التفسير المنير - ج ٣

الدكتور وهبة الزحيلي

الْأَرْضِ) على وجوب زكاة العشر فيما سقي بالمطر ، ونصف العشر فيما سقي بالبئر ونحوه مما فيه كلفة ، في كل ما تخرجه الأرض من أصناف زراعية ، قليلا كان أو كثيرا ، من غير تقدير بنصاب ، ولا تخصيص بنوع معين من الأقوات ، فتجب الزكاة عنده في الزروع والثمار كلها ، ويعضده قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «فيما سقت السماء العشر ، وفيما سقي بنضح أو دالية (١) نصف العشر».

وأجيب من قبل الجمهور : بأنه لا متعلق له من الآية ؛ لأنها إنما جاءت لبيان محل الزكاة ، لا لبيان نصابها أو مقدارها ، وقد بيّن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الأنصبة بقوله فيما رواه ابن ماجة : «ليس فيما دون خمس ذود صدقة ، وليس فيما دون خمس أواق من الورق صدقة ، وليس فيما دون خمسة أوسق من التمر صدقة» (٢).

وهناك أدلة أخرى للفريقين (٣).

ويلاحظ أن الآيات التي تطالب بالإنفاق تختم عادة أو غالبا إما بقوله تعالى : (وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ) أو بقوله : (وَاللهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ) وذلك يرشدنا إلى أن النفقة جزء مما أنعم الله به من رزق على العباد ، وأنه تعالى سيجزيه بها ويضاعفها له أضعافا كثيرة ، ويخلف المبذول على المنفق ؛ لأنه واسع الفضل والرحمة والعطاء ، ويرشدنا أيضا إلى أن القصد هو اختبار الناس فهو لا يأمرهم بالصدقة حين العوز ، وإنما حال السعة واليسر ، فكل إنسان مكلف حسب طاقته وقدرته على الإنفاق ، وهو سبحانه محمود على كل حال ، وعلى جميع نعمه ،

__________________

(١) الدالية : الغرافة التي تديرها البقرة أو الجمل ونحوهما من الدواب ، والناعورة التي يديرها الماء. والحديث رواه الجماعة إلا مسلما عن ابن عمر.

(٢) الذود من الإبل : ما بين الثلاث إلى العشر ، وهي مؤنثة لا واحد لها من لفظها ، والكثير : أذواد. ونصاب الفضة : مائتا درهم ، والدرهم العربي (٩٧٥ ، ٢ غم) ، والخمسة الأوسق تعادل (٦٥٣ كغ).

(٣) أحكام القرآن للجصاص الرازي : ١ / ٤٥٨ ، أحكام القرآن لابن العربي : ١ / ٢٣٥ وما بعدها.

٦١

ومقتضى الحمد والشكر تذكر المحتاج ومواساة الفقير والمسكين ، ومما يرغب في النفقة أن اليد العليا ـ المنفقة ـ خير من اليد السفلى ـ الآخذة.

تخويف الشيطان من الفقر والفهم الصحيح للقرآن

(الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ وَاللهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٢٦٨) يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَما يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الْأَلْبابِ (٢٦٩))

الإعراب :

(الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ) مبتدأ ، وجملة (يَعِدُكُمُ) خبره ، وسمي شيطانا (فيعالا) من شطن أي بعد ؛ لأنه بعد عن رحمة الله ، وقيل في وجه ضعيف : على وزن فعلان : من شاط يشيط : إذا احترق.

البلاغة :

(يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ) وفي قراءة «تشاء» على الخطاب ، وهو التفات إذ هو خروج من غيبة إلى خطاب.

المفردات اللغوية :

(يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ) أي يخوّفكم من الفقر إن تصدقتم ، فتمسكون ما بأيدكم ، فلا تنفقوه في مرضاة الله ، والفقر : سوء الحال وضيق ذات اليد. (وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ) أي يغريكم بالبخل ومنع الزكاة (وَاللهُ يَعِدُكُمْ) على الإنفاق (مَغْفِرَةً مِنْهُ) صفحا من الله عن ذنوبكم. (وَفَضْلاً) رزقا وخلفا منه (وَاللهُ واسِعٌ) فضله (عَلِيمٌ) بالمنفق.

(يُؤْتِي الْحِكْمَةَ) العلم النافع المؤدي إلى العمل ، المؤثر في النفس ، واختلف العلماء في

٦٢

الحكمة : فقال السدي : هي النبوة. وقال ابن عباس : هي المعرفة بالقرآن فقهه ونسخه ومحكمه ومتشابهه وغريبه ومقدّمه ومؤخره (أي العلم بأصول الفقه). وقال قتادة ومجاهد : الحكمة : هي الفقه في القرآن. وقال مجاهد : الإصابة في القول والفعل. وقال ابن زيد : الحكمة : العقل في الدّين. وقال مالك بن أنس : الحكمة : التفكر في أمر الله والاتّباع له ، أو هي طاعة الله والفقه في الدين والعمل به. وكل هذه الأقوال تشترك في أن الحكمة : هي الفهم الصحيح والعلم النافع واتباع المعلوم المؤدي إلى سعادة الدنيا والآخرة (١).

(خَيْراً كَثِيراً) لأن الحكمة أوصلته إلى السعادة الأبدية (وَما يَذَّكَّرُ) يتعظ ، وأصله : يتذكر ، فأدغم التاء في الذال (أُولُوا الْأَلْبابِ) أصحاب العقول.

التفسير والبيان :

الشيطان عدو الإنسان من قديم ، وهو الذي أقسم (فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) [ص ٣٨ / ٨٢ ـ ٨٣] يوسوس للناس ويخوفهم من الفقر إذا تصدقوا أو أنفقوا في سبيل الله ويقول لهم : إن عاقبة إنفاقكم أن تفتقروا ، ويحرضهم ويغريهم على البخل والإمساك إغراء الآمر للمأمور. والفاحش عند العرب : البخيل. والوعد : يستعمل في الخير والشر ، قال الله تعالى : (النَّارُ وَعَدَهَا اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا) [الحج ٢٢ / ٧٢]. وسمي ذلك التخويف وعدا : مبالغة في الإخبار بتحقق وقوعه ، وكأن مجيئه بحسب إرادته ، مع العلم بأن الوعد : هو الإخبار بما سيكون من جهة المخبر ، والشيطان لم يقل : إني سأفقركم.

ويوضح هذا التخويف : ما رواه ابن أبي حاتم عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن للشيطان لمّة (٢) بابن آدم ، وللملك لمّة ، فأما لمة الشيطان فإيعاد بالشر ، وتكذيب بالحق ، وأما لمة الملك فإيعاد بالخير ، وتصديق بالحق ، فمن وجد ذلك ، فليعلم أنه من الله ، فليحمد الله ، ومن وجد

__________________

(١) البحر المحيط : ٢ / ٣٢٠

(٢) اللّمّة : المس والشيء القليل من الجن ، والمراد : الخطرة التي تقع في القلب بوسوسة الشيطان أو الملك.

٦٣

الأخرى ، فليتعوذ من الشيطان» ثم قرأ : (الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ ، وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ ، وَاللهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً)(١).

والله تعالى في مقابلة إغراءات الشيطان ووساوسه وأمره بالفحشاء (البخل) يعدكم على لسان نبيكم مغفرة بسبب الإنفاق لذنوبكم ، وتعويضا وإخلافا في الدنيا لما أنفقتموه ، والفضل : المال والخير ، والله واسع الرحمة والفضل ، فيحقق ما وعدكم به ، وهو عليم بما تنفقون ، فيجازيكم عليه أحسن الجزاء ، كما قال تعالى : (وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ ، وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) [سبأ ٣٤ / ٣٩] وروى البخاري ومسلم أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ما من يوم يصبح فيه العباد إلا ملكان ينزلان ، يقول أحدهما : اللهم أعط منفقا خلفا ، ويقول الآخر : اللهم أعط ممسكا تلفا» أي أن الأول يعوضه الله بتسهيل أسباب الرزق له ، والآخر يذهب ماله.

والله تعالى يؤتي الحكمة من يشاء من عباده ، وليست الحكمة على الصحيح النبوة ، ولكنها كما قال الجمهور : العلم والفقه والقرآن ، فهي لا تختص بالنبوة ، بل هي أعم منها ، وأعلاها النبوة ، والرسالة أخص ، وذلك يرشد إلى تمييز الحقائق من الأوهام ، والتفرقة بين الوسواس والإلهام. وآلة الحكمة : العقل ، فمن عرف ما في القرآن من أحكام وأسرار ، وأدرك بسلامة عقله ما في الإنفاق من فوائد تعود على الأمة بالخير وعلى المنفق بالثواب الجزيل ، لم يتأثر بوساوس الشيطان ، ولم يتردد في البذل والإنفاق في سبيل الله. عن ابن مسعود قال : سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «لا حسد إلا في اثنتين : رجل آتاه الله مالا ، فسلّطه على هلكته في الحق ، ورجل آتاه الله الحكمة ، فهو يقضي بها ويعلمها» (٢).

ومن يوفقه الله للعلم النافع ، وعلى التخصيص فهم القرآن والدين ، ويرشده

__________________

(١) وهكذا رواه الترمذي وقال : حسن غريب ، والنسائي ، وابن حبان في صحيحة.

(٢) رواه أحمد والبخاري ومسلم والنسائي وابن ماجه.

٦٤

إلى هداية العقل ، فقد هدي إلى خيري الدنيا والآخرة ، وأدرك الأمور على حقيقتها.

ولا يتعظ بالعلم ويتأثر بالموعظة وينتفع بالتذكار إلا كل ذي عقل سليم يفهم به الخطاب الشرعي ومعنى الكلام الإلهي.

فقه الحياة أو الأحكام :

هذه الآية متصلة بما قبلها ، فهي تحث المؤمن على الإنفاق في سبيل الله : سبيل الخير ؛ لأن الله وعد بالمغفرة جزاء الإنفاق ، وبالإخلاف والتعويض والإمداد بالفضل الإلهي من المال والرزق ، والله تعالى يعطي من سعة ، فلا تنفد خزائنه ، ويعلم حيث يضع ذلك ، ويعلم الغيب والشهادة.

وتحذر الآية من وساوس الشياطين ، فإن للشيطان مدخلا في تثبيط الإنسان عن الإنفاق في سبيل الله ، وهو مع ذلك يأمر بالبخل والفحشاء وهي المعاصي ، والإنفاق فيها.

ومن أعطي الحكمة (العلم النافع الصحيح) وفهم القرآن ، فقد أعطي أفضل ما أعطي من جمع كتب علم الأولين من الصحف وغيرها. والآية تحض على العلم وترفع شأن الحكمة ، وتهدي إلى استعمال العقل في أشرف ما خلق له. قال بعض الحكماء : من أعطي العلم والقرآن ينبغي أن يعرف نفسه ، ولا يتواضع لأهل الدنيا لأجل دنياهم : فإنما أعطي أفضل ما أعطي أصحاب الدنيا ؛ لأن الله تعالى سمى الدنيا متاعا قليلا ، فقال : (قُلْ : مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ) [النساء ٤ / ٧٧] وسمّى العلم والقرآن (خَيْراً كَثِيراً).

٦٥

صدقة السر وصدقة العلن

(وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللهَ يَعْلَمُهُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (٢٧٠) إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئاتِكُمْ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (٢٧١))

الإعراب :

(فَنِعِمَّا) أصله نعم ما وهي لغة هذيل ، ونعم فعل ماض مخصوص للمدح ، وفيه ضمير مرفوع ، والتقدير : نعم الشيء شيئا إبداؤها ، وإبداؤها : هو المقصود بالمدح وهو مرفوع ؛ لأنه مبتدأ ، وما قبله : الخبر ، ثم حذف (إبداء) وأقيم الضمير المضاف إليه مقامه ، فصار الضمير المجرور المتصل ضميرا مرفوعا منفصلا وهو (هِيَ) مرفوعا بالابتداء ، لقيامه مقام المبتدأ. و «ما» في موضع نصب على التمييز. (يُكَفِّرُ) بالرفع : استئناف وتقديره : ونحن نكفّر و (مِنْ سَيِّئاتِكُمْ) : من للتبعيض ، أي شيئا من سيئاتكم. وقيل : من زائدة ، والأكثرون على أنها ليست زائدة ؛ لأن «من» لا تزاد في الإيجاب ، وإنما تزاد في النفي ، نحو : ما جاءني من أحد.

البلاغة :

يوجد جناس اشتقاق بين «أنفقتم ونفقة» وبين «نذرتم ونذر». ويوجد طباق بين «تبدوا وتخفوها».

لمفردات اللغوية :

(وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ) أديتم من زكاة أو صدقة (أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ) النذر : لغة : العزم على التزام شيء خاص ، وشرعا : التزام طاعة تقربا إلى الله تعالى (إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ) تظهروا الصدقات النوافل أو التطوعات (فَنِعِمَّا هِيَ) الأصل : فنعم ما هي ، بمعنى شيئا إبداؤها (وَإِنْ تُخْفُوها) تسروها خير لكم من إبدائها وإيتائها الأغنياء والضمير يعود على الصدقات. أما صدقة الفرض (الزكاة) فالأفضل إظهارها ليقتدى به ولئلا يتهم المزكي بالمنع ، وإيتاء الفقراء : متعين.

٦٦

سبب النزول :

قال ابن أبي حاتم في قوله تعالى : (إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمَّا هِيَ ..) الآية أنزلت في أبي بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما ، أما عمر فجاء بنصف ماله ، حتى دفعه إلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال له النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما خلّفت وراءك لأهلك يا عمر؟» قال : خلفت لهم نصف مالي. وأما أبو بكر فجاء بماله كله يكاد أن يخفيه من نفسه ، حتى دفعه إلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال له النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما خلّفت وراءك لأهلك يا أبا بكر؟» فقال : عدة الله وعدة رسوله. فبكى عمر رضي‌الله‌عنه وقال : بأبي أنت وأمي يا أبابكر ، والله ما استبقنا إلى باب خير قط ، إلا كنت سابقا (١).

وقال الكلبي : لما نزل قوله تعالى : (وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ) الآية ، قالوا : يا رسول الله ، صدقة السر أفضل أم صدقة العلانية؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية (٢).

المناسبة :

بعد أن رغب تعالى في الإنفاق في سبيله ، أوضح أن الله يعلم مصرف كل صدقة ، سواء أكانت في طاعة أم في معصية ، وخيرنا بين إخفاء صدقة التطوع وإظهارها ، ولكن الإخفاء هو الأفضل ، ويؤيده حديث السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله ، ومنهم : «ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه» (٣) فكان موضوع الآية الترغيب في إخفاء الصدقات ؛ بعدا عن الرياء.

__________________

(١) تفسير ابن كثير : ١ / ٣٢٣

(٢) أسباب النزول للنيسابوري : ص ٤٨ ـ ٤٩

(٣) أخرجه أحمد والشيخان والنسائي عن أبي هريرة.

٦٧

التفسير والبيان :

ما أنفقتم من نفقة ، سواء كانت لله أو للرياء أو كانت مصحوبة بالمن أو الأذى أو لم تصحب بهما ؛ أو نذرتم نذرا في طاعة (وهو نذر التبرر) أو في معصية (وهو نذر اللجاج والغضب) ، فإن الله عالم به ومجاز عليه ، إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر ، وهذا ترغيب في الخير وترهيب من الشر. وما للظالمين الذين ظلموا أنفسهم بأن بخلوا بالمال ولم يتصدقوا من أنصار ينصرونهم يوم القيامة ، كقوله : (ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ) [غافر ٤٠ / ١٨].

وإن تظهروا صدقات التطوع بقصد حمل الناس على فعلها فنعم ما فعلتم ، وإن تخفوها ، ولم تعلموا بها أحدا ، وتعطوها الفقراء ، فهو خير لكم بعدا عن الرياء والسمعة ، ويمحو عنكم بالصدقة بعض ذنوبكم ؛ لأن الصدقة لا تكفر جميع الذنوب أو السيئات.

والله خبير وبصير بكل عمل تعملونه وبكل دقائق الأمور ، فهو يعلم السر وأخفى ، فيجازيكم على أعمالكم ، واحذروا الرياء والإنفاق لغير الله ، فلا تخفى عليه نياتكم في الإبداء والإخفاء.

فقه الحياة أو الأحكام :

كانت العرب تكثر من النذور ، فذكر الله تعالى النوعين : ما يفعله المرء تبرعا ، وما يفعله نذرا أي بإلزامه نفسه.

ويخبر الله تعالى بأنه عالم بجميع ما يفعله العاملون من الخيرات من النفقات والمنذورات ، ويجازي كل واحد بحسب فعله ، خيرا أو شرا ، وفي الآية معنى الوعد والوعيد ، فمن كان خالص النية ، ينفق في طاعة الله فهو مثاب ، ومن أنفق رياء أو قرن صدقته بالمن أو الأذى ونحو ذلك ، فهو ظالم ، يذهب فعله هدرا ، ولا يجد له يوم القيامة ناصرا فيه ينقذه من عذاب الله ونقمته. ولا فرق في

٦٨

مشروعية نذر التبرر بين أن يكون بشرط أو بغير شرط ، مثال الأول : أن يقول الناذر : لله علي أن أصوم أو أتصدق بكذا ، ومثال الثاني : أن يقول : إن شفى الله مريضي فلله علي أن أتصدق بكذا.

وقد اتفق العلماء على وجوب الوفاء بنذر الطاعة ، وحرمة فعل المعصية المنذورة ، بدليل ما أخرجه النسائي عن عمران بن الحصين رضي‌الله‌عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «النذر نذران : فما كان من نذر في طاعة الله تعالى ، فذلك لله تعالى ، وفيه الوفاء ، وما كان من نذر في معصية الله تعالى ، فذلك للشيطان ، ولا وفاء فيه ، ويكفّره ما كفّر اليمين».

وأما نذر المباح كالأكل والركوب واللبس فيخير فيه في رأي جمهور الفقهاء بين الفعل والترك ، لخبر أبي داود : «لا نذر إلا فيما ابتغي به وجه الله تعالى». وأما المرأة التي نذرت أن تضرب الدف يوم قدوم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقول الرسول لها : أوفي بنذرك ، فإن فعلها صار من القرب ، لسرور المسلمين بقدومه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وإغاظة الكفار ، وإرغام المنافقين.

وذهب جمهور المفسرين إلى أن الآية (٢٧١) في صدقة التطوع ، وفيها دلالة على أن إسرار الصدقة أفضل من إظهارها ، وكذلك سائر العبادات : الإخفاء أفضل في تطوعها ؛ لأنه أبعد عن الرياء ، إلا أن يترتب على الإظهار مصلحة راجحة ، من اقتداء الناس به ، فمن تصدق لجهة عامة أو لمشروع خيري ، أو لأي أمر عام مثلا ، فلا بأس من إعلان صدقته أو مشاركته ومساهمته ، لترغيب الناس ، وللاقتداء به ، وليكون أدعى للتسابق في الخيرات.

ويؤكد التخيير ما قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما رواه أبو داود والترمذي والنسائي عن عقبة بن عامر والحاكم عن معاذ : «الجاهر بالقرآن كالجاهر بالصدقة ، والمسرّ بالقرآن كالمسرّ بالصدقة».

ويؤكد أفضلية الإسرار بصدقة التطوع ما ذكرناه وهو

٦٩

ما ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة من حديث السبعة الذين يظلهم الله في ظله ، ومنهم : «ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه» وروى أحمد وابن أبي حاتم عن أبي أمامة : «أن أبا ذرّ قال : يا رسول الله ، أي الصدقة أفضل؟ قال : صدقة سرّ إلى فقير ، أو جهد من مقلّ ، ثم قرأ الآية : (إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ) وروى الطبراني مرفوعا : «إن صدقة السر تطفئ غضب الرب». ودليل إعلان الصدقة المفروضة : ما روى ابن جرير الطبري عن ابن عباس في تفسير هذه الآية قال : «جعل الله صدقة السر في التطوع تفضل علانيتها ، يقال : بسبعين ضعفا ، وجعل صدقة الفريضة علانيتها أفضل من سرها ، يقال : بخمسة وعشرين ضعفا.

وأما الصدقة الواجبة (الزكاة) : فأكثر العلماء على أن إظهارها أفضل من إسرارها ؛ لأن الفرائض لا يدخلها رياء ، والنوافل عرضة لذلك ، أخرج مسلم في صحيحة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال: «أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة» ومن هنا قيل : صلاة النفل فرادى أفضل ، والجماعة في الفرض أبعد عن التّهمة. بل إن إظهار الفرائض أمر لا بد منه لإقامة شعائر الدين ، وفيه الدلالة على قوة الإسلام ، كما أن فيه الأخذ والعمل بمبدإ القدوة الحسنة.

وتجوز صدقة التطوع للمسلم والكافر ، والبر والفاجر ، والفقير والغني ، لأن الله تعالى قال : (وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) فقد أطلق كلمة (الْفُقَراءَ) ولم يقيدها بفقراء المسلمين ، وجعل الخيرية في إعطائها للفقير ، ولم يمنعها عن الغني ، وورد في الصحيحين : «في كل كبد حرّى رطبة أجر» أي أن رحمة جميع المخلوقات مدعاة للثواب. وأما الزكاة المفروضة وزكاة الفطر فهي خاصة بالمسلمين وبالفقراء ، لقوله تعالى : (إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ) ولحديث معاذ حينما أرسله النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم واليا إلى اليمن : «خذها من أغنيائهم ، وردها في فقرائهم» (١).

__________________

(١) رواه الجماعة عن ابن عباس.

٧٠

والخلاصة : إن الصدقة الواجبة ، والإنفاق في المصالح العامة كبناء المدارس والمشافي والدعوة إلى الدين والجهاد ، ونفقة التطوع بقصد ترغيب الآخرين في التصدق ينبغي إعلانها ، وهو أفضل من الإخفاء. وأما الصدقة على الفقراء لسد حاجاتهم فإسرارها أفضل من إعلانها ، سترا لحالهم وحفظا لكرامتهم.

مستحقو الصدقات

(لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَما تُنْفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغاءَ وَجْهِ اللهِ وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ (٢٧٢) لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ (٢٧٣) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٢٧٤))

الإعراب :

(لِلْفُقَراءِ) جار ومجرور : إما مرفوع لأنه خبر مبتدأ محذوف وتقديره : الصدقات للفقراء ، وإما منصوب لتعلقه بفعل : (وَما تُنْفِقُوا) في الآية السابقة ، أي : وما تنفقوا من خير للفقراء ، أو متعلق بمحذوف والمعنى اعمدوا للفقراء أو اجعلوها لهم. (لا يَسْتَطِيعُونَ) جملة فعلية حال

٧١

منصوب من ضمير (أُحْصِرُوا). (يَحْسَبُهُمُ) جملة فعلية حال من الفقراء ، وكذلك : (تَعْرِفُهُمْ) (بِسِيماهُمْ) و (لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً) ويحتمل أن يكون ذلك كله حالا من ضمير (أُحْصِرُوا) ويحتمل أن يكون مستأنفا ، فلا يكون له موضع من الإعراب. ومعنى : (لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً) أي لا يسألون ولا يلحفون.

(الَّذِينَ يُنْفِقُونَ) مبتدأ موصول ، وتمت الصلة عند قوله : سرا وعلانية : وهما مصدران في موضع الحال من ضمير (يُنْفِقُونَ). ثم أخبر عن المبتدأ بقوله : (فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ) ودخلت الفاء في خبر المبتدأ ، لتضمن المبتدأ الموصول حرف الشرط ، وهذا لا يكون إلا إذا كانت الصلة جملة فعلية ، ولم يدخل على عامل يغير معناه نحو ليت ولعل وكأن.

البلاغة :

(وَما تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ اللهِ) خبر بمعنى النهي ، أي لا تطلبوا غير ثواب الله من أعراض الدنيا. (وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ) إطناب بعد قوله : (يُوَفَّ إِلَيْكُمْ) وقوله : (وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ). ويوجد طباق بين قوله : (بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ) وقوله (سِرًّا وَعَلانِيَةً).

المفردات اللغوية :

(هُداهُمْ) إدخال الناس في الإسلام ، وإنما عليك البلاغ والإرشاد إلى الخير والله هو الهادي إلى الدخول في الإسلام ، فالهدى نوعان : هدى التوفيق إلى طريق الخير والسعادة وهو مختص بالله تعالى ، وهدى الدلالة والإرشاد إلى الخير وهو مهمة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. (مِنْ خَيْرٍ) مال (فَلِأَنْفُسِكُمْ) أي ثوابه لأنفسكم لا ينتفع به غيركم (ابْتِغاءَ وَجْهِ اللهِ) طلب مرضاته وثوابه (أُحْصِرُوا) منعوا وحبسوا في طاعة الله لجهاد أو تعلم علم (يُوَفَّ إِلَيْكُمْ) يصل إليكم جزاؤه غير منقوص (وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ) لا تنقصون منه شيئا ، وهذه الجملة وجملة (يُوَفَ) تأكيد للجملة الأولى : (فَلِأَنْفُسِكُمْ).

(لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً ..) سفرا وسيرا في الأرض للكسب والتجارة والمعاش بسبب شغلهم عنه بالجهاد (التَّعَفُّفِ) إظهار العفة وترك السؤال (بِسِيماهُمْ) علامتهم من التواضع وأثر الجهد (لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً) أي لا يسألون الناس أصلا شيئا ، ولا يقع منهم إلحاف أي إلحاح : وهو أن يلازم السائل المسؤول حتى يعطيه (بِهِ عَلِيمٌ) خبير ، مطلع عليه ومجاز عليه.

٧٢

سبب النزول :

١ ـ نزول الآية (٢٧٢):

ورد في سبب نزولها روايات عديدة مضمونها واحد منها : ما رواه النسائي والحاكم والبزار والطبراني وغيرهم عن ابن عباس قال : كانوا يكرهون أن يرضخوا (١) لأنسابهم من المشركين ، فسألوا ، فرخص لهم ، فنزلت هذه الآية : (لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ) الآية.

وروي أن ناسا من المسلمين كانت لهم أصهار في اليهود ورضاع ، وقد كانوا ينفقون عليهم قبل الإسلام ، فلما أسلموا كرهوا أن ينفقوا عليهم.

وقيل : حجت أسماء بنت أبي بكر ، فأتتها أمها تسألها ، وهي مشركة ، فأبت أن تعطيها ، فنزلت.

وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يأمر أن لا يتصدق إلا على أهل الإسلام ، فنزلت : (لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ) الآية ، فأمر بالتصدق على كل من سأل من كل دين.

وروى سعيد بن جبير مرسلا عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في سبب نزول هذه الآية : أن المسلمين كانوا يتصدّقون على فقراء أهل الذمّة ، فلما كثر فقراء المسلمين ، قال رسول الله : صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا تتصدّقوا إلا على أهل دينكم» فنزلت هذه الآية مبيحة للصدقة على من ليس من دين الإسلام.

وحكى الطبري أن مقصد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمنع الصدقة إنما كانوا ليسلموا ويدخلوا في الدين ، فقال الله تعالى : (لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ).

__________________

(١) رضخ له : أعطاه قليلا.

٧٣

والخلاصة : إن مضمون سبب نزول هذه الآية : أن من أسلم كره أن يتصدق على قريبه المشرك أو على المشركين أو نهاهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من التصدق عليهم فنزلت الآية.

٢ ـ نزول الآية (٢٧٣):

نزلت في أهل الصّفّة (١) : وهم أربعمائة من المهاجرين ، أرصدوا لتعلم القرآن والخروج مع السرايا (٢).

٣ ـ نزول الآية (٢٧٤):

أخرج الطبراني وابن أبي حاتم عن يزيد بن عبد الله بن غريب عن أبيه عن جده عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : نزلت هذه الآية : (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ ، سِرًّا وَعَلانِيَةً ، فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ) في أصحاب الخيل (٣) : وهم الذين يرتبطون الخيل في سبيل الله تعالى ، ينفقون عليها بالليل والنهار ، سرّا وعلانية ، نزلت فيمن لم يرتبطها تخيلا ولا افتخارا.

وروي عن ابن عباس : أن هذه الآية : (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ) نزلت في علف الخيل. ويدلّ على صحة هذا حديث أسماء بنت يزيد ، قالت : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من ارتبط فرسا في سبيل الله ، فأنفق عليه احتسابا ، كان شبعه وجوعه وريّه وظمؤه ، وبوله وروثه في ميزانه يوم القيامة».

__________________

(١) تفسير القرطبي : ٣ / ٣٣٧

(٢) كان أهل الصفة من مهاجري قريش ، ولم يكن لهم مساكن في المدينة ولا عشائر ، فكانوا في صفّة المسجد : وهي سقيفته ، يتعلمون القرآن بالليل ، ويرضخون النوى بالنهار ، ويخرجون مع سرية بعثها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فمن كان عنده فضل أتاهم به إذا أمسى.

(٣) قال السيوطي : يزيد وأبوه مجهولان.

٧٤

المناسبة :

أرشدت الآية السابقة المؤمنين إلى إعطاء الفقراء عامة ، مسلمين وغير مسلمين ، وصرحت هذه الآية بإباحة صدقة التطوع لغير المسلمين ، سواء أكانوا مشركين أم من أهل الكتاب (اليهود والنصارى) ؛ لأن الله تعالى يرزق المؤمن والكافر من خير الدنيا ، وشأن المؤمن أن يتخلّق بأخلاق الله ، وأن يكون خيره عاما للناس ؛ إشعارا بحبّ الخير والنّفع للبشرية ، وإدلالا على توافر صفة الرحمة والمحبة في قلب المسلم لكل إنسان ، وإبعادا للعصبية الدّينية التي من شأنها التهديم والتفريق والفتنة ، وزرع الأحقاد والضغائن ، والتنفير من قبول الإسلام ذاته القائم على التسامح ، وترك أمر الهداية للدين لله تعالى ، فإن الهداية من الله ، وتقتضي الشفقة إعطاء المحتاج أيّا كان دينه.

التفسير والبيان :

ليس عليك أو لا يجب عليك يا محمد أن تقود الناس إلى هداية الإسلام كرها ، وإنما عليك البلاغ والإرشاد إلى الدين فقط ، فتبشر من أطاع بالجنة ، وتنذر من عصى بالنار ، وأمر الهداية بمعنى التوفيق إلى الخير والسعادة والاهتداء إلى الإسلام مردّه إلى الله ، بما وضع في النفوس من العقول ، وما أبانه لهم من سنن وأدلّة ترشدهم إلى الدين الحق ، فأمر يا محمد بالصدقة إلى كل من سألها من كل دين.

وثواب الصدقة وإنفاق المال في سبيل الله عائد بذاته لأنفسكم ، ولا ينتفع به غيركم في الدنيا والآخرة. أما في الدّنيا فيصون المال ، ويحصّن الثروة ، ويحميكم من أذى الفقراء بالنّهب والسلب والسرقة ؛ لأن الجائع يستبيح لنفسه كل شيء. وأما في الآخرة فثوابه لكم بدخول الجنة وتكفير بعض السيئات والذنوب.

وإنكم لا تنفقون إلا طلبا لرضوان الله ، لا لمصلحة دنيوية أو لإرضاء

٧٥

الشيطان ، وعلى ذلك فلا فرق بين فقير وفقير أيّا كان دينه ، ولا داعي للمنّ والأذى ، أو الرياء والسمعة ؛ لأنك تقصد بنفقتك وجه الله وحده ، وفعل الخير المحض ، دون انتظار ثناء ، أو جزاء الناس في الدّنيا ، قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم لسعد بن أبي وقاص في الحديث الصحيح : «إنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله تعالى إلّا أجرت بها ، حتى ما تجعل في في امرأتك» أي فمها.

ثم أكّد سبحانه الآية السابقة : (وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ) بمؤكّدين : الأول ـ قوله : (وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ) أي يصلكم ثوابه كاملا غير منقوص في الآخرة.

الثاني ـ قوله : (وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ) أي لا يضيع عليكم منه شيء ، ولا تبخسون منه شيئا ، فيكون ذلك البخس ظلما ، كقوله تعالى : (فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً ، وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَكَفى بِنا حاسِبِينَ) [الأنبياء ٢١ / ٤٧].

وكلّ هذا يدل على أن الإنفاق يكون للفقراء عامة ، مسلمين أو غير مسلمين ، وذلك نحو قوله تعالى : (وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً. إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ ، لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً) [الإنسان ٧٦ / ٨ ـ ٩]. والأسير في دار الإسلام لا يكون عادة إلا مشركا وقوله تعالى : (لا يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ ، وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ) [الممتحنة ٦٠ / ٨].

ويؤيد ذلك ما روي في الصحيحين عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «قال رجل: لأتصدقنّ الليلة بصدقة ، فخرج بصدقته ، فوضعها في يد زانية ، فأصبح الناس يتحدّثون : تصدّق على زانية ، فقال : اللهم لك الحمد : على زانية! لأتصدقنّ الليلة بصدقة ، فوضعها في يد غني ، فأصبحوا

٧٦

يتحدّثون : تصدّق الليلة على غني ، قال : اللهم لك الحمد : على غني! لأتصدقنّ الليلة بصدقة ، فخرج فوضعها في يد سارق ، فأصبحوا يتحدّثون : تصدّق الليلة على سارق ، فقال : اللهم لك الحمد ، على زانية ، وعلى غني ، وعلى سارق ، فأتي فقيل له : أما صدقتك فقد قبلت ، وأما الزانية فلعلها أن تستعف بها عن زنا ، ولعل الغني يعتبر ، فينفق مما أعطاه الله ، ولعل السارق أن يستعف بها عن سرقته».

ثم بيّن الله تعالى أحقّ الناس بالصدقة وهم الفقراء بالصفات الخمس التالية :

الصفة الأولى ـ الإحصار في سبيل الله :

أي الذين حبسوا أنفسهم للجهاد أو العمل في مرضاة الله كطلب العلم ؛ إذ لو اشتغلوا بالكسب مثل غيرهم لتعطلت المصلحة العامة ، فهم فداء الأمة وحماتها وقادتها الموجهون لها في وقت السّلم والحرب ، وفي الشدّة والأزمة أو المحنة ، والرفاه والرخاء أو السعادة. وقد عرفنا أن هذه الآية نزلت في أهل الصّفّة : وهم فقراء المهاجرين الذين كانوا حوالي أربعمائة رجل ، وكانوا مرابطين في سقيفة المسجد ، يتعلمون القرآن في الليل ، ويجاهدون في النهار ، عن ابن عباس أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم وقف يوما على أصحاب الصّفّة ، فرأى فقرهم وجهدهم وطيب قلوبهم ، فقال : «أبشروا يا أصحاب الصّفّة ، فمن بقي من أمتي على النّعت الذي أنتم عليه ، راضيا بما فيه ، فإنه من رفقائي».

الصفة الثانية ـ العجز عن الكسب :

(لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ) أي لا يتمكنون من القيام بالسفر أو السّير في البلاد للتجارة والكسب. والضرب في الأرض : هو السّفر ، وعجزهم لأسباب عديدة : منها الكبر والشيخوخة ، ومنها المرض ، ومنها الخوف من العدو ، ونحو ذلك من الضرورات.

٧٧

الصفة الثالثة ـ التّعفف :

إظهار العفّة والتّرفع عن الطّمع مما في أيدي الناس ، حتى إن الجاهل بحقيقة حالهم يظنّهم أغنياء ، لعفّتهم وصبرهم وقناعتهم وتعففهم في لباسهم وحالهم ومقالهم. ورد في هذا المعنى حديث متّفق على صحّته عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ليس المسكين بهذا الطوّاف الذي تردّه التمرة والتمرتان ، واللقمة واللقمتان ، والأكلة والأكلتان ، ولكن المسكين : الذي لا يجد غنى يغنيه ، ولا يفطن له فيتصدق عليه ، ولا يسأل الناس شيئا» (١).

الصفة الرابعة ـ القرائن المميزة لهم :

(تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ) أي علامتهم ، والتّعرّف عليهم يحتاج إلى فراسة المؤمن (٢) ، وخبرة المجرّب ، وحنكة ذوي البصيرة والعقل ، والتّحرّي عنهم بالسؤال لمن يعرفهم من جيران وأقارب ، وربما يستأنس بمظاهر الضّمور والنّحول والضّعف ورثاثة الثياب ، وربما لا يكون ذلك دليلا مقنعا ، فقد يتظاهر بعضهم بالفقر ، وقد يكتسي بعضهم اللباس المعقول لعزّة نفسه ، ويكون هو المحتاج ، وغيره هو الكاذب.

الصفة الخامسة ـ عدم السؤال أصلا وعدم الإلحاح في السؤال :

(لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً) ومعناه في رأي جمهور المفسرين : أنهم متعففون عن المسألة عفة تامة ، ويكون التعفف صفة ثابتة لهم ، أي لا يسألون الناس إلحاحا ولا غير إلحاح.

__________________

(١) رواه أحمد أيضا عن ابن مسعود.

(٢) جاء في حديث السّنن : «اتّقوا فراسة المؤمن ، فإنه ينظر بنور الله» ثم قرأ : إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ.

٧٨

وقال قوم : إن المراد نفي الإلحاف ، أي إنهم يسألون الناس غير إلحاف ، وهذا هو المتبادر إلى الذهن والسابق للفهم ، أي يسألون غير ملحفين ، فلا يلحّون في المسألة ، ولا يكلفون الناس ما لا يحتاجون إليه ، فإن من سأل وله ما يغنيه عن المسألة ، فقد ألحف في المسألة. وفي هذا تنبيه على سوء حالة من يسأل الناس إلحافا ، وهذا شأن أغلب الشّحاذين اليوم. روى الأئمة ، واللفظ لمسلم ، عن معاوية بن أبي سفيان قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا تلحفوا في المسألة ، فو الله لا يسألني أحد منكم شيئا ، فتخرج له مسألته مني شيئا ، وأنا له كاره ، فيبارك له فيما أعطيته».

ثم ختمت الآية بأنه ما من نفقة صغيرة أو كبيرة إلا ويعلمها الله ، ولا يخفى عليه الباعث على النفقة أو النيّة أيضا ، فبحسن النية والإخلاص ففي النفقة دون أذى يحسن الجزاء ، وبسوء النية يسوء الجزاء. وفي هذا ترغيب في الإنفاق الطيّب ، وترهيب من الإنفاق الخبيث.

ثم أوضح الله تعالى ثواب المنفقين وجزاء الإنفاق في جميع الأحوال والأوقات ، فمن تصدّق بأمواله ليلا أو نهارا ، سرّا أو علانية ، ولم يمتنع عن نفقة وقت الحاجة إليها ، ومنها النفقة على الأهل ، كما دلّ حديث النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لسعد المتقدّم ، فله الأجر الكامل عند ربّه وثوابه على الله لا على أحد سواه ، ولا خوف عليه في الآخرة ، ولا يتعرّض للحزن أبدا ، أي فلا خوف عليه فيما يستقبله من أهوال يوم القيامة ، ولا يحزن على ما خلّفه من أولاد ولا على ما فاته من الحياة الدّنيا وزهرتها ، فلا يأسف عليها ؛ لأنه قد صار إلى ما هو خير له من ذلك.

وإنما قدّم الليل على النهار ، والسرّ على العلانية ، للإشارة إلى تفضيل صدقة السرّ على صدقة العلانية.

٧٩

فقه الحياة أو الأحكام :

أباحت الآية دفع صدقة التطوع لأي إنسان كان. أما الصدقة المفروضة (الزكاة) فلا يجزئ بالإجماع دفعها لكافر ، لقوله عليه الصلاة والسلام فيما رواه الجماعة عن ابن عباس : «أمرت أن آخذ الصدقة من أغنيائكم ، وأردّها في فقرائكم». وكذلك لا يجوز في رأي الجمهور دفع زكاة الفطر لكافر ؛ لأنها طهرة للصيام ، فلا تصرف إلى الكافر ، كصدقة الماشية والنقود ، وقد قال النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما رواه الدار قطني وغيره عن ابن عمر : «أغنوهم عن سؤال هذا اليوم» يعني يوم الفطر ، لتشاغلهم بالعيد وصلاة العيد ، وهذا لا يتحقّق في المشركين.

وجوّز أبو حنيفة رضي‌الله‌عنه صرف صدقة الفطر إلى غير المسلم من أهل الذّمة ، أخذا بعموم الآية في البرّ وإطعام الطّعام وإطلاق الصدقات.

ودلّت آية : (وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ) على أن ثمرة النفقة عائد في الواقع إلى المنفق ؛ لأنه سيجد جزاء أوفى على فعله ، وأكّد تعالى هذا المعنى في جملتين تاليتين وهما : (وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ ، وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ).

وأرشد قوله تعالى : (وَما تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ اللهِ) إلى أن النفقة المعتدّ بقبولها إنما هي ما كان ابتغاء وجه الله.

وأبانت آية : (لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا ..) صفات مستحقي النفقة وهم الفقراء ، وقد أوضحناها في التفسير المتقدّم. وأن من أدب السؤال عدم الإلحاح في المسألة.

والسؤال في الإسلام محرّم إلا لضرورة ، فلا يحلّ للقادر على الكسب بدليل قولهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فيما رواه أبو داود والترمذي عن عبد الله بن عمرو رضي‌الله‌عنه ـ : «لا تحلّ الصدقة لغني ، ولا لذي مرّة سوي». والمرّة : القوة ، والسّوي : سليم الأعضاء ، والمراد به القادر على الكسب.

٨٠