التفسير المنير - ج ٣

الدكتور وهبة الزحيلي

ثمّ ذكر نوعا آخر من مكرهم وكيدهم : وهو أن طائفة منهم كما بان في سبب النزول المتقدم أظهروا الإسلام في أول النّهار فصلّوا مع المسلمين صلاة الصّبح ، ثم ارتدّوا عنه في آخره ، ليلبسوا على الضعفاء والجهلة من الناس أمر دينهم ، فيقولوا : إنما ردّهم إلى دينهم اطّلاعهم على نقيصة وعيب في دين المسلمين ، ولهذا قالوا : (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) عنه. ولم يدروا أن من عرف الحقّ لم يرجع عنه ، سأل هرقل أبا سفيان عن شؤون محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم : هل يرجع عنه من دخل في دينه؟ فقال أبو سفيان : لا.

ومن تتمة كلام اليهود أن قالوا لبعضهم زعما منهم أنّ النّبوة لا تكون إلا فيهم (١) : أسرّوا تصديقكم بأن المسلمين قد أوتوا من كتب الله مثل ما أوتيتم ، ولا تفشوه إلا إلى أشياعكم وحدهم ، دون المسلمين ، لئلا يزيدهم ثباتا على دينهم ، ودون المشركين لئلا يدعوهم إلى الإسلام ، أي أن المعنى كتم التصديق بأن للمسلمين من كتاب الله مثل أهل الكتاب. وقال ابن كثير : لا تطمئنوا أو تظهروا سرّكم وما عندكم إلا لمن تبع دينكم ، ولا تظهروا ما بأيديكم إلى المسلمين ، فيؤمنوا به ويحتجّوا به عليكم ، فالمعنى حجب أسرارهم عن المسلمين.

ولا تؤمنوا لغير أتباعكم أن المسلمين يحاجّونكم يوم القيامة بالحق ، ويغالبونكم عند الله تعالى بالحجّة. وقال ابن كثير في تفسير ذلك : لا تظهروا ما عندكم من العلم للمسلمين فيتعلّموه منكم ، ويساووكم فيه ، ويمتازوا به عليكم لشدّة الإيمان به ، أو يتّخذوه حجّة عليكم بما في أيديكم ، فتقوم به عليكم الدّلالة ، وتترتب الحجة في الدّنيا والآخرة.

وتخلل ذلك جملة اعتراضية : وهي أن الهدى هدى الله ، فمن شاء الله هدايته

__________________

(١) قوله : وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ : من جملة قول اليهود ؛ لأنه معطوف على كلامهم ، وهو الظاهر ، قال ابن عطية : ولا خلاف في ذلك.

٢٦١

إلى الإيمان آمن بما أنزله على عبده ورسوله محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الآيات البيّنات والدّلائل القاطعات والحجج الواضحات ، ولا يؤثر كيدكم وخبثكم وحيلكم وكتمكم شيئا ، فسواء أظهرتم الحق ، أم كتمتم أيها اليهود ما عندكم من صفة محمد النّبي الأميّ في كتبكم ، فلن يغيّر ذلك شيئا من نعمة الهداية الإلهية على أحد من الناس.

ثم ردّ الله على اليهود ردّا قاطعا لزعمهم أنّ النّبوة لا تكون إلّا فيهم فقال : إن الأمور كلها ومنها أمر النّبوة تحت تصرفه ، وليس إليكم ، وإنما بيد الله وحده ، فهو المعطي المانع ، يمنّ على من يشاء بالإيمان والعلم ، ويضلّ من يشاء فيعمي بصيرته وبصره ويختم على قلبه وسمعه ، وهو صاحب الفضل المطلق ، والخير كله بيده ، يؤتيه من يشاء من عباده ، يختصّ برحمته أي بالنّبوة من شاء ، ويختصّ المؤمنين بالفضل بما لا يحدّ ولا يوصف ، وفضله واسع عظيم ، ورحمته وسعت كل شيء ، فلا حدّ لها ، ولا حصر لآثارها ، ولا قصر للنّبوة على بني إسرائيل على حدّ زعمهم ، ولا لنسب أو شرف معين.

فقه الحياة أو الأحكام :

يحسد اليهود المؤمنين ويبغون إضلالهم ، ولكن وبال ذلك إنما يعود على أنفسهم ، وهم لا يشعرون. وهكذا يحلم الكفار قديما وحديثا بردّ المسلمين عن دينهم ، إلى دين اليهودية أو النصرانية ، أو أن يصبحوا من غير دين ، ولكنهم خابوا وخسروا ، وأثبتوا أنهم ضعاف العقول ، سفهاء الأحلام ؛ فإن العقيدة الإسلامية في قلب المسلم أثبت من رواسخ الجبال ، وهم لا يعلمون بصحّة الإسلام ، وواجب عليهم أن يعلموا ؛ لأن البراهين ظاهرة والحجج باهرة على وحدانية الله ، وعلى صحّة الشريعة ونضارتها وأصالتها ووفائها بالحاجات وسمّوها وتفضيلها على كلّ شرائع العالم قاطبة ؛ لأنها شرع الله ودينه.

ومن المستنكر عقلا وعادة أن يخلط أهل الكتاب الحقّ بالباطل ، أو يكتموا

٢٦٢

الحقّ الأبلج ، وهم به عالمون.

ومحاولة التّدليس والخداع في إظهار أناس إيمانهم فترة ما ، للتضليل والتشكيك ، ثم العودة إلى الكفر هي محاولة صبيانية طائشة ، لا يغترّ بها إلا السّذّج أمثالهم ؛ لأن التلاعب بالدّين والإيمان ليس من سمة المخلصين ، ولأن الإيمان إذا وقر في القلب عن دليل وبرهان ، استحال نزعه وسلخه من صاحبه إلا بالموت أو القتل.

والنّبوات ليست قصرا على أمة من الأمم أو شعب من الشعوب ، وإنما يختص الله برحمته من يشاء ، والله أعلم حيث يجعل رسالته ، وهو صاحب السلطان المطلق والأمر المبرم ، ينزّل الوحي أو الملائكة على من يشاء من عباده ، فليس لليهود أن يقولوا : إن النّبوات محصورة فيهم ، أو أن تفوق الحجة عند الله لهم ، فهم لا حجّة لهم ، والإسلام أصح من معتقداتهم ، والمسلمون أصحّ منهم دينا.

وإن الهدى إلى الخير والدلالة إلى الله عزوجل بيد الله جلّ ثناؤه ، يؤتيه أنبياءه ، فليس لأهل الكتاب أن ينكروا أن يؤتى أحد مثلما أوتوا ، فإن أنكروا يقال لهم : (إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ) فالأمور كلها تحت تصرف الله ، وهو المعطي المانع ، يمنّ على من يشاء بالإيمان والعلم والتّصرف التامّ ، ويضلّ من يشاء ، فيعمي بصره وبصيرته ، ويختم على قلبه وسمعه ، ويجعل على بصره غشاوة ، وله الحجّة التّامة والحكمة البالغة.

أداء الأمانة والوفاء بالعهد عند بعض أهل الكتاب

(وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ

٢٦٣

إِلاَّ ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (٧٥) بَلى مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ وَاتَّقى فَإِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (٧٦) إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٧٧))

الإعراب :

(بَلى) إثبات لما نفوه من السبيل عليهم في الأميين ، أي بلى عليهم سبيل فيهم. (مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ) جملة مستأنفة مقررة للجملة التي سدّت مسدها. والضمير في (بِعَهْدِهِ) راجع إلى (مَنْ أَوْفى). ويجوز أن يرجع الضمير إلى الله تعالى.

البلاغة :

(ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا) أشار إليهم بالبعيد لازدياد غلوهم في الشّر والفساد.

(لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ) مجاز بالحذف أي ليس علينا في أكل الأموال سبيل.

(يَشْتَرُونَ) فيه استعارة ، استعار لفظ الشراء للاستبدال أي يستبدلون.

(وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ) مجاز عن شدّة الغضب والسخط الإلهي.

(وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ) مجاز عن الاستهانة بهم والسخط عليهم ، تقول : «فلان لا ينظر إلى فلان» أي لا يعتدّ به.

(وَلا يُزَكِّيهِمْ) أي لا يحسن إليهم ولا يثني عليهم ، فهو مجاز عن معنى الإحسان.

يوجد جناس اشتقاق بين (اتَّقى) و (الْمُتَّقِينَ).

المفردات اللغوية :

(تَأْمَنْهُ) أي تأتمنه ، وهو من فعل أمنته. (بِقِنْطارٍ) المراد العدد الكثير ، وقيل : هو المعيار الذي يوزن به ، ومقداره عند أهل الشام مائة رطل ، والرطل كيلوان ونصف. (بِدِينارٍ) المراد العدد القليل. (فِي الْأُمِّيِّينَ) أي العرب. (سَبِيلٌ) مؤاخذة وذنب أو تبعة. (بَلى)

٢٦٤

كلمة تقع جوابا عن نفي سابق ، لإثباته ، أي عليهم فيه سبيل. (بِعَهْدِهِ) العهد : ما تلتزم الوفاء به لغيرك ، وإذا كان الالتزام من جانبين يقال : عاهد فلان غيره عهدا. و (يَشْتَرُونَ) يستبدلون. (بِعَهْدِ اللهِ) ما أنزله في كتابه من الإيمان بالنّبي وأداء الأمانة. (وَأَيْمانِهِمْ) جمع يمين : وهي الحلف بالله ، والمراد هنا : أيمانهم الكاذبة أو حلفهم بالله تعالى كاذبين. (ثَمَناً قَلِيلاً) أي عوضا يأخذونه من الدّنيا ، أو رشوة ، وهو قليل ؛ لأن المال الذي يكون سببا في العقاب قليل مهما كثر.

(لا خَلاقَ لَهُمْ) لا نصيب لهم. (وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ) أي يغضب عليهم. (وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ) أي يسخط عليهم ولا يرحمهم. (وَلا يُزَكِّيهِمْ) أي لا يثني عليهم ولا يطهرهم. (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) مؤلم.

سبب النزول :

نزول الآية (٧٧):

روى الشيخان وغيرهما أن الأشعث قال : كان بيني وبين رجل من اليهود أرض ، فجحدني ، فقدمته إلى النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال : ألك بيّنة؟ قلت : لا ، فقال لليهودي : احلف ، فقلت : يا رسول الله ، إذن يحلف ، فيذهب مالي ، فأنزل الله : (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً).

وأخرج البخاري عن عبد الله بن أبي أوفى : أن رجلا أقام سلعة له في السوق ، فحلف بالله ، لقد أعطي بها ما لم يعطه ، ليوقع فيها رجلا من المسلمين ، فنزلت هذه الآية : (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ ..) الآية.

قال الحافظ ابن حجر في (شرح البخاري) : لا منافاة بين الحديثين ، بل يحمل على أن النزول كان لسببين معا.

وأخرج ابن جرير عن عكرمة : أن الآية نزلت في حييّ بن الأخطب وكعب بن الأشرف وغيرهما من اليهود الذين كتموا ما أنزل الله في التوراة وبدلوه ، وحلفوا أنه من عند الله. وقيل : نزلت في أبي رافع ولبابة بن أبي الحقيق

٢٦٥

وحيي بن أخطب : حرّفوا التّوراة ، وبدّلوا صفة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأخذوا الرّشوة على ذلك (١).

قال الحافظ ابن حجر : والآية محتملة ، لكن العمدة في ذلك ما ثبت في الصحيح.

المناسبة :

تتابع الآيات في تبيان أوصاف أهل الكتاب ، فمنهم الأمين ، ومنهم الخائن ، ومنهم المستحل أموال غير اليهود بالباطل بتأويلات واهية ، لذا فإن القرآن يحذر المؤمنين من الاغترار بهم.

التفسير والبيان :

لقد أنصف القرآن في وصف أهل الكتاب ، فمنهم طائفة تؤتمن على الأموال القليلة والكثيرة ، والودائع أو الأمانات ، مثل عبد الله بن سلام استودعه رجل من قريش ألفا ومائتي أوقية ذهبا ، فأدّاها إليه ، ومثل السموءل بن عاديا اليهودي المشهور بالوفاء.

ومنهم طائفة أخرى تخون الأمانة ، وإن كانت قليلة ، ويتعذر استردادها منهم إلا بمتابعة المطالبة والتحصيل ، أو باللجوء إلى التقاضي والمحاكمة وإقامة البيّنة عليهم ، مثل كعب بن الأشرف أو فنحاص بن عازوراء ، استودعه رجل قرشي دينارا ، فجحده وخانه.

والذي حمل هذه الطائفة من اليهود على الخيانة : زعمهم أن التوراة تبيح لهم أكل أموال الأميين وهم العرب ، قائلين : إنه لا تبعة ولا إثم عليهم في أكل أموال العرب بل وكل ما عدا اليهود ، إذ هم شعب الله المختار ، فلهم السمو والتفوق

__________________

(١) البحر المحيط : ٢ / ٥٠١

٢٦٦

العنصري على غيرهم ، وأما من سواهم فلا حرمة له عند الله ، فهو مبغوض عنده ، محتقر لديه ، ولا حق له ولا حرمة ، روي أن بني إسرائيل كانوا يعتقدون استحلال أموال العرب لكونهم أهل أوثان ، فلما جاء الإسلام ، وأسلم من أسلم من العرب ، بقي اليهود فيهم على ذلك المعتقد ، فنزلت الآية مانعة من ذلك (١).

وهذا أمر مرفوض في شرعة الله التي لا تفرق في أداء الحقوق بين المؤمن والكافر ، ولكنهم اليهود الذين يحرّفون الكلم عن مواضعه ، ويتأوّلون النصوص على وفق أهوائهم. ومن أمثلة ذلك أيضا : ما رواه ابن جرير الطبري : أن جماعة من المسلمين باعوا لليهود بعض سلع لهم في الجاهلية ، فلما أسلموا تقاضوهم الثمن ، فقالوا : ليس علينا أمانة ولا قضاء لكم عندنا ؛ لأنكم تركتم دينكم الذي كنتم عليه ، وادّعوا أنهم وجدوا ذلك في كتابهم.

فليحذر أتباع شرع مثل فعل اليهود ، روى عبد الرزاق وأبو إسحاق أنّ رجلا سأل ابن عباس فقال : إنا نصيب في الغزو من أموال أهل الذمة : الدجاجة والشاة ، قال ابن عباس : فما ذا تقولون؟ قال : نقول : ليس علينا بذلك بأس ، قال : هذا كما قال أهل الكتاب : (لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ) إنهم إذا أدّوا الجزية ، لم تحلّ لكم أموالهم إلا بطيب أنفسهم.

وروى ابن أبي حاتم وابن المنذر عن سعيد بن جبير قال : لما قال أهل الكتاب : ليس علينا في الأميين سبيل ، قال نبيّ الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كذب أعداء الله ، ما من شيء كان في الجاهلية إلا وهو تحت قدمي هاتين ، إلا الأمانة ، فإنها مؤداة إلى البرّ والفاجر» هذا ردّ عليهم.

وردّ الله عليهم أيضا بأنهم يكذبون على الله بادعائهم أن ذلك في كتابهم ، وهم يعلمون كذبهم الصريح فيه ؛ لأن التوراة خالية من هذا الحكم الجائر وهو خيانة الأميين.

__________________

(١) البحر المحيط : ٢ / ٥٠٠

٢٦٧

بل إن حكم التوراة عكس ذلك ، فإنها توجب الوفاء بالعقود ، وتأمر بوفاء الأمانات ، وقال الله لهم : بلى عليهم في الأميين سبيل العذاب بكذبهم ، واستحلالهم أموال العرب ، فمن اقترض إلى أجل ، أو باع بثمن مؤجل ، أو اؤتمن على شيء مثلا ، وجب عليه الوفاء به ، وأداء الحق لصاحبه في حينه ، دون حاجة إلى إلحاح في الطلب أو تقاض ، وهكذا فإن كل من أوفى بما عاهد عليه ، واتقى الله في ترك الخيانة والغدر ، فإن الله يحبه ويرضى عنه ؛ لأن الله عهد إلى الناس في كتبه أن يلتزموا الصدق والوفاء بالعهود والعقود.

وليس العهد مقصورا على الوفاء بالعقود والالتزامات وأداء الأمانات وإنما يشمل أيضا عهد الله تعالى : وهو الوفاء بما التزم به المؤمن من تكاليف وأوامر وواجبات شرعية. ولو وفي اليهود بعهودهم لآمنوا بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولو أنصفوا لما فرقوا في وفاء العهد بين اليهودي وغيره.

ثم بيّن الله تعالى جزاء الذين يخونون العهد ، ويكتمون ما أنزل الله ، ويبدلون بالحق الباطل ، ويستبدلون بكلام الله وأوامره عوضا حقيرا ، وثمنا قليلا : وهو متاع الدنيا من الترؤس والارتشاء ونحو ذلك ، ذلك الجزاء هو خسارة نعيم الآخرة ، واستحقاق غضب الله وسخطه ، وعدم الثناء عليهم ، وانعدام الإحسان إليهم والرحمة بهم ، والاستهانة بأحوالهم وأوضاعهم ، ولهم عذاب مؤلم شديد في نار جهنم.

وقد عبر الله تعالى عن كل ذلك بطريق المجاز ، فجعل نكث العهد وأخذ شيء مقابله بمثابة الشراء والمعاوضة ، ولكنها صفقة خاسرة ؛ لأن المقابل أو الثمن مهما كان كثيرا ، فهو في الواقع قليل إذا قيس بعظم الجرم والذنب وشدة العقاب الذي يلقاه في الآخرة.

٢٦٨

فقه الحياة أو الأحكام :

أخبر الله تعالى أن في أهل الكتاب الخائن والأمين ، والمؤمنون لا يستطيعون التمييز بينهم ، فعليهم اجتناب جميعهم. وخصّ أهل الكتاب بالذكر ، وإن كان المؤمنون كذلك ؛ لأن الخيانة فيهم أكثر ، فخرج الكلام على الغالب. والأمين لا فرق عنده بين الكثير والقليل ، فمن حفظ الكثير وأداه فالقليل أولى ، ومن خان في اليسير أو منعه فذلك في الكثير أكثر.

واستدل أبو حنيفة على مذهبه في ملازمة الغريم (المدين) بقوله تعالى : (إِلَّا ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً) وأباه سائر العلماء.

والأمانة عظيمة القدر في الدّين ، ومن عظم قدرها أنها تقوم هي والرّحم على جنبتي الصراط ، كما في صحيح مسلم ، فلا يمكّن من العبور بسلام إلا من حفظهما.

وليس في هذه الآية تعديل لأهل الكتاب ولا لبعضهم ، في رأي المالكية ، خلافا لمن ذهب إلى ذلك ؛ لأن فسّاق المسلمين يوجد فيهم من يؤدّي الأمانة ، ويؤمن على المال الكثير ، ولا يكونون بذلك عدولا ، فطريق العدالة وقبول الشهادة لا يدل عليه أداء الأمانة في المال في التعامل والوديعة.

ولا يوجد في شرع الله مطلقا التفريق في أداء الحقوق والأمانات بين المؤمن وغيره ؛ لأن الحق مقدس ، لا تتأثر صفته بشخص مستحقه ، أما اليهود فلم يجعلوا الوفاء بالعهد حقا واجبا لذاته.

ودلّ قوله تعالى : (وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) على أن الكافر ليس أهلا لقبول شهادته ؛ لأن الله تعالى وصفه بأنه كذّاب. وفيه ردّ على الكفرة الذين يحرّمون ويحللون غير تحريم الله وتحليله ، ويجعلون ذلك من الشرع.

٢٦٩

وإن الوفاء بالعهد : عهد الله بامتثال أوامره واجتناب نواهيه ، وعهد الناس في المعاملات والعقود والأمانات من الإيمان ، بل من أجل خصال الإيمان ، وهو الذي يقرب العبد من ربه ، ويجعله أهلا لمحبته ورضوانه. أما الانتساب إلى أمة أو عنصر أو شعب بعينه فلا أثر له عند الله. وإن خائن العهد ليس من التقوى في شيء ، بل هو في زمرة المنافقين ، وإن آكل المال بالباطل يستحق غضب الله وسخطه ، روى أحمد عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من اقتطع مال امرئ مسلم بغير حق ، لقي الله وهو عليه غضبان» وقال أيضا فيما رواه الشيخان والترمذي والنسائي عن أبي هريرة : «آية المنافق ثلاث : إذا حدّث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا اؤتمن خان» وروى الطبراني في الأوسط عن أنس حديثا هو : «لا إيمان لمن لا أمانة له ، ولا دين لمن لا عهد له».

وجزاء ناكثي العهد وخائني الأمانات أشدّ عند الله من مرتكبي بقية الكبائر كالزنا والسرقة وشرب الخمر ولعب الميسر وعقوق الوالدين ؛ لأن مفسدة نقض العهد عامة شاملة ، وضررها أعظم وأخطر.

ودلت هذه الآية وأحاديث النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم المتقدمة على أن حكم الحاكم لا يحلّ المال في الحقيقة والباطن بقضاء الظاهر إذا علم المحكوم له بطلانه ، روى الأئمة عن أم سلمة قالت : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنكم تختصمون إليّ ، وإنما أنا بشر ، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض ، وإنما أقضي بينكم على نحو مما أسمع منكم ، فمن قضيت له من حق أخيه شيئا ، فلا يأخذه ، فإنما أقطع له قطعة من النار يأتي بها يوم القيامة».

ورأى أبو حنيفة أن قضاء القاضي ينفذ في الظاهر والباطن إذا حكم بعقد أو فسخ أو طلاق ؛ لأن مهمته القضاء بالحق ، وأما الحديث السابق فهو في قضية لا بينة فيها ، فإذا ادّعى رجل على امرأة أنه تزوجها ، فأنكرت ، فأقام على زواجها شاهدي زور ، فقضى القاضي ـ دون أن يعلم بزور الشهود ـ بالنكاح

٢٧٠

بينهما ، وهما يعلمان أنه لا نكاح بينهما ، حلّ للرجل ووطؤها ، وحلّ لها التمكين. ومثله لو قضى بالطلاق فرق بينهما عنده ، وإن كان الرجل منكرا. ويقاس عليه البيع ونحوه.

من أكاذيب اليهود :

(وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتابِ وَما هُوَ مِنَ الْكِتابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (٧٨))

المفردات اللغوية :

(يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ) من اللّي وهو الفتل والعطف ، أي يفتلون ألسنتهم ويميلونها ويعطفونها عن الكلام المنزل إلى المحرّف والمبدل كإثبات النبوة الحقيقية لعيسى عليه‌السلام ، بدلا من المعنى المجازي الوارد على لسان عيسى ، وكتحريف صفة نبي آخر الزمان. (لِتَحْسَبُوهُ) أي المحرف (مِنَ الْكِتابِ) الذي أنزله الله. (وَهُمْ يَعْلَمُونَ) أنهم كاذبون.

سبب النزول :

عن ابن عباس : قال عن هذه الفئة الثالثة من أهل الكتاب الذين افتروا على الله ما لم يقله: هم اليهود الذين قدموا على كعب بن الأشرف ـ وكان من ألدّ أعداء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ غيّروا التوراة ، وكتبوا كتابا بدلوا فيه صفة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم أخذت قريظة ما كتبوه ، فخلطوه بالكتاب الذي عندهم (١).

__________________

(١) الكشاف : ١ / ٣٣١

٢٧١

التفسير والبيان :

إن من أهل الكتاب جماعة من أحبارهم وعلمائهم وزعمائهم ، وهم كعب بن الأشرف ، ومالك بن الصيف ، وحييّ بن أخطب وغيرهم ، يفتلون ألسنتهم بقراءة كتابهم المنزل عن الصحيح إلى المحرّف ، بالزيادة في كلام الله أو النقص أو تغيير المعنى ، أو قراءته بنغمة توهم الناس أنه من التوراة ، وتجعلهم يظنون أن ذلك المحرّف من كلام الله ، وما هو من عند الله ، فهم كاذبون فيما يقولون ، فإنهم يدعون أنه من عند الله ، وهذا تأكيد لقوله : (هُوَ مِنَ الْكِتابِ).

فهم لم يكتفوا بالتعريض ولكنهم يصرحون بنسبة الكلام إلى الله كذبا ، لفرط جرأتهم على الله وقساوة قلوبهم ، ويأسهم من الآخرة. وبناء عليه سجّل الله تعالى عليهم صفة الكذب الدائمة الملازمة لهم وهي افتراء الكذب على الله عمدا ، لا خطأ ؛ لأنهم يعلمون تمام العلم أنه كذب وافتراء محض ، فهذه الجملة تنعى عليهم قبيح ما يرتكبون من الكذب.

من أمثلة ليّ لسانهم : أنهم كانوا إذا سلّموا على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أخفوا لام «السلام» وقالوا : «السام عليكم» والسام هو الموت. ومن الأمثلة قولهم : (راعِنا) من الرعونة والحمق ، لا من الرعاية ، كما جاء في آية : (مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَيَقُولُونَ : سَمِعْنا وَعَصَيْنا ، وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ ، وَراعِنا ، لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ ، وَطَعْناً فِي الدِّينِ ، وَلَوْ أَنَّهُمْ قالُوا : سَمِعْنا وَأَطَعْنا ، وَاسْمَعْ وَانْظُرْنا ، لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَقْوَمَ) [النساء ٤ / ٤٦].

التحريف والتبديل : هذا وقد ورد في القرآن الكريم آيات كثيرة في تحريف التوراة والإنجيل ، منها هذه الآية ، وآية النساء المتقدمة ، وآية البقرة : (ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ ، وَهُمْ يَعْلَمُونَ) [البقرة ٢ / ٧٥] وآية المائدة : (يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ

٢٧٢

الْكِتابِ) [المائدة ٥ / ١٥] والآية الأخرى في المائدة : (يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ) [المائدة ٥ / ١٣] وآيات الإسراء : (وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ) إلى قوله: (وَلِيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا تَتْبِيراً) [الإسراء ١٧ / ٤ ـ ٧] وآية إبراهيم : (أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ ... فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ) [إبراهيم ١٤ / ٩] وآية الأنعام : (قُلْ : مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ ، تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها ، وَتُخْفُونَ كَثِيراً) [الأنعام ٦ / ٩١].

فقه الحياة أو الأحكام :

أثبتت الآية صفتين شنيعتين لليهود والنصارى وهما تحريف التوراة والإنجيل ، وتأويلهما ، ووضع كتب يكتبونها من عند أنفسهم ، والكذب والافتراء على الله. وهاتان الصفتان يصدر عنهما عادة أسوأ الأفعال وأخس المؤامرات ، وأخطر أنواع التضليل والتدليس والخداع الذي يمارسونه في حق البشرية.

افتراء أهل الكتاب على الأنبياء

(ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللهِ وَلكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ وَبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (٧٩) وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (٨٠))

٢٧٣

الإعراب :

(وَلا يَأْمُرَكُمْ) على قراءة النصب معطوف على (أَنْ يُؤْتِيَهُ) أو على (ثُمَّ يَقُولَ) وضميره وهو «كم» للبشر. وعلى قراءة الرفع على الاستئناف والاقتطاع مما قبله ، وتكون (لا) بمعنى «ليس» والضمير المرفوع في (يَأْمُرَكُمْ) لله تعالى.

البلاغة :

يوجد طباق بين لفظ (بِالْكُفْرِ) و (مُسْلِمُونَ).

(لا يَأْمُرَكُمْ) الهمزة للاستفهام الإنكاري أي لا ينبغي له.

المفردات اللغوية :

(لِبَشَرٍ) إنسان ذكرا أو أنثى ، واحدا أو جمعا. (وَالْحُكْمَ) الحكمة وهي فقه الشريعة وفهم القرآن ، وذلك يوجب العمل به. (عِباداً) مفرده عبد بمعنى عابد. (رَبَّانِيِّينَ) واحده رباني : منسوب إلى الرب ؛ لأنه عالم به مواظب على طاعته ، مثل : رجل إلهي. فالمراد بالربانيين : هم العلماء الفقهاء العاملون المنسوبون إلى الرب. قال محمد بن الحنفية حين مات ابن عباس : «اليوم مات ربانيّ هذه الأمة». (تَدْرُسُونَ) تقرؤون الكتاب.

سبب النزول :

أخرج ابن إسحاق والبيهقي عن ابن عباس قال : قال أبو رافع القرظي حين اجتمعت الأحبار من اليهود والنصارى من أهل نجران عند رسول الله ، ودعاهم إلى الإسلام : أتريد يا محمد أن نعبدك كما تعبد النصارى عيسى؟ قال : معاذ الله ، فأنزل الله في ذلك : (ما كانَ لِبَشَرٍ) إلى قوله : (بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ).

وأخرج عبد الرزاق في تفسيره عن الحسن البصري قال : بلغني أن رجلا قال : يا رسول الله ، نسلّم عليك ، كما يسلم بعضنا على بعض ، أفلا نسجد لك؟ قال : لا ، ولكن أكرموا نبيكم ، واعرفوا الحق لأهله ، فإنه لا ينبغي أن يسجد لأحد من دون الله ، فأنزل الله : (ما كانَ لِبَشَرٍ) إلى قوله : (بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ).

٢٧٤

والغرض من الآية تكذيب أهل الكتاب الذين يعظمون عيسى والعزير تعظيم عبادة.

التفسير والبيان :

لا ينبغي لبشر ينزل الله عليه الكتاب ، ويعلمه الحكمة : فقه الدين ومعرفة أسرار الشرع ، ويؤتيه النبوة والرسالة ، ثم يقول بعد هذا للناس : اعبدوني من دون الله أي متجاوزين ما يجب من إفراد العبادة لله تعالى ، فهذا هو الشرك بعينه ، وإنما يجب إخلاص العبادة لله وحده ، كما قال : (قُلِ : اللهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي) [الزمر ٣٩ / ١٤].

وروى مسلم وغيره حديثا قدسيا عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «أنا أغنى الشركاء عن الشرك ، من عمل عملا أشرك فيه غيري ، تركته وشركه» وفي رواية : «فأنا منه بريء ، هو للذي عمله». وروى أحمد عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذا جمع الله الناس يوم القيامة نادى مناد : من أشرك في عمل عمله لله أحدا ، فليطلب ثوابه من عند غير الله ، فإن الله أغنى الشركاء عن الشرك».

ولكن يقول الرسول للناس : كونوا ربانيين أي علماء فقهاء عاملين بما أمر الله ، مطيعين له طاعة تامة ؛ لأن العلم الصحيح هو الذي يبعث على العمل ، وإن تعلم الكتاب الإلهي ودراسته يوجب الطاعة ، ويحقق وصف الرباني. ولا يعقل أن يأمر الرسول باتخاذ إله أو رب غير الله ، أو بعبادة أحد غير الله ، لا نبي مرسل ولا ملك مقرّب. وقد كان مشركو العرب يعبدون الملائكة ، وحكى القرآن : (وَقالَتِ الْيَهُودُ : عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ ، وَقالَتِ النَّصارى : الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ) [التوبة ٩ / ٣٠]. وهذا كله مخالف لرسالات الأنبياء التي تأمر بعبادة الله وحده.

أيأمركم هذا النبي بالكفر بعد الإسلام ، وهذه شهادة لهم بأنهم مسلمون ، أي لا يفعل ذلك إلا من دعا إلى عبادة غير الله ، ومن دعا إلى عبادة غير الله فقد دعا

٢٧٥

إلى الكفر ، والأنبياء إنما يأمرون بالإيمان وهو عبادة الله وحده لا شريك له ، كما قال تعالى : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ) [الأنبياء ٢١ / ٢٥] وقال تعالى : (وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ) [النحل ١٦ / ٣٦] وقال : (وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا ، أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ) [الزخرف ٤٣ / ٤٥] وقال إخبارا عن الملائكة : (وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ : إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ ، فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ ، كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ) [الأنبياء ٢١ / ٢٩].

فقه الحياة أو الأحكام :

من المستبعد أن يأتمن الله تعالى رسولا أو نبيا على وحيه ، ثم يدعو الناس إلى عبادة نفسه ، فإن الأمين يقوم عادة بما كلفه به المؤتمن له. وإنما تكون دعوة الأنبياء موجّهة نحو عبادة الله وحده لا شريك له ، والعبادة تتطلب الإخلاص ، قال تعالى : (قُلِ : اللهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي) [الزمر ٣٩ / ١٤] وقال : (وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ) [البينة ٩٨ / ٥].

ودلّت الآية على أن العلم الصحيح والفقه وفهم أسرار الشريعة يستدعي العمل والطاعة والتزام التكاليف الشرعية ؛ لأن من عرف الله هابه ، ومن هابه امتثل أمره ، ومن آتاه الله الكتاب والحكم والنبوة يكون أعلم الناس بالله.

فمن تعلم علوم الشريعة وترك العمل بها فهو ساقط الاعتبار أمام الله ، وكان علمه وبالا عليه ، وحجة على ضلاله وهلاكه وفساده.

والتقرب إلى الله لا يكون إلا بالعمل بالعلم ، والعلم الذي لا يبعث على العمل لا يعدّ علما صحيحا. والكفر يتنافى مع الإسلام ، والإسلام دين الفطرة ، وهو في عرف القرآن : دين جميع الأنبياء.

٢٧٦

ميثاق الأنبياء بتصديق بعضهم بعضا وأمرهم بالإيمان

(وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي قالُوا أَقْرَرْنا قالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (٨١) فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (٨٢) أَفَغَيْرَ دِينِ اللهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (٨٣))

الإعراب :

(لَما) : من قرأ بكسر اللام علقها بأخذ ، وما بمعنى الذي. ومن فتح اللام جعلها لام الابتداء ، وهي جواب لما دل عليه الكلام من معنى القسم ؛ لأن أخذ الميثاق إنما يكون بالأيمان والعهود ، ويجوز حينئذ أن تكون «ما» بمعنى الذي أو شرطيه ، فإذا كانت بمعنى «الذي» كانت مرفوعة مبتدأ ، و (آتَيْتُكُمْ) : صلته ، والعائد محذوف تقديره : آتيتكموه ، وخبر المبتدأ : (مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ) ، و (مِنْ) : زائدة ، وقوله : (ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ) معطوف على الصلة ، وعائده محذوف تقديره : ثم جاءكم رسول به.

وإذا كانت شرطية فهي في موضع نصب بآتيتكم ، و (آتَيْتُكُمْ) في موضع جزم بما ، وكذا (ثُمَّ جاءَكُمْ). وقوله : (لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ) جواب قسم مقدر ينوب عن جواب الشرط ، وحينئذ لا تحتاج الجملة إلى عائد ، ولهذا كان هذا الوجه أوجه عند كثير من المحققين ، لعدم العائد في الجملة المعطوفة إذا كانت شرطية.

(طَوْعاً وَكَرْهاً) منصوبان على المصدر في موضع الحال ، أي طائعين ومكرهين.

البلاغة :

(لَما آتَيْتُكُمْ) التفات من الغيبة في قوله : (النَّبِيِّينَ) إلى الحاضر.

٢٧٧

ويوجد جناس اشتقاق بين لفظ (فَاشْهَدُوا) و (الشَّاهِدِينَ).

ويوجد طباق بين (طَوْعاً) و (كَرْهاً).

المفردات اللغوية :

(وَإِذْ أَخَذَ اللهُ) اذكر حين قبل الله (مِيثاقَ) الميثاق : العهد المؤكد الموثّق : وهو أن يلتزم المعاهد شيئا ويؤكد ذلك بيمين أو بمؤكدات أخرى من ألفاظ العهود. (أَأَقْرَرْتُمْ) أقرّ بالشيء : أخبر بما يلزمه أو بما يدل على ثبوته ، مأخوذ من : قرّ الشيء : إذا ثبت في مكانه. (وَأَخَذْتُمْ) قبلتم. (إِصْرِي) عهدي ، الإصر : العهد المؤكد الذي يحمل صاحبه على الوفاء بما التزمه.

(تَوَلَّى) أعرض. (بَعْدَ ذلِكَ) الميثاق. (الْفاسِقُونَ) الخارجون عن الطاعة وحدود الله.

(أَفَغَيْرَ دِينِ اللهِ يَبْغُونَ) الهمزة للإنكار أي : أيتولون غير دين الله؟ وقدم المفعول الذي هو (فَغَيْرَ دِينِ اللهِ) على فعله ؛ لأنه أهم من حيث إن الإنكار متجه إلى المعبود بالباطل. (وَلَهُ أَسْلَمَ) انقاد. (طَوْعاً) اختيارا بلا إباء. (وَكَرْهاً) بالسيف بمعاينة ما يلجئ إليه.

المناسبة :

الآيات السابقة من أول السورة إلى هنا ، وعلى التخصيص المتضمنة خيانة أهل الكتاب بتحريفهم كلام الله ، وتغييرهم أوصاف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الموجودة في كتبهم ، قصد بها حملهم على الإيمان برسالة النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإثبات نبوته ، وتؤكد هذه الآية القصد المذكور من طريق إقامة الحجة عليهم : وهو أن الله تعالى أخذ الميثاق على جميع الأنبياء من لدن آدم إلى عيسى عليهم‌السلام أن يؤمن كل واحد بمن يأتي بعده ، ويصدق برسالته ، وينصره في مهمته ، ولا يمنعه ما هو فيه من العلم والنبوة من اتباع المبعوث بعده ونصرته.

فإذا كان هذا هو ميثاق الأنبياء ، فالواجب على أتباعهم الإيمان بكل المرسلين والتصديق بما معهم ؛ لأن رسالتهم واحدة ، وهي رسالة الإسلام بالمعنى العام وبالمعنى الخاص الذي هو رسالة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم : وهو الخضوع والانقياد لأوامر الله ،

٢٧٨

وإعلان مبدأ التوحيد ، والتمسك بأصول الفضائل والأخلاق ، وهو الدين الحق الذي لا يقبل الله سواه.

التفسير والبيان :

اذكر يا محمد لهم وقت أن قبل الله الميثاق المأخوذ على جميع الأنبياء أنهم مهما آتيناهم من كتاب وحكم ونبوة ، ثم جاءهم رسول مصدق وموافق لما معهم ، وهو خاتم الأنبياء والمرسلين : محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لتؤمنن به ولتنصرنه ؛ لأن رسالات الأنبياء يكمل بعضها بعضا ، والقصد من إرسالهم واحد ، فهم متفقون في الأصول ، وأما اختلافهم في الفروع فهو لخير الإنسان ومصلحته ، ولمناسبته مع تقدم وتطور الحياة الإنسانية.

فإن تعاصر نبيان مثلا في أمة واحدة مثل موسى وهرون عليهما‌السلام ، كانا متفقين في كل شيء ؛ وإن اختلفت أقوامهما فالمتأخر يؤمن بدعوة المتقدم وبالعكس ، كما آمن لوط بما جاء به إبراهيمعليهما‌السلام وأيده في دعوته ، وإن تعاقبا مثل موسى وعيسى عليهما‌السلام صدق كل منهما بدعوة الآخر. وهكذا بعثة خاتم النبيين يجب على أتباع الأنبياء السابقين الإيمان بها وتأييدها. فليس الدين مصدر شقاق واختلاف ، وسبب عداوة وبغضاء ، كما فعل أهل الكتاب حين عادوا النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وإنما هو سبب تجمع واتحاد ، وسبيل حب ووداد ، وطريق إنقاذ وإسعاد.

ثم قال الله تعالى لمن أخذ عليهم الميثاق من النبيين : أأقررتم وقبلتم ذلك الإيمان والعهد بالرسول المصدق لما معكم ، ونصرته وتأييده ، أقبلتم عهدي وميثاقي المؤكد؟!

قالوا : أقررنا واعترفنا بذلك ، فقال تعالى : فليشهد بعضكم على بعض ، وأنا معكم شاهد عليكم وعلى إقراركم ، أعلم بكل شيء عنكم ، لا يفوتني شيء. روى

٢٧٩

الشيخان عن أنس بن مالك أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «يقال للرجل من أهل النار يوم القيامة : أرأيت لو كان لك ما على الأرض من شيء أكنت مفتديا به؟ قال : فيقول : نعم ، فيقول الله : قد أردت منك أهون من ذلك ، قد أخذت عليك في ظهر أبيك آدم أن لا تشرك بي شيئا فأبيت إلا أن تشرك».

هذه المحاورة على طريق التمثيل توكيد عليهم وتحذير من الرجوع عن الإقرار إذا عملوا بشهادة الله ، وشهادة بعضهم على بعض.

فمن تولى بعد ذلك الميثاق والتوكيد ، واتخذ الدين أداة للتفريق والعداء ، ولم يؤمن بالنبي المبعوث في آخر الزمان ، المصدّق لمن تقدمه ، المهيمن على الرسالات والكتب السابقة ، كما حصل من أهل الكتاب المعاصرين للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأولئك هم المتمردون من الكفار ، الخارجون عن عهد الله وميثاقه ، الناقضون العهد.

وإذا كان الدين واحدا ، وأن الرسل متفقون في الأصول العامة لوحدة الدين الحق ، كما بيّن تعالى ، فلما ذا ينكر أهل الكتاب نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟!

أيتولون غير دين الله ، وغير الحق بعد ما تبين ، ويريدون غير الإسلام دينا؟ وقد أسلم وخضع لله تعالى وانقاد لحكمه ومراده أهل السموات والأرض ، إما طوعا واختيارا من أنفسهم بالإنصاف والنظر في الأدلة ، أو كرها بالسيف أو بمعاينة ما يلجئ إلى الإسلام كنتق الجبل على بني إسرائيل ، وإدراك الغرق فرعون والإشراف على الموت ، فلما رأوا بأس الله وتصرفه بالكون والتكوين والإيجاد قالوا : آمنا بالله وحده ، وإلى الله المرجع والمآب يوم المعاد ، يرجع إليه سائر الخلق ، فيجازي كلّا بعمله ، سواء من أسلم وخضع وانقاد لله ، ومن اتخذ غير الإسلام دينا من اليهود والنصارى ، وهذا تهديد ووعيد لهم.

٢٨٠