التفسير المنير - ج ٣

الدكتور وهبة الزحيلي

١
٢

٣
٤

درجات الرسل وأحوال الناس في اتباعهم

(تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ وَلكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلكِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ (٢٥٣))

الإعراب :

(تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا) : تلك : مبتدأ ، والرسل : صفة له أو عطف بيان ، وفضلنا : جمله فعلية في موضع رفع خبر المبتدأ ولم يقل : ذلك ، وقال : تلك ، مراعاة لتأنيث لفظ الجماعة (مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللهُ) من : اسم موصول يفتقر إلى صلة وعائد ، فصلته : (كَلَّمَ اللهُ) والعائد محذوف تقديره : كلمه الله ، وهو وصلته : في موضع رفع مبتدأ ، وخبره : منهم.

البلاغة :

(تِلْكَ الرُّسُلُ) أشار بالبعيد لعلو مرتبتهم في الكمال وسمو درجتهم.

(مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللهُ) يسمى في البلاغة : التقسيم ، وهو تفصيل ذلك التفضيل. ويوجد طباق بين قوله : (آمَنَ) و (كَفَرَ).

كرر جملة (وَلَوْ شاءَ اللهُ) في الآية ، ويسمى ذلك إطنابا ، لتأكيد المقصود.

المفردات اللغوية :

(فَضَّلْنا) بتخصيصه بمنقبة ليست لغيره (مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللهُ) كموسى (وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ) أي محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم (دَرَجاتٍ) على غيره بعموم الدعوة ، وأنه رحمة للعالمين ، وختم النبوة ، وتفضيل أمته على سائر الأمم ، والمعجزات المتكاثرة والخصائص العديدة (الْبَيِّناتِ) الآيات الواضحات الدالات على رسالته (وَأَيَّدْناهُ) قويناه (بِرُوحِ الْقُدُسِ) جبريل يسير معه حيث سار. (وَلَوْ شاءَ اللهُ) مشيئة إلجاء وقسر. (مِنْ بَعْدِهِمْ) أي الأمم التي أتت بعد الرسل (فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ)

٥

ثبت على إيمانه (وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ) كالنصارى بعد المسيح واليهود بعد موسى ، والكفر : ضد الإيمان ، وهو أيضا جحود النعمة ، وهو ضد الشكر (وَلكِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ) من توفيق من شاء وخذلان من شاء.

المناسبة :

بعد أن ذكر الله تعالى قصة طالوت وجالوت وداود ، وأعقبها بقوله : (تِلْكَ آياتُ اللهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) ليقيم الدليل بمعرفة تلك القصص على أن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم من المرسلين الذين أوحي إليهم الوحي المبين لأحوال الماضين.

ذكر تعالى هنا أن الرسل درجات ، ميّز الله بعضهم على بعض ، بمزايا ومناقب ليست لغيره ، وأن أحوال الناس عموما في اتباع الرسل : إما مؤمنون وإما كفار ، وإما مسالمون وإما متقاتلون ، لحكمة ربانية مردها إلى قضاء الله وقدره.

التفسير والبيان :

هؤلاء الرسل المشار إليهم في الآية السابقة : (وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) على مراتب في الكمال ، وقد فضل الله بعضهم على بعض بتخصيصه بمآثر أو خصائص أو مفاخر جليلة ليست لغيره ، مع استوائهم جميعا في اختيارهم لتبليغ الرسالة الإلهية وهداية الناس إلى سعادة الدنيا والآخرة.

وجاءت عبارة التفضيل في آية أخرى هي : (وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ ، وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً) [الإسراء ١٧ / ٥٥] وهنا : (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ ، مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللهُ).

من هؤلاء الرسل : من فضله الله بأنه كلمه مشافهة من غير واسطة وهو موسىعليه‌السلام: (وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى تَكْلِيماً) [النساء ٤ / ١٦٤] ، (وَلَمَّا جاءَ

٦

مُوسى لِمِيقاتِنا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ) [الأعراف ٧ / ١٤٣] ، فسمي «كليم الله».

ومنهم من رفعه الله على غيره درجات ومراتب في الفضل والشرف ، والمراد به محمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، كما رواه الطبري عن مجاهد ، ويؤيده السياق أيضا.

وتفضيله بأوجه ذكرناها ، وبأوجه أخرى منها رؤيته الأنبياء في السموات ليلة الإسراء والمعراج بحسب تفاوت منازلهم عند الله عزوجل ، ومنها سمو أخلاقه الشريفة ، كما قال تعالى : (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) [القلم ٦٨ / ٤] ، ومنها تأييده بالقرآن الخالد إلى يوم القيامة كما قال تعالى : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) [الحجر ١٥ / ٩] وقال في فضل القرآن : (إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) [الإسراء ١٧ / ٩] ومنها تفضيل أمته : (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ، تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ ، وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ) [آل عمران ٣ / ١١٠] وجعل أمته وسطا بين الأمم عدولا وشهداء على الأمم : (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ) [البقرة ٢ / ١٤٣].

ولو لم يؤت من المعجزات والخصائص إلا القرآن وحده ، لكفى به فضلا على سائر الأنبياء ، لأنه المعجزة الباقية أبد الدهر ، روى البخاري أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ما من نبي من الأنبياء إلا وقد أعطي من الآيات ما آمن على مثله البشر ، وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إليّ ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة». وروى مسلم والترمذي عن أبي هريرة أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «فضّلت على الأنبياء بست : أعطيت جوامع الكلم ، ونصرت بالرعب ، وأحلت لي الغنائم ، وجعلت لي الأرض طهورا ومسجدا ، وأرسلت إلى الخلق كافة ، وختم بي النبيون».

وآتى الله عيسى بن مريم عليه‌السلام البينات : وهي الآيات الواضحات التي يتبين بها الحق من الباطل ، كتكليمه في المهد ، وإحياء الموتى ، وإبراء الأكمه

٧

والأبرص بإذن الله ومشيئته ، وتأييده بروح القدس : جبريل عليه‌السلام ، ردا على اليهود الذين أنكروا نبوته والطعن به ، وحفظا له من أذاهم ، وتبيانا لحقيقته أنه بشر مؤيد من عند الله بالآيات الواضحات ، لا إله ، كما زعمت النصارى في عيسى ، فكان الناس في شأنه بين مفرّط ومفرط.

ولو شاء الله ما اقتتلت الأمم التي جاءت بعد الرسل ، من بعد ما جاءهم الرسل بالبينات والمعجزات الدالة على الحق الموجبة لاتباعهم ، ولو شاء الله عدم اقتتالهم ما اقتتلوا بأن جعلهم متفقين على اتباع الرسل وقبول الحق من ربهم ، وإنما ترك لهم حرية التفكير والنظر والإدراك بالعقل الذي أودعه فيهم ، ليختاروا طريق الخير والسعادة بأنفسهم ، ولكنهم لم يفكروا تفكيرا سليما واختلفوا اختلافا بينا كبيرا في قبول الدين ، فمنهم من آمن بما جاء به الرسل ، ومنهم من كفر برسالاتهم ، وقد اختلف اليهود في دينهم واقتتلوا ، وكذلك النصارى اختلفوا وانقسموا ، وتعددت الفرق والانقسامات في كل من اليهودية والنصرانية ، واتهم كل فريق الآخر بالخروج عن أصل الدين ، ووجد هذا الاختلاف أيضا بين المسلمين ، حيث عصفت بهم الأهواء ، وفرقتهم المصالح ، واحتدم القتال فيما بينهم.

ولو شاء الله ـ بالرغم من اختلاف ميولهم ونزعاتهم وأهوائهم ـ ما اقتتلوا على ما يختلفون فيه ، ولكن الله يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد ، وكل ذلك من قضاء الله وقدره ، فصارت ردود الفعل متفاوتة ، إما بخصومة الكلام والطعن والنقد والسب ، وإما بالاحتكام إلى حد السيف وإراقة الدماء. وقد كرر تعالى قوله : (وَلَوْ شاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلُوا) للتأكيد.

والله قادر على كل شيء ، فإن أراد التوفيق لبعض عباده آمن به وأطاعه ، وإن أراد الخذلان لبعض آخر كفر به وعصاه ، فالخذلان والعصمة من فعل الله وإرادته.

٨

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت الآية على التفضيل بين الأنبياء في زيادة الأحوال والخصوصيات والكرامات والألطاف الإلهية والمعجزات المتباينات. أما النبوة في نفسها فلا تتفاضل ، فكلهم في النبوة والتبليغ ووحدة الهدف والغاية سواء ، وإنما تتفاضل بأمور أخر زائدة عليها ، ولذلك منهم رسل وأولو عزم ، ومنهم من اتخذ خليل الله ، ومنهم من كلم الله ، ورفع بعضهم درجات. والرسل أفضل من الأنبياء ، فمن أرسل بشرع وأمر بتبليغه أفضل ممن لم يؤمر بالتبليغ ، وأولو العزم من الرسل وهم : نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد عليهم الصلاة والسلام أفضل من بقية الرسل. ومحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أفضل الأنبياء والمرسلين على الإطلاق ، لأن رسالته عامة للناس جميعا ، وللإنس والجن أيضا ، قال تعالى : (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ) [سبأ ٣٤ / ٢٨] ولأن رسالته توجهت بالقرآن المجيد الذي هو شرع الله الدائم والذي ختمت به الشرائع ، والمتكفل بحفظه إلى يوم القيامة ، ولغير ذلك من الأسباب التي ذكرناها سابقا ، لذا قال تعالى : (وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ) [الأحزاب ٣٣ / ٧] فعمّ ثم خص وبدأ بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فيما رواه مسلم وأبو داود عن أبي هريرة ـ : «أنا سيد ولد آدم يوم القيامة». وأما قوله عليه‌السلام : «لا تخيروني على موسى» أو «لا يقل أحد أنا خير من يونس بن متى» فهو على معنى التواضع.

وهذا القول ينطبق على الصحابة رضوان الله عليهم ، اشتركوا في الصحبة ، ثم تباينوا في الفضائل بما منحهم الله من المواهب والخصائص ، فهم متفاضلون بالمآثر ، مع أن الكل شملتهم الصحبة والعدالة والثناء عليهم ، ويشير القرآن إلى ذلك بقوله تعالى : (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ) الآية [الفتح ٤٨ / ٢٩] وقوله : (وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى وَكانُوا أَحَقَّ بِها وَأَهْلَها) [الفتح ٤٨ / ٢٦] وقوله : (لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ ..) [الحديد ٥٧ / ١٠] وقوله : (لَقَدْ

٩

رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ) [الفتح ٤٨ / ١٨] فعمّ وخص ، ونفى عنهم الشين والنقص ، ووعد كلا منهم الحسنى.

وأما النزاع والاقتتال بين الناس بعد الرسل فكله بقضاء وقدر وإرادة من الله تعالى ، ولو شاء خلاف ذلك لكان ، ولكنه المستأثر بسرّ الحكمة في ذلك الفعل لما يريد.

الأمر بالإنفاق في سبيل الخير

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٢٥٤))

الإعراب :

(لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ) قرئ بالرفع بالابتداء ، أو على أن يجعل : (لا) بمعنى ليس ، و (فِيهِ) الخبر ، وقرئ بالبناء على الفتح ، لأنه معه بمنزلة «خمسة عشر».

البلاغة :

(وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ) مبتدأ محصور في خبره أي قصر صفة على موصوف ، وقد أكدت بالجملة الاسمية وبضمير الفصل ، أي : ولا ظالم أظلم ممن وافى الله يومئذ وهو كافر و (هُمُ) : مبتدأ ثان ، و (الظَّالِمُونَ) خبر الثاني ، أو أن : (هُمُ) ضمير فصل ، و (الظَّالِمُونَ) : خبر. وقد روى ابن أبي حاتم عن عطاء بن دينار أنه قال : الحمد لله الذي قال: (وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ) ولم يقل : والظالمون هم الكافرون. أي يصبح كل ظالم كافرا ، وما أكثر الظلم بين الناس.

المفردات اللغوية :

(يَوْمٌ) المراد به هنا يوم الحساب (لا بَيْعٌ فِيهِ) البيع في الأصل : الكسب بأي نوع من أنواع المبادلة أو المعاوضة ، والمراد به هنا : لا فداء ، فيتدارك المقصّر تقصيره. (وَلا خُلَّةٌ) أي

١٠

ولا صداقة ولا مودة تنفع (وَلا شَفاعَةٌ) بغير إذنه يوم القيامة (وَالْكافِرُونَ) بالله أو بما فرض عليهم ، والمراد به في رأي الحسن البصري : تاركو الزكاة ، لأن الأمر بالإنفاق هو الإنفاق الواجب ، لاتصال الوعيد به وهو أن تاركي الزكاة هم الظالمون ، كما قال الزمخشري. والظالمون : هم الذين جحدوا أمر الله أو أنفقوا المال في غير محله المشروع.

المناسبة :

حثت الآيات السابقة على الجهاد بالنفس ، وهذه الآية حث على الجهاد بالمال وإنفاقه في سبيل الخير ، ليدخر الناس ثواب ذلك عند ربهم ، وليبادروا إلى ذلك في هذه الحياة الدنيا.

التفسير والبيان :

يأمر الله المؤمنين الذين اتصفوا بصفة الإيمان الصادق بالإنفاق في سبيل الله ، وذلك يشمل ـ في رأي ابن جريج وسعيد بن جبير ـ الزكاة المفروضة والتطوع أو المستحبة ، قال ابن عطية : وهذا صحيح ، ولكن ما تقدم من الآيات في ذكر القتال ، وأن الله يدفع بالمؤمنين في صدور الكافرين يترجح منه أن هذا الندب إنما هو في سبيل الله ، ويقوي ذلك في آخر الآية قوله : (وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ) أي فكافحوهم بالقتال بالأنفس وإنفاق الأموال.

وقوله : (مِمَّا رَزَقْناكُمْ) يؤكد الحث على الإنفاق ، لأنه يدل على أنه لا يطلب إلا بعض ما رزقه الله لعباده.

ويتأكد الأمر أيضا بأنه سيأتي يوم يندم فيه الإنسان ولا يفيده الندم ، وهو يوم الجزاء والحساب والثواب والعقاب الذي لا ينفع فيه البديل أو الفداء ، ولا الصداقة أو المودة ، ولا الشفاعة أو الوساطة أو النسب ، يوم تختلف فيه مقاييس الآخرة عن مقاييس الدنيا ، وذلك مثل آية أخرى هي : (وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً ، وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ ، وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ ، وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) [البقرة ٢ / ٤٨].

١١

والكافرون وهم كل من كفر بالله أو التاركون للزكاة هم الذين ظلموا أنفسهم ، أي فإنهم يقاتلون بالنفس والمال ، وإن المنفقين وضعوا المال في غير موضعه ، وقد سماهم الله كافرين تهديدا وتغليظا ، كما قال : (وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ) [آل عمران ٣ / ٩٧] وإشعارا بأن ترك الزكاة من صفات الكفار ، كما قال تعالى : (وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ) [فصلت ٤١ / ٦ ـ ٧] قال عطاء بن دينار : والحمد لله الذي قال : (وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ) ولم يقل : «والظالمون هم الكافرون».

فقه الحياة أو الأحكام :

تأمر الآية بإنفاق المال في وجوه الخير ، سواء أكان بطريق الزكاة المفروضة أم بالصدقات والتطوعات المندوبة ، فلكل ثوابه العظيم يوم الآخرة ، وفيه تحقيق التضامن والتكافل بين أبناء الأمة الواحدة ، بل إنه السبيل الواجب للحفاظ على عزة الأمة ومكانتها وهيبتها واسترداد حقوقها المغتصبة ، وصون كرامتها وحرماتها وديارها ، فمن يقصر في ذلك وهو من الأغنياء القادرين على الإنفاق ، كان سببا في تدمير أمته وإذلالها ، إذ لا بقاء ولا حياة ولا سعادة للأغنياء أنفسهم إذا فتك الثالوث المخيف (وهو المرض والفقر والجهل) في بقية أفراد الأمة. قال ابن عطية : وظاهر هذه الآية : أنها مراد بها جميع وجوه البر من سبيل خير وصلة رحم ، ولكن ما تقدم من الآيات في ذكر القتال ، وأن الله يدفع بالمؤمنين في صدور الكافرين ، يترجح منه أن هذا الندب إنما هو في سبيل الله ، ويقوي ذلك قوله في آخر الآية : (وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ) أي فكافحوهم بالقتال بالأنفس وإنفاق الأموال(١).

__________________

(١) البحر المحيط : ٢ / ٢٧٥ ، طبعة الرياض.

١٢

آية الكرسي

(اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِما شاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (٢٥٥))

الإعراب :

(اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ) : (اللهُ) مبتدأ أول ، و (لا) : نافية للجنس ، و (إِلهَ) : اسمها ، وخبرها محذوف تقديره : لا إله معبود إلا هو ، والجملة مبتدأ ثان ، و (هُوَ) ضمير فصل مرفوع على البدل من موضع : (لا إِلهَ) ، ويجوز رفعه خبرا لكلمة : (لا). و (الْحَيُّ الْقَيُّومُ) : مرفوعان إما صفة لله تعالى ، أو بدل من (هُوَ) أو على تقدير مبتدأ. هذا عند ابن الأنباري ، والأصح عند العكبري وغيره أن (اللهُ) مبتدأ ، وجملة (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) خبره ، وليس بمبتدإ ثان.

البلاغة :

في الآية حسن افتتاح بأجل أسماء الله تعالى ، وفيها تكرار اسمه ظاهرا ومضمرا في ثمانية عشر موضعا ، وفيها إطناب بتكرير الصفات ، وقطع الجمل حيث لم يصلها بحرف العطف ، لأنها كلها في حكم البيان ، وطباق في (ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ). هذا ما قاله أبو حيان في البحر المحيط (٢ / ٢٨١) وعدّ أحمد رحمه‌الله سبعة عشر موضعا فيها اسم الله تعالى ظاهرا وخفيا ، فالظاهر ستة عشر وهي : الله ، هو ، الحي ، القيوم ، ضمير لا تأخذه ، وضمير له ، وضمير عنده ، وضمير إلا بإذنه ، وضمير يعلم ، وضمير علمه ، وضمير شاء ، وضمير كرسيه ، وضمير : ولا يؤده ، وهو العلي ، العظيم. وأما الخفي : فالضمير الذي اشتمل عليه مصدر : حفظهما ، فإنه مصدر مضاف إلى المفعول ، ولا بد له من فاعل وهو الله (حاشية الكشاف : ١ / ٢٩٢).

١٣

المفردات اللغوية :

(اللهُ) هو المعبود بحق ، والعبادة : استعباد الروح وإخضاعها لسلطة غيبية لا تحيط بها علما ، ولا تدرك حقيقتها (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) لا معبود بحق في الوجود سوى الله (الْحَيُ) : الدائم البقاء أو ذو الحياة ، والحياة صفة لله تعالى تستلزم اتصافه بالعلم والإرادة والقدرة (الْقَيُّومُ) دائم القيام أو القائم بتدبير خلقه في آجالهم وأعمالهم وأرزاقهم ، وحفظهم ورعايتهم ، كما قال تعالى : (أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ) [الرعد ١٣ / ٣٣]. (لا تَأْخُذُهُ) الأخذ : الغلبة والاستيلاء (سِنَةٌ) نعاس وهو فتور قبل النوم. والنوم : حال تعرض للحي ، بها تقف الحواس الظاهرة عن الإحساس والشعور. (رْسِيُّهُ) علمه الإلهي بدليل قوله تعالى : (رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً) [غافر ٤٠ / ٧] ولأن أصل الكرسي : العلم ، ومنه يقال للعلماء : كراسي ، للاعتماد عليهم ، وقيل : المراد بها عظمته ولا كرسي ثمة ولا قعود ولا قاعد ، كقوله تعالى : (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ ، وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ ، وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ) [الزمر ٣٩ / ٦٧] ، وقيل : ملكه ، وقال الحسن البصري : الكرسي هو العرش. قال ابن كثير في تفسيره (١ / ٣١٠) : والصحيح أن الكرسي غير العرش ، والعرش أكبر منه ، كما دلت على ذلك الآثار والأخبار.

(وَلا يَؤُدُهُ) : ولا يثقله ولا يشق عليه حفظ السموات والأرض ومن فيهما ، بل ذلك سهل عليه يسير لديه ، وهو القائم على كل نفس بما كسبت ، الرقيب على جميع الأشياء ، وهو الغني الحميد ، الفعال لما يريد ، وهو القاهر لكل شيء ، العلي العظيم لا إله غيره ولا رب سواه. (وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ) العلي : المتعالي عن الأشباه والأنداد وهو فوق خلقه بالقهر ، والعظيم : هو الكبير الذي لا شيء أعظم منه (وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ) مثل قوله : وهو (الْكَبِيرُ الْمُتَعالِ).

فضل آية الكرسي : آية الكرسي سيدة آي القرآن وأعظم آية ، وقد صح الحديث عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأنها أفضل آية في كتاب الله ، وفيها اسم الله الأعظم ، قال أبو بكر بن مردويه بسنده عن أبي أمامة مرفوعا إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «اسم الله الأعظم الذي إذ دعي به أجاب في ثلاث : سورة البقرة ، وآل عمران ، وطه» قال هشام بن عمار خطيب دمشق : أما البقرة فقوله: (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ) وفي آل عمران : (الم. اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ) وفي طه: (وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ).

ووردت أحاديث كثيرة أخرى في فضلها ، منها «سيد الكلام : القرآن ، وسيد القرآن : البقرة ، وسيد البقرة : آية الكرسي» ، ومنها «من قرأ آية الكرسي دبر

١٤

كل صلاة ، كان الذي يتولى قبض روحه ذو الجلال والإكرام ، وكان كمن قاتل مع أنبياء الله حتى يستشهد» ومنها : «من قرأ دبر كل صلاة مكتوبة آية الكرسي ، لم يمنعه من دخول الجنة إلا أن يموت» (١). وعن علي رضي‌الله‌عنه قال : «سمعت نبيكم صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول ، وهو على أعواد المنبر : «من قرأ آية الكرسي دبر كل صلاة ، لم يمنعه من دخول الجنة إلا الموت ، ولا يواظب عليها إلا صدّيق أو عابد ، ومن قرأها إذا أخذ مضجعه ، آمنه الله على نفسه وجاره وجار جاره ، والأبيات حوله».

وقال ابن كثير : هذه الآية مشتملة على عشر جمل مستقلة ، متعلقة بالذات الإلهية ، وفيها تمجيد الواحد الأحد (٢).

المناسبة :

ذكر تعالى في الآيات السابقة أن العمل الصالح الفردي هو أساس النجاة ، فلا ينفع المال والشفاعة والصداقة والمودة ، وأن الرسل صلوات الله عليهم ـ وإن تفاوتوا في الفضل ـ إلا أن دعوتهم واحدة ورسالتهم واحدة ودينهم واحد قائم على دعوة التوحيد وصون الفضائل والأخلاق وعبودية الله تعالى ، ثم جاءت آية الكرسي لتقرر أصل التوحيد وأساس العبادة ، ولتحصر الاتجاه بأي عمل نحو الله تعالى ، وليستشعر العبد عظمة الله وسلطانه ، ويطيع أوامره ، ويذعن لأحكامه.

التفسير والبيان :

الله هو المتفرد بالألوهية لجميع الخلائق ، فلا معبود بحق في الوجود إلا هو ، وهو الواحد الأحد الفرد الصمد ، الواجب الوجود ، ذو الملك والملكوت ، الحي الباقي الدائم الذي لا يموت ، القائم بذاته على تدبير خلقه ، كقوله : (وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ) [الروم ٣٠ / ٢٥] ، الذي لا يشبه أحد من خلقه في الذات ولا في الصفات ، ولا في الأفعال ، كما قال : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) [الشورى ٤٢ / ١١].

__________________

(١) رواه النسائي وابن حبان في صحيحة عن أبي أمامة.

(٢) تفسير ابن كثير : ١ / ٣٠٨

١٥

لا يعتريه نوم ولا يغلبه نعاس ؛ لأنه قائم بتدبير أمور خلقه آناء الليل وأطراف النهار. وهذه الجملة مؤكدة لما قبلها ، مقررة لمعنى الحياة والقيومية الدائمة الكاملة ، جاء في الصحيح عن أبي موسى قال : قام فينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأربع كلمات فقال : «إن الله لا ينام ، ولا ينبغي له أن ينام ، يخفض القسط ويرفعه ، يرفع إليه عمل النهار قبل عمل الليل ، وعمل الليل قبل عمل النهار ، حجابه النور أو النار ، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه».

وجميع ما في السموات وما في الأرض عبيده وفي ملكه ، خاضعون لمشيئته ، وتحت قهره وسلطانه ، كقوله تعالى : (إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً ، لَقَدْ أَحْصاهُمْ ، وَعَدَّهُمْ عَدًّا ، وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً) [مريم ١٩ / ٩٣ ـ ٩٥]. وهذه الجملة مؤكدة أيضا لقيوميته وتفرده بالألوهية.

ومن عظمة الله وجلاله وكبريائه أنه لا يتجاسر أحد على أن يشفع لأحد عنده إلا بإذنه له في الشفاعة ، كقوله تعالى : (وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللهُ لِمَنْ يَشاءُ وَيَرْضى) [النجم ٥٣ / ٢٦] وقوله : (وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى) [الأنبياء ٢١ / ٢٨] وقوله : (يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ) [هود ١١ / ١٠٥] وفي حديث الشفاعة : «آتي تحت العرش ، فأخر ساجدا ، فيدعني ما شاء الله أن يدعني ، ثم يقال : ارفع رأسك ، وقل تسمع ، واشفع تشفّع ، قال : فيحد لي حدا ، فأدخلهم الجنة». وهذا دليل على انفراد الله بالملك والسلطان.

والله محيط علمه بجميع الكائنات ماضيها وحاضرها ومستقبلها ، ويعلم أمور الدنيا وأمور الآخرة ، كقوله إخبارا عن الملائكة : (وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا ، وَما بَيْنَ ذلِكَ ، وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا) [مريم ١٩ / ٦٤] قال

١٦

الخضر لموسى عليه‌السلام حين نقر العصفور في البحر : «ما نقص علمي وعلمك من علم الله إلا كما نقص هذا العصفور من هذا البحر».

ولا يطلع أحد من علم الله على شيء إلا بما أعلمه الله عزوجل ، وأطلعه عليه ، ومن تلك الأشياء : الشفاعة ، فهي متوقفة على إذنه تعالى ، وإذنه لا يعلم إلا بوحي منه.

والله تعالى واسع الملك والقدرة ، والأرض جميعا قبضته يوم القيامة ، والسموات مطويات بيمينه ، يحيط علمه بجميع ما في السموات والأرض ، ويعلم صغار الأمور وكبارها ، دقيقها وعظيمها ، لا يشغله سمع عن سمع ، ولا شأن عن شأن ، ولا يشق عليه أمر.

وقد أورد الزمخشري أربعة أوجه في تفسير قوله (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ)(١) :

أحدها ـ أن كرسيه لم يضق عن السموات والأرض لبسطته وسعته ، وما هو إلا تصوير لعظمته ، وتخييل فقط ، ولا كرسي ثمة ، ولا قعود ولا قاعد ، كقوله : (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ ، وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ ، وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ) [الزمر ٣٩ / ٦٧] من غير تصوّر قبضة ، وطي ، ويمين ، وإنما هو تخييل لعظمة شأنه وتمثيل حسي ، ألا ترى إلى قوله : (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ).

والثاني ـ وسع علمه : وسمي العلم كرسيا تسمية بمكانه الذي هو كرسي العالم.

والثالث ـ وسع ملكه : تسمية بمكانه الذي هو كرسي الملك.

والرابع ـ ما روي أنه خلق كرسيا هو بين يدي العرش ، دونه السموات والأرض ، وهو إلى العرش كأصغر شيء. وعلى كل حال أرى أنه يجب الإيمان

__________________

(١) الكشاف : ١ / ٢٩١ ـ ٢٩٢

١٧

بوجود العرش والكرسي ، كما ورد في القرآن ، ولا يجوز إنكار وجودهما ؛ إذ في قدرة الله متسع لكل شيء. ولا يثقله تعالى حفظ السموات والأرض ومن فيهما ومن بينهما ، بل ذلك سهل عليه ، يسير لديه.

وهو المتعالي عن الأنداد والأشباه ، وأعظم من كل شيء ، لا تحيط به العقول والمدارك ، ولا يعرف حقيقته إلا هو سبحانه وتعالى. وهذا كقوله : (الْكَبِيرُ الْمُتَعالِ) والمقصود بالعلو : علو القدر والمنزلة ، لا علو المكان ؛ لأن الله منزّه عن التحيّز في المكان. وفسر بعضهم العلي : بأنه القاهر الغالب للأشياء.

فقه الحياة أو الأحكام :

هذه الآية تملأ القلب مهابة من الله وعظمته وجلاله وكماله ، فهي تدل على أن الله تعالى متفرد بالألوهية والسلطان والقدرة ، قائم على تدبير الكائنات في كل لحظة ، لا يغفل عن شيء من أمور خلقه ، وهو مالك كل شيء في السموات والأرض ، لا يجرأ أحد على شفاعة بأحد إلا بإذنه ، ويعلم كل شيء في الوجود ، ويحيط علمه بكل الأمور وأوضاع الخلائق دقيقها وعظيمها ، ويظل بالرغم من التدبير للخلائق والعلم المحيط بالأشياء هو العلي الشأن ، القاهر الذي لا يغلب ، العظيم الملك والقدرة على كل شيء سواه ، فلا موضع للغرور ، ولا محل لعظمة أمام عظمة الله تعالى.

منع الإكراه على الدين والله هو الهادي إلى الإيمان

(لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى لا انْفِصامَ لَها وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٥٦) اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى

١٨

النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٥٧))

الإعراب :

(لَا انْفِصامَ لَها) : هذه الجملة في موضع نصب على الحال من (بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى) التي هي (لا إِلهَ إِلَّا اللهُ).

(أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ) أولياء : مبتدأ ، والطاغوت خبره ، وبما أن خبر المبتدأ يكون على وفق المبتدأ ، فيجب أن يكون الطاغوت جمعا ؛ لأن أولياء جمع ، والطاغوت : تصلح للواحد والجمع. وأصل طاغوت : طغيوت ، إلا أنهم قلبوا الياء التي هي لام إلى موضع العين ، فصار طيغوتا ، ثم قلبت الياء ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها ، فصار طاغوتا.

البلاغة :

(اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى) : استعارة تمثيلية ، حيث شبه المتمسك بدين الإسلام بالمتمسك بالحبل المحكم. وعدم الانفصام ترشيح.

(مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) استعارة تصريحية ، حيث شبه الكفر بالظلمات ، والإيمان بالنور.

المفردات اللغوية :

(لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ) لا جبر ولا إلجاء على الدخول في الدين ، والدين هنا : المعتقد والملة بقرينة قوله : (قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِ) أي ظهر بالآيات البينات الواضحات أن الإيمان رشد ، والكفر غي ، والرشد والرشاد : الهدى وكل خير ، وضده الغي أي الضلال في الاعتقاد أو الرأي. أما الجهل فهو كالغي إلا أنه في الأفعال لا في الاعتقاد.

(بِالطَّاغُوتِ) الشيطان أو الأصنام ، مأخوذ من الطغيان : وهو مجاوزة الحد في الشيء. ويجوز تذكيره وتأنيثه وإفراده وجمعه ، ويتحدد المراد بحسب المعنى.

(اسْتَمْسَكَ) تمسك (بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى) بالعقد المحكم. والعروة : من الدلو والكوز ونحوهما : المقبض الذي يمسك به من يأخذهما. والوثقى : مؤنث الأوثق : وهو الحبل الوثيق المحكم. ويجوز أن يراد بالعروة الوثقى : الشجر الملتف (لَا انْفِصامَ لَها) لا انقطاع لها.

١٩

(اللهُ وَلِيُ) الولي : الناصر والمعين ، أي أن الله يتولى أمور المؤمنين بالرعاية والعناية والهداية (مِنَ الظُّلُماتِ) الكفر والضلالات (إِلَى النُّورِ) الإيمان.

وأفرد النور وجمع الظلمات ؛ لأن الحق واحد لا يتعدد ، وأما أنواع الضلال والكفر فكثيرة ، كما قال ابن كثير.

سبب النزول :

نزول الآية (٢٥٦):

أخرج ابن جرير الطبري عن ابن عباس قال : نزلت : (لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ) في رجل من الأنصار من بني سالم يقال له : الحصين (١) ، كان له ابنان نصرانيان ، وكان هو مسلما ، فقال للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ألا أستكرههما ، فإنهما قد أبيا إلا النصرانية؟ فأنزل الله الآية. وفي رواية : أنه حاول إكراههما ، فاختصموا إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال : يا رسول الله : أيدخل بعضي النار ، وأنا أنظر؟ فنزلت ، فخلاهما.

وروى أبو داود والنسائي وابن حبان عن ابن عباس قال : كانت المرأة من نساء الأنصار تكون مقلاة (٢) ، فتجعل على نفسها إن عاش لها ولد أن تهوّده ، فلما أجليت بنو النضير ، كان فيهم من أبناء الأنصار ، فقالوا : لا ندع أبناءنا ، فأنزل الله تعالى : (لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ).

نزول الآية (٢٥٧):

أخرج ابن جرير الطبري عن عبدة بن أبي لبابة في قوله : (اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا) قال : هم الذين كانوا آمنوا بعيسى فلما جاءهم محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم آمنوا به وأنزلت فيهم هذه الآية.

__________________

(١) وفي قول السدي : يقال له أبو الحصين.

(٢) المقلاة : هي المرأة التي لا يعيش لها ولد.

٢٠