التفسير المنير - ج ٣

الدكتور وهبة الزحيلي

فقه الحياة أو الأحكام :

أخذ الله تعالى ميثاق الأنبياء أن يصدق بعضهم بعضا ، ويأمر بعضهم بعضا ، فذلك معنى النصرة بالتصديق ، ومن بنود الميثاق : أن يؤمنوا بمحمد عليه الصلاة والسلام وينصروه إن أدركوه ، وأمرهم أن يأخذوا بذلك الميثاق على أممهم.

ثم جاءهم الرسول محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فما عليهم إلا أن يؤمنوا برسالته ويؤيدوا دعوته ، تنفيذا للميثاق العظيم على الأنبياء ، إن كانوا من أتباعهم ، ووفاء بالعهد المؤكد ، ولأنه مصدّق لرسالات الأنبياء السابقين ؛ لأن أخذ الميثاق في معنى الاستحلاف ، وهم قد شهدوا على بعضهم بموجب الميثاق وشهد الله عليهم جميعا به.

ومن لم يؤت الكتاب فهو في حكم من أوتي الكتاب.

ومن أعرض عن اتباع رسالة الإسلام التي جاء بها محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وتولى من أمم الأنبياء أو من غير أممهم عن الإيمان بوحدانية الله وبصدق رسالة خاتم الأنبياء ، بعد أخذ الميثاق ، فأولئك هم الخارجون عن دائرة الإيمان ، المصنّفون مع الكفار المتمردين عن طاعة الله.

أهم يطلبون غير دين الله؟! وقد خضع لحكمه أهل السموات والأرض ، وكل مخلوق هو منقاد مستسلم ؛ لأنه مجبول على ما لا يقدر أن يخرج عنه.

قال الكلبي : إن كعب بن الأشرف وأصحابه اختصموا مع النصارى إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالوا : أيّنا أحق بدين إبراهيم؟ فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كلا الفريقين بريء من دينه» فقالوا : ما نرضى بقضائك ولا نأخذ بدينك ، فنزل : (أَفَغَيْرَ دِينِ اللهِ يَبْغُونَ) يعني : يطلبون.

٢٨١

وهذه الآية نظير قوله تعالى : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ ، لَيَقُولُنَّ اللهُ) [الزخرف ٤٣ / ٨٧] وقوله : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ ، وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ ، لَيَقُولُنَّ اللهُ) [لقمان ٣١ / ٢٥].

عن مجاهد عن ابن عباس قال : إذا استصعبت دابّة أحدكم أو كانت شموسا (١) ، فليقرأ في أذنها هذه الآية : (أَفَغَيْرَ دِينِ اللهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً ، وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ).

والخلاصة : إن الدين الحق هو الانقياد لله والإخلاص له ، وإن دين الله واحد ، وإن رسالات الأنبياء ومللهم واحدة في أصولها العامة ، وإن الأنبياء يكمل بعضهم بعضا وينصر بعضهم بعضا ويؤيد دعوته ، وهم جميعا عبيد لله مؤمنون بوحدانيته ، مذعنون لوجهه الكريم ، مخلصون له الدين حنفاء ، وقد أدّوا رسالتهم على الوجه الأكمل ، وما على البشرية إلا التزام منهجهم ، والسير على سنتهم ، دون اختلاف ولا نزاع ولا معاداة ، ولا تمسك بالموروثات ، وبما عندهم من كتاب وحكمة ، فقد انصبّت كل الأديان في الإسلام في صورته الأخيرة ، وانصهرت كل الأحكام في حكم رسالة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكان القرآن مصدّقا لما بين يديه وما تقدمه من الكتب السماوية ومهيمنا عليها ، ودين الله الواحد : هو عبادة الله وحده لا شريك له الذي أسلم له من في السموات والأرض ، أي استسلم له من فيهما طائعين أو كارهين ، كما قال تعالى : (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً) [الرعد ١٣ / ١٥] وقال : (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى ما خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ ، عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ ، سُجَّداً لِلَّهِ ، وَهُمْ داخِرُونَ ، وَلِلَّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ ، وَالْمَلائِكَةُ ، وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ ، يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ، وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ) [النحل ١٦ / ٤٨ ـ ٥٠] فالمؤمن مستسلم بقلبه

__________________

(١) الشموس : الدابة النفور التي لا تخضع لأمر صاحبها.

٢٨٢

وقالبه لله ، والكافر مستسلم لله كرها ، بالقهر والسلطان العظيم الذي لا يخالف ولا يمانع.

الإيمان بكل الأنبياء وقبول دين الإسلام

(قُلْ آمَنَّا بِاللهِ وَما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَما أُنْزِلَ عَلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (٨٤) وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ (٨٥))

الإعراب :

(قُلْ : آمَنَّا بِاللهِ) فيه وجهان : أحدهما ـ على تقدير محذوف : قل : قولوا : آمنا بالله ، وحذف القول كثير في القرآن وكلام العرب. الثاني ـ أن يكون المقصود من خطاب النبي عليه الصلاة والسلام خطاب أمته ، مثل : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ) ومثل : (فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ) الخطاب للنبي عليه الصلاة والسلام والمراد به الأمة.

(دِيناً) منصوب إما لأنه مفعول (يَبْتَغِ) ، ويكون (غَيْرَ) حالا منصوبا ، تقديره: ومن يبتغ دينا غير الإسلام ، فلما قدم صفة النكرة عليها انتصبت على الحال ، أو لأنه منصوب على التمييز.

(وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ ..) متعلق بفعل مقدر تقديره : وهو خاسر في الآخرة ، من الخاسرين ، ولا يجوز أن يتعلق بالخاسرين لأن الألف واللام فيه بمنزلة الاسم الموصول ، فلو تعلّق به لأدى إلى أن يتقدم معمول الصلة على الموصول ، وهو لا يجوز.

البلاغة :

(وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَالنَّبِيُّونَ) هو من عطف العام على الخاص.

٢٨٣

المفردات اللغوية :

(وَما أُنْزِلَ عَلَيْنا) يعني القرآن. (وَالْأَسْباطِ) الأحفاد وهم أولاد يعقوب الاثنا عشر وأبناؤهم ، وخصهم بالذكر ؛ لأن أهل الكتاب يقرّون بنبوتهم. (لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ) بالتصديق والتكذيب. (مُسْلِمُونَ) موحدون مخلصون له عبادتنا ، ومستسلمون مطيعون له.

(غَيْرَ الْإِسْلامِ) يعني التوحيد وإسلام الوجه لله تعالى ، ويمكن أن يراد به شريعة نبيناصلى‌الله‌عليه‌وسلم. (مِنَ الْخاسِرِينَ) أريد به تضييع رصيد الفطرة وهو الانقياد لله وطاعته.

سبب النزول ، نزول الآية (٨٥):

قال مجاهد والسدّي : نزلت هذه الآية في الحارث بن سويد أخو الحلاس بن سويد ، وكان من الأنصار ، ارتد عن الإسلام هو واثنا عشر معه ، ولحقوا بمكة كفارا ، فنزلت هذه الآية ، ثم أرسل إلى أخيه يطلب التوبة. قال ابن عباس : وأسلم بعد نزول الآيات.

المناسبة :

ذكر فيما سبق ميثاق النبيين أن يؤمنوا بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وينصروه ، وهنا أمر لمحمد وأمته أن يؤمنوا بجميع الأنبياء المتقدمين وبكتبهم وبالإسلام الذي هو دين الأنبياء قاطبة.

التفسير والبيان :

قل يا محمد : آمنت وأمتي بوجود الله ووحدانيته وسلطانه. فهذا أمر لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن يخبر عن نفسه وعن أمته بالإيمان ، فلذلك وحّد الضمير في (قُلْ) وجمع في (آمَنَّا) ، ويجوز أن يؤمر بأن يتكلم عن نفسه كما يتكلم الملوك إجلالا من الله لقدر نبيه ، كما ذكر الزمخشري.

وآمنا بما أنزل علينا وهو القرآن ، وصدقنا بما أنزل الله من وحي على إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب وذريته الأسباط ، فجوهر المنزّل واحد ، كما قال

٢٨٤

تعالى : (إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ) [النساء ٤ / ١٦٣].

وصدّقنا بما أوتي موسى من التوراة وعيسى من الإنجيل وسائر المعجزات. وخص هذان النبيان بالذكر ، تبيانا لأتباعهم وهم اليهود والنصارى بأن الإيمان عام في منهج القرآن.

وكذلك صدقنا بما أوتي بقية النبيين من رسالات كداود وسليمان وصالح وهود وأيوب وغيرهم ممن لم نعلم قصصهم.

وقدم الإيمان بالله على الإيمان بالكتب ؛ لأنه المصدر والأساس ، وقدم المنزل علينا وهو القرآن ، مع أنه متأخر عن نزول الكتب الأخرى ؛ لأنه طريق المعرفة بما سبق ، ولأنه المهيمن على سائر الكتب السماوية ، ولأنه الكتاب الإلهي إلى الأبد ، وأما غيره فاندثر وضاع ، ثم بدّل وغيّر.

والأمر بالإيمان بالله وبأنبيائه أمر شامل عام ، لا يختلف فيه أهل ملة عن غيرهم ، ولا تفرقة فيه بين الأنبياء تصديقا وكفرا ، فلسنا في ذلك كاليهود والنصارى نؤمن ببعض ونكفر ببعض ، بل نؤمن بالكل على أن كل نبي مرسل من قبل الله تعالى ، ونحن له مستسلمون منقادون له بالطاعة.

وبعد الأمر بالإيمان جاء الأمر بالإسلام ؛ لأن الإيمان بوجود الله وهو التصديق به هو الأصل ، وعنه يصدر العمل الصالح ، وأما الإسلام فهو توحيد الله وإخلاص العبادة له والانقياد لشرعه ومنهجه ، وهو يأتي تبعا لأصل الاعتقاد.

ومن يطلب غير الإسلام (وهو التوحيد وإسلام الوجه لله تعالى) دينا ، فلن يقبل منه قطعا ، وهو من الذين وقعوا في الخسران مطلقا ؛ لأنه سلك طريقا سوى ما شرعه الله ، وأضاع ما جبلت عليه الفطرة السليمة من توحيد الله

٢٨٥

والانقياد لأوامره ، كما قال تعالى : (قُلْ : إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ ، أَلا ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ) [الزمر ٣٩ / ١٥] ، وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الحديث الصحيح الذي رواه أحمد ومسلم عن عائشة : «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو ردّ» وقال أيضا فيما رواه أبو يعلى والطبراني والبيهقي عن الأسود بن سريع : «كل مولود يولد على الفطرة ، فأبواه يهودانه أو ينصرانه ، أو يمجّسانه».

فقه الحياة أو الأحكام :

إن خلود شريعة الإسلام نابع من شيئين : أولهما ـ الإيمان الشامل المطلق بكل الأنبياء وبكتبهم ورسالاتهم ، دون تفرقة بين أحد منهم ، فالمؤمنون من هذه الأمة يؤمنون بكل نبي أرسل ، وبكل كتاب أنزل ، لا يكفرون بشيء من ذلك ، بل هم يصدقون بما أنزل من عند الله ، وبكل نبي بعثه الله.

وثانيهما ـ الإيمان بوجود الله ووحدانيته ، والانقياد لطاعته ، والتزام منهجه وشرعه ، وهو شرع الأنبياء ، ودين الرسل الذي ارتضاه لعباده ، وجعله أساس الاحتكام إليه ، وطريق النجاة به يوم المعاد ، فمن سلك طريقا آخر سوى ما شرعه الله ، فلن يقبل منه قطعا في الآخرة ، وكان من الذين خسروا أنفسهم ، وأضاعوا حياتهم في غير المفيد لهم.

أنواع الكفار من حيث التوبة

(كَيْفَ يَهْدِي اللهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٨٦) أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (٨٧) خالِدِينَ فِيها لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (٨٨) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ

٢٨٦

ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٨٩) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ (٩٠) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدى بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٩١))

الإعراب :

(أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللهِ) : (أُولئِكَ) : مبتدأ ، و (جَزاؤُهُمْ) : مبتدأ ثان ، و (أَنَّ عَلَيْهِمْ) : خبر المبتدأ الثاني ، والجملة منهما خبر المبتدأ الأول. ويجوز أن يكون (جَزاؤُهُمْ) بدلا من (أُولئِكَ) بدل اشتمال ، و (أَنَّ عَلَيْهِمْ) خبر (أُولئِكَ). (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا) استثناء متصل.

(خالِدِينَ فِيها) حال من ضمير (عَلَيْهِمْ) و (لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ) حال أخرى ، ويجوز أن يكون مستأنفا منقطعا عن الأول.

(وَهُمْ كُفَّارٌ) جملة اسمية في موضع نصب على الحال من ضمير (ماتُوا). (ذَهَباً) تمييز. (وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ ما) : نافية ، و (مِنْ) : زائدة ، و (ناصِرِينَ) : مبتدأ ، و (لَهُمْ) : خبره ، والجملة الاسمية حال من ضمير (لَهُمْ) الأول. ودخلت الفاء في خبر إن (فَلَنْ يُقْبَلَ) لشبه الذين بالشرط ، وإيذانا بتسبب الكفر لعدم القبول.

البلاغة :

(أَلِيمٌ) مؤلم ، وهو صيغة فعيل للمبالغة.

المفردات اللغوية :

(كَيْفَ يَهْدِي) أي لا يهدي. (الْبَيِّناتُ) الحجج الظاهرات على صدق النبي. (الظَّالِمِينَ) أي الكافرين ، والظلم : الانحراف عن سبيل الحق والعدل. (لَعْنَةَ اللهِ) اللعن : الطرد والإبعاد من رحمة الله. (خالِدِينَ فِيها) أي اللعنة أو النار المدلول بها عليها. (يُنْظَرُونَ) يمهلون ويؤخرون.

٢٨٧

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) بعيسى (بَعْدَ إِيمانِهِمْ) بموسى (ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً) بمحمد (لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ) إذا غرغروا أو ماتوا كفارا. (مِلْءُ الْأَرْضِ) مقدار ما يملؤها. (أَلِيمٌ) مؤلم. (ناصِرِينَ) مانعين منه.

سبب النزول : نزول الآية (٨٦):

روى النسائي وابن حبان والحاكم عن ابن عباس قال : كان رجل من الأنصار أسلم ، ثم ارتد ، ثم ندم ، فأرسل إلى قومه : أرسلوا إلى رسول الله : هل لي من توبة؟ فنزلت : (كَيْفَ يَهْدِي اللهُ قَوْماً كَفَرُوا) إلى قوله : (فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) فأرسل إليه قومه ، فأسلم.

وأخرج مسدّد في مسنده وعبد الرزاق عن مجاهد قال : جاء الحارث بن سويد فأسلم مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم كفر ، فرجع إلى قومه ، فأنزل الله فيه القرآن : (كَيْفَ يَهْدِي اللهُ قَوْماً كَفَرُوا) إلى قوله : (غَفُورٌ رَحِيمٌ) فحملها إليه رجل من قومه ، فقرأها عليها ، فقال الحارث : «إنك والله ما علمت لصدوق ، وإن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأصدق منك ، وإن الله لأصدق الثلاثة» فرجع وأسلم وحسن إسلامه.

وقال الحسن البصري وقتادة : نزلت في اليهود ؛ لأنهم كانوا يبشّرون بالنبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ويستفتحون على الذين كفروا ، فلما بعث عاندوا وكفروا ، فأنزل الله عزوجل : (أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللهِ ، وَالْمَلائِكَةِ ، وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) أخرجه عبد بن حميد وغيره (١).

أي أن هذه الآية نزلت في أهل الكتاب من اليهود والنصارى ، رأوا نعت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في كتابهم ، وأقروا بذلك ، وشهدوا أنه حق ، ولذا كانوا يستفتحون به

__________________

(١) البحر المحيط : ٢ / ٥١٩

٢٨٨

على المشركين ، فلما بعث من غيرهم حسدوا العرب على ذلك ، وأنكروه ، وكفروا به بعد إيمان سابق.

وأرى أنه لا مانع من تعدد أسباب النزول ، وإن كانت القرائن ترجح أن الآية نزلت في أهل الكتاب ـ ومثلهم المشركون ـ ؛ لأن الآيات السابقة تدور حول محاورتهم ومناقشتهم واستئصال جذور الشرك من نفوسهم.

وهذا ما رجحه أيضا ابن جرير الطبري ، وأيده في (تفسير المنار).

مجمل بيان الآيات : هذه الآيات جعلت الكفار أصنافا ثلاثة :

١ ـ الذين تابوا توبة صادقة ، وهم الذين أشارت إليهم الآية : (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا).

٢ ـ الذين تابوا توبة غير صحيحة ، وهم المذكورون في قوله : (لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ).

٣ ـ الذين لم يتوبوا أصلا وماتوا على الكفر ، وهم الموصوفون بقوله : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا ، وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ).

التفسير والبيان :

كيف يهدي الله قوما كاليهود والنصارى الذين كفروا بعد إيمانهم وشهادتهم أن الرسول حق ، وأرشدتهم الآيات الواضحات من القرآن والكتب السابقة وسائر المعجزات الدالة على صدق نبوته وصحة رسالته؟!

هذا استبعاد لهداية هؤلاء وتيئيس للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم منهم ، كما قال البيضاوي. فمن سنن الله تعالى في هداية البشر إلى الحق أن يقيم لهم الدلائل والبينات ، مع إزالة الموانع من النظر فيها على النحو المؤدي إلى المطلوب ، وقد مكنهم الله من هذا كله ، وآمنوا به ثم كفروا.

٢٨٩

والله لا يهدي أولئك الظالمين لأنفسهم ؛ لأنهم عرفوا الحق وحادوا عنه ، وتركوا دلائل النبوة ، وهداية العقل.

فجزاؤهم استحقاق غضب الله وسخطه والطرد من رحمته ، وسخط الملائكة والناس ، وصبّ اللعنات عليهم ، والدعاء عليهم بالطرد من رحمة الله في الدنيا ، وكذا في الآخرة ، كما قال تعالى : (وَقالَ : إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ، ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ ، وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً) [العنكبوت ٢٩ / ٢٥].

وهم خالدون أبدا في اللعنة أو في النار ؛ لأن مستحق اللعنة جزاؤه النار ، ولا يخفف عنهم العذاب ساعة واحدة ، ولا يؤجلون لعذر يعتذرون به.

ثم استثنى الله تعالى التائبين ، فمن تاب من هؤلاء عن ذنبه ، وترك الكفر ، ورجع إلى الله ، وأصلح قلبه وعمله ، وندم على ما فعل ، فإن الله غفور لما تقدّم منه ، رحيم بعباده كما قال : (وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ ، وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ ، وَيَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ) [الشورى ٤٢ / ٢٥]. هذا هو الصنف الأول من الكفار وهم التائبون.

وأما الصنف الثاني فهم أهل الكتاب الذين آمنوا بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وشهدوا قبل بعثته أنه حق ، ثم كفروا به بعد البعث ، ثم ازدادوا كفرا بالإصرار والعناد ، ومقاومة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ومحاربة المؤمنين ، فهؤلاء لن تقبل توبتهم ما داموا على الكفر ، ثم ماتوا وهم كفار ، وأولئك هم الواقعون في الضلال ، المخطئون سبيل الحق والنجاة ، الذين تمكن الكفر في قلوبهم.

والآية تشير إلى أن الكفر يزداد قوة واستقرارا ، وتمكنا في القلب بعمل ما يقتضيه ويقويه وينميه ، من طريق القيام بأعمال تنافي الإيمان ، وتدعم الكفر وأهله. وكذلك الإيمان يزداد وينقص بعمل الصالحات أو بالإنقاص منها ، كما

٢٩٠

قال تعالى في الحالين : (وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً؟ فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ. وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ ، وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ) [التوبة ٩ / ١٢٤ ـ ١٢٥].

والتوبة سبيل التزكية والتطهير والإصلاح ، كما قال تعالى : (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها ، وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها) [الشمس ٩١ / ٩ ـ ١٠] فمن أهمل إصلاح نفسه خسر ، ومن حاول الإصلاح نجح ، فإذا تراكمت المساوئ ، وأهملت تزكية النفس ، وتدنست بالمعاصي الكثيرة ، صعب في العادة الرجوع إلى جادة الاستقامة. وهذا ما أشارت إليه آيات التوبة : (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ، ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ ، فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللهُ عَلَيْهِمْ ، وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً. وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ ، حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ ، قالَ : إِنِّي تُبْتُ الْآنَ ، وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ ، أُولئِكَ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً) [النساء ٤ / ١٧ ـ ١٨].

وأما الصنف الثالث فهم الذين يموتون وهم كفار ، فهؤلاء لن يقبل منهم الفداء ، ولو كان ملء الأرض ذهبا ، ولو افتدى به في الآخرة ، لا يقبل منه ، على افتراض أنه يملكه ، ويريد استخدامه وسيلة النجاة ، ولهم عذاب أليم أي عقاب مؤلم ، وليس لهم ناصر ولا شفيع يمنع عنهم العذاب ، أو يخففه ، كما قال تعالى : (فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ ، وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا ، مَأْواكُمُ النَّارُ ، هِيَ مَوْلاكُمْ ، وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) [الحديد ٥٧ / ١٥].

فقه الحياة أو الأحكام :

صنفت الآيات الكفار إلى أصناف ثلاثة بحسب بقائهم على الكفر وقبولهم الإيمان ، وهو تصنيف صريح واقعي.

فمن كفر بعد إسلامه ، وكان ظالما مقيما على الظلم لا يهديه الله ما دام مقيما

٢٩١

على كفره وظلمه ، ولا يقبل على الإسلام ، وله جزاء شديد هو استحقاق غضب الله وسخطه ، والخلود في نار جهنم ، دون تخفيف لشيء من العذاب ، ولا تأجيل له لمعذرة ما. فأما إذا أسلم هؤلاء وتابوا ، وأصلحوا ما أفسدوا ، فباب المغفرة والرحمة مفتوح لهم. وهذا الباب مفتوح أيضا بالأولى لمن كان مسلما عاصيا ثم تاب وأصلح وأخلص عمله لله.

ولن تقبل التوبة من الكفار الذين كفروا بعد إيمانهم ، وبقوا مقيمين على الكفر ، وسماها الله تعالى توبة غير مقبولة ؛ لأنه لم يصح منهم عزم عليها ، والله عزوجل يقبل التوبة كلها إذا صح العزم وصدقت الإرادة.

كما لا تقبل توبتهم إذا عزموا عليها عند الموت ، كما قال عزوجل : (وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ ، حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ : إِنِّي تُبْتُ الْآنَ) [النساء ٤ / ١٨] ويؤيده قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما رواه أحمد والترمذي وابن ماجه وغيرهم عن ابن عمر : «إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر».

ومن مات كافرا فلن يقبل منه خير أبدا ، ولو كان قد أنفق ملء الأرض ذهبا فيما يراه قربة ، ولن ينفعه بعد موته بديل ولا فداء مهما كثر ، كما قال تعالى : (وَلا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ) [البقرة ٢ / ١٢٣] وقال : (لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ) [البقرة ٢ / ٢٥٤] وقال : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ ، لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذابِ يَوْمِ الْقِيامَةِ ما تُقُبِّلَ مِنْهُمْ ، وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) [المائدة ٥ / ٣٦].

وروى البخاري ومسلم عن أنس بن مالك أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «يجاء بالكافر يوم القيامة ، فيقال له : أرأيت لو كان لك ملء الأرض ذهبا ، أكنت تفتدي به؟ فيقول : نعم ، فيقال له: قد كنت سئلت ما هو أيسر من ذلك» (١).

__________________

(١) هذا لفظ البخاري ، وقال مسلم بدل «قد كنت» : «كذبت ، قد سئلت» وقد تقدم الحديث قريبا في تفسير الآية (٨١).

٢٩٢

وأما عدم جدوى فعل الخير الذي صدر منه في الدنيا ، ففيه حديث آخر وهو أن عبد الله جدعان سئل عنه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكان يقري الضيف ، ويفك العاني (١) ، ويطعم الطعام : هل ينفعه ذلك؟ فقال : «لا ، إنه لم يقل يوما من الدهر : رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين.

نوع النفقة المبرورة وجزاء الإنفاق

(لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ (٩٢))

المفردات اللغوية :

(لَنْ تَنالُوا) لن تصيبوا وتجدوا. (الْبِرَّ) كلمة جامعة لوجوه الخير ، والمراد بها هنا : لن تنالوا ثواب البر وهو الجنة. (تُنْفِقُوا) تصدّقوا. (مِمَّا تُحِبُّونَ) من أموالكم. (فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ) فيجازي عليه.

المناسبة :

ادعى أهل الكتاب في الآيات السابقة الإيمان ، وأن النبوة محصورة فيهم ، وأن النار لن تمسهم إلا أياما معدودات ، وناسب هنا أن يذكّرهم بأن آية الإيمان هو الإنفاق في سبيل الله من أحب الأموال ، مع الإخلاص.

التفسير والبيان :

لن تصلوا إلى ثواب البر وهو الجنة ، ولن تكونوا بررة تستحقون رضوان الله وفضله ورحمته ، وصرف عذابه عنكم ، حتى تنفقوا من أحب الأموال إليكم من

__________________

(١) العاني : الأسير.

٢٩٣

كرائم الأموال. وما تنفقون من شيء ، سواء أكان كريما أم رديئا ، فإن الله به عليم فيجازي عليه ، ولا يخفى عليه أمر الإخلاص والرياء.

ومما يدل على سمو رتبة الصحابة أنهم كانوا يتصدقون بأحب الأموال لديهم ، روى الأئمة الستة عن أنس بن مالك رضي‌الله‌عنه قال : كان أبو طلحة أكثر الأنصار نخلا بالمدينة ، وكان أحب أمواله إليه بيرحاء (١) (بستان في المدينة) وكانت مستقبلة المسجد ، وكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يدخلها ويشرب من ماء طيب فيها ، فلما نزلت : (لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) قال أبو طلحة: يا رسول الله ، إن أحب أموالي إليّ بيرحاء ، وإنها صدقة لله تعالى ، أرجو برّها وذخرها عند الله تعالى ، فضعها يا رسول الله حيث أراك الله تعالى ، فقال عليه الصلاة والسلام : بخ بخ (كلمة استحسان تدل على الرضا والإعجاب) ذلك مال رابح ، وقد سمعت ما قلت ، وإني أرى أن تجعلها في الأقربين ، فقال : أفعل يا رسول الله ، فقسمها أبو طلحة في أقاربه وبني عمه. وفي رواية لمسلم : فجعلها بين حسان بن ثابت وأبيّ بن كعب.

قال العلماء : إنما تصدّق به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على قرابة المصدّق لوجهين : أحدهما ـ أن الصدقة في القرابة أفضل ، الثاني ـ أن نفس المتصدق تكون بذلك أطيب وأبعد عن الندم.

وكذلك فعل زيد بن حارثة ، أخرج ابن أبي حاتم عن محمد بن المنكدر قال : لما نزلت هذه الآية ، جاء زيد بن حارثة بفرس يقال لها (سبل) لم يكن له مال أحب إليه منها فقال : هي صدقة ، فقبلها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وحمل عليها ابنه أسامة ـ أي أعطاها له ـ ، فكأن زيدا وجد من ذلك في نفسه (أي حزن) ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الله قد قبلها منك».

__________________

(١) وضبطها ابن العربي «بيرحاء» وفي الموطإ : «وكانت أحب أمواله إليه بئرحاء».

٢٩٤

وفي الصحيحين : أن عمر قال : يا رسول الله ، لم أصب مالا قط هو أنفس عندي من سهمي الذي هو بخيبر ، فما تأمرني به؟ قال : «حبّس الأصل ، وسبّل الثمرة».

وأعتق ابن عمر نافعا مولاه ، وكان أعطاه فيه عبد الله بن جعفر ألف دينار ، قالت صفية بنت أبي عبيد : أظنه تأوّل قول الله عزوجل : (لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ). وأخرج عبد بن حميد والبزار عن ابن عمر قال : حضرتني هذه الآية : (لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ) ، فذكرت ما أعطاني الله تعالى فلم أجد أحبّ إليّ من مرجانة (جارية رومية) فقلت : هي حرة لوجه الله ، فلو أني أعود في شيء جعلته لله تعالى لنكحتها ، فأنكحتها نافعا (مولاه الذي كان يحبه). ولم يمت ابن عمر إلا وأعتق ألف رقبة.

أما معنى البر فاختلفوا في تأويله على أقوال ثلاث : الجنة ، أو العمل الصالح ، أو الطاعة ، والتقدير على المعنى الأول : لن تنالوا ثواب البر حتى تنفقوا مما تحبون أي لن تصلوا إلى الجنة وتعطوها حتى تنفقوا مما تحبون ، وعلى المعنى الثاني : لن تصلوا إلى العمل الصالح ... وعلى المعنى الثالث وهو معنى جامع : لن تصلوا إلى الخير من صدقة أو غيرها من الطاعات حتى تنفقوا مما تحبون. وقال الحسن البصري : (حَتَّى تُنْفِقُوا) : هي الزكاة المفروضة. والأولى أن يكون المراد كما قال الزمخشري : لن تبلغوا حقيقة البر حتى تكون نفقتكم من أموالكم التي تحبونها وتؤثرونها ، كقوله: (أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ) [البقرة ٢ / ٢٦٧]. وكان السلف رحمهم‌الله إذا أحبوا شيئا جعلوه لله تعالى.

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت الآية على أمرين :

الأول ـ أن يكون الإنفاق في سبيل الله للوصول إلى حقيقة البر من أحب

٢٩٥

الأموال وأفضلها عند مالكها ، وبمقدار طيبها وحسنها يكون الثواب عليها.

الثاني ـ الترغيب والحث على إخفاء الصدقة ، بعدا عن الرياء ، وإخلاصا في العمل لوجه الله ، وترفعا عن نفاذ الشيطان إلى قلب المؤمن الصالح.

انتهى الجزء الثالث ولله الحمد

٢٩٦

فهرس

الجزء الثالث

 الموضوع

 الصفحة

درجات الرسل وأحوال الناس في اتباعهم............................................. ٥

الأمر بالإنفاق في سبيل الخير..................................................... ١٠

آية الكرسي.................................................................... ١٣

منع الإكراه على الذين والله هو الهادي إلى الإيمان................................... ١٨

قصة المروذ الملك ودلالتها على وجود الله تعالى...................................... ٢٦

قصة العزيز وحماره ودلالتها على إمكان البعث...................................... ٣٦

حب الاستطلاع عند إبراهيم عليه السلام......................................... ٣٦

ثواب الإنفاق في سبيل الله وآدابه................................................. ٤٠

الإنفاق لمرضاة الله والإنفاق لغير وجه الله........................................... ٥١

إنفاق الطيب من الأموال لا الخبيث............................................... ٥٧

تخويف الشيطان من الفقر والفهم الصحيح للقرآن.................................. ٦٢

صدقة السر وصدقة العلن....................................................... ٦٦

مستحقو الصدقات............................................................. ٧١

الربا وأضراره على الفرد والجماعة.................................................. ٨٢

مراحل تحريم الربا............................................................. ٩١

سبب تحرين الربا............................................................. ٩٨

نظرية الميسرة............................................................... ١٠٠

٢٩٧

آية الدين وآية الرهن (توثيق المؤجل بالكتابة أو الشهادة أو الرهن)................... ١٠٢

مقبول الشهادة ومرفوضها................................................... ١٠٩

انطباعات عامة مستفادى من آية الدين......................................... ٢٤

لله ملك السموات والأرض وإحاطة علمه بكل شيء ومحاسبة العباد على أفعالهم ونواياهم ١٢٦

الإيمان برسالات الرسل والتكليف بالطاقة........................................ ١٣٠

فضل آتي آخر سورة البقرة.................................................. ١٣٢

تفسير سورة آل عمران......................................................... ١٤٠

مدى صلتها بسورة البقرة.................................................... ١٤٠

ما اشتملت عليه السور..................................................... ١٤١

سبب التسمية............................................................. ١٤١

فضل سورة آل عمران....................................................... ١٤٢

إثبات التوحيد وإنزال الكتاب................................................... ١٤٣

الحكم والمتشابه في القرآن...................................................... ١٤٩

متبعو المتشابه.............................................................. ١٥٧

عاقبة الكفار المغرورين بالمال والولد ومثال ذلك.................................... ١٥٨

محبة الشهوات في الدنيا........................................................ ١٦٣

الجنات التي هي خير من الدنيا ومقاتنها.......................................... ١٧٠

الشهادة بوحدانية الله وقيامه بالعدل ونوع الدين للقبول عندالله...................... ١٧٦

جزاء قتل الأنبياء.............................................................. ١٨٣

إعراض أهل الكتاب عن حكم الله.............................................. ١٨٧

دلائل قدرة الله وعظمته وتصرفه في خلقه والتفويض إليه............................ ١٩١

٢٩٨

موالاة الكافرين والتحذير من الآخرة............................................. ١٩٧

محبة الله باتباع الرسول وطاعته.................................................. ٢٠٥

اصطفاه الأنبياء وقصة نذر امراة عمران ما في بطنها لعبادة الله....................... ٢٠٩

قصة زكريا ويحيى (دعاء زكريا وطلبه الولد الصالح وانجاب يحيي)...................... ٢١٦

قصة مريم.................................................................... ٢٢٢

قصة عيسى عليه السلام....................................................... ٢٢٨

عيسى مع قومه المؤمنين والكفار................................................ ٢٣٦

الرد على من زعم الوهية عيسى والمباهلة.......................................... ٢٤٤

الدعوة إلى توحيد الله وعبادته وملة إبراهيم........................................ ٢٥٠

محاولة بعض أهل الكتاب إضلال المسلمين والتلاعب بالدين والعصبية الدينية......... ٢٥٧

أداء الأمانة والوفاء بالعهد عند بعض أهل الكتاب................................ ٢٦٣

من أكاذيب اليهود........................................................... ٢٧١

افتراء أهل الكتاب على الأنبياء................................................. ٢٧٣

ميثاق الأنبياء بتصديق بعضهم بعضا وأمرهم بالإيمان.............................. ٢٧٧

الإيمان بكل الأنبياء وقبول دين الإسلام.......................................... ٢٨٣

أنواع الكفار من حيث التوبة................................................... ٢٨٦

نوع النفقة المبرورة وجزاء الإنفاق................................................. ٢٩٣

٢٩٩