التفسير المنير - ج ٣

الدكتور وهبة الزحيلي

مهدتم لأنفسكم ، أي يا معشر اليهود ، احذروا من الله مثل ما نزل بقريش يوم بدر ، قبل أن ينزل بكم ما نزل بهم ، فقد عرفتم أني نبي مرسل ، تجدون ذلك في كتابكم وعهد الله إليكم.

والآية أي الدلالة والعلامة على أنكم مغلوبون ، وأن الله معزّ دينه ، وناصر رسوله : التقاء جماعتين ، إحداهما معتزة بكثرة مالها ، مغترة بعددها ، كافرة بالله ، تقاتل في سبيل الشيطان ، وهم مشركو قريش يوم بدر ؛ والأخرى فئة قليلة العدد ، مؤمنة بالله ، تقاتل في سبيل الله ، وهم المسلمون في معركة بدر.

فقد كان المؤمنون ثلثمائة وثلاثة عشر رجلا ، معهم فرسان ، وست أدرع ، وثمانية سيوف ، وأكثرهم رجالة مشاة. وكان الكافرون نحو ألف ، أي ثلاثة أمثال المسلمين في الواقع. روى محمد بن إسحاق عن عروة بن الزبير أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لما سأل ذلك العبد الأسود لبني الحجاج عن عدّة قريش ، قال : كثير ، قال : «كم تنحرون كل يوم؟» قال : يوما تسعا ويوما عشرا ، قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «القوم : ما بين تسعمائة إلى ألف».

لكن في رأي العين ـ وهي الرؤية المكشوفة الظاهرة لهم كسائر المعاينات ـ دلت الآية على أن الكافرين كانوا مثلي المسلمين فقط ، أي ضعفيهم في العدد ، وإن كانوا ثلاثة أمثالهم في العدد ، لأن الله قللهم في أعينهم ، حتى يقاتل الرجل المسلم رجلين ، كما في قوله تعالى : (فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ ، وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ ، بِإِذْنِ اللهِ ، وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) [الانفعال ٨ / ٦٦] أي أن الله تعالى أراهم الكفار على غير عدتهم ، لتقوى قلوبهم بذلك ، وليطلبوا الإعانة من ربهم عزوجل ؛ ورأى المشركون المؤمنين مثلي عددهم ليحصل لهم الرعب والخوف والجزع والهلع.

هذا في بدر ، أيد الله المؤمنين بنصره ، وكذلك صدق الله وعده ، فقتل

١٦١

المسلمون يهود بني قريظة الذين خانوا العهد ، ونقضوا الميثاق ، ودخلوا مع المشركين في غزوة الأحزاب (أو الخندق) ؛ وأجلى المسلمون بني النضير المعتدين على حرمات الإسلام والمسلمين ، وفتحوا خيبر ، وفرضوا الجزية على من عداهم حينما قاتلوا المسلمين وبدؤوهم بالعدوان.

والله دائما يؤيد ويدعم بمعونته من يشاء ، كما أيد أهل بدر بتكثيرهم في عين العدو ، وتقليل الأعداء في عين المسلمين ، كما قال تعالى : (وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً ، وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ ، لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً)(١)(، وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) [الأنفال ٨ / ٤٤] وقال : (وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ ..) [آل عمران ٣ / ١٢٣].

إن في هذا النصر الحاصل في بدر مع قلة عدد المسلمين وكثرة عدوهم عظة لمن عقل وتدبر ، وأعمل البصيرة والفكر ، ليهتدي به إلى حكم الله وأفعاله وقدره الجاري بنصر عباده المؤمنين في الدنيا والآخرة ، بشرط نصرة دين الله ، كقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ) [محمد ٤٧ / ٧] وقوله : (وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ) [الروم ٣٠ / ٤٧] والمؤمن : هو من يشهد له القرآن بإيمانه ، لا من يدعي الإيمان بلسانه ، وأخلاقه وأعماله تكذب دعواه.

فقه الحياة أو الأحكام :

أرشد الآيات إلى مبادئ ثلاثة كبري في ميزان الله وهي :

١ ـ تأكد وقوع العذاب للكفار في نار جهنم ، دون أن تدفع عنهم أموالهم ولا أولادهم من عذاب الله شيئا.

__________________

(١) أي ليفرق بين الحق والباطل ، فيظهر كلمة الإيمان على الكفر والطغيان ، ويعز المؤمنين ، ويذل الكافرين.

١٦٢

٢ ـ الشأن والعادة المقررة : توجيه المؤاخذة وإيقاع العقاب الشديد بسبب الذنوب والتكذيب بآيات الله المتلوة ، فلا يختلف الحكم بين كفار قريش وبين آل فرعون ومن قبله من قوم لوط وعاد وثمود غيرهم ، كما قال تعالى : (كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا ..) وقال : (وَحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ. النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا ، وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ) [غافر ٤٠ / ٤٥ ـ ٤٦] وقال : (كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ..) [الانفعال ٨ / ٥٤].

٣ ـ النصر منوط بإرادة الله على وفق الحكمة الإلهية ، ولمكافأة المؤمنين الممتثلين أوامر ربهم ، وليست موازين النصر بالكثرة العددية أو بالتفوق في السلاح ، وإنما بمقدار الإيمان والثقة بالله ، فقد ينصر الفئة القليلة على الفئة الكثيرة : (كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) [البقرة ٢ / ٢٤٩] ودلت الآية على صحة نبوة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من وجهين :

الأول ـ غلبة الفئة القليلة العدد الفئة الكثيرة العدد ، وذلك على خلاف مجرى العادة ، لما أمدهم الله به من الملائكة.

والثاني ـ أن الله تعالى كان قد وعدهم إحدى الطائفتين ، وأخبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم المسلمين قبل اللقاء بالظفر والغلبة ، وقال : هذا مصرع فلان ، وهذا مصرع فلان ، وكان كما وعد الله وأخبر به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

محبة الشهوات في الدنيا

(زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ

١٦٣

الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعامِ وَالْحَرْثِ ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (١٤))

الإعراب :

(وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ) : الله مبتدأ مرفوع ، وحسن : مبتدأ ثاني ، وعنده : خبر المبتدأ الثاني. والمبتدأ الثاني وخبره : خبر عن المبتدأ الأول. والمآب : مضاف إليه ، أصله مأوب على وزن مفعل : من آب يئوب ، إلا أنه نقلت حركة الواو إلى الهمزة ، فتحركت الواو وانفتح ما قبلها وقلبت ألفا نحو : مقام ومقال.

البلاغة :

(حُبُّ الشَّهَواتِ) أي المشتهيات ، وعبّر بالشهوات عن الأعيان المشتهاة ، مبالغة في كونها مشتهاة ، محروصا على الاستمتاع بها. والقصد تخسيسها ، وأن المزيّن لهم حبه ما هو إلا شهوات لا غير. ويوجد جناس ناقص بين (الْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ).

المفردات اللغوية :

(زُيِّنَ) حبّب لهم ، والمزين : هو الله للابتلاء ، أو الشيطان بوسوسته وتحسينه الميل إليها (الشَّهَواتِ) جمع شهوة : وهي ما تشتهيه النفس وتميل إليه وتستلذه ، والمراد بها المشتهيات ، كما يقال : شهوة فلان : الطعام ، أي ما يشتهيه. (وَالْقَناطِيرِ) جمع قنطار : وهو المال الكثير ، وعن سعيد بن جبير : مائة ألف دينار. ولقد جاء الإسلام وفي مكة : مائة رجل قد قنطروا (الْمُقَنْطَرَةِ) المجمعة (الْمُسَوَّمَةِ) الحسان المعلمة ، من السومة : وهي العلامة ، أو المرعية في المروج والمراعي : من أسام الدابة وسوّمها : رعاها (وَالْأَنْعامِ) : الإبل والبقر والمعز والغنم (وَالْحَرْثِ) الزرع والنبات (ذلِكَ) أي المذكور أو المتقدم ذكره (مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا) يتمتع به فيها ثم يفنى (وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ) المرجع وهو الجنة ، فينبغي الرغبة فيه دون غيره.

المناسبة :

ذكر في الآيات السابقة عاقبة الغرور بالمال والولد ، ثم ذكر هنا وجه الغرور وسببه ، تحذيرا للناس من استعباد الشهوات لأنفسهم ، والانشغال بها عن أعمال الآخرة.

١٦٤

التفسير والبيان :

حببت الشهوات للناس وحسّنت في أعينهم وقلوبهم ، حتى صار حبها غريزة أو فطرة عندهم ، فمن أحب شيئا ولم يزين له ، يوشك أن يعدل عنه يوما ما ، ومن زين له حبه ، فلا يكاد يعدل عنه. ولقد عبر القرآن عن الأشياء المشتهاة بالشهوة ذاتها مبالغة في كونها مشتهاة مرغوبا فيها ، وإشارة إلى أن الشهوة مذمومة حتى يعتدل الإنسان في حبه لها ، ويعدّل غريزته نحوها ، ولا يحمله حبّه الدنيا حبا أعمى ، وتعلقه بالزعامة الموقوتة ، والمال الزائل على طمس معالم الحق وعدم الإيمان بدين الحق ، الذي عرفوه كما عرفوا أبناءهم ، مثل وفد نصارى نجران وغيرهم من زعماء الكفر.

ومن المزين للشهوات؟ قيل : المزين هو الله للابتلاء والاختبار ، بمعنى أن الله فطر الناس على حب هذه الشهوات ، كما قال : (إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) [الكهف ١٨ / ٧] وقال : (كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ) [الأنعام ٦ / ١٠٨].

وقيل : المزين هو الشيطان بالوسوسة وتحسين الميل للشهوات للإضلال ، كما قال تعالى : (وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ) [الأنفال ٨ / ٤٨].

وعلى أي حال ، الإسلام دين ودنيا ، فلا يقصد من هذه الآية المنع من مجرد حب معتدل للشهوات ، وإنما الممنوع المبالغة في الحب والإسراف في الشهوات ، والاشتغال بها ، حتى تطغى على العقيدة والدين ، ويهمل أمر الآخرة ، بدليل قوله تعالى : (قُلْ : مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ) [الأعراف ٧ / ٣٢].

ثم ذكر الله تعالى أصنافا ستة من المشتهيات والملاذ وهي :

١٦٥

١ ـ النساء :

فإن الرجل متعلق بالمرأة ، ميال إليها ، فهي مطمح النظر ، وموضع العناية ، وإليها تسكن نفسه : (لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً) [الروم ٣٠ / ٢١] وعليها ينفق ماله بسخاء. وبدأ بالنساء ؛ لأن الفتنة بهن أشد ، كما ثبت في الصحيح أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء» (١).

وقدم النساء على الأولاد مع أن حبهنّ قد يزول ، وحب الأولاد لا يزول ؛ لأن حب الولد لا غلو ولا إسراف فيه ، كحب المرأة.

أما إذا كان القصد بتعلق الرجل بالمرأة هو الإعفاف وكثرة الأولاد ، فهو مطلوب ، مرغب فيه ، مندوب إليه شرعا ، قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الدنيا كلها متاع ، وخير متاع الدنيا : المرأة الصالحة»(٢). وفي رواية : «الدنيا متاع ، وخير متاعها المرأة الصالحة : إن نظر إليها سرته ، وإن أمرها أطاعته ، وإن غاب عنها حفظته في نفسها وماله». ولم يمنع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من حب المرأة حبا معقولا فقال : «حبّب إلي من دنياكم : النساء ، والطيب ، وجعلت قرة عيني في الصلاة» (٣).

٢ ـ البنون :

أي الأولاد مطلقا ، فهم فلذة الأكباد ، وقرة الأعين. لكنهم مع الأموال فتنة تتطلب الحذر ، كما قال تعالى : (إِنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ) [التغابن ٦٤ / ١٥] والفتنة بالأولاد : الابتلاء بجمع المال لأجلهم.

__________________

(١) رواه أحمد والشيخان والترمذي والنسائي وابن ماجه (الجماعة) عن أسامة بن زيد.

(٢) رواه أحمد ومسلم والنسائي عن عبد الله بن عمرو.

(٣) رواه أحمد والنسائي والحاكم والبيهقي عن أنس بن مالك.

١٦٦

وسبب حب الأولاد والزوجات واحد : هو بقاء النوع الإنساني ، وحب بقاء الأثر والسمعة والذّكر.

وعبر بالبنين ويشمل البنات من باب التغليب ؛ إذ أن حب الابن عادة أقوى من حب البنت ؛ لأن بقاء الذّكر والسمعة بين الناس يكون عن طريق البنين ، ولأن الأنثى تنفصل من عشيرتها وتلتحق بعشيرة أخرى ، ولأن الأمل بدعم الولد لوالده وكفالته له حين الحاجة يتعلق بالابن ، ولأن مخاطر الأنثى أكثر من مخاطر الذكر.

٣ ـ القناطير المقنطرة من الذهب والفضة :

المراد المال الكثير ؛ لأن العرب تريد بالقناطر المال الكثير ، والمقنطرة تأكيد. وحب المال غريزة في البشر ؛ لأنه وسيلة لتحقيق الحوائج وتلبية الرغبات.

جاء في السنة : «لو كان لابن آدم واد من مال لابتغى إليه ثانيا ، ولو كان له واديان لابتغى لهما ثالثا ، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب ، ويتوب الله على من تاب» (١).

وذم المال ليس لذاته ، فهو نعمة من الله ، وإنما لما يؤديه من طغيان وتكبر وفسوق كما قال تعالى : (إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى) [العلق ٩٦ / ٦ ـ ٧] ، أما إذا أدى المسلم فيه حقوق الله والناس ، وشكر النعمة ، ووصل به الرحم ، وأنفق منه في سبيل الله ، كان خيرا وسببا للسعادة والتقرب من الله ، جاء في الحديث الثابت المتقدم : «نعم المال الصالح للرجل الصالح».

__________________

(١) رواه أحمد والشيخان والترمذي عن أنس بن مالك ، ورواه أحمد والشيخان أيضا عن ابن عباس.

١٦٧

٤ ـ الخيل المسوّمة :

المعلمة أو التي ترعى في المراعي أو المطهّمة الحسان الأصيلة التي يقتنيها السادة والأغنياء : من المتع التي يفاخر بها الناس بعضهم ، ويتنافسون فيها ، وهي مذمومة إن كانت سببا للشر والبعد عن الله وإهمال واجبات الله. وتكون محمودة إن استخدمت للجهاد في سبيل الله ، عملا بقوله تعالى : (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ) [الأنفال ٨ / ٦٠]. قال العلماء أخذا بحديث : حب الخيل على ثلاثة أقسام : تارة يكون ربطها أصحابها معدة لسبيل الله ، فهؤلاء يثابون. وتارة تربط فخرا لأهل الإسلام فهذه على صاحبها وزر ، وتارة للتعفف واقتناء نسلها ولم ينس حق الله في رقابها ، فهذه لصاحبها ستر.

٥ ـ الأنعام :

وهي ثروة الناس الأصلية إلى عهد قريب ، وبها معايشهم ، وتفاخرهم وتكاثرهم ، وهي زينة ، فإن اقتناها صاحبها بقصد المعيشة كانت خيرا ، وإن اقتناها مفاخرة ورياء ، كانت شرا.

٦ ـ الحرث :

الزرع والنبات : هو مصدر دائم للحياة في البادية والحضر ، والحاجة إليه أشد من الحاجة لما سواه من الأنواع السابقة ، فإن قصد به نفع العباد ، كان صاحبه مأجورا ، وإن قصد به التكثر والبطر كان عليه شرا.

ثم وصف الله تلك الأصناف الستة وصفا عاما وهو أنها متاع يتمتع به في الدنيا ، والله عنده حسن المآب أي المرجع في الحياة الآخرة. فعلى المؤمن ألا يغتر بهذه الشهوات ، وإنما يعتني بها بجعلها مجرد وسيلة للمعيشة في الدنيا ، ولا تشغله عن واجباته الدينية نحو الآخرة ، فالمؤمن يعمل لسعادة الدارين ، كما قال تعالى :

١٦٨

(رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً ، وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً ، وَقِنا عَذابَ النَّارِ) [البقرة ٢ / ٢٠١].

فقه الحياة أو الأحكام :

الآية توبيخ لمعاصري محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم من اليهود وغيرهم ، ممن صرفتهم الأهواء والشهوات عن اتباع دعوة الإسلام ، فإذا أراد الإنسان النجاة من حساب الله يوم القيامة ، ابتعد عن مزالق الشهوات الممنوعة ، فإن اتباع الشهوات مرد في النار ومهلكة ، جاء في صحيح مسلم عن أنس : «حفّت الجنة بالمكاره وحفّت النار بالشهوات» والمعنى أن الجنة لا تنال إلا بتجاوز المكاره وبالصبر عليها ، وأن النار لا ينجى منها إلا بترك الشهوات وفطام النفس عنها.

والشهوات المذكورة في الآية هي التي يحدث فيها الإفراط أو المغالاة أو التي تكون سببا للتفريط في الواجبات الدينية ، فإن قصدت ضمن الحدود المعتدلة المعقولة لم تكن وبالأعلى صاحبها ، وقد تكون سببا للثواب وزيادة الأجرة إن قصد بها الخير والصون والعفاف وتسخيرها في سبيل الله ومرضاته. قال العلماء : ذكر الله تعالى أربعة أصناف من المال ، كل نوع من المال يتموّل به صنف من الناس : أما الذهب والفضة فيتموّل بها التجار ، وأما الخيل المسوّمة فيتمول بها الملوك ، وأما الأنعام فيتمول بها أهل البوادي ، وأما الحرث فيتمول بها أهل الريف والقرى.

ودل قوله تعالى : (ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا) أي ما يتمتع به فيها ثم يذهب ولا يبقى ، على تزهيد الناس في الدنيا وتحقيرها ، والترغيب في الآخرة ، روى ابن ماجه وغيره عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إنما الدنيا متاع ، وليس من متاع الدنيا شيء أفضل من المرأة الصالحة». وثبت في الحديث الصحيح : «ازهد في الدنيا يحبّك الله» أي ازهد في متاعها من الجاه والمال الزائد

١٦٩

على الضروري ، وأخرج الترمذي عن المقدام بن معد يكرب أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ليس لابن آدم حق في سوى هذه الخصال : بيت يسكنه ، وثوب يواري عورته ، وجلف (١) الخبز والماء».

وأما قوله تعالى : (وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ) فيدل على تقليل الدنيا وتحقيرها والترغيب في حسن المرجع إلى الله تعالى في الآخرة.

الجنات التي هي خير من الدنيا ومفاتنها

(قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَأَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (١٥) الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا إِنَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَقِنا عَذابَ النَّارِ (١٦) الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ (١٧))

الإعراب :

(جَنَّاتٌ) : مبتدأ ، وخبره المقدم : للذين اتقوا ، كقولك : لله الحمد. (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) : جملة فعلية في موضع رفع صفة : جنات. (خالِدِينَ فِيها) منصوب على الحال من (الَّذِينَ) المجرور باللام.

(الَّذِينَ يَقُولُونَ) الذين : بدل مجرور من قوله : (لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ).

(الصَّابِرِينَ) إما منصوب على المدح ، وتقديره : أمدح الصابرين ، وإما مجرور بدل من

الذين ، أو وصف للذين أو وصف للعباد.

__________________

(١) الجلف : الخبز وحده لا أدم معه.

١٧٠

البلاغة :

(أَأُنَبِّئُكُمْ) استفهام تقرير.

(بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ) إبهام الخير لتفخيم شأنه والتشويق لمعرفته.

(لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ) عبّر بكلمة الرب ، وأضافها لضمير المتقين لإظهار مزيد اللطف بهم.

المفردات اللغوية :

(أَأُنَبِّئُكُمْ) أخبركم (مِنْ ذلِكُمْ) المذكور من الشهوات (لِلَّذِينَ اتَّقَوْا) الشرك (مُطَهَّرَةٌ) طاهرات من الفواحش والحيض والنفاس (وَرِضْوانٌ) رضا كثير (وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ) عالم بهم ، فيجازي كلا منهم بعمله.

(الصَّابِرِينَ) على الطاعة وعن المعصية ، والصبر : حبس النفس عند كل مكروه يشق عليها احتماله (وَالصَّادِقِينَ) في الإيمان. والصدق يكون في القول والعمل ، والصفة كالحب (وَالْقانِتِينَ) المداومين على الطاعة والعبادة.

(وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ) أي المصلين وقت السحر ، القائلين : اللهم اغفر لنا. (بِالْأَسْحارِ) أواخر الليل ، جمع سحر : وهو الوقت الذي يختلط فيه ظلام آخر الليل بضياء النهار.

المناسبة :

هذه الآية تفضيل وتفصيل ، فهي تبين الأفضل من زخارف الدنيا وزينتها التي تشتمل على فضيلة إن استعملت في خير وحق ولم تؤد إلى إهمال الواجب نحو الله. وهي تفصل المراد من قوله تعالى : (وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ) الذي أبهم فيه الخير تفخيما لشأنه وتشويقا إليه ، ثم وضح بقوله تعالى : (لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ).

التفسير والبيان :

قل لهم يا محمد : أأخبركم بما هو خير من جميع الأصناف المذكورة للشهوات؟

١٧١

وعبر بالاستفهام التقريري لاجتذاب الأنظار وتشويق النفوس إلى الجواب. ثم أجاب عن الاستفهام: للمتقين : جنات تجري من تحتها الأنهار ، ماكثين فيها أبدا ، وزوجات طاهرات من النقائص والفواحش والشوائب كالحيض والنفاس. وهذا نعيم جسدي مادي : وهو الجنة ، ولهم أيضا نعيم روحاني وهو رضوان الله الذي لا يشوبه شيء ، وهو أعظم وأكبر من كل نعمة ولذة مادية. وقد بدأ بذكر المقر وهو الجنات ، ثم ذكر ما يحصل به الأنس التام من الأزواج المطهرة ، ثم ذكر ما هو أعظم الأشياء وهو رضا الله عنهم ، فحصل بمجموع ذلك اللذة الجسمانية والفرح الروحاني حيث علم برضا الله عنه.

وقوله : للذين اتقوا عند ربهم جنات : جواب عن الاستفهام ، وكلام مستأنف فيه دلالة على بيان ما هو خير من أصناف الشهوات ، سواء استعملت في محالها ومواضعها التي خلقت من أجله : وهي تحقيق حوائج الناس ، أو أسيء استعمالها ، وقرن بها الشر والفساد ، كما تقول : هل أدلك على رجل عالم ، أو تاجر صدوق في السوق؟ هو فلان.

هذه الآية التي اشتملت على بيان نوعين من الجزاء : المادي وهو الجنة والأزواج ، والروحي وهو رضوان الله ، تشبه قوله تعالى : (وَعَدَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ، خالِدِينَ فِيها ، وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ، وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ ، ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) [التوبة ٩ / ٧٢] وقوله : (وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ ، وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرِضْوانٌ ، وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ) [الحديد ٥٧ / ٢٠].

ثم ختمت الآية بقوله : (وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ) أي خبير بأحوالهم ، وبأسرارهم ، وحقيقة تقواهم ، فيجازي كل نفس بما كسبت من خير أو شر ، وفي هذا إيماء ليحاسب كل إنسان نفسه على التقوى ، فليست التقوى بالمظاهر ، وإنما

١٧٢

المتقي : من يعلم منه ربه التقوى. وهذه الجملة وعد ووعيد. ولما ذكر المتقين ذكر شيئا من صفاتهم.

فذكر الله تعالى أوصاف المتقين ، وهم الذين يقولون : ربنا إننا آمنا بما أنزلته على رسلك إيمانا ثابتا راسخا في القلب ، مهيمنا على كل أعمالنا ، فاستر ذنوبنا بعفوك ، وادفع عنا عذاب النار ، إنك أنت الغفور الرحيم.

وهم أيضا الصابرون على أداء الطاعات وترك المعاصي ، الراضون بقضاء الله وقدره ، ولا شك أن الصبر يقوي الإرادة ، ويعصم النفس عن الانزلاق في الأهواء والشهوات والمنكرات.

وهم الصادقون في إيمانهم وأقوالهم وأفعالهم ، يترجمون عنه بكل شيء حميد وخلق عال ، كما قال تعالى : (وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ ، وَصَدَّقَ بِهِ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ. لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ، ذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ) [الزمر ٣٩ / ٣٣ ـ ٣٤].

وهم القانتون المداومون على الخشوع والطاعة والضراعة إلى الله ، وذلك لب العبادة وروحها. والمنفقون أموالهم في سبيل الله نفقة واجبة أو مستحبة. والمستغفرون بالأسحار بالتهجد في آخر الليل ، والدعاء بالمغفرة والرضا. والاستغفار المطلوب : ما يقرن بالتوبة النصوح والعمل على وفق حدود الدين ، ولا يكفي الاستغفار باللسان مع الإقامة على المعصية ، فإن المستغفر من الذنب ، وهو مقيم على معصيته ، كالمستهزئ بربه.

وأفضل صيغة للاستغفار : ما رواه البخاري عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : سيد الاستغفار أن تقول : «اللهم أنت ربي ، لا إله إلا أنت ، خلقتني وأنا عبدك ، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت ، أعوذ بك من شر ما صنعت ، أبوء لك بنعمتك علي ، وأبوء بذنبي ، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت».

١٧٣

فقه الحياة أو الأحكام :

إن نظرة الإنسان في الغالب آنية وقتية ، لا ينظر إلى المستقبل البعيد ، ولا يقارن بين الباقي الدائم والمنقطع الموقت ، لذا كان القرآن أكبر مساعد للعقل على التزام جادة التفكير السوي والاستقامة. فإن الخالد المستمر أفضل من الذي يزول بسرعة ، وهكذا كانت هذه الآية مع الآية السابقة مقارنة مبينة ما هو الأصلح للإنسان ، تسلية عن الدنيا وتقوية لنفوس تاركيها.

وهذه الآية والتي قبلها نظير قوله عليه الصلاة والسلام : «تنكح المرأة لأربع : لما لها وحسبها وجمالها ودينها ، فاظفر بذات الدين ، تربت يداك» (١).

والذي هو خير من الدنيا وشهواتها وكل ما فيها هو جنان الخلد وما فيها من متع خالصة كالحور العين والولدان المخلدين ، وعبر عن الحور بالأزواج المطهرة المبرأة من عيوب نساء الدنيا خلقا وخلقا ، وهو أيضا الفوز برضوان الله ، وهو أعظم المتع كلها في الآخرة عند أهل التقوى ، فإذا دخل أهل الجنة الجنة يقول الله تعالى لهم : «تريدون شيئا أزيدكم؟» فيقولون : يا ربنا ، وأي شيء أفضل من هذا؟ فيقول : «رضاي ، فلا أسخط عليكم بعده أبدا» (٢).

والجمع بين الجنات والرضوان الإلهي يشير إلى أن أهل الجنة درجات ، كما أن أهل النار في دركات ، فمن أهل الجنة : من يرغب في لذات الدنيا الحسية ، ومنهم من ارتقى إدراكه واشتد اهتمامه بقربه من ربه ، فيتمنى رضاه ويفضله على أي شيء سواه.

__________________

(١) أخرجه مسلم وغيره عن أبي هريرة ، ومعنى : تربت يداك : افتقرت ، ولا يراد بها الدعاء ، وإنما يراد الحث والتحريض.

(٢) أخرجه مسلم.

١٧٤

والقصد من قوله : (آمَنَّا) في دعاء المتقين : الإيمان الصحيح الذي تصدر عنه آثاره من ترك المعاصي وفعل الصالحات ، إذا الإيمان : اعتقاد وقول وعمل.

وصرحت الآية بصفات المتقين : وهي الإيمان ، والصبر ، والصدق ، والقنوت (الخشوع والطاعة) والإنفاق في سبيل الله ، والاستغفار بالأسحار : وهو الصلاة في آخر الليل (أي التهجد) وسؤال المغفرة ، فإن المستغفرين بالأسحار يصلون ويستغفرون. وخص السحر بالذكر ؛ لأنه مظانّ القبول ووقت إجابة الدعاء. سأل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم جبريل : «أي الليل أسمع؟» فقال : «لا أدري غير أن العرش يهتزّ عند السحر». والسحر : من حين يدبر الليل إلى أن يطلع الفجر ، وقيل : هو سدس الليل الأخير. والأصح من هذا : ما روى الأئمة عن أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ينزل الله عزوجل إلى سماء الدنيا كل ليلة ، حين يمضي ثلث الليل الأول ، فيقول : أنا الملك ، أنا الملك ، من ذا الذي يدعوني ، فأستجيب له ، من ذا الذي يسألني فأعطيه ، من ذا الذي يستغفرني فأغفر له ، فلا يزال كذلك حتى يطلع الفجر» (١). ووضحت وقت السحر رواية النسائي عن أبي هريرة وأبي سعيد : «إن الله عزوجل يمهل ، حتى يمضي شطر الليل الأول ..» وكان عبد الله بن عمر يصلي من الليل ، ثم يقول : يا نافع ، هل جاء السحر؟ فإذا قال : نعم ، أقبل على الدعاء والاستغفار حتى يصبح (٢).

والاستغفار : طلب المغفرة باللسان مع حضور القلب ؛ لأن الله لا يستجيب دعاء غافل ، لاه ، معرض قلبه عن الله.

__________________

(١) هذا لفظ مسلم ، وتأول القرطبي أول الحديث : «ينزل الله ..» بأنه من باب حذف المضاف ، أي ينزل ملك ربنا ، فيقول. ويرى أهل السلف : أن هناك نزولا يليق بذات الله من غير تحديد بمكان وكيفية ، وهو أولى.

(٢) رواه ابن أبي حاتم.

١٧٥

الشهادة بوحدانية الله وقيامه بالعدل ونوع الدين المقبول عند الله

(شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١٨) إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآياتِ اللهِ فَإِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (١٩) فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (٢٠))

الإعراب :

(قائِماً بِالْقِسْطِ) حال مؤكدة من (هُوَ).

(إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ) الدين اسم إن والإسلام خبره. ومن قرأ (إِنَ) بفتحها ، فهي بدل منصوب من قوله : (أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) بدل الشيء من الشيء ، ويجوز أن يكون بدل الاشتمال ، على تقدير اشتمال الثاني على الأول ؛ لأن الإسلام يشتمل على شرائع كثيرة ، منها التوحيد ، ويجوز كونها بدلا مجرورا من (بِالْقِسْطِ) في قوله : (قائِماً بِالْقِسْطِ) بدل الشيء من الشيء.

(بَغْياً بَيْنَهُمْ) في نصبه وجهان : إما لأنه مفعول لأجله أو لأنه حال من الذين.

(وَمَنْ يَكْفُرْ) من : شرطية مبتدأ ، وخبره : جملة ، فإن الله سريع الحساب ، والعائد من الجملة إلى المبتدأ مقدر ، وتقديره : فإن الله سريع الحساب لهم.

(وَمَنِ اتَّبَعَنِ) إما مرفوع بالعطف على تاء (أَسْلَمْتُ) أو مبتدأ وخبره محذوف ، وتقديره : ومن اتبعن أسلم وجهه لله متبعا.

١٧٦

(أَأَسْلَمْتُمْ) لفظة استفهام ، والمراد به الأمر ، أي أسلموا ، مثل (فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) أي انتهوا.

البلاغة :

(إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ) الجملة معرفة الطرفين ، فتفيد الحصر ، أي لا دين إلا الإسلام.

(الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) التعبير بذلك عن أهل الكتاب لزيادة التشنيع والتقبيح عليهم.

(بِآياتِ اللهِ ، فَإِنَّ اللهَ) إظهار لفظ الجلالة لتربية المهابة وإلقاء الروعة في النفوس.

(أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ) أطلق الوجه ، وأراد الكل ، فهو مجاز مرسل ، من إطلاق الجزء وإرادة الكل.

المفردات اللغوية :

(شَهِدَ اللهُ) الشهادة : الإخبار المقرون بالعلم والإظهار والبيان إما بالمشاهدة الحسية ، وإما بالمشاهدة المعنوية وهي الحجة والبرهان. والمراد : بيّن وأعلم الله تعالى لخلقه بالدلائل والآيات والبراهين (١)(أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) أي لا معبود في الوجود بحق إلا هو (وَأُولُوا الْعِلْمِ) هم أهل البرهان القادرون على الإقناع ، وهم الأنبياء والمؤمنون ، بالاعتقاد واللفظ (قائِماً) بتدبير مصنوعاته ، أي تفرد (بِالْقِسْطِ) بالعدل في الدين والشريعة وفي الكون والطبيعة (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) كرره تأكيدا (الْعَزِيزُ) في ملكه (الْحَكِيمُ) في صنعه (إِنَّ الدِّينَ) أي الملة والشرع ، والمراد : الدين المرضي هو «الإسلام» أي الشرع المبعوث به الرسل المبني على التوحيد.

(وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) اليهود والنصارى ، في الدين ، بأن وحّد بعض وكفر بعض (إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ) بالتوحيد (بَغْياً) حسدا أو ظلما من الكافرين (سَرِيعُ الْحِسابِ) المجازاة له.

(حَاجُّوكَ) خاصمك الكفار يا محمد في الدين (أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ) انقدت له ، وخص الوجه بالذكر ، لشرفه ، فغيره أولى (أُوتُوا الْكِتابَ) اليهود والنصارى (وَالْأُمِّيِّينَ) مشركي

__________________

(١) قال الواحدي : شهادة الله : بيانه وإظهاره ، والشاهد : هو العالم الذي بين ما علمه ، والله تعال بيّن دلالات التوحيد بجميع ما خلق.

١٧٧

العرب (أَأَسْلَمْتُمْ) أي أسلموا (الْبَلاغُ) التبليغ للرسالة (وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ) خبير بأعمالهم ، فيجازيهم عليها ، وهذا من قبيل الأمر بالقتال.

سبب النزول :

لما ظهر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالمدينة ، قدم عليه حبران من أحبار أهل الشام ، فلما أبصرا المدينة ، قال أحدهما لصاحبه : ما أشبه هذه المدينة بصفة مدينة النبي الذي يخرج في آخر الزمان ، فلما دخلا على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عرفاه بالصفة والنعت ، فقالا له : أنت محمد؟ قال : نعم ، قالا : وأنت أحمد؟ قال : نعم ، قالا : إنا نسألك عن شهادة ، فإن أنت أخبرتنا بها آمنا بك وصدقناك ، فقال لهما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : سلاني ، فقالا : أخبرنا عن أعظم شهادة في كتاب الله؟ فأنزل الله تعالى على نبيه : (شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ) فأسلم الرجلان ، وصدّقا برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (١).

التفسير والبيان :

بيّن الله تعالى لجميع الخلائق وحدانيته أو أنه المتفرد بالألوهية بالدلائل التكوينية والتصرفية في الآفاق والأنفس. وأخبر الملائكة الرسل بهذا ، وشهدوا شهادة مؤيدة بعلم بدهي ، وكذلك أخبر أولو العلم بذلك ، وبينوه وشهدوا به شهادة مقرونة بالدليل والحجة ، وهذه خصوصية عظيمة للعلماء في هذا المقام. قال الأعمش : وأنا أشهد بما شهد الله به ، وأستودع الله هذه الشهادة ، وهي لي عند الله وديعة.

وأنه القائم بالعدل في جميع الأحوال من العقائد والعبادات والآداب والأعمال وفي الكون والخليقة ، ومن صفة العدل أنه يأمر حقا بالعدل في الأحكام ، كما تقرر في نحو قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ) [النحل ١٦ / ٩٠] وقوله :

__________________

(١) أسباب النزول للنيسابوري : ص ٥٤

١٧٨

(وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ) [النساء ٤ / ٥٨] ، فالله عادل في الشريعة وفي الكون ، حيث إنه أتقن نظام الكون وعدل بين القوى الروحية والمادية ، وأقام التوازن الدقيق في الأحكام بين الإنسان والخالق ، وبين الفرد والجماعة ، وبين الإنسان وأخيه ، وبين فئات الناس في مجتمع ما ، بين الغني والفقير ونحو ذلك.

ثم أكد سبحانه انفراده بالألوهية بقوله : (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ ، الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) والعزيز : هو القوي الذي لا يغلب ، الكامل القدرة ، السامي العظمة والكبرياء. والحكيم : الذي يضع كل شيء في موضعه الصحيح ، سواء في أقواله وأفعاله وشرعه وقدره.

ثم ذكر نوع الدين الذي ارتضاه لعباده من بدء الخليقة إلى يوم القيامة : وهو دين الإسلام لا غيره ، فهذا إخبار منه تعالى بأنه لا دين عنده يقبله من أحد ، سوى الإسلام : وهو اتباع الرسل فيما بعثهم الله به في كل حين ، حتى ختموا بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أي اتباع الملل والشرائع التي جاء بها الأنبياء والمرسلون ، فهم إن اختلفوا في الفروع ، لم يختلفوا في الأصول وجوهر الدين : وهو التوحيد والسلام ، والعدل في كل شيء. فمن لقي الله بعد بعثه محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بدين على غير شريعته ، فليس بمتقبل ، كما قال تعالى : (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ ، وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ) [آل عمران ٣ / ٨٥].

ومعنى الإسلام : السلام والصلح ، والخضوع والانقياد لله ، كما قال تعالى : (وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ ، وَهُوَ مُحْسِنٌ ، وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً) [النساء ٤ / ١٢٥].

وتشريع الدين له هدفان : تصحيح الاعتقاد وحصر معنى الألوهية والربوبية بالله تعالى ، وإصلاح النفوس بالنية الخالصة لله وللناس وبالعمل الصالح.

١٧٩

ثم أخبر الله تعالى بأن أهل الكتاب (اليهود والنصارى) إنما اختلفوا بعد ما قامت عليهم الحجة بإرسال الرسل إليهم وإنزال الكتب عليهم ، وبأن محمدا هو خاتم الأنبياء وهو المبشر به عندهم : (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ) [البقرة ٢ / ١٤٦].

فصاروا شيعا ومذاهب يقتتلون في الدين ، وتفرقت كلمتهم في شأن محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد ما جاءهم العلم اليقيني بنبوته ، وبأن الدين واحد لا مجال للاختلاف فيه ، إلا بسبب البغي والحسد ، فكان ذلك سببا للفرقة ، وكان اختلافهم في شأن محمد حسدا من عند أنفسهم ، وبغيا بينهم ، وحرصا على الدنيا وما فيها.

والخلاصة : أن اختلافهم في أصل الدين الحق وفي نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان بسبب بغي بعضهم على بعض ، وتحاسدهم وتباغضهم وتدابرهم ، فخالف بعضهم البعض الآخر في جميع أقواله وأفعاله ، وإن كانت حقا.

ثم هدد تعالى بأن من أنكر آيات الله التكوينية في الأنفس والآفاق وجحد ما أنزل الله في كتابه مما يوجب الاعتصام بالدين ووحدته ، فإن الله سيجازيه على ذلك ، ويحاسبه على تكذيبه ، ويعاقبه على مخالفته كتابه.

ثم حسم الله تعالى مجادلة أهل الكتاب وغيرهم في التوحيد ، فقال : فإن جادلك أهل الكتاب أو غيرهم في التوحيد ، فقل : أخلصت عبادتي لله وحده لا شريك له ، ولا ندّ له ، ولا ولد له ، ولا صاحبة له ، وهذا مبدئي ومبدأ من اتبعني على ديني من المؤمنين ، كما قال تعالى : (قُلْ : هذِهِ سَبِيلِي ، أَدْعُوا إِلَى اللهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي) [يوسف ١٢ / ١٠٨] فلا فائدة في الجدل مع أمثال هؤلاء ، بعد أن قامت الأدلة على وجود الله ووحدانيته ، وبطلت شبهات الضالين.

ثم قال تعالى آمرا عبده ورسوله محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يدعو إلى طريقته ودينه والدخول في شرعه وما بعثه الله به ، أهل الكتاب ومشركي العرب ، فيقول لهم :

١٨٠