التفسير المنير - ج ٣

الدكتور وهبة الزحيلي

تعالى ، وأنه القادر على إنفاذه ، ولا يعجزه شيء عنه. وهذا تهديد شديد على المخالفة.

وإلى الله مرجع الخلق وجزاؤهم ، فيحاسب كل امرئ بما عمل ، ويجازيه بما فعل.

ثم بيّن تعالى سعة علمه بالمخلوقات ، فإن تخفوا ما صدوركم وتكتموه ، أو تبدوه وتظهروه ، فالله يعلمه ويجازي عليه ، وهو يعلم كل شيء في السّموات والأرض ، ومنه الميل إلى الكفار أو البعد عنهم.

والله قدير على عقوبتكم ، فلا تعصوا نواهيه ، إذ ما من معصية ظاهرة أو خفية إلا يعلمها.

واحذروا يوم الآخرة الذي تجد فيه كل نفس ما عملت في الدّنيا من خير حاضرا لديها ، فتسرّ وتنعم بما عملت ، وتجد ما عملت من شرّ صغر أو كبر حاضرا أيضا ، فتساء وتندم ، وادّة أن يكون بينها وبين عملها بعد طويل ومسافة كبعد المشرقين.

ثم أكّد تعالى تحذيره ، فيحذركم الله عقابه وسخطه من ارتكاب المخالفات ، وعليكم ترجيح جانب الخير على الشّر. والله بهذا التحذير والتهديد رؤف بعباده ، إذ أنذرهم عاقبة أمرهم ، وعرّفهم جزاءهم ومصيرهم. قال الحسن البصري : ومن رأفته أن حذّرهم نفسه ، وعرّفهم كمال علمه وقدرته ؛ لأنهم إذا عرفوه حق المعرفة ، دعاهم ذلك إلى طلب رضاه ، واجتناب سخطه.

فقه الحياة أو الأحكام :

١ ـ دلّت الآية على تحريم الاطمئنان إلى الكفار أو الثقة بهم والرّكون إليهم في أمر عام ، والتّجسس لهم ، واطّلاعهم على أسرار المسلمين الخاصة بمصلحة

٢٠١

الدّين ، واتّخاذهم أولياء وأنصارا في شيء تقدّم فيه مصلحتهم على مصلحة المؤمنين ، كما فعل حاطب بن أبي بلتعة ؛ لأن فيه إعانة للكفر على الإيمان.

وقصة حاطب المسندة في الصحيحين وغيرهما ملخصها : «أن حاطبا كتب كتابا لقريش يخبرهم فيه باستعداد النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم للزّحف على مكة ، إذ كان يتجهّز لفتحها ، وكان يكتم ذلك ، ليبغت قريشا على غير استعداد منها ، فتضطر إلى قبول الصلح ـ وما كان يريد حربا ـ وأرسل حاطب كتابه مع جارية وضعته في عقاص شعرها ، فأعلم الله نبيّه بذلك ، فأرسل في أثرها عليّا والزّبير والمقداد ، وقال : انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ ، فإنّ بها ظعينة معها كتاب ، فخذوه منها ، فلما أتي به ، قال :

يا حاطب ما هذا؟ فقال : يا رسول الله ، لا تعجل عليّ! إنّي كنت حليفا لقريش ، ولم أكن من أنفسها ، وكان من معك من المهاجرين لهم قرابات يحمون أهليهم وأموالهم ، فأحببت إذ فاني ذلك من النّسب فيهم أن أتّخذ عندهم يدا يحمون بها قرابتي ، ولم أفعله ارتدادا عن ديني ، ولا رضا بالكفر بعد الإسلام ، فقال عليه الصلاة والسلام : «أما إنه قد صدقكم» ، واستأذن عمر النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قتله فلم يأذن له ، قالوا : وفي ذلك نزل قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ ، وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ ، يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللهِ رَبِّكُمْ) [الممتحنة ٦٠ / ١].

أي أن آية : (لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ ..) لم تنزل في قصة حاطب ، وإنما هذه الآية وما نزل في قصة حاطب يشتركان في النهي عن موالاة الكافرين.

ولا تمنع هاتان الآيتان وأمثالهما التّحالف أو الاتّفاق بين المسلمين وغيرهم ، وإن كان التّحالف أو الاتّفاق لمصلحة غير المسلمين ؛ لأن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان محالفا خزاعة ، وهم على شركهم.

٢٠٢

كما لا تمنع الآيات في هذا الموضوع موادّة ومجاملة غير الحربيين من غير المسلمين في الظاهر مع عدم الرّضا بكفرهم في الحقيقة والباطن ، ولا تمنع معاملة غير المسلم أو معاشرته أو الثقة به في أمر خاص من الأمور ، لا يمسّ مصلحة المسلمين العامة ، بدليل آيات : (عَسَى اللهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً ، وَاللهُ قَدِيرٌ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ* لا يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ ، وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ* إِنَّما يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ ، وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وَظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ ، وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) [الممتحنة ٦٠ / ٧ ـ ٩].

فالكفار الحربيون الذين آذوا المسلمين أو ظاهروا على إخراجهم من بلادهم أو اغتصبوا بعض بلادنا كفلسطين ، لا تحلّ موالاتهم بل تجب معاداتهم ، للآية المتقدّمة.

٢ ـ وفي الآية دليل على أنه لا يجوز الاستعانة بالكفار في الحرب ، وإليه ذهب بعض المالكية ، ولقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فيما رواه مسلم عن عائشة ـ لرجل تبعه يوم بدر : «ارجع فلن أستعين بمشرك» ، ولأنه لا يؤمن غدرهم ، إذ العداوة الدينية تحملهم على الغدر إلا عند الاضطرار.

وأجاز الأكثرون من أتباع المذاهب الأربعة الاستعانة بالكافر على الكفار ، إذا كان الكافر حسن الرأي بالمسلمين ، وقيّد الشافعية ذلك أيضا بالحاجة ؛ لأن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فيما رواه مسلم ـ استعان بصفوان بن أمية يوم حنين لحرب هوازن ، وتعاونت خزاعة مع النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عام فتح مكة ، وخرج قزمان ـ وهو من المنافقين ـ مع الصحابة يوم أحد ، وهو مشرك. وأما حديث «ارجع فلن أستعين بمشرك» فهو منسوخ بدليل استعانته صلى‌الله‌عليه‌وسلم بيهود قينقاع وقسمه لهم من الغنيمة.

٣ ـ وفي الآية أيضا دليل على مشروعية التّقية : وهي المحافظة على النفس أو العرض أو المال من شرّ الأعداء.

٢٠٣

والواقع أن التّقية نوعان بحسب نوع العدوّ : عدو في الدّين ، وعدوّ في الأغراض الدّنيوية كالمال والمتاع والإمارة.

أما النوع الأول : فكل مؤمن وجد في مكان لا يقدر فيه على إظهار دينه ، وهذا يجب عليه الهجرة من ذلك المكان إلى مكان يستطيع إظهار دينه فيه. أما إن كان من المستضعفين وهم الصبيان والنساء والعجزة فيجوز له البقاء في ديار الكفر وموافقة الكافرين في الظاهر بقدر الضرورة ، مع السّعي في حيلة للخروج والفرار بدينه ، لقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ قالُوا : فِيمَ كُنْتُمْ؟ قالُوا : كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ ، قالُوا : أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها ، فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ ، وَساءَتْ مَصِيراً* إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً* فَأُولئِكَ عَسَى اللهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ ، وَكانَ اللهُ عَفُوًّا غَفُوراً) [النساء ٤ / ٩٧ ـ ٩٩].

والموافقة حينئذ للكفار رخصة ، وإظهار ما في قلبه عزيمة ، فلو مات فهو شهيد ، بدليل ما روي أن مسيلمة الكذاب أخذ رجلين من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال لأحدهما : أتشهد أن محمدا رسول الله؟ قال : نعم ، ثم قال له : أتشهد أني رسول الله؟ قال : نعم ، فتركه ؛ ثم دعا الثاني وقال : أتشهد أنّ محمدا رسول الله؟ قال : نعم ، فقال له : أتشهد أني رسول الله؟ قال : إني أصم ، قالها ثلاثا ، فضرب عنقه ، فبلغ ذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «أما هذا المقتول ، فقد مضى على صدقه ويقينه ، وأخذ بفضيلة فهنيئا له ، وأما الآخر ، فقبل رخصة الله ، فلا تبعة عليه» (١).

وأما النوع الثاني ـ وهو من كانت عداوته بسبب المال ونحوه ، فقد اختلف

__________________

(١) التلخيص الحبير : ٤ / ١٠٣

٢٠٤

العلماء في وجوب هجرة صاحبه من ديار الأعداء ، فقال بعضهم : تجب لقوله تعالى : (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) [البقرة ٢ / ١٩٥] وللنهي عن إضاعة المال ، ولقولهصلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما رواه أحمد وأصحاب السنن إلا ابن ماجه ، وابن حبان عن سعيد بن زيد : «من قتل دون ماله فهو شهيد». وقال آخرون : لا تجب ؛ لأنها مصلحة دنيويّة ولا تضرّ بالدّين. ولكن الراجح أن الهجرة قد تجب هنا أيضا إذا خاف هلاك نفسه أو أقاربه أو هتك عرضه.

٤ ـ مداراة الناس بإظهار المحبة والولاء والموافقة : إن كانت فيما لا يؤدي إلى ضرر الغير ، كما أنها لا تخالف أصول الدّين ، فهي جائزة. وإن كانت تؤدي إلى ضرر الغير كالقتل والسرقة وشهادة الزّور ، فلا تجوز. قال الحسن البصري : التقية جائزة للإنسان إلى يوم القيامة ، ولا تقية في القتل.

٥ ـ ينبغي دوام الحذر من عقاب الله وغضبه ، حتى يكون الإنسان على طهر من المعاصي ، ويحرص على زيادة القربات إلى ربّه ، فهي التي تنفعه يوم القيامة ، فيجازي كل إنسان بعمله : إن خيرا فخير ، وإن شرّا فشرّ.

٦ ـ علم الله واسع شامل ، يعلم كل شيء كبيرا أو صغيرا ، ويعلم ما في السموات والأرض ، ويعلم خفيات النفوس وجلياتها ، فسواء أظهر الإنسان شيئا أو أخفاه في صدره ، فإن الله تعالى عالم به علما دقيقا تامّا ، لا يختلف عليه شيء.

محبّة الله باتّباع الرّسول وطاعته

(قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣١) قُلْ أَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ (٣٢))

٢٠٥

البلاغة :

(فَإِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ) أقام الظاهر وهو اسم الجلالة مقام المضمر ، لتربية المهابة والرّوعة وتعظيم الله في النفوس.

ويوجد جناس مماثل في (تُحِبُّونَ) و (يُحْبِبْكُمُ) ، وجناس مغاير في (تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً) وفي (يَغْفِرْ لَكُمْ) و (غَفُورٌ).

المفردات اللغوية :

(تُحِبُّونَ اللهَ) المحبّة : ميل النفس إلى الشيء لكمال أدركته فيه ، قال ابن عرفة : المحبّة عند العرب : إرادة الشيء على قصد له. وقال الأزهري : محبّة العبد لله ورسوله : طاعته لهما واتّباعه أمرهما ، ومحبّة الله للعباد : إنعامه عليهم بالغفران ، قال الله تعالى : (فَإِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ) أي لا يغفر لهم.

(يُحْبِبْكُمُ اللهُ) أي يثيبكم. (وَيَغْفِرْ لَكُمْ) أي يتجاوز عن سيئاتكم وأباطيلكم.

(أَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ) فيما يأمركم به من التوحيد. (فَإِنْ تَوَلَّوْا) أعرضوا عن الطاعة ، ولم يجيبوا دعوتك (فَإِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ) أي يعاقبهم.

سبب النزول :

نزول الآية (٣١) :

أخرج ابن المنذر عن الحسن البصري قال : قال أقوام على عهد نبيّنا : والله يا محمد ، إنا لنحبّ ربّنا ، فأنزل الله : (قُلْ : إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي) الآية.

وقال محمد بن جعفر بن الزبير : نزلت في وفد نجران إذ زعموا أن ما ادّعوه في عيسى حبّ لله عزوجل.

وقال ابن عباس : إن اليهود لما قالوا : (نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ) أنزل الله تعالى هذه الآية ، فلما نزلت عرضها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على اليهود ، فأبوا أن يقبلوها.

٢٠٦

وعلى كلّ فالخطاب في الآية عام يشمل كل من ادّعى حبّ الله ، أي طاعته واتّباع أمره ، ولم يتّبع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال ابن كثير : هذه الآية الكريمة حاكمة على كل من ادّعى محبّة الله ، وليس هو على الطريقة المحمديّة ، فإنه كاذب في دعواه في نفس الأمر ، حتى يتّبع الشّرع المحمدي والدّين النّبوي في جميع أقواله وأفعاله ، كما ثبت في الصحيح عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو ردّ».

المناسبة :

بعد أن نهى الله المؤمنين عن موالاة الكافرين ، أوضح هنا أن طريق محبّة الله تعالى متابعة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وامتثال أوامره واجتناب ما نهى عنه.

التفسير والبيان :

قل يا محمد لهم : إن كنتم تطيعون الله وترغبون في ثوابه ، فامتثلوا ما أنزل الله علي من الوحي ، يرض الله عنكم ، ويغفر لكم ذنوبكم ، أي يحصل لكم فوق ما طلبتم من محبّتكم إياه ، وهو محبّته إياكم ، وهو أعظم من الأوّل.

والله غفور لمن أطاعه ، واتّبع دينه ، رحيم به في الدّنيا والآخرة ، والطاعة تكون باتّباع الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

روي أنه لما نزل قوله : (قُلْ : إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ ..) قال عبد الله بن أبيّ زعيم المنافقين: إنّ محمدا يجعل طاعته كطاعة الله تعالى ، ويأمرنا أن نحبّه ، كما أحبّ النصارى عيسى ، فنزل قوله: (قُلْ : أَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ).

أي قل لهم : أطيعوا الله باتّباع أوامره ، واجتناب نواهيه ، وأطيعوا الرّسول باتّباع سنّته والاهتداء بهديه واقتفاء أثره. وهذا يدلّ على أنّ الله إنما أوجب عليكم متابعة نبيّه ؛ لأنه رسوله ، لا كما يقول النّصارى في عيسى عليه‌السلام.

٢٠٧

فإن تولوا وأعرضوا ، وخالفوا أمره ، ولم يجيبوا دعوته غرورا منهم ، بادّعاء أنهم أبناء الله وأحباؤه ، أي محبون لله ، فإنّ الله يجازي الكافرين ولا يرضى فعلهم ولا يغفر لهم ويغضب عليهم ؛ لأنهم اتّبعوا أهواءهم ، ولم يهتدوا إلى الدّين الحنيف. وهذا دليل على أنّ مخالفة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم في الطريقة والمنهج كفر ، والله لا يحبّ من اتّصف بذلك ، وإن ادّعى وزعم في نفسه أنه محبّ لله ويتقرّب إليه.

فقه الحياة أو الأحكام :

إن محبّة الله والرّسول تتجلّى في اتّباع الإسلام وإطاعة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والعمل بشريعته ، واتّباع أوامره واجتناب نواهيه.

ومحبة الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا لذاته وإنما لكونه رسولا مرسلا من عند الله إلى جميع الثقلين : الجنّ والإنس.

فاتّباع شرع النّبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم هو دليل الحبّ الصادق ، كما قال الورّاق :

تعصي الإله وأنت تظهر حبّه

هذا لعمري في القياس بديع

لو كان حبّك صادقا لأطعته

إنّ المحبّ لمن يحبّ مطيع

وقال سهل بن عبد الله : علامة حبّ الله : حبّ القرآن ، وعلامة حبّ القرآن : حبّ النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وعلامة حبّ النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : حبّ السّنّة ، وعلامة حبّ الله وحبّ القرآن وحبّ النّبي وحبّ السّنّة : حبّ الآخرة ، وعلامة حبّ الآخرة : أن يحبّ نفسه ، وعلامة حبّ نفسه : أن يبغض الدّنيا ، وعلامة بغض الدّنيا : ألا يأخذ منها إلا الزّاد والبلغة.

وروى مسلم في صحيحة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن الله إذا أحبّ عبدا دعا جبريل فقال : إني أحبّ فلانا فأحبّه ، قال : فيحبّه جبريل ، ثم ينادي في السماء ، فيقول : إن الله يحبّ فلانا فأحبّوه ، قال : فيحبّه أهل السماء ، وإذا

٢٠٨

أبغض عبدا دعا جبريل فيقول : إني أبغض فلانا فأبغضه ، قال : فيبغضه جبريل ، ثم ينادي في أهل السماء : إن الله يبغض فلانا فأبغضوه ، فيبغضونه ، ثم توضع له البغضاء في الأرض».

اصطفاء الأنبياء وقصة نذر امرأة عمران ما في بطنها لعبادة الله

(إِنَّ اللهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ (٣٣) ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٣٤) إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٣٥) فَلَمَّا وَضَعَتْها قالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى وَاللهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى وَإِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُها بِكَ وَذُرِّيَّتَها مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ (٣٦) فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً قالَ يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (٣٧))

الإعراب :

(ذُرِّيَّةً) منصوب على الحال من الأسماء المتقدمة. (إِذْ) ظرف منصوب متعلق بفعل مقدر تقديره : اذكر يا محمد إذ قالت ، أو متعلق بقوله : (سَمِيعٌ عَلِيمٌ).

(مُحَرَّراً) حال من (ما). وعبر ب (ما) عمن يعقل للإبهام ، مثل : (فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ).

٢٠٩

(وَضَعَتْها) الهاء عائدة على «ما» حملا على المعنى ، ومعناها التأنيث.

(أُنْثى) منصوب على الحال من ضمير (وَضَعَتْها).

(وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا) بالتشديد ، وزكريا مفعول به ، ومن قرأها بالتخفيف رفع زكرياء ؛ لأنه فاعل. والهمزة في زكرياء للتأنيث.

البلاغة :

(وَاللهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى) جملتان معترضتان لتعظيم الأمر.

(أُعِيذُها) التعبير بالمضارع للدلالة على الاستمرار والتجديد.

(وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً) شبه تربيتها الصالحة ونموها بالزرع الذي ينمو شيئا فشيئا عن طريق الاستعارة التبعية ، بحذف المشبه والإتيان بشيء من لوازمه.

المفردات اللغوية :

(اصْطَفى) اختار. (ذُرِّيَّةً) الذرية في الأصل : صغار الأولاد ، ثم استعملت في الصغار والكبار ، وللواحد والكثير ، والمراد : ذرية يشبه بعضها بعضا. (امْرَأَتُ عِمْرانَ) اسمها حنة بنت فاقود. (مُحَرَّراً) عتيقا خالصا من شواغل الدنيا ، مخصصا للعبادة وخدمة البيت المقدس (المسجد الأقصى). (فَتَقَبَّلْ مِنِّي) خذه على وجه الرضا والقبول.

(أُعِيذُها بِكَ) أي أمنعها وأحفظها بحفظك ، وأصل التعوذ والاستعاذة بالله : الالتجاء إليه ، والاستجارة به ، واللجوء إليه بالدعاء والرجاء. (مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ) المطرود.

(مَرْيَمَ) بالعبرية : خادم الرب أي العابدة. (وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً) رباها بما يصلح أحوالها.

(وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا) جعل زكريا كافلا لها. وزكريا : من ولد سليمان بن داود عليهما‌السلام.

(الْمِحْرابَ) : الغرفة وهي أشرف المجالس ، وتسمى عند أهل الكتاب بالمذبح : وهي مقصورة في مقدم المعبد ، ذات باب يصعد إليه بسلم ذي درجات قليلة يكون من فيه محجوبا عمن في المعبد. (أَنَّى لَكِ هذا) من أين لك هذا ، والزمان زمان قحط وجدب. (مِنْ عِنْدِ اللهِ) يأتيني به من الجنة. (بِغَيْرِ حِسابٍ) أي بغير عدّ ولا إحصاء لكثرته ، فهو رزق واسع بلا تبعة.

٢١٠

المناسبة :

بعد أن بيّن الله تعالى أن محبته تستلزم محبة رسوله واتباعه وطاعته ، وأن طاعة الله مقترنة بطاعة الرسول ، ناسب أن يذكر من أحبهم واصطفاهم من الرسل وذرياتهم الذين يبينون للناس طريق المحبة : وهي الإيمان بالله مع طاعته وطاعة رسله الكرام.

التفسير والبيان :

يخبر الله تعالى أنه اختار هذه البيوت على سائر أهل الأرض ، وجعلهم صفوة العالمين بجعل النبوة فيهم ، فاختار آدم أبا البشر ، خلقه بيده ، ونفخ فيه من روحه ، وأسجد الملائكة له ، وعلمه أسماء الأشياء ، وأسكنه الجنة ، ثم أهبطه منها لما له في ذلك من الحكمة ، وتاب عليه واجتباه ، كما قال : (ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ ، فَتابَ عَلَيْهِ ، وَهَدى) [طه ٢٠ / ١٢٢] وكان من ذريته الأنبياء والمرسلون.

واصطفى من بعده نوحا أبا البشر الثاني ، الذي جعله أول رسول بعثه إلى أهل الأرض فهو شيخ المرسلين ، لما عبدوا الأوثان ، وانتقم له بإغراقهم بالطوفان ، ونجاه هو ومن تبعه من المؤمنين في الفلك العظيم ، وكان من ذريته كثير من الأنبياء والمرسلين ، وهو أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض بعد آدم عليه‌السلام بتحريم البنات والأخوات والعمات والخالات وسائر القرابات.

واصطفى آل إبراهيم ، ومنهم سيد البشر خاتم الأنبياء على الإطلاق محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ومنهم إسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط. واصطفى من ذرية إبراهيم آل عمران : وهم عيسى وأمه مريم بنت عمران التي ينتهي نسبها إلى يعقوب عليه‌السلام.

والمراد بعمران هذا : هو والد مريم أم عيسى عليه‌السلام ، وهو عمران بن

٢١١

ياشم ، ابن ميشا بن حزقيا بن إبراهيم ، وينتهي نسبه إلى سليمان بن داود عليهما‌السلام. فعيسى عليه‌السلام من ذرية إبراهيم.

اختار الله هؤلاء وجعلهم صفوة الخلق وجعل النبوة والرسالة فيهم. فهم ذرية واحدة وسلالة واحدة ، ويشبه بعضها بعضا في الفضل والمزية والتناصر في الدين ، فآل إبراهيم وهم إسماعيل وإسحاق وأولادهما من نسل إبراهيم ، وإبراهيم من نسل نوح ، ونوح من آدم. وآل عمران : وهم موسى وهرون وعيسى وأمه من ذرية إبراهيم ونوح وآدم. واصطفاؤهم على جميع الخلق كلهم ، فهم صفوة الخلق ، فأما محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقد جازت مرتبته الاصطفاء ؛ لأنه حبيب ورحمة ، قال الله تعالى : (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ) فالرسل خلقوا للرحمة ، ومحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم خلق بنفسه رحمة ، فلذلك صار أمانا للخلق ، وقال عليه الصلاة والسلام فيما رواه الحاكم وابن عساكر عن أبي هريرة : «إنما أنا رحمة مهداة» يخبر أنه بنفسه رحمة للخلق من الله ، وقوله «مهداة» أي هدية من الله للخلق.

هذه الذرية هم المذكورون بمناسبة الكلام عن إبراهيم : (وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنا ..) [الأنعام ٦ / ٨٤ ـ ٨٧].

وخص هؤلاء بالذكر من بين الأنبياء ؛ لأن جميع الأنبياء والرسل من نسلهم.

والله سميع لأقوال العباد ، عليم بنياتهم وضمائرهم.

واذكر وقت أن قالت امرأة عمران (وهي أم مريم واسمها حنّة بنت فاقود) وكانت عاقرا لم تلد ، واشتاقت للولد ، فدعت الله تعالى أن يهبها ولدا ، فاستجاب الله دعاءها ، فلما تحققت الحمل قالت : رب إني نذرت لك ما في بطني خالصا لوجهك الكريم ، متفرغا للعبادة وخدمة بيت المقدس وكان ذلك جائزا في شريعتهم ، وكان على الولد الطاعة. ودعت الله أن يتقبل منها هذا النذر ، وهو

٢١٢

السميع لكل قول ودعاء ، العليم بنية صاحبه وإخلاصه ، وهذا يستدعي تقبل الدعاء ، فضلا منه وإحسانا ، ولم تكن تعلم ما في بطنها أذكر أم أنثى. والنذر : هو ما أوجبه المكلف على نفسه من العبادات مما لو لم يوجبه لم يلزمه. فهو لا يلزم العبد إلا بأن يلزمه نفسه.

ويلاحظ أن المراد بعمران أولا في قوله : (آلَ عِمْرانَ) هو أبو موسى عليه‌السلام ، وثانيا في قوله (امْرَأَتُ عِمْرانَ) هو أبو مريم ، وبينهما نحو ألف وثمانمائة عام (١٨٠٠) تقريبا.

فلما وضعت بنتا ، قالت متحسرة حزينة : إني وضعتها أنثى ، وذلك أنه ما كان يؤخذ لخدمة البيت إلا الذكور ؛ لأن الأنثى تحيض وتلد ، فلا تصلح لهذا ، والله أعلم بما وضعت وبمكانتها ، وفي هذا تعظيم لشأن الأنثى ، وليس الذكر الذي طلبت وتمنت كالأنثى أي في القوة والجلد في العبادة وخدمة المسجد الأقصى ، بل هذه الأنثى خير مما كانت ترجو من الذكر. أما قوله : (وَاللهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ) فهو من كلام الله عزوجل. وقرئ بضم تاء «وضعت» فيكون من كلام امرأة عمران عن طريق التعظيم والتنزيه لله تعالى. وأما : (وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى) فهو من كلام الله بالمعنى المذكور. ويجوز كونه من كلام امرأة عمران ، قالته معتذرة إلى ربها من ولادة أنثى على خلاف ما قصدته من خدمة المسجد ؛ لأنه أنثى لا تصلح للخدمة بسبب كونها عورة.

وقالت امرأة عمران : إني سميتها مريم ، أي خادمة الرب ، وإني أجيرها وأعيذها بحفظك ورعايتك من شر الشيطان المطرود من الخير ، وأدعوك أن تقيها وذريتها وهو عيسى عليه‌السلام من الشيطان وسلطانه عليهما ، فاستجاب الله دعاءها. روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «كل بني آدم

٢١٣

يمسه الشيطان يوم ولدته أمه إلا مريم وابنها» (١) أي أن الشيطان يطمع في إغواء كل مولود بحيث يؤثر فيه إلا مريم وابنها.

فتقبل الله مريم من أمها بأبلغ قبول حسن ، ورضي أن تكون محررة خالصة للعبادة وخدمة البيت على صغرها وأنوثتها ، ورباها ونماها بما يصلح أحوالها تربية عالية تشمل الجسد والروح ، كما يربى النبات في الأرض الصالحة بعد تعهد الزارع إياه بالسقي والتسميد والعزق وقلع الأعشاب الضارة من حوله.

وجعل زكريا ـ وكان زوج وخالتها وكان معروفا بالخلق والتقوى ـ كافلا لها وراعيا مصالحها حتى شبت وترعرعت. وإنما قدر الله كون زكريا كفيلها لسعادتها ، لتقتبس منه علما جما نافعا وعملا صالحا.

وكان كلما دخل زكريا عليها المحراب ، وجد عندها خيرا كثيرا ورزقا وافرا ، وألوانا من الطعام لا توجد في مثل ذلك الوقت ، قال جماعة من مفسري التابعين : كان يجد عندها فاكهة الصيف في الشتاء ، وفاكهة الشتاء في الصيف.

فيقول لها : يا مريم ، من أين لك هذا؟ والأيام أيام جدب وقحط ، قالت : هو من عند الله الذي يرزق الناس جميعا ، بتسخير بعضهم لبعض ، إن الله يرزق من يشاء من عباده بغير حساب. قيل : هو من قول مريم ، ويجوز أن يكون كلاما مستأنفا ، فكان ذلك سبب دعاء زكريا وسؤاله الولد.

فقه الحياة أو الأحكام :

كان المشركون وأهل الكتاب ينكرون نبوة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ لأنه بشر مثلهم ، ولأنه ليس من بني إسرائيل ، فرد الله عليهم : إن الله اصطفى آدم أبا البشر.

__________________

(١) وفي لفظ : «ما من مولود يولد إلا مسه الشيطان حين يولد ، فيستهل صارخا من مسّه إياه ، إلا مريم وابنها» ثم يقول أبو هريرة : اقرؤوا إن شئتم : (وَإِنِّي أُعِيذُها بِكَ وَذُرِّيَّتَها مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ).

٢١٤

ونوحا الأب الثاني ، واصطفى من ذريتهما آل إبراهيم ، واختار آل عمران من آل إبراهيم. وآل عمران هم من سلالة بني إسرائيل حفيد إبراهيم. فإذا كان الاصطفاء لله فهو يصطفي أيضا نبيا من العرب وهو سليل إسماعيل بن إبراهيم عليهما‌السلام.

فكانت هذه القصة لتقرير نبوة النبي العربي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ودحض شبهة أهل الكتاب الذين حصروا النبوة في بني إسرائيل ، وإبطال شبهة المشركين الذين تصوروا كون النبي غير بشر ، وهو لا يكون إلا بشرا من جنس المبعوث إليهم.

وفي القصة إرهاص بنبوة عيسى ، إذ ولدت أمه من أم عاقر كبيرة السن ، على خلاف المعهود ، وقبلت الأنثى في خدمة بيت المقدس ، لتكون سيرتها الطاهرة عنوانا على كون ولدها من روح الله وكلمته.

ودل قوله تعالى : (وَإِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ) على جواز التسمية يوم الولادة ، وهو شرع من قبلنا ، وأكده ما ثبت في السنة عند البخاري ومسلم عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حيث قال : «ولد لي الليلة ولد سميته باسم أبي : إبراهيم».

وكان من أثر دعاء امرأة عمران الذي قبله الله بصون مولودها وذرريتها من مس الشيطان أن صان عيسى عليه‌السلام من إغواءات الشيطان ، كما يصون الله تعالى سائر أنبيائه الكرام من وساوس الشياطين وسلطانهم ، فكم تعرّض الشيطان للأنبياء والأولياء بأنواع الإفساد والإغواء ، ومع ذلك فعصمهم الله مما يرومه الشيطان ، كما قال تعالى : (إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ) [الحجر ١٥ / ٤٢ والإسراء ١٧ / ٦٥].

ووجود الرزق الكثير عند مريم مما ليس كالعادة دليل على كرامات الأولياء ، كما ذكر ابن كثير (١).

__________________

(١) تفسير ابن كثير : ١ / ٣٦٠

٢١٥

قصة زكريا ويحيى

(دعاء زكريا وطلبه الولد الصالح وإنجاب يحيى)

(هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ (٣٨) فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ أَنَّ اللهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (٣٩) قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عاقِرٌ قالَ كَذلِكَ اللهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ (٤٠) قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزاً وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ (٤١))

الإعراب :

(هُنالِكَ) الأصل أن يكون ظرف مكان ، ولكنه استعمل هنا ظرف زمان ، وقيل : بهما في هذه الآية أي في ذلك المكان والوقت ، وهو متعلق بدعاء أي دعا زكريا في ذلك الوقت ، وهذا الاستعمال جائز على سبيل التوسع ، ويعرف المراد بدلالة الحال ، وقد تجيء (هُنالِكَ) محتملة الزمان والمكان ، كما في قوله تعالى : (هُنالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِ). والظرف منه «هنا» واللام للتأكيد ، والكاف للخطاب ، لا موضع لها من الإعراب.

(فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ) أي جماعة الملائكة. ومن قرأ «فناداه» أراد جمع الملائكة ؛ إذ يجوز في فعل الجماعة التذكير والتأنيث ، سواء كانت الجماعة للمذكر أو المؤنث ، نحو : قال الرجال وقالت الرجال ، وقال النساء وقالت النساء ، فالتذكير بالحمل على معنى الجمع ، والتأنيث بالحمل على معنى الجماعة. (وَهُوَ قائِمٌ) جملة فعلية في موضع نصب على الحال من هاء (فَنادَتْهُ). (أَنَّ اللهَ) مفعول ثان لنادته ، ومن قرأها بالكسر فعلى الابتداء ، على تقدير : قال : إن الله يبشرك. (مُصَدِّقاً) حال من يحيى ، وكذلك : (سَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيًّا). (وَامْرَأَتِي عاقِرٌ) إنما جاء بغير تاء ؛ لأنه أراد النّسب ، أي : ذات عقر أي عقم ، مثل طالق وحائض.

٢١٦

البلاغة :

(فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ) المنادي جبريل ، وعبر عنه باسم الجماعة تعظيما له ؛ لأنه رئيسهم.

(بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ) فيه طباق وهو أحد المحسنات البديعية.

المفردات اللغوية :

(هُنالِكَ) أي لما رأى زكريا ذلك ، وعلم أن القادر على الإتيان بالشيء من غير حينه قادر على الإتيان بالولد على الكبر ، وكان أهل بيته انقرضوا (ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً) ولدا صالحا مباركا. الذرية : الولد ، وتقع على الواحد والكثير وهو هنا واحد ، والطيب : ما تستطاب أفعاله (سَمِيعُ الدُّعاءِ) أي مجيبه وقابله ، كما يقال : سمع الله لمن حمده ، إذ من لم يجب ، فكأنه لم يسمع (مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللهِ) أي يصدق بعيسى أنه روح الله ، فهو قد وجد بكلمة كائنة من الله ، وكلمة الله : عيسى عليه‌السلام ، وسمي كلمة ؛ لأنه خلق بكلمة : كن ، قال الربيع بن أنس : هو أول من صدق بعيسى بن مريم. (وَسَيِّداً) السيد : الرئيس المتبوع الذي يسود قومه. (وَحَصُوراً) قال السيوطي وغيره : ممنوعا من النساء ، من الحصر : وهو المنع ، فهو لا يأتي النساء مع القدرة على إتيانهن تعففا وزهدا. وقال آخرون : منوعا نفسه من ارتكاب ما يعاب عليه ، أو أنه معصوم من الذنوب أي لا يأتيها ، كأنه حصور عنها ، كما قال القاضي عياض. (وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ) أي من أصلابهم ، روي أنه لم يعمل خطيئة ولم يهم بها (أَنَّى) كيف (غُلامٌ) ولد (وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ) أي بلغت نهاية السن ، مائة وعشرين سنة (وَامْرَأَتِي عاقِرٌ) عقيم لا تلد بلغت ثمانيا وتسعين سنة. (كَذلِكَ) أي الأمر كذلك ، أي من خلق الله غلاما منكما (اللهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ) : لا يعجزه عنه شيء.

(آيَةً) علامة على حمل امرأتي أي علامة أعرف بها ميقات الحمل إذا حدث لأتلقى النعمة بالشكر (أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ) أي تمتنع من كلامهم ما عدا ذكر الله تعالى (رَمْزاً) إشارة بيد أو رأس أو غيرهما ، وسمي الرمز كلاما ؛ لأنه يفيد ما يفيده الكلام ويدل على ما دل عليه (بِالْعَشِيِ) الوقت من الزوال إلى الليل. (وَالْإِبْكارِ) من طلوع الفجر إلى الضحى ، فشمل قوله : بالعشي والإبكار : أواخر النهار وأوائله.

التفسير والبيان :

حينما رأى زكريا حال مريم وتفرغها للعبادة وتفضل الله عليها بالأرزاق الوفيرة ، دعا ربه أن يرزقه ولدا صالحا مثلها من ولد يعقوب عليه‌السلام ،

٢١٧

قائلا : إنك يا رب سميع لكل قول ، مجيب لكل دعاء صالح ؛ لأن رؤية الأولاد النجباء تشوق النفس لو يكون له مثلهم.

فخاطبته الملائكة شفاها ، والمخاطب في رأي الجمهور : هو جبريل عليه‌السلام (١) ، والأظهر في رأي القرطبي : ناداه جميع الملائكة ، أي جاء النداء من قبلهم.

وهو قائم يدعو الله ويصلي في محراب عبادته ، وقالت له : إن الله يبشرك بغلام اسمه يحيى : (إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى) [مريم ١٩ / ٧] وهو معرّب يوحنا ، ويطلق عليه في إنجيل متى : «يوحنا المعمداني» لأنه كان يعمّد الناس في زمانه. وهو أول من يصدق بعيسى بن مريم عليه‌السلام المسمى (كلمة الله) ؛ لأنه ولد ونشأ بكلمة الله : (كُنْ) ، لا بالطريقة المعتادة من الولادة من أب وأم.

ويحيى أيضا سيد قومه ، ومعصوم من الذنوب ، ومانع نفسه من شهواتها ، ونبي يوحى إليه ـ وهذه بشارة ثانية بنبوة يحيى بعد البشارة بولادته ، وهي أعلى من الأولى ـ وهو صالح ناشئ من أصلاب الصالحين : أنبياء الله الكرام صلوات الله عليهم.

ولكن زكريا تعجب قائلا : كيف يكون لي غلام ، وقد أصبحت كبير السن ، وامرأتي عقيم لا تلد ، فأجابه الله تعالى من طريق الملائكة : كذلك الله يفعل ما يشاء ، أي مثل ذلك الخلق غير المعتاد الحاصل مع امرأة عمران ، يفعل

__________________

(١) في التنزيل : يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ يعني جبريل ، والروح : الوحي. وجائز في العربية : أن يخبر عن الواحد بلفظ الجمع. وجاء في التنزيل : الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ يعني : نعيم بن مسعود.

٢١٨

الله ما يشاء في الكون ، فمتى شاء أمرا أوجده ، سواء بسبب معروف أو بغير سبب ، ومنه إيجاد الولد والمرأة عاقر.

فطلب زكريا من ربه أن يجعل له علامة تدله على الحمل ووجود الولد منه ، استعجالا للسرور ، أو ليشكر تلك النعمة ، فجعل الله علامة ذلك ألا يقدر على كلام الناس مدة ثلاثة أيام متوالية إلا بالإشارة والرمز بيد أو رأس أو نحوهما. وأمره بكثرة الذكر والتكبير والتسبيح في هذه الحال طوال الوقت ، وعلى التخصيص في الصباح والمساء.

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت هذه الآية على مشروعية طلب الولد ، وهي سنة المرسلين والصدّيقين ، قال الله تعالى: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ ، وَجَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجاً وَذُرِّيَّةً) [الرعد ١٣ / ٣٨] وقال : (وَالَّذِينَ يَقُولُونَ : رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ) [الفرقان ٢٥ / ٧٤] وقال مخبرا عن إبراهيم الخليل : (وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ) [الشعراء ٢٦ / ٨٤] ، وروي من حديث أنس قال : قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أيّ رجل مات ، وترك ذرّية طيبة ، أجرى الله له مثل أجر عملهم ، ولم ينقص من أجورهم شيئا». وخرّج ابن ماجه عن عائشة قالت : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «النكاح من سنّتي ، فمن لم يعمل بسنتي فليس مني ، وتزوّجوا فإني مكاثر بكم الأمم ، ومن كان ذا طول فلينكح ، ومن لم يجد فعليه بالصوم ، فإنه له وجاء». وأخرج أبو داود من قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «تزوجوا الولود الودود ، فإني مكاثر بكم الأمم». والأخبار في هذا المعنى كثيرة ، تحث على طلب الولد وتندب إليه ؛ لما يرجوه الإنسان من نفعه في حياته وبعد موته ، روى مسلم وغيره أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إذا مات أحدكم انقطع عمله إلا من ثلاث فذكر : أو ولد صالح يدعو له» ولو لم يكن إلا هذا الحديث لكان فيه كفاية.

٢١٩

ودلت الآية أيضا على أن الواجب على الإنسان أن يتضرع إلى خالقه في هداية ولده وزوجه وطلب التوفيق لهما ، والهداية والصلاح والعفاف والرعاية ، وأن يكونوا معينين له على دينه ودنياه حتى تعظم منفعته بهما في أولاه وأخراه. ألا ترى قول زكريا : (وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا) [مريم ١٩ / ٦] وقال : (ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً) وقال : (رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ) [الفرقان ٢٥ / ٧٤] ، ودعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأنس ، فقال فيما رواه البخاري ومسلم : «اللهم أكثر ماله وولده وبارك له فيه».

ومن مهام الملائكة البشارة ، كما بشرت بيحيى عليه‌السلام ، والأنبياء معصومون من الذنوب والمعاصي الكبيرة والصغيرة قبل النبوة وبعدها ، وقد يعصمون ويمنعون عن الشهوات المباحة ، كما حصل ليحيي عليه‌السلام أنه كان حصورا ، ولعل هذا كان شرعه ، فأما شرعنا فالنكاح. وكان يحيى أول من آمن بعيسى عليهما‌السلام وصدّقه ، وكان يحيى أكبر من عيسى بثلاث سنين ، ويقال بستة أشهر.

واستبعاد زكريا عليه‌السلام وتعجبه كان على وفق المعتاد أن حاله وحال امرأته لا يولد لمثلهما ، لا أن ذلك ليس من مقدور الله. وقد طلب إتمام النعمة بأن يجعل له آية تكون دليلا على زيادة النعمة والكرامة.

وفي هذه الآية دليل على أن الإشارة تنزل منزلة الكلام ، وذلك موجود في كثير من السنة ، وآكد الإشارات : ما حكم به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أمر السوداء حين قال لها : «أين الله؟» فأشارت برأسها إلى السماء ، فقال : «أعتقها فإنها مؤمنة» فأجاز الإسلام بالإشارة الذي هو أصل الديانة الذي يحرز الدم والمال ، وتستحق به الجنة ، وينجى به من النار ، وحكم بإيمانها كما يحكم بنطق من يقول ذلك.

وهذا قول عامة الفقهاء ، قال مالك : إن الأخرس إذا أشار بالطلاق إنه

٢٢٠