَّةٍ) بستان (بِرَبْوَةٍ) مكان مرتفع من الأرض (وابِلٌ) مطر غزير (فَآتَتْ) أعطت (أُكُلَها) ثمرها (ضِعْفَيْنِ) مثلي ما يثمر غيرها (فَطَلٌ) مطر خفيف يصيبها ويكفيها لارتفاعها ، والمعنى : تثمر وتزكو ، كثر المطر أم قل ، فكذلك نفقات من ذكر ، تزكو عند الله ، كثرت أم قلت (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) فيجازيكم به.

(أَيَوَدُّ) أيحب ، والهمزة للاستفهام الإنكاري والنفي ، أي ما يود أحد ذلك.

(وَأَعْنابٍ) ثمر الكرم (وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفاءُ) أولاد صغار لا يقدرون على شيء.

(إِعْصارٌ) ريح شديدة ، تستدير في الأرض بشدة ، ثم ترتفع إلى الجو حاملة الغبار ، كهيئة العمود وهي الزوبعة (نارٌ) سموم شديدة ، المراد : ريح فيها برد شديد وسموم يحرق الشجر (١)(كَذلِكَ) كما بين ما ذكر (يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ ، لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ) فتعتبروا. وهذا تمثيل لنفقة المرائي والمانّ ، في ذهابها وعدم نفعها ، مع أن أحوج ما يكون لثوابها في الآخرة.

التفسير والبيان :

صفة نفقات المنفقين أموالهم طلبا لرضوان الله ومغفرته ، وهم متحققون ومتثبتون أن الله سيجزيهم على ذلك أوفر الجزاء ، أو تثبيتا لأنفسهم على الإيمان

__________________

(١) قال الحسن البصري : الإعصار : ريح فيها برد شديد. وقال ابن عباس : ريح فيها سموم شديدة ، وكذا قال السدي : الإعصار : الريح والنار السموم ، قال ابن عطية : ويكون ذلك في شدة الحر ، ويكون في شدة البرد ، وكل ذلك من فيح جهنم ونفسها.

٥٢

واليقين (١) بترويض أنفسهم على إنفاق المال الذي هو شقيق الروح ، وبذل أشق شيء على النفس من سائر العبادات ومن الإيمان ، صفة نفقاتهم الكثيرة والقليلة كبستان جيد التربة ، ملتف الشجر ، خصب النبات ، وهو بمكان مرتفع متمتع بالشمس والهواء ، ينزل عليه المطر الغزير ، فيثمر ضعفي غلته ، وإذا نزل عليه مطر خفيف أثمر أيضا لجودة تربته وكرم منبته ، وحسن موقعه.

وإنما وصف البستان بكونه في ربوة : مكان مرتفع ، فلأن الشجر في الربوة أزكى وأحسن ثمرا. وإنما قال من أنفسهم أي مبتدأ منها دون عامل خارجي ليدل على أن إنفاقه نابع من ذاته ويقينه ، وقناعته بجدوى فعله ، ومجاهدته بخل النفس ، كما قال تعالى : (وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ) [الأنفال ٨ / ٧٢].

والمعنى في هذا التشبيه : أن المنفق لله وفي سبيله ويقصد تثبيت نفسه على بذل المال وفعل الخير أو التأكد من نيل الثواب يجود بقدر سعته ، فإن أصابه خير كثير أنفق كثيرا ، وإن أصابه قليل أنفق بقدر طاقته ، فخيره دائم وبره لا ينقطع ، فهو محسن في كلا الحالين ، ويجد ثمرة بذله على كل حال ، فهو كالأرض الجيدة التربة الخصبة النبات تثمر مطلقا وتغل الخير ، ونتاجها وفير دائما ، سواء أصابها مطر كثير أو قليل.

__________________

(١) قال ابن عباس : معناه : تصديقا ويقينا ، وقال قتادة : معناه : احتسابا من أنفسهم ، وقال الشعبي والسدي وغيرهما : معناه : وتيقنا ، أي أن نفوسهم لها بصائر ، فهي تثبتهم على الإنفاق في طاعة الله تعالى تثبيتا. قال القرطبي : وهذه الأقوال الثلاث أصوب من قول غيرهم. والخلاصة : أن لهذه الكلمة معنيين : إما التيقن من ثواب الله ، وإما تثبيت النفس على الإيمان ومجاهدتها من أجل البذل في سبيل الله ، أي تزكية النفس وتطهيرها من مرض البخل وحب المال ، والمعنى الثاني أولى ؛ لأنه قال : من أنفسهم ، ولم يقل : لأنفسهم ، قال أبو حيان : (في البحر المحيط : ٢ / ٣١١) معناه أن من بذل ماله لوجه الله ، فقد ثبت بعض نفسه ، ومن بذل ماله وروحه معا فهو الذي ثبتها كلها.

٥٣

والله لا يخفى عليه شيء من أعمال عباده ، ويجازي كلا من المخلص والمرائي بما يستحق.

هذا هو المثال الأول لمن ينفق ماله ابتغاء وجه الرحمن وطلب رضوانه ، والمثال الثاني لمن ينفق على عكس الأول في سبيل الشيطان والهوى أو لغير وجه الله. وبدأه تعالى بالإنكار والنفي ؛ لأن شأن المؤمن المخلص ألا يقصد ذلك ، فهو مثل لمن يعمل الأعمال الحسنة لا يبتغي وجه الله ، فإذا كان يوم القيامة ، وجدها محبطة مبددة متلاشية ، فيتحسر عند ذلك حسرة من كانت له جنة من أبهى الجنات وأجمعها للثمار ، فبلغ الكبر ، وله أولاد ضعاف ، والجنة معاشهم ومنتعشهم ، فهلكت بالصاعقة.

قال البخاري عند تفسير هذه الآية : قال عمر بن الخطاب يوما لأصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : فيمن ترون هذه الآية نزلت؟ : (أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ ...) قالوا : الله أعلم ، فغضب عمر وقال : قولوا : نعلم أو لا نعلم ، فقال ابن عباس رضي‌الله‌عنهما : في نفسي منها شيء يا أمير المؤمنين ، فقال عمر : يا ابن أخي ، قل ، ولا تحقر نفسك ، فقال : ضربت مثلا بعمل ، قال عمر : أي عمل؟ قال : لرجل غني يعمل بطاعة الله ، ثم بعث الله له الشيطان ، فعمل بالمعاصي ، حتى أغرق أعماله(١).

وقال الحسن البصري : هذا مثل ، قلّ والله من يعقله من الناس : شيخ كبير ، ضعف جسمه ، وكثر صبيانه ، أفقر ما كان إلى جنته ، فجاءها الإعصار فأحرقها ، وإن أحدكم والله أفقر ما يكون إلى عمله ، إذا انقطعت عنه الدنيا (٢).

وتوضيح هذا المثل : أتحب أيها المنفق لغير الله أن تكون لك جنة فيها

__________________

(١) تفسير ابن كثير : ١ / ٣١٩

(٢) تفسير الكشاف : ١ / ٢٩٩

٥٤

النخيل والأعناب ومختلف الأثمار ، وتجري فيها الأنهار ، فتسقيها ، وقد علقت الآمال عليها ، ورجوت أن تنتفع بها مع صغارك ، وأنت في حال الكبر لا تقدر على الكسب ، وهم لا يقدرون على شأنك وشأنهم ، ولا مورد لك غير هذه الجنة ، ثم أصابتها ريح السّموم (١) اللافحة بحرها أو بردها القارس ، فأحرقتها وأبادت ثمرها.

هذا حالك إذ أنفقت مالك رياء ، أو بالمن والأذى ، لن تجد له أية فائدة في يوم القيامة ، ولن تجد لعملك غير الحسرة والندامة ، وأنت في ذلك اليوم الرهيب في أشد الحاجة إلى نتيجة عملك ، وثواب ما بذلت ؛ لأن إعصار الرياء ، والمنّ والأذى بدّد كل ما فعلته من خير في الظاهر ، وهو شر في الحقيقة والباطن.

ومثل هذا البيان الجلي الواضح يبين الله لكم الآيات ودلائل الشريعة وأسرارها وغاياتها وفوائدها لتتفكروا فيها ، وتتعظوا بما اشتملت عليه من الأمثال والمعاني والعبر ، وتنزلوها على المراد بها ، فتقصدوا بنفقاتكم أن تكون خالصة لوجه الله تعالى ، دون أن يصاحبها رياء أو منّ وأذى ، كما قال تعالى : (وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ ، وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ) [العنكبوت ٢٩ / ٤٣]. فقوله (لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ) أي في العواقب ، فتضعون نفقاتكم في مرضاة الله مع الإخلاص وقصد تثبيت النفس على فعل الخير المحض.

فقه الحياة أو الأحكام :

في الآيتين مثلان واضحان يوجبان التأمل والتفكر والمقارنة ، ولا شك بأن كل مؤمن عاقل يختار الموقف الأول ، فيجعل نفقته خالصة لوجه الله ، لأنها هي التي تفيده وتحقق له الثواب يوم القيامة ، ولا يغتر العاقل بمظاهر الدنيا الفانية وسمعتها وشهرتها الزائلة ؛ لأن كلام الناس في كل حال مؤذ ومضر ، فإن راءى

__________________

(١) السموم : الريح الحارة ، وتؤنث ، وجمعها سمائم.

٥٥

بعمله ذمّوه وحسدوه ومقتوه ، وقد يتهمونه بالتهور والطيش إن كانت نفقته كثيرة ، وإن مدحوه فلا قيمة ولا غناء لمديحهم ؛ لأن ما عند الله خير وأبقى أو أنفع وأخلد.

والله تعالى بكرمه وفضله ينمي نفقات المخلصين ويكافئهم بالمزيد ، كالبستان الذي يثمر ضعفي ثمرته ، تقريبا لأذهاننا ، أخرج مسلم ومالك وغيرهما عن أبي هريرة رضي‌الله‌عنه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لا يتصدق أحد بتمرة من كسب طيب إلا أخذها الله بيمينه ، فيربّيها كما يربّي أحدكم فلوه (١) ، أو فصيله ، حتى تكون مثل الجبل أو أعظم».

وأما المنفق لغير وجه الله فيتلاشى فضل عمله سراعا في الدنيا ، ولا يجد له ثمرة في الآخرة. روي عن ابن عباس وغيره أن هذا ـ أي الموقف الثاني ـ مثل ضربه الله تعالى للكافرين والمنافقين ، كهيئة رجل غرس بستانا ، فأكثر فيه من الثمر ، فأصابه الكبر ، وله ذرية ضعفاء ـ يريد صبيانا بنات وغلمانا ـ فكانت معيشته ومعيشة ذرّيته من ذلك البستان ، فأرسل الله على بستانه ريحا فيها نار ، فأحرقته ، ولم يكن عنده قوة ، فيغرسه ثانية ، ولم يكن عند بنيه خير ، فيعودون على أبيهم. وكذلك الكافر والمنافق إذا ورد إلى الله تعالى يوم القيامة ، ليست له كرّة يبعث فيرد ثانية ، كما ليست عند هذا قوة فيغرس بستانه ثانية ، ولم يكن عند من افتقر إليه عند كبر سنه وضعف ذريته غنىّ عنه.

وقد دل تعليل الإنفاق بعلتين في آية : (وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ ..) على أن نقصد بأعمالنا أمرين :

أولهما ـ ابتغاء رضوان الله لذاته ، تعبدا له.

__________________

(١) الفلو : بضم الفاء وفتحها مع ضم اللام ، وبكسرها مع سكون اللام : المهر الصغير.

٥٦

وثانيهما ـ تزكية أنفسنا وتطهيرها من الشوائب التي تعوقها عن الكمال ، كالبخل والمبالغة في حب المال ، وتوطينها على البذل في سبيل الله.

والخلاصة : أن الله في الآية (٢٦٥) ضرب المثل للمخلصين في الإنفاق وفي الآية (٢٦٦) ضرب مثلا آخر للمرائين ، والمؤذين والمنّانين ، والقصد هو المقارنة والمقابلة بين حال الفريقين ، وأن المثل الثاني ليس خاصا بالآخرة أو المرائي ، وإنما ينطبق أيضا على حال الدنيا فيشمل المنان والمؤذي.

إنفاق الطيب من الأموال لا الخبيث

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (٢٦٧))

الإعراب :

(تَيَمَّمُوا) أصله تتيمموا ، فكرهوا اجتماع حرفين متحركين من جنس واحد وهما التاءان فسكنوا التاء الأولى ، وأدغموها في الثانية (تُنْفِقُونَ) حال من ضمير تيمموا (إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ) أن وصلتها : في موضع نصب بآخذيه ؛ لأن التقدير : بأن تغمضوا ، فلما حذفت الباء اتصل بآخذيه.

البلاغة :

(تُغْمِضُوا فِيهِ) مجاز مرسل يراد به التساهل ؛ لأن الإنسان إذا رأى ما يكره أغمض عينيه لئلا يرى ذلك ، أو تشبيه على سبيل الاستعارة.

المفردات اللغوية :

(أَنْفِقُوا) زكوا (مِنْ طَيِّباتِ) جياد وحسان ، مفرده طيب أي جيد مستطاب ، وضده

٥٧

الخبيث المستكره (ما كَسَبْتُمْ) من المال (وَمِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ) أي ومن طيبات ما أنبتنا من الحبوب والثمار (وَلا تَيَمَّمُوا) تقصدوا (الْخَبِيثَ) الرديء (وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ) أي الخبيث لو أعطيتموه في حقوقكم (إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ) بالتساهل وغض البصر ، فكيف تؤدون منه حق الله؟! (غَنِيٌ) عن نفقاتكم (حَمِيدٌ) مستحق للحمد على نعمه الكثيرة.

سبب النزول :

روى الحاكم والترمذي وابن ماجه وغيرهم عن البراء بن عازب ، قال : نزلت هذه الآية فينا معشر الأنصار ، كنا أصحاب نخل ، وكان الرجل يأتي من نخله على قدر كثرته وقلته ، وكان الناس ممن لا يرغب في الخير ، يأتي الرجل بالقنو فيه الشّيص والحشف (١) ، وبالقنو قد انكسر ، فيعلّقه(٢) ، فأنزل الله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ).

وروى أبو داود والنسائي والحاكم عن سهل بن حنيف قال : كان الناس يتيممون شر ثمارهم ، يخرجونها من الصدقة ، فنزلت : (وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ).

وروى الحاكم عن جابر قال : أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بزكاة الفطر بصاع من تمر ، فجاء رجل بتمر رديء ، فنزل القرآن : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ) الآية.

وروى ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : كان أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يشترون الطعام الرخيص ، ويتصدقون به ، فأنزل الله هذه الآية.

__________________

(١) القنو : العذق وهو عنقود النخلة والشماريخ مثمرة. والشيص : التمر الذي لا يشتد نواه ، وإنما يتشيّص إذا لم تلقح النخل. والحشف : التمر يجف قبل النضج ، فيكون رديئا وليس له لحم.

(٢) على حبل بين أسطوانتين في مسجد رسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فيأكل منه فقراء المهاجرين ، وكان الرجل يعمد فيخرج قنو الحشف ، وهو يظن أنه جائز عنه.

٥٨

المناسبة :

بيّن الله سبحانه وتعالى في الآيات السابقة ما يجب أن يتصف به المنفق عند الإنفاق من الإخلاص لله ، وقصد تزكية النفس ، والبعد عن الرياء ، وما يجب أن يتحلى به بعد الإنفاق من البعد عن المن والأذى.

ثم بين تعالى هنا صفة المال المبذول : وهو أن يكون من جيد الأموال.

التفسير والبيان :

يا من اتصفتم بالإيمان آمركم أن تنفقوا الطيب الجيد من الأموال ، سواء أكان نقودا أم ماشية أم حبوبا وزروعا أم سلعا تجارية وغيرها ، كالمعادن والكنوز والركاز (دفين الجاهلية) ، كقوله تعالى (لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) [آل عمران ٣ / ٩٢] وأنهاكم أن تقصدوا إلى الخبيث الرديء من أموالكم ، فتنفقونه ، فإن الله طيب لا يقبل إلا طيبا ، ولا يقبل ما تكرهه نفوسكم. والخبيث ينطلق على معنيين : أحدهما ـ ما لا منفعة فيه ، كما في حديث الشيخين : «كما ينفي الكير خبث الحديد» والثاني ـ ما تنكره النفس ، وهو مقصود الآية : (وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ).

وكيف يروق لكم أن تتصدقوا بالخبيث الرديء ، ولا ترضون ذلك لأنفسكم إلا أن تتساهلوا وتتسامحوا فيه تساهل من غض بصره عن شيء فلم ير العيب فيه ، ولو كان لأحدكم حق أو دين ، فجاءكم دون حقكم لم تأخذوه بحساب الجيد حتى تنقصوه ، فكيف ترضون لي ما لا ترضون لأنفسكم؟! فحقي عليكم من أطيب أموالكم وأنفسه.

واعملوا أن الله ـ وإن أمركم بالصدقات وبالطيب منها ـ فهو غني عنها وعن إنفاقكم وغني عن جميع خلقه ، وإنما يأمركم به لمنفعتكم ، ولتحقيق المساواة بين الغني والفقير ، وليختبركم فيما تنفقون ، فلا تتقربوا إليه بالرديء ، وهو أيضا

٥٩

مستحق للحمد والشكر على جميع أفعاله وأقواله وشرعه وقدره ونعمه. ومن الحمد اللائق بجلاله : إنفاق الطيب مما أنعم به.

فقه الحياة أو الأحكام :

موضوع الآية : وجوب اختيار الطيب الجيد من مكاسب الأموال عند إنفاقها في سبيل الله ، سواء أكانت من الزكوات الواجبة أم من الصدقات المندوبة ؛ لأن القصد هو التقرب إلى الله تعالى ، وادخار الثواب على فعل الخير ، وذلك لا يتحقق إلا بجياد الأموال وأطيبها.

والآية خطاب لجميع أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (١) ، واختلف العلماء في المعنى المراد بالإنفاق هنا ، فقال علي بن أبي طالب وعبيدة السّلمانيّ وابن سيرين : هي الزكاة المفروضة ، نهى الناس عن إنفاق الرديء فيها بدل الجيد.

وقال البراء بن عازب والحسن البصري وقتادة : إن الآية في التطوع ، ندبوا إلى ألا يتطوعوا إلا بمختار جيد.

والظاهر أن الآية عامة تشمل الزكاة والصدقة ، لكن الزكاة الأمر فيها على الوجوب ، ومخصوصة بالقدر المفروض ، وأما التطوع فالأمر فيه على الندب ، وليس مخصوصا بقدر معين ، فيجوز بالقليل وبالكثير ، لكن يختار الجيد ، وليس القصد هو الممتاز ، فهو الأولى ، ولكن الحد الأدنى المطلوب هو الوسط ، كما قرر الفقهاء في الزكاة.

ودلت الآية على أن للوالد أن يأكل من كسب ولده ؛ لأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «أولادكم من طيّب أكسابكم ، فكلوا من أموال أولادكم هنيئا» (٢).

واستدل أبو حنيفة رضي‌الله‌عنه بقوله تعالى : (وَمِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ

__________________

(١) البحر المحيط : ٢ / ٣١٦

(٢) رواه البزاز بلفظ : «أولادكم من هبة الله لكم ، فكلوا من كسبهم».

٦٠