التفسير المنير - ج ٣

الدكتور وهبة الزحيلي

الذين كفروا ومتوفيك بعد أن تنزل من السماء ، أي أنه رفعه إلى السماء حيا بجسمه وروحه ، وسينزل في آخر الزمان ، فيحكم بشريعة الإسلام ، ثم يميته الله. وهذا ما دلت عليه الأحاديث النبوية الصحيحة ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن عيسى لم يمت ، وإنه راجع إليكم قبل يوم القيامة».

٢ ـ التوفي : الإماتة العادية ، والرفع : رفع الروح والمكانة ، لا المكان ، كما قال تعالى في شأن إدريس عليه‌السلام : (وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا) [مريم ١٩ / ٥٧] وقال في شأن المؤمنين : (فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ) [القمر ٥٤ / ٥٥] ويكون المعنى : إني مميتك وجاعلك بعد الموت في مكان علي رفيع.

ويؤيد التأويل الأول أكثر العلماء ، وقال بعضهم وهو الربيع بن أنس : المراد بالوفاة هاهنا : النوم ، كما قال تعالى : (وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ) [الأنعام ٦ / ٦٠] وقال : (اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها ، وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها) [الزمر ٣٩ / ٤٢] وكان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول إذا قام من النوم : «الحمد لله الذي أحيانا ، بعد ما أماتنا». وقال القرطبي : والصحيح أن الله تعالى رفعه إلى السماء من غير وفاة ولا نوم ، وهو اختيار الطبري ، وهو الصحيح عن ابن عباس.

وذكر الله تعالى قصة صلب عيسى ورفعه في آيات أخرى هي : (وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بُهْتاناً عَظِيماً. وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللهِ ، وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ ، وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ ، وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ ، ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّباعَ الظَّنِّ ، وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً. بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ ، وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً. وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ ، وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً) [النساء ٤ / ١٥٦ ـ ١٥٩]. والضمير في قوله (قَبْلَ مَوْتِهِ) عائد على عيسى عليه‌السلام ، أي : وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن

٢٤١

بعيسى ، وذلك حين ينزل إلى الأرض قبل يوم القيامة ، فحينئذ يؤمن به أهل الكتاب كلهم ؛ لأنه يضع الجزية ، ولا يقبل إلا الإسلام.

ثم أبان الله تعالى بعض وجوه أخرى من إكرام عيسى عليه‌السلام ، فقال : وجاعل الذين آمنوا بأنه عبد الله ورسوله ، وصدقوه في قوله ، واتبعوا دينه فوق الذين كفروا أي أعلى منهم ، وهي إما فوقية روحانية : وهي فضلهم عليهم في حسن الأخلاق ، وكمال الآداب ، والقرب من الحق ، والبعد عن الباطل ، وإما فوقية دنيوية وهي كونهم أصحاب السيادة عليهم ، وليس ذلك أمرا مطردا دائما في كل وقت ، مما يرجح كون الفوقية روحانية ومعنوية وأدبية.

هذه الفوقية في صحة العقيدة وسمو الآداب والأخلاق وقوة الحجة وعلو القدر تدوم لأهل الإيمان إلى يوم القيامة.

ثم مصيركم جميعا إلى يوم البعث ، فأحكم بينكم فيما اختلفتم فيه من أمور الدين.

ثم بيّن الله جزاء المحق والمبطل : فأما الذين كفروا بعيسى وكذبوه وهم اليهود فلهم عذاب في الدنيا بذنوبهم بالإذلال والقتل والأسر وتسليط الأمم عليهم ، وعذاب في الآخرة بنار جهنم ، وما لهم في الآخرة من نصير ولا معين.

وأما الذين آمنوا بعيسى وصدقوا بنبوته وبما جاء به من عند الله ، وعملوا صالحا بتنفيذ الأوامر وترك النواهي ، فيعطيهم الله أجورهم كاملة غير منقوصة.

ثم أكد تعالى جزاء الكافرين فقال : والله لا يحب الظالمين أي يعاقبهم ويجازيهم بما يستحقون ، أو لا يريد ظلم الظالمين.

هذه الأخبار عن عيسى نتلوها عليك يا محمد ، وهي من الأدلة الواضحة الدالة على صدق نبوتك ، وهي من القرآن الحكيم الذي يبين وجوه العبرة والحكمة

٢٤٢

والعظة في الأخبار والأحكام ، فيهتدي المؤمنون بها إلى الحق ومعرفة سر الشريعة وجوهر الدين. وشبيه ذلك قوله تعالى : (ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ. ما كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحانَهُ ، إِذا قَضى أَمْراً ، فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ : كُنْ فَيَكُونُ) [مريم ١٩ / ٣٤ ـ ٣٥].

فقه الحياة أو الأحكام :

أصحاب الدعوات الإصلاحية وعلى رأسهم الأنبياء يتعرضون بسبب دعوتهم إلى مختلف أنواع الأذى والطرد ومحاولة الاغتيال. ولكن اقتضت الحكمة الإلهية ألا ينضب الخير والفلاح بين الناس ، فيهيّئ أناسا يؤازرون المصلحين ، ويحتاج القائد إلى أن يتعرف على أتباعه وأنصاره المخلصين ، كما فعل عيسى عليه‌السلام بالتعرف على الحواريين ، ليعتمد عليهم وقت الشدة والأزمة ، ويساعدونه في تحمل عبء الدعوة إلى الله ، وهذا هو المراد بقوله : (مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ).

ولما أخرج بنو إسرائيل عيسى وأمه من بين أظهرهم ، عاد إليهم مع الحواريين ، وصاح فيهم بالدعوة ، فهموا بقتله ، وتواطؤوا على الفتك به ، فذلك مكرهم. ومكر الله في رأي الفراء : استدراجه لعباده من حيث لا يعلمون ، وفي رأي الزجاج : مكر الله : مجازاتهم على مكرهم ، فسمى الجزاء باسم الابتداء ، كقوله : (اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَهُوَ خادِعُهُمْ) وهذا على طريق المشاكلة ، وهو الرأي المشهور بين العلماء : رأي الجمهور.

والصحيح لدى المحققين من العلماء أن الله رفع عيسى عليه‌السلام إلى السماء من غير وفاة ولا نوم. وسينزل في آخر الزمان. جاء في صحيح مسلم عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «والله لينزلن ابن مريم حكما عادلا ، فليكسرن الصليب ، وليقتلن الخنزير ، وليضعن الجزية ، ولتتركنّ القلاص (١) ،

__________________

(١) القلاص : جمع قلوص وهي الناقة الشابة.

٢٤٣

فلا يسعى عليها ، ولتذهبن الشحناء والتباغض والتحاسد ، وليدعونّ إلى المال ، فلا يقبله أحد».

وأما تطهيره من الذين كفروا : فهو إنجاؤه مما كانوا يرمونه به ، أو يرومونه منه ، ويريدونه به من الشر.

وأما قوله (وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) ففيه رأيان : قال الضحاك ومحمد بن أبان : المراد الحواريون. وقال آخرون : الخطاب لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والفوقية : بالحجة وإقامة البرهان ، وقيل : بالعز والغلبة. والتفوق بالحجة على صحة دين الإسلام بالمعنى العام الذي يتفق عليه جميع الأنبياء وأتباع عيسى وموسى وغيرهم من أتباع محمد صلوات الله وسلامه عليهم : هو الأولى ، مثل آية : (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ ..) [النور ٢٤ / ٥٥].

وجزاء الكافرين : النار في الآخرة ، والقتل والصلب والسبي والإذلال في الدنيا. وجزاء المؤمنين الذين عملوا الصالحات : السعادة والاطمئنان في الدنيا ، والجنة في الآخرة ، فهي سعادة في الدارين.

الرّدّ على من زعم ألوهية عيسى والمباهلة

(إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٥٩) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (٦٠) فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللهِ عَلَى الْكاذِبِينَ (٦١) إِنَّ هذا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ اللهُ وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٦٢) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ (٦٣))

٢٤٤

الإعراب :

(خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ) جملة مفسّرة للمثل ، وهي موضع رفع خبر مبتدأ محذوف ، كأنه قيل: ما المثل؟ فقال : خلقه من تراب ، أي المثل خلقه من تراب. ولا يجوز أن يكون وصفا لآدم ؛ لأن آدم معرفة ، والجملة لا تكون إلا نكرة ، والمعرفة لا توصف بالنكرة. ولا يجوز أيضا أن يكون حالا ؛ لأن (خَلَقَهُ) فعل ماض ، والفعل الماضي لا يكون حالا.

(الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ) الحق : خبر مبتدأ محذوف تقديره : هذا الحقّ من ربّك ، أو هو الحقّ ، أي أمر عيسى.

(وَما مِنْ إِلهٍ) من : زائدة للتوكيد.

البلاغة :

(الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ) أتى بوصف الربوبية وأضافه إلى الرّسول عليه الصلاة والسلام لتشريفه.

(فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ) هذا من باب الإثارة والإلهاب ، لزيادة التّثبيت.

المفردات اللغوية :

(إِنَّ مَثَلَ عِيسى) المثل : الشأن الغريب والحال المدهشة. (عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ) أي كشأنه في خلقه من غير أم ولا أب ، وهو من تشبيه الغريب بالأغرب ، ليكون أوقع في النفس وأقطع لقول الخصم.

والمراد أنّ شبه عيسى وصفته في خلق الله إياه على غير مثال سبق ، كشأن آدم في ذلك ، ثم فسّر هذا المثل بقوله : (خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ) أي خلق قالبه وقدر أوضاعه وكون جسمه من تراب ميّت أصابه الماء ، فكان طينا لازبا لزجا. ثم قال له : كن بشرا ، فكان ، وكذلك عيسى قال له : كن من غير أب فكان.

(فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ) الشاكين فيه ، الامتراء : الشّك. (فَمَنْ حَاجَّكَ) جادلك من النصارى. (ثُمَّ نَبْتَهِلْ) نتضرّع في الدّعاء ، وابتهل القوم : تلاعنوا ، والبهلة : اللعنة. (فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللهِ عَلَى الْكاذِبِينَ) بأن نقول : اللهمّ العن الكاذب في شأن عيسى. وقد دعاصلى‌الله‌عليه‌وسلم وفد نجران لذلك ، لما حاجوه به ، فقالوا : حتى ننظر في أمرنا ، ثم نأتيك ، فقال ذو رأيهم ـ مستشارهم ، واسمه «العاقب» : «لقد عرفتم نبوّته ، وأنه ما باهل قوم نبيّا إلا هلكوا» ، فودّعوا الرجل وانصرفوا ، فأتوا الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقد خرج ، ومعه الحسن والحسين وفاطمة وعلي ، وقال لهم : إذا دعوت ، فأمّنوا ، فأبوا أن يلاعنوا وصالحوه على الجزية. رواه نعيم.

٢٤٥

(الْقَصَصُ) الخبر. (الْحَقُ) الذي لا شكّ فيه. (الْعَزِيزُ) أي ذو العزّة الذي لا يغالبه أحد في ملكه. (الْحَكِيمُ) ذو الحكمة الذي لا يساميه أحد في صنعه.

سبب النزول :

قال المفسّرون : إن وفد نجران قالوا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : مالك تشتم صاحبنا؟ قال : وما أقول؟ قالوا : تقول : إنه عبد ، قال : أجل ، إنه عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى العذراء البتول ، فغضبوا وقالوا : هل رأيت إنسانا قط من غير أب؟ فإن كنت صادقا فأرنا مثله ، فأنزل اللهعزوجل هذه الآية (١).

المناسبة :

ذكر الله تعالى سابقا قصة عيسى وأمه ، وإيمان بعض قومه به ، وكفر بعض آخر ، وهنا ذكر حال فريق ثالث لم يكفر به ، ولم يؤمن به إيمانا صحيحا ، بل افتتن به افتتانا ، لكونه ولد من غير أب ، فزعم أن معنى كونه «كلمة الله وروح الله» : أنّ الله حلّ في أمه ، وأن كلمة الله تجسّدت فيه ، فصار إنسانا وإلها ذا طبيعة مزدوجة ، فردّ الله عليهم بأن خلق آدم أعجب من خلق عيسى.

التفسير والبيان :

إن صفة عيسى في قدرة الله حيث خلقه من غير أب كمثل آدم حيث خلقه من غير أب ولا أم ، بل خلقه من تراب ، وقدره جسدا من طين ، ثم قال له : كن فيكون أي أنشأه بشرا بنفخ الروح فيه. شبّه الغريب بالأغرب منه ، والتشبيه واقع على أن عيسى خلق من غير أب كآدم ، لا على أنه خلق من تراب ، والشيء قد يشبّه بالشيء لاتّفاقهما في وصف واحد ، وإن اختلفا في أمور أخرى. فالذي خلق آدم من غير أب قادر على أن يخلق عيسى بطريق الأولى والأحرى ،

__________________

(١) البحر المحيط : ٢ / ٤٧٧

٢٤٦

وإن جاز ادّعاء النبوّة في عيسى ، لكونه مخلوقا من غير أب ، فجواز ادعائها في آدم بالطريق الأولى ، ومعلوم بالاتّفاق أن ذلك باطل ، فدعوى النبوّة في عيسى أشدّ بطلانا.

ولكن الله تعالى أراد أن يظهر قدرته للناس حين خلق آدم من غير ذكر ولا أنثى ، وخلق حواء من ذكر بلا أنثى ، وخلق عيسى من أنثى بلا ذكر ، وخلق بقية البشر من ذكر وأنثى. ولهذا قال تعالى في سورة مريم : (وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ) [٢١] ، وقال هنا : (الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ).

هذا الذي أخبرتك به من شأن عيسى ومريم هو القول الحق ، لا ما اعتقده النصاري في المسيح من أنه إله ، ولا ما زعمه اليهود من رمي مريم بيوسف النّجار. فلا تشكنّ في أمرهما بعد أن جاءك العلم اليقيني به. وهذا النهي يثير في النّبي وأمّته ضرورة الاعتصام باليقين واطمئنان النفس إلى الخبر الإلهي. أي واظب على يقينك وطمأنينة نفسك إلى الحقّ والبعد عن الشّك فيه ، أو أن الخطاب للنّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمراد أمته ، لأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يكن شاكّا في أمر عيسى عليه‌السلام.

فمن جادلك في شأن عيسى عليه‌السلام بعد معرفة الحقّ واليقين فادعهم إلى المباهلة أي الملاعنة: بأن نتباهل وندعو الله أن يلعن الكاذب ويطرده من رحمته. وهذه الآية تسمى آية المباهلة.

وقد ثبت أنّ النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم دعا نصارى نجران للمباهلة ، فأبوا. جاء في سيرة ابن إسحاق : أنه قدم سنة تسع على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفد نصارى نجران ستون راكبا : فيهم أربعة عشر رجلا من أشرافهم يؤول أمرهم إليهم ، منهم : «العاقب» واسمه عبد المسيح ، وكان أمير القوم وذا رأيهم وصاحب مشورتهم ، والذي لا يصدرون إلا عن رأيه. ومنهم السيّد وهو الأيهم ، وكان عالمهم ، ومنهم أبو حارثة بن علقمة أخو بكر بن وائل ، وكان أسقفهم. فدخلوا بعد العصر

٢٤٧

مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فصلوا صلاتهم إلى المشرق ، ثمّ كلّموا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقالوا عن عيسى : هو الله ، هو ولد الله ، هو ثالث ثلاثة ، فنزل القرآن للرّدّ عليهم.

وأخرج البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه : أنه جاء العاقب والسيّد صاحب نجران إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يريد أن يلاعناه ، فقال أحدهما لصاحبه : لا تفعل ، فوالله لئن كان نبيّا ، فلاعناه ، لا نفلح نحن ولا عقبنا من بعدنا. فقال : إنا نعطيك ما سألتنا ، وابعث معنا رجلا أمينا ، ولا تبعث معنا إلا أمينا ، فقال : لأبعثنّ معكم رجلا أمينا حق أمين ، قم يا أبا عبيدة بن الجرّاح ، فلما قام قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : هذا أمين هذه الأمّة.

وروي أنّ النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم اختار للمباهلة عليّا وفاطمة وولديهما : الحسن والحسين ، وخرج بهم وقال : إن أنا دعوت ، فأمّنوا أنتم.

وبعد أن رفضوا المباهلة صالحوا النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على الجزية : وهي دفع ألف حلّة في صفر ، وألف في رجب ودراهم.

وهذا يدلّ على قوة اليقين والثّقة بما يقول ، وعلى أن امتناعهم عن المباهلة فيه تقرير للخطر وكونهم على غير بيّنة فيما يعلنون ، فما أمكنهم الإقدام على المباهلة.

إن هذا الذي قصصته عليك في شأن عيسى هو القصص الحق الذي لا مرية فيه ولا جدال ، لا ما يدّعيه النصارى من كونه إلها أو ابن الله ، ولا ما يدّعيه اليهود من كونه ابن زنا. وسمّيت قصصا ؛ لأن المعاني تتابع فيها.

وليس هناك إله إلا الله العزيز الذي لا يغلبه أحد ، الحكيم : ذو الحكمة الذي يضع كل شيء في موضعه الصحيح المناسب له.

فإن أعرضوا بعد هذا عن اتّباعك وتصديقك ، ولم يعلنوا وحدانية الله ، ولم يجيبوا

٢٤٨

إلى المباهلة ، فإن الله عليم (واسع العلم) بحال المفسدين ، وسيجازيهم على أعمالهم شرّ الجزاء. وكلّ من عدل عن الحقّ إلى الباطل فهو المفسد ، والله قادر عليه لا يفوته شيء.

فقه الحياة أو الأحكام :

إن عجائب الخلق وخلق الكائنات وأمر الخليقة تدلّ على وجود الخالق وهو الله تعالى ، كما قال : (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ ، وَيَوْمَ يَقُولُ : كُنْ فَيَكُونُ ، قَوْلُهُ الْحَقُ) [الأنعام ٦ / ٧٣]. ومن خلقه تعالى : خلق الناس على وفق قوانين عادية ، أو على غير العادة ، مثل خلق آدم ، وحواء ، وعيسى. وعقد الشّبه بين آدم وعيسى هو في أنهما خلقا من غير أب ، وذلك للرّدّ على وفد نجران الذين أنكروا على النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قوله : إن عيسى عبد الله وكلمته ، فقالوا : أرنا عبدا خلق من غير أب؟! فقال لهم النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : آدم ، من كان أبوه؟ أعجبتم من عيسى ليس له أب؟ فآدم عليه‌السلام ليس له أب ولا أم.

وآية المباهلة حدّ فاصل في الجدال ؛ لأن اللعنة محقّقة فيها على الكاذب. وهذه الآية من أعلام نبوّة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ لأنه دعاهم إلى المباهلة ، فأبوا ورضوا بالجزية ، بعد أن أعلمهم كبيرهم : العاقب أنهم إن باهلوه اضطرم عليهم الوادي نارا ، فإن محمدا نبيّ مرسل ، ولقد تعلمون أنه جاءكم بالفصل في أمر عيسى ؛ فتركوا المباهلة ، وانصرفوا إلى بلادهم على أن يؤدوا في كل عام ألف حلّة في صفر ، وألف حلّة في رجب ، فصالحهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على ذلك بدلا من الإسلام.

ودلّ قوله تعالى : (نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ) ، وقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الحسن : «إنّ ابني هذا سيّد» (١) على خصوصية تسمية الحسن والحسين : ابني النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم دون غيرهما ، لقوله عليه الصلاة والسلام : «كل سبب ونسب ينقطع يوم القيامة إلا نسبي وسببي» (٢).

__________________

(١) رواه أحمد والبخاري وأصحاب السنن إلا ابن ماجه عن أبي بكرة.

(٢) رواه الطبراني والحاكم والبيهقي عن عمر.

٢٤٩

الدّعوة إلى توحيد الله وعبادته وملّة إبراهيم

(قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (٦٤) يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلاَّ مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٦٥) ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ حاجَجْتُمْ فِيما لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٦٦) ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٦٧) إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ (٦٨))

الإعراب :

(سَواءٍ) صفة لكلمة ، أي كلمة مستوية. (أَلَّا نَعْبُدَ) بدل مجرور من كلمة. ويجوز رفعه خبرا لمبتدأ محذوف وتقديره : هي ألا نعبد إلا الله ، أو جعله مبتدأ ، أي بيننا وبينكم ترك عبادة غير الله. (ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ) ها للتنبيه ، وأنتم : مبتدأ ، وهؤلاء : خبره. (حاجَجْتُمْ) جملة مستأنفة مبيّنة للجملة الأولى أي أنتم هؤلاء أنكم جادلتم (لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ) : خبر إن. (وَهذَا) عطف عليه. (النَّبِيُ) صفة لهذا أو بدل منه أو عطف بيان.

البلاغة :

(كَلِمَةٍ) مجاز إذ أطلق الواحد على الجمع. (أَرْباباً) فيه تشبيه طاعتهم لرؤساء الدّين في أمر التحليل بالرّب المستحق وحده للعبادة. (أَوْلَى) و (أَوْلَى) فيه جناس اشتقاق.

٢٥٠

المفردات اللغوية :

(يا أَهْلَ الْكِتابِ) هم اليهود والنصارى. (تَعالَوْا) أقبلوا. (سَواءٍ) مستو أمرها بين الفريقين ، والسّواء : العدل والوسط الذي لا تختلف فيه الشرائع. (أَرْباباً) جمع ربّ : وهو السّيّد المربي المطاع فيما يأمر وينهى ، ويراد به هنا : ما له حق التشريع من تحريم وتحليل. أما الإله: فهو المعبود الذي يدعى حين الشدائد ويقصد عند الحاجة ؛ لأنه مصدر الفرج.

(مُسْلِمُونَ) منقادون لله مخلصون له موحدون.

(تُحَاجُّونَ) تخاصمون وتجادلون. (حَنِيفاً) مائلا عن العقائد الزائفة الباطلة إلى الدّين الحق القيّم. (مُسْلِماً) موحّدا مخلصا مطيعا له.

(إِنَّ أَوْلَى) أحق. (وَاللهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ) ناصرهم وحافظهم.

سبب النزول :

نزول الآيات (٦٥ ـ ٦٧):

أخرج ابن إسحاق وابن جرير عن ابن عباس رضي‌الله‌عنهما قال : «اجتمعت نصارى نجران وأحبار يهود عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فتنازعوا عنده ، فقالت الأحبار : ما كان إبراهيم إلا يهوديا ، وقالت النصارى : ما كان إلا نصرانيا ، فأنزل الله : (يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ) الآية».

نزول الآية (٦٨):

سأل اليهود قائلين : والله يا محمد ، لقد علمت أنّا أولى بدين إبراهيم منك ومن غيرك ، وإنه كان يهوديا ، وما بك إلا الحسد ، فأنزل الله تعالى هذه الآية.

وروى الترمذي عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنّ لكلّ نبيّ ولاة من النّبيين ، وإن وليي أبي وخليل ربي ، ثم قرأ : (إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ ، وَهذَا النَّبِيُ) الآية.

٢٥١

المناسبة :

أقام القرآن الحجة على النصارى في ادّعائهم ألوهية المسيح ، ثم دعا هنا اليهود والنصارى إلى أصل الدّين وروحه الذي اتّفقت عليه دعوة الأنبياء جميعا وهو توحيد الله وعبادته ، والاقتداء بإبراهيم أبي الأنبياء عليهم‌السلام ؛ إذ أن ملّته ملّة الإسلام ، ولم يكن يهوديا ولا نصرانيا.

التفسير والبيان :

قل يا محمد : يا أهل الكتاب وهم اليهود والنصارى جميعا ، أقبلوا وهلمّوا إلى كلمة عادلة وسطى سواء بين الفريقين اتّفقت عليها جميع الشرائع والرّسل والكتب التي أنزلت إليهم ، فأمرت بها الصّحف والكتب الأربعة : التّوراة والزّبور والإنجيل والقرآن ، وهي كلمة التّوحيد : (لا إِلهَ إِلَّا اللهُ) وعبادة الله وتفويض سلطة التشريع والتحليل والتحريم إليه ، وعدم الشرك به شيئا ، وعدم اتّخاذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله ، كالوثن والصليب والصنم والطاغوت والنار.

هذه الآية حوت وحدانية الألوهية في قوله : (أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ) ، ووحدانية الرّبوبية في قوله : (وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ).

وهذه دعوة جميع الرسل إبراهيم وموسى وعيسى وغيرهم ، قال الله تعالى : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ : لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ) [الأنبياء ٢١ / ٢٥] وقال تعالى : (وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ ، وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ) [النحل ١٦ / ٣٦].

وكان اليهود موحدين ، ولكن مفهوم الإله فيهم أصبح ليس هو الإله الحق ، واتبعوا رؤساء الدين فيما يخترعون من أحكام ، وكذلك كان النصارى موحدين وما زالوا يدعون الوحدانية ، لكنهم انتقلوا من ادعاء نبوة عيسى لله والتثليث إلى

٢٥٢

ادعاء ألوهيته وأن الثلاثة واحد ، وهو عيسى ، ورفضت فرقة الإصلاح «البروتستانت» فكرة ألوهية عيسى.

روى عدي بن حاتم قال : «أتيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وفي عنقي صليب من ذهب ، فقال : يا عدي ، اطرح عنك هذا الوثن ، وسمعته يقرأ في سورة براءة : (اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ) [٣١] فقلت له : يا رسول الله ، لم يكونوا يعبدونهم ، فقال : ما كانوا يحللون لكم ويحرّمون ، فتأخذون بأقوالهم؟ قال : نعم ، فقال عليه الصّلاة والسّلام : هو ذاك» ، وعلى هذا خوطب أهل الكتاب بهذا الخطاب ؛ لأنهم جعلوا أحبارهم في الطاعة لهم كالأرباب.

فإن أعرضوا عن هذه الدعوة أو التحكيم ، وأبوا إلا أن يعبدوا غير الله ، فقولوا لهم : إنا مسلمون حقا ، منقادون لله ، مخلصون له الدّين ، لا نعبد أحدا سواه ، ولا نطلب النّفع أو دفع الضّرر من غيره ، ولا نحلّ إلا ما أحلّه الله ، ولا نحرّم إلا ما حرّمه الله.

وهذه الآية هي جوهر رسائل النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكتبه إلى ملوك وأمراء العالم من أهل الكتاب وغيرهم ، مثل كسرى ملك الفرس الوثنيين ، وهرقل ملك الرّوم النصارى ، والنّجاشي النّصراني والمقوقس عظيم أقباط مصر وغيرهم. واشتملت كل تلك الكتب على هذه الآية ، وهنا أذكر كتابه إلى هرقل ، جاء في صحيح مسلم :

«بسم الله الرّحمن الرّحيم. من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الرّوم. سلام على من اتّبع الهدى ، أما بعد : فإني أدعوك بدعاية الإسلام ، أسلم تسلم ، وأسلم يؤتك الله أجرك مرتين ، فإن توليت ، فإن عليك إثم الأريسيين ـ أي الشعب من فلاحين وخدم وأتباع وغيرهم ، و (يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ ، وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً ، وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ ، فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا : اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ)».

٢٥٣

المحاجّة في انتماء إبراهيم :

أيها اليهود والنصارى ، لم تتنازعون في إبراهيم الخليل عليه‌السلام ويدّعي كل منكم أنه كان منكم على دينه؟ كيف تدّعون أيها اليهود أنه كان يهوديا ، وقد كان زمنه قبل أن ينزل الله التوراة على موسى؟ وكيف تدعون أيها النصارى أنه كان نصرانيا ، وإنما حدثت النصرانية بعد زمنه بدهر؟

فما أنزلت التوراة على موسى ، ولا الإنجيل على عيسى إلا من بعد إبراهيم بأزمان طويلة ، قيل : كان بين إبراهيم وموسى سبعمائة سنة ، وبين موسى وعيسى حوالي ألف سنة.

لهذا قال تعالى : (أَفَلا تَعْقِلُونَ؟) أن المتقدم على الشيء لا يكون تابعا له؟ وألا تعقلون ضعف حجّتكم وانهيارها وبطلان قولكم؟

ثم أشار الله تعالى إلى جهلهم وحماقتهم في دعواهم هذه ، فقال : ها أنتم هؤلاء تجادلون وتحاجّون فيما لكم به علم ومعرفة من أمر عيسى (١) عليه‌السلام مما نطق به التّوراة والإنجيل ، وقد قامت عليكم الحجّة وظهر الغلط ، فكيف تحاجّون ، وعلى أي أساس تجادلون في شأن إبراهيم عليه‌السلام أنه كان يهوديا أو نصرانيا ، وليس لكم به علم ولا نزل في شأنه شيء في دينكم وكتبكم ، فمن أين أتاكم أنه كان يهوديا أو نصرانيا؟ والله يعلم ما غاب عنكم ولم تشاهدوه ، وأنتم لا تعلمون إلا ما عرفتم وعاينتم وشاهدتم أو سمعتم؟

فهذا إنكار من الله عليهم مثل تلك الدّعاوى والمحاجّة في إبراهيم والمحاجّة فيما لا علم لهم به ، وأمرهم بردّ ما لا علم لهم به إلى عالم الغيب والشهادة الذي يعلم الأمور على حقيقتها.

__________________

(١) وقال القرطبي : يعني في أمر محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ لأنهم كانوا يعلمونه من نعته في كتابهم.

٢٥٤

ثم جاء القرار الإلهي الحاسم في شأن إبراهيم ، وهو أنه ما كان يهوديا ولا نصرانيا ، ولكن كان حنيفا مائلا عن الشرك بالله والوثنية ، مسلما منقادا لله مطيعا لأوامره ، مجتنبا نواهيه ، فأهل دينه الذين هم على منهاجه وشريعته هم أهل الإسلام ، فهم الصادقون ، وأما اليهود والنصارى فهم الكاذبون.

وما كان أيضا من المشركين الذين يسمون أنفسهم الحنفاء ، ويدّعون أنهم على ملّة إبراهيم ، وهم قريش ومن تبعهم من العرب.

ثم أكّد تعالى ما سبق بقوله : إن أحقّ الناس بإبراهيم ونصرته هم المؤمنون بالله وحده لا شريك له ، المخلصون له الدّين ، وهذا النّبي محمد والذين آمنوا معه ، فهم أهل التوحيد المتفقون على وحدانية الله وألوهيته وربوبيته ، وهذا هو روح الإسلام ، والله ناصر المؤمنين ومؤيدهم ، وموفقهم ومتولي أمورهم ومصلح شؤونهم ، بإرسال الرّسل إليهم.

فقه الحياة أو الأحكام :

إن إطاعة غير الله تعالى من الأحبار وعلماء الدّين في الأحكام الشرعية بالتحليل والتحريم يجعل الأحبار كالأرباب ، وهذا يقتضي تخصيص الطاعة لله تعالى.

وإن ملتقى الأديان هو الانصياع تحت راية التوحيد وهي كلمة «لا إله إلا الله» وعبادته وحده ، والاعتماد في التشريع على الله تعالى فهو مصدر الشرائع الحقّ. لذا خاطبهم القرآن بقوله : أجيبوا إلى ما دعيتم إليه ، وهو الكلمة العادلة المستقيمة التي ليس فيها ميل عن الحق ، وهي قوله تعالى : (أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ).

ودلّ قوله تعالى : (وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ) على أنه لا يجوز اتّباع من سوى الله في تحليل شيء أو تحريمه ، إلا فيما حلله الله تعالى ،

٢٥٥

وهو نظير قوله تعالى : (اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ) [التوبة ٩ / ٣١] ، معناه : أنهم أنزلوهم منزلة ربّهم في قبول تحريمهم وتحليلهم لما لم يحرّمه الله ولم يحلّه الله.

وفي هذا حجّة على أنّ مسائل الدّين كالعبادات والتّحريم والتّحليل لا يؤخذ فيها إلا بقول النّبي المعصوم ، لا بقول إمام ولا فقيه ، وإلا كان إشراكا في الرّبوبية ، وهذا ما ندّد به القرآن في آيات مثل قوله تعالى : (أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ) [الشورى ٤٢ / ٢١] ، وقوله : (وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ : هذا حَلالٌ ، وَهذا حَرامٌ) [النحل ١٦ / ١١٦].

أما المسائل الدّنيوية كالقضاء والسياسة فهذه فوّض أمرها إلى أهل الحلّ والعقد وهم أهل الشورى ، فما أمروا به وجب تنفيذه وقبوله.

وإن أعرض أهل الكتاب عما دعوا إليه وهي الكلمة السواء نقول : نحن مسلمون أي متّصفون بدين الإسلام ، منقادون لأحكامه ، معترفون بما لله علينا في ذلك من النّعم ، غير متّخذين أحدا ربّا ، لا عيسى ولا عزيرا ولا الملائكة ؛ لأنهم بشر مثلنا ، ولا نقبل من الرّهبان شيئا بتحريمهم علينا ما لم يحرّمه الله علينا ، فنكون قد اتّخذناهم أربابا.

وأبين آية وحجّة على اليهود والنصارى الذين ادّعوا أن إبراهيم كان على دين كل منهم آية: (يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تُحَاجُّونَ ...) فهي تكذبهم بأن اليهودية والنصرانية إنما كانتا من بعده ، وذلك قوله : (وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ) فكيف يكون إبراهيم منسوبا إلى ملّة حادثة بعده؟ هذا فضلا عن أن اليهودية ملّة محرّفة عن ملّة موسى عليه‌السلام ، والنّصرانية ملّة محرّفة عن شريعة عيسى عليه‌السلام.

ودلّت آية : (ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ حاجَجْتُمْ ...) على المنع من الجدال لمن لا علم

٢٥٦

له. أما الجدال لمن علم وأيقن ، والاحتجاج للحقّ فهو جائز ، لقوله تعالى : (وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) [النحل ١٦ / ١٢٥] ، ومثاله : ما روي عن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه أتاه رجل أنكر ولده فقال: يا رسول الله ، إن امرأتي ولدت غلاما أسود. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : هل لك من إبل؟ قال: نعم ، قال : ما ألوانها؟ قال : حمر ، قال : هل فيها من أورق (١)؟ قال : نعم. قال : «فمن أين ذلك؟» قال : لعل عرقا نزعه ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «وهذا الغلام لعل عرقا نزعه» ودلّت هذه الآية على وجوب المحاجّة في الدّين وإقامة الحجّة على المبطلين ، كما احتجّ الله تعالى على أهل الكتاب من اليهود والنصارى في أمر المسيح عليه‌السلام ، وأبطل بها شبهتهم.

وإبراهيم كان على الحنيفية الإسلامية ، ولم يكن مشركا ولا يهوديا ولا نصرانيا ، وأحقّ الناس بإبراهيم ونصرته : هم الذين سلكوا طريقه ومنهاجه في عصره وبعده ، وكانوا حنفاء مسلمين مثله غير مشركين ، وأيضا هذا النّبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم والذين آمنوا معه ، فإنهم أهل التوحيد. والله ولي المؤمنين ، أي ناصرهم. أخرج الترمذي عن ابن مسعود أن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن لكل نبيّ ولاة من النّبيين ، وإن وليي أبي وخليل ربّي ، ثم قرأ : (إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهذَا النَّبِيُ)».

محاولة بعض أهل الكتاب إضلال المسلمين

والتلاعب بالدين والعصبية الدينية

(وَدَّتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَما يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (٦٩)

__________________

(١) الأورق : الذي لونه بين السواد والغبرة.

٢٥٧

يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (٧٠) يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٧١) وَقالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٧٢) وَلا تُؤْمِنُوا إِلاَّ لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللهِ أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ أَوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٧٣) يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٧٤))

الإعراب :

(أَنْ يُؤْتى) مفعول به لتؤمنوا ، وتقدير الكلام : ولا تؤمنوا أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم إلا من تبع دينكم ، فتكون لام (لِمَنْ) على هذا زائدة وهو اختيار السيوطي ، ومن في موضع نصب لأنه استثناء منقطع. ويجوز أن تكون اللام غير زائدة ، ومتعلّقة بفعل مقدّر دلّ عليه الكلام ؛ لأن معناه : لا تقرّوا بأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم إلا لمن تبع دينكم ، فتتعلّق الباء واللام (بتقروا). والتأويل عند الزمخشري : ولا تظهروا إيمانكم بأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم إلا لأهل دينكم دون غيرهم ، أي أسرّوا تصديقكم بأن المسلمين قد أوتوا من كتب الله مثل ما أوتيتم. وجملة (قُلْ: إِنَّ الْهُدى ..) اعتراضية. وقوله : (أَوْ يُحاجُّوكُمْ) عطف على (أَنْ يُؤْتى). والضمير في (يُحاجُّوكُمْ) عائد لكلمة (أَحَدٌ) لأنه في معنى الجمع.

البلاغة :

(الْحَقَ) و (بِالْباطِلِ) بينهما طباق.

(يُضِلُّونَكُمْ وَما يُضِلُّونَ) فيهما جناس تام.

المفردات اللغوية :

(وَدَّتْ) أحبّت ورغبت. (طائِفَةٌ) جماعة وهم الأحبار والرؤساء. (يُضِلُّونَكُمْ)

٢٥٨

يوقعونكم في الضلال بالرّجوع عن دين الإسلام والمخالفة له ، والضلال : نوع من الهلاك. (وَما يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ) لأن إثم إضلالهم عليهم ، والمؤمنون لا يطيعونهم فيه.

(بِآياتِ اللهِ) ما يدلّ على صدق نبوّة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهو القرآن المشتمل على نعته عليه الصلاة والسلام.

(تَلْبِسُونَ) تخلطون الحقّ بالباطل ، بالتّحريف والتّزوير. (وَتَكْتُمُونَ الْحَقَ) أي نعت النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) أنه حق.

(وَجْهَ النَّهارِ) أوله. (لَعَلَّهُمْ) أي المؤمنين. (يَرْجِعُونَ) عن دينهم. (وَلا تُؤْمِنُوا) تصدقوا.

(قُلْ : إِنَّ الْهُدى هُدَى اللهِ) الذي هو الإسلام ، والخطاب لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والجملة اعتراضية.

(إِنَ) أي بأن ، وأن : مفعول تؤمنوا. (مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ) من الكتاب والحكمة والفضائل.

(أَوْ يُحاجُّوكُمْ) أي بأن يحاجّوكم وهم المؤمنون ، أي يغلبوكم بالحجّة.

(الْفَضْلَ) الزيادة ، والمراد به هنا النّبوة.

سبب النزول :

نزول الآية (٦٩):

نزلت في معاذ بن جبل وعمار بن ياسر وحذيفة بن اليمان حين دعاهم اليهود إلى دينهم.

نزول الآية (٧٢):

روى ابن إسحاق عن ابن عباس قال : قال عبد الله بن الصيف ، وعدي بن زيد ، والحارث بن عوف بعضهم لبعض : تعالوا نؤمن بما أنزل الله على محمد وأصحابه غدوة ، ونكفر به عشية ، حتى نلبس عليهم دينهم ، لعلهم يصنعون كما نصنع ، فيرجعوا عن دينهم ، فأنزل الله فيهم : (يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ) إلى قوله : (واسِعٌ عَلِيمٌ).

٢٥٩

وأخرج ابن أبي حاتم عن السّدّي عن أبي مالك قال : كانت اليهود تقول أحبارهم للذين من دونهم : لا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم فأنزل الله : (قُلْ : إِنَّ الْهُدى هُدَى اللهِ).

المناسبة :

ذكر الله تعالى سابقا موقفا لأهل الكتاب وهو الإعراض عن الحق ، وذكر هنا موقفا آخر وهو شدّة حرصهم على إضلال المؤمنين.

التفسير والبيان :

أحبّت طائفة من الأحبار والرؤساء إيقاع الضلال بين المسلمين ، بزرع الشّبهات ومحاولة كسب بعض المسلمين بإدخالهم في دينهم ، ولكنهم خائبون ، فهم لا يضلون إلا أنفسهم وما يعود وبال الإضلال إلا عليهم ، إذ شغلوها بما لا يجدي ، بل بما يضرّ ، ويوقعهم في الإثم والمعصية ، وما يشعرون بذلك وما يفطنون إلى سوء حالهم ، وفي هذا نهاية الذّم والاحتقار لهم. والآية نظير قوله تعالى : (وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً ..) [البقرة ٢ / ١٠٩].

يا أهل الكتاب (اليهود والنصارى) : لأي سبب تكفرون بالآيات الدّالة على صدق نبوّة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأنتم تشهدون بصحّتها ، بما جاء في كتبكم من نعته والبشارة به.

يا أهل الكتاب لم تخلطون الحقّ الذي جاء به الأنبياء بالباطل الكذب الذي لفّقه أحباركم ورؤساؤكم بتأويلاتهم الفاسدة ، وبإلقاء الشّبه ، والتّحريف والتّبديل ، وأنتم تكتمون شأن محمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهو مكتوب عندكم في التّوراة والإنجيل وهو البشارة بنبيّ من بني إسماعيل يعلّم الناس الكتاب والحكمة ، وأنتم تعلمون أنكم مخطئون مبطلون ، وتفعلون ذلك حسدا وعنادا.

٢٦٠