التفسير المنير - ج ٣

الدكتور وهبة الزحيلي

فإذا أداها اثنان واجتزأ بهما الحاكم ، سقط الفرض عن الباقين ، وإن لم يجتزئ بهما تعينت الشهادة على الآخر.

٩ ـ الكتابة مندوبة في المبايعات والديون المؤجلة ، سواء أكان المؤجل صغيرا أم كبيرا. ولا تطلب الكتابة في التجارة الحاضرة التي يتم فيها التبادل في الحال ، ويحدث التقابض في البدلين عقب العقد ، إذ يقلّ في العادة خوف التنازع إلا بأسباب غامضة. قال الشافعي : البيوع ثلاثة : بيع بكتاب وشهود ، وبيع برهان ، وبيع بأمانة ، وقرأ هذه الآية. وكان ابن عمر إذا باع بنقد أشهد ، وإذا باع بنسيئة كتب.

١٠ ـ ودل قوله تعالى : (وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ) على طلب الإشهاد على صغير ذلك وكبيره ، وهل الإشهاد على البيع على الوجوب أو الندب؟ قال أبو موسى الأشعري وابن عمر والضحاك وجماعة من التابعين : هو على الوجوب ، أخذا بظاهر الأمر في هذه الآية ، ورجحه الطبري.

وذهب الشعبي والحسن البصري إلى أن ذلك على الندب والإرشاد ، لا على الحتم والإيجاب. وهذا قول مالك والشافعي وأهل الرأي ، وزعم ابن العربي أن هذا قول الكافّة ، قال : وهو الصحيح ، ولم يحك عن أحد ممن قال بالوجوب إلا الضحاك. روي عن ابن عباس أنه قال لما قيل له : إن آية الدّين منسوخة قال : لا والله ، إن آية الدّين محكمة ليس فيها نسخ ، قال : والإشهاد إنما جعل للطمأنينة ، وذلك أن الله تعالى جعل لتوثيق الدين طرقا ، منها الكتاب ، ومنها الرهن ، ومنها الإشهاد.

ولا خلاف بين علماء الأمصار أن الرهن مشروع بطريق الندب ، لا بطريق الوجوب ، فيعلم من ذلك مثله في الإشهاد. وما زال الناس يتبايعون حضرا وسفرا ، وبرا وبحرا ، وسهلا وجبلا من غير إشهاد مع علم الناس بذلك من غير

١٢١

نكير ، ولو وجب الإشهاد ما تركوا النكير على تاركه.

١١ ـ أداء الشهادة ، وكتابة الكاتب يكونان بالحق والعدل ، فلا يكتب الكاتب ما لم يمل عليه ، ولا يزيد الشاهد في شهادته ولا ينقص منها ، فالكاتب والشاهد يعصيان بالزيادة أو النقصان ، وذلك من الكذب المؤذي في الأموال والأبدان ، وفيه إبطال الحق ، وكذلك إذايتهما من الخصوم معصية وخروج عن الصواب من حيث المخالفة لأمر الله بقول الحق ، فلا يجوز إلحاق الضرر بهما ، ولا إضرارهما المشهود له أو عليه ؛ إذ لا مضارّة ، ولا ضرر ولا ضرار في الإسلام ، وإن تفعلوا المضارة ، فإنه فسوق (أي معصية) حالّ بكم.

١٢ ـ وقوله تعالى : (وَاتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ) وعد من الله تعالى بأن من اتقاه علّمه ، أي يجعل في قلبه نورا يفهم به ما يلقى إليه. أما قوله : (وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) فهو إشارة إلى إحاطته تعالى بالمعلومات ، فلا يشذ عنه منها شيء ، وفيها إشعار بالمجازاة للفاسق والمتقي.

١٣ ـ دلت آية (فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ) على مشروعية الرهن في السفر إذا لم يتوافر الإشهاد وكتابة الدين. وجاءت السنة مبينة جواز الرهن في الحضر ، كما بيّنا.

والرهن : احتباس العين وثيقة بالحق ليستوفى الحقّ من ثمنها أو من ثمن منافعها عند تعذر أخذه من الغريم.

ولا يظهر وجه للتوثق بالمرهون من غير قبضه ، وقد اتفق الفقهاء على أن القبض شرط في الرهن ، واختلفوا في نوع الشرط ، فقال الجمهور : القبض شرط لزوم للرهن ، فلا يلزم إلا بالقبض ، وما لم يلزم للراهن أن يرجع عنه ؛ لأن مشروعية الرهن للتوثق ، ولا توثق إلا بالقبض. وقال المالكية : القبض شرط تمام الرهن ، أي لكمال فائدته ، وليس شرط صحة أو لزوم ، فإذا انعقد الرهن لزم

١٢٢

بمجرد العقد ، ويجبر الراهن على الإقباض ، ومتى قبض تم وكمل ، قياسا على سائر العقود ، فإنها تلزم بمجرد العقد.

والمعتمد لدى المالكية أن الرهن متى رجع إلى الراهن باختيار المرتهن ، بطل الرهن. وهو قول أبي حنيفة أيضا ، للآية : (فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ). فإذا خرج عن يد القابض ، لم يصدق ذلك اللفظ عليه لغة ، فلا يصدق عليه حكما.

وقال الشافعي : إن رجوعه إلى يد الراهن مطلقا ، لا يبطل حكم القبض المتقدم.

ويصح قبض المرتهن أو وكيله ، وقال الجمهور : يصح أيضا قبض عدل (طرف ثالث محايد غير العاقدين) يوضع الرهن في يديه ؛ لأنه إذا صار عند العدل ، صار مقبوضا لغة وحقيقة ؛ لأن العدل نائب عن صاحب الحق ، وبمنزلة الوكيل. والعدل أمين غير ضامن ، فلو ضاع المرهون منه دون تهاون ولا تقصير ، لم يضمنه.

ويجوز رهن المشاع عند الجمهور ، خلافا للحنفية ، كما بينا.

ويجوز لدى المالكية خلافا للجمهور رهن ما في الذمة ؛ لأنه مقبوض ، ومثاله : رجلان تعاملا ، ولأحدهما على الآخر دين ، فرهنه دينه الذي عليه. قالوا : وكل عرض جاز بيعه جاز رهنه ، فيجوز رهن ما في الذمة ؛ لأن بيعه جائز ، ولأنه مال تقع الوثيقة به ، فجاز أن يكون رهنا ، قياسا على سلعة موجودة.

وقال الجمهور : لا يجوز رهن الدين في الذمة ؛ لأنه لا يتحقق إقباضه ، والقبض شرط في لزوم الرهن ؛ لأنه لا بد أن يستوفي الحق منه عند حلول أجل وفاء الدين المرهون به ، ويكون الاستيفاء من مالية المرهون ، لا من عينه ، ولا يتصور ذلك في الدّين.

١٢٣

ولا يجوز غلق الرهن (١) : وهو أن يشترط المرتهن أنه له بحقه ، إن لم يأته به عند أجله ، وكان هذا من فعل الجاهلية ، فأبطله النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقوله فيما رواه الشافعي والدارقطني وغيرهما عن أبي هريرة : «لا يغلق الرهن من صاحبه ، له غنمه ، وعليه غرمه».

قال الجمهور : منفعة الرهن للراهن ، ونفقته عليه ، والمرتهن لا ينتفع بشيء من الرهن خلا الإحفاظ للوثيقة ، فإذا آجر المرتهن المرهون بإذن الراهن أو آجره الراهن بإذن المرتهن ، فقد خرج من الرهن ولا يعود.

وأجاز الحنابلة انتفاع المرتهن بالرهن مقابل نفقته إذا كان المرهون مركوبا أو محلوبا ، لما روى البخاري عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الظهر يركب بنفقته إذا كان مرهونا ، ولبن الدرّ يشرب بنفقته إذا كان مرهونا ، وعلى الذي يركب ويشرب النفقة».

انطباعات عامة مستفادة من آية الدين :

١ ـ إن الذي أمر الله تعالى به في آية الدين من الشهادة والكتابة (٢) : قصد به الحفاظ على ووشائج الود والصلة والمحبة وصلاح ذات البين بين الناس ، ومنع وقوع التنازع المؤدي إلى فساد علاقات الناس ، وسدّ كل المنافذ أمام الشيطان الذي قد يسول للمدين جحود الحق ، وتجاوز ما حدّ له الشرع ، أو ترك الاقتصار على المقدار المستحق.

ومن أجل هذه الغايات السامية ، حرّم الشرع البيوع المجهولة التي تؤدي إلى

__________________

(١) غلق الرهن : كان من فعل الجاهلية أن الراهن إذا لم يؤد ما عليه في الوقت المعين ، ملك المرتهن الرهن ، فأبطله الإسلام.

(٢) يلاحظ أن صيغة الشهادة تكررت في الآيتين ثمان مرات ، وصيغة الكتابة تكررت عشر مرات.

١٢٤

الاختلاف والتنازع وفساد العلاقات وإيقاع التضاغن والتباين. وبناء عليه أيضا حرم الله الميسر والقمار وشرب الخمر بقوله تعالى : (إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ) [المائدة ٥ / ٩١] فمن تأدب بأدب الله في أوامره وزواجره ، حاز صلاح الدين والدنيا ، قال الله تعالى : (وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ ، لَكانَ خَيْراً لَهُمْ) [النساء ٤ / ٦٦].

٢ ـ لا ينبغي للإنسان استدانة دين إلا لضرورة قصوى أو حاجة ملحّة ؛ لأنه كما روي عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما رواه الديلمي في الفردوس عن عائشة ، وهو ضعيف : «الدّين همّ بالليل ، ومذلّة بالنهار». لما فيه من شغل القلب والبال والهمّ اللازم في قضائه ، والتذلل للغريم عند لقائه ، وتحمّل منّته بالتأخير إلى حين أوانه.

وقد يقع المدين في عجز مستحكم فلا يستطيع وفاء دينه ، لذا تعوّذ منه النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فيما يرويه البخاري عن أنس ـ فقال : «اللهم إني أعوذ بك من الهمّ والحزن والعجز والكسل والجبن والبخل ، وضلع الدّين ، وغلبة الرجال» قال العلماء : ضلع الدين : هو الذي لا يجد دائنه من حيث يؤديه.

وإذا حسنت نية المدين أعانه الله على إيفاء الدين ، روى البخاري عن أبي هريرة عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من أخذ أموال الناس يريد أداءها ، أدّى الله عنه ، ومن أخذها يريد إتلافها ، أتلفه الله».

٣ ـ لما أمر الله تعالى بكتابة الدين والإشهاد وأخذ الرهان ، كان ذلك نصا قاطعا على مراعاة حفظ الأموال وتنميتها ، وردا على الجهلة المتصوفة ورعاعها الذين لا يرون ذلك ، فيخرجون عن جميع أموالهم ولا يتركون كفاية لأنفسهم وعيالهم ، ثم إذا احتاج أحدهم أو افتقر عياله ، فهو إما أن يتعرض لمنن الإخوان أو لصدقاتهم ، أو أن يأخذ من أرباب الدنيا وظلمتهم ، وهذا الفعل مذموم منهي عنه.

١٢٥

لله ملك السموات والأرض وإحاطة علمه بكل شيء

ومحاسبة العباد على أفعالهم ونواياهم

(لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٨٤))

الإعراب :

(فَيَغْفِرُ) ومثله (وَيُعَذِّبُ) : يجوز فيه الرفع والجزم والنصب ، فالرفع على الاستئناف وتقديره : فهو يغفر ، والجزم بالعطف على (يُحاسِبْكُمْ) ، والنصب ضعيف ، على تقدير (أن) بعد الفاء ، والفعل وما بعده في تأويل المصدر لعطف مصدر على مصدر حملا على المعنى دون اللفظ ، كأنه قال : إن يكن إبداء أو إخفاء منكم ، فمحاسبة ، فغفران منّا.

البلاغة :

يوجد طباق بين : (وَإِنْ تُبْدُوا .. أَوْ تُخْفُوهُ) وبين (فَيَغْفِرُ .. وَيُعَذِّبُ).

المفردات اللغوية :

(تُبْدُوا ..) تظهروا ما في أنفسكم من السوء والعزم عليه (أَوْ تُخْفُوهُ) تسرّوه (يُحاسِبْكُمْ ..) يخبركم به الله يوم القيامة (فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ) يستر من أراد المغفرة له (وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ) يعاقب من أراد تعذيبه (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) عظيم القدرة على أي شيء ، ومنه محاسبتكم وجزاؤكم ، قال أبو حيان : لما ذكر المغفرة والتعذيب لمن يشاء ، عقب ذلك بذكر القدرة ؛ إذ ما ذكر جزء من متعلّقات القدرة.

المناسبة :

هذه الآية متممة لآخر كل من الآيتين السابقتين وهما : (وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ

١٢٦

عَلِيمٌ) ، (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) ودليل على إحاطة علم الله بالأشياء ؛ لأن من ملك شيئا وخلقه ، فلا بد من أن يعلمه ، كقوله تعالى : (أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ ، وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) [الملك ٦٧ / ١٤] ، وكذلك من ملك شيئا فله حسابه على أفعاله وما يخفيه صدره ، ومنها كتمان الشهادة ، وصاحب السلطة المطلقة في شيء وهو الحساب ، له الإرادة المطلقة في العفو عمن شاء ممن أخطأ ، وعقاب من شاء ، وذلك كله مقترن بالقدرة المطلقة على كل شيء.

وللآية أمثال كثيرة في القرآن الكريم نحو : (قُلْ : إِنْ تُخْفُوا ما فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللهُ ، وَيَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ، وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [آل عمران ٣ / ٢٩] ونحو : (فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى) [طه ٢٠ / ٧](يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ ، وَما تُخْفِي الصُّدُورُ) [غافر ٤٠ / ١٩].

التفسير والبيان :

يخبر الله تعالى في هذه الآية أن له ملك السموات والأرض وما فيهن وما بينهن ، وأنه المطلع على ما فيهن ، لا تخفى عليه الظواهر والسرائر والضمائر وإن دقت وخفيت ، وأنه سيحاسب عباده على ما فعلوه وما أخفوه في صدورهم ، كما قال ابن كثير

فلله ما في السموات وما في الأرض ملكا وخلقا وتصريفا وعلما ، وهو العليم بكل شيء ، فإن تظهروا ما في قلوبكم من السوء والعزم عليه ، أو تكتموه عن الناس وتخفوه ، فالله يحاسبكم عليه ويجازكم به ، إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر.

وهو يغفر بفضله لمن يشاء من عباده ، ويعاقب من يشاء عقابه ، ومما يكون عونا على المغفرة توفيق الله عبده إلى التوبة والعمل الصالح ، كما قال تعالى : (رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ ، وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ. رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ ، وَمَنْ صَلَحَ مِنْ

١٢٧

(آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ. وَقِهِمُ السَّيِّئاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ ، وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) [غافر ٤٠ / ٧ ـ ٩].

والحساب من الله لعباده : أن يطلعهم على جميع أعمالهم ، ثم يسألهم : لم فعلوها؟.

فقه الحياة أو الأحكام :

تتضمن الآية إنذارا وتخويفا شديدا من الحساب الإلهي ، لكون الإنسان مملوكا لله ، والله مطلع على كل أفعاله ، محاسب له على جليل الأعمال وحقيرها ، مما أدى إلى إيقاع الرهبة في النفوس والإشفاق عليها من شدة العذاب ، وتفويض أمره مطلقا إلى الله وحده ؛ أخرج أحمد ومسلم عن أبي هريرة قال : لما نزل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ، وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ ، يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ) اشتد ذلك على أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأتوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم جثوا على الرّكب ، فقالوا : أي رسول الله ، كلّفنا من الأعمال ما نطيق : الصلاة والصيام والجهاد والصدقة ، وقد أنزل الله هذه الآية ولا نطيقها ، فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتاب من قبلكم : سمعنا وعصينا؟ بل قولوا : سمعنا وأطعنا ، غفرانك ربنا ، وإليك المصير؟». فلما قرأها القوم وذلّت (لانت) بها ألسنتهم ، أنزل الله في إثرها : (آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ ..) الآية. فلما فعلوا ذلك نسخها الله ، فأنزل الله : (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) الآية.

وظاهر قوله : «نسخها الله» يدل على نسخ هذه الآية بالآية التي بعدها وهي : (لا يُكَلِّفُ اللهُ ..) وقد فهم بعض المفسرين (١) من ذلك أن هذه الآية

__________________

(١) وهم الإمام علي وابن عمر وابن مسعود وكعب الأحبار والشعبي والنخعي ومحمد بن كعب القرظي وعكرمة وسعيد بن جبير وقتادة وآخرون من الصحابة والتابعين.

١٢٨

منسوخة ؛ لأنها تثبت الحساب على الوساوس وخواطر النفوس. والراجح أن الآية غير منسوخة ، وأن المراد من قوله : «نسخها الله» : أزال ما أخافهم ، وأن آية : (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) ليست ناسخة ، ولكنها موضحة ، أيدها الحديث الذي رواه الجماعة في كتبهم الستة عن أبي هريرة قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الله تجاوز لي عن أمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تكلّم أو تعمل» ، وقد قال ابن عباس وعكرمة والشعبي ومجاهد : إن الآية محكمة مخصوصة ، وهي في معنى الشهادة التي نهى الله عن كتمها ، ثم أعلم في هذه الآية أن الكاتم لها المخفي ما في نفسه محاسب.

ويدل على منع القول بالنسخ الأدلة التالية :

١ ـ إن قوله تعالى : (يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ) خبر ، والأخبار لا تنسخ عند جمهور الأصوليين.

٢ ـ إن كسب القلب وعمله مما دل الكتاب والسنة والإجماع والقياس على ثبوته والجزاء عليه ، ظهر أثره على الجوارح أم لم يظهر ، كقوله تعالى : (لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ) [البقرة ٢ / ٢٢٥] وقوله : (إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ ، كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً) [الإسراء ١٧ / ٣٦].

٣ ـ إن الوساوس العارضة وحديث النفس الذي لا يصل إلى درجة القصد الثابت والعزم الراسخ لا يدخل في مفهوم الآية ، كما قال المحققون.

٤ ـ إن تكليف ما ليس في الوسع ينافي الحكمة الإلهية.

٥ ـ لا يظهر معنى للنسخ وهو تغيير الحكم لتغير مصلحة المكلفين ؛ لأن ما في النفس لا يتغير ولا يختلف باختلاف الأزمنة والأحوال.

١٢٩

وأما قول الصحابة والتابعين بالنسخ فهو مما يتفق مع علو مرتبة هؤلاء وكمالهم ، حتى إنهم ليجدون أن وسوسة النفس مما تخضع للحساب ، وهم يريدون التطهر من كل آثار الإثم ، لذا قيل: حسنات الأبرار سيئات المقربين. فتحرجهم من باب كمال التزكية وتمام الطهاوة واعتقاد النقص في أنفسهم.

الإيمان برسالات الرسل والتكليف بالطاقة

(آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (٢٨٥) لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (٢٨٦))

الإعراب :

(وَالْمُؤْمِنُونَ) إما معطوف على (الرَّسُولُ) فكأنه قال : آمن الرسول والمؤمنون. وإما مبتدأ ، و (كُلٌ) : مبتدأ ثان ، و (آمَنَ بِاللهِ) : خبره ، والجملة من المبتدأ والخبر : خبر المبتدأ الأول. والعائد من الجملة إليه محذوف ، وتقديره : كلهم آمن بالله. وقال : (آمَنَ) : بالإفراد ، ولم يقل : آمنوا بالجمع ، حملا على لفظ كل. وأضيف (بَيْنَ) إلى (أَحَدٍ) ؛ لأن المراد به هاهنا الكثرة ؛ لأن «أحدا» في سياق النفي يدل على الكثرة ، كقوله تعالى : (وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ ..) ثم قال : (فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما) [البقرة ٢ / ١٠٢]. إذ لا تجوز إضافة (بَيْنَ) إلى الواحد.

١٣٠

(غُفْرانَكَ) منصوب على المصدر بفعل مقدر تقديره : اغفر لنا غفرانك ، أو نسألك غفرانك ، وحذف للعلم به لوجود الدلالة عليه.

البلاغة :

يوجد طباق بين (كَسَبَتْ) في الخير و (اكْتَسَبَتْ) في الشر. ويوجد جناس اشتقاق بين (آمَنَ .. وَالْمُؤْمِنُونَ) وهناك إطناب في قوله : (لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ). وإيجاز بالحذف في قوله : (وَالْمُؤْمِنُونَ) أي آمنوا بالله ورسله.

المفردات اللغوية :

(آمَنَ الرَّسُولُ) صدّق النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ) من القرآن (وَرُسُلِهِ) يقولون (لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ) أي في الرسالة والتشريع ، فلا نفضل بعضهم على بعض في ذلك ، فنؤمن ببعض ونكفر ببعض (سَمِعْنا) ما أمرنا به سماع قبول وتدبر (الْمَصِيرُ) المرجع بالبعث.

(وُسْعَها) طاقتها : وهو ما تسعة قدرة الإنسان من غير حرج ولا عسر.

(كَسَبَتْ) من الخير وثوابه (مَا اكْتَسَبَتْ) من الشر أي وزره ، فلا يؤخذ أحد بذنب أحد ، ولا بما لا يكسبه مما وسوست به نفسه (لا تُؤاخِذْنا) تعاقبنا (أَوْ أَخْطَأْنا) تركنا الصواب لا عن عمد ، كما آخذت به من قبلنا (إِصْراً) أمرا أو حملا يثقل علينا حمله أو يشق تحمله (كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا) أي بني إسرائيل ، من قتل النفس في التوبة ، وإخراج ربع المال في الزكاة ، وقرض موضع النجاسة. (ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ) أي ما لا قدرة لنا عليه من التكاليف والبلاء ، فالتكليف بما يطاق : هو ما يمكن الإتيان به ولو بمشقة معتادة متحملة ، والتكليف بما لا يطاق : هو ما لا يدخل في مكنة الإنسان وقدرته ، بأن اقترن بمشقة زائدة غير معتادة. (وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا) الرحمة أمر زائد على المغفرة (مَوْلانا) مالكنا وسيدنا ومتولي أمورنا.

جاء في الحديث الذي يرويه مسلم عن ابن عباس : لما نزلت هذه الآية ، فقرأها صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال الله عقب كل كلمة : قد فعلت.

سبب النزول :

سبق بيان سبب نزول هذه الآية فيما رواه مسلم وأحمد عن أبي هريرة في بحث «فقه الحياة» في الآية السابقة. وروى مسلم وغيره عن ابن عباس نحوه.

١٣١

المناسبة :

بدأ الله تعالى هذه السورة بالكلام على القرآن والمؤمنين ومقارنتهم بالكافرين ، ولا سيما أخبار اليهود ، ثم أرشد تعالى إلى كثير من الأحكام كالصيام والحج والطالق ، ثم أرشد تعالى إلى كثير من الأحكام كالصيام والحج والطلاق ، ومحاجة الضالين ، وختم السورة بالكلام عن إيمان الرسول محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين بالكتب السماوية وبالرسل الكرام دون تفريق أو تفضيل في أصل الرسالة والتشريع ، وكان مسك الختام إبداء ما تفضل الله به على هذه الأمة من التكاليف السمحة السهلة التي لا ضيق ولا حرج فيها ، وأن الإيمان وأهله منصور على الكفر وأعوانه ، إذا صح وصدقت العزيمة وتوافر الإخلاص والصدق وتنفيذ الأحكام الشرعية.

فضل هاتين الآيتين :

ورد في السّنة النّبوية أحاديث كثيرة تشير إلى فضائل هاتين الآيتين ، منها : ما رواه البخاري عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قرأ بالآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه» ، ورواه مسلم عن أبي مسعود الأنصاري بلفظ : «من قرأ هاتين الآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه».

ومنها : ما رواه الإمام أحمد عن أبي ذر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أعطيت خواتيم سورة البقرة من كنز تحت العرش ، لم يعطهن نبيّ قبلي». وروى ابن مردويه عن علي قال : «لا أرى أحدا عقل الإسلام ينام حتى يقرأ آية الكرسي وخواتيم سورة البقرة ، فإنها من كنز أعطيه نبيّكم صلى‌الله‌عليه‌وسلم من تحت العرش».

ومنها : ما رواه مسلم عن ابن عباس قال : «بينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعنده جبريل إذ سمع نقيضا فوقه ، فرفع جبريل بصره إلى السماء ، فقال : هذا باب قد

١٣٢

فتح من السماء ، ما فتح قط ، قال : فنزل منه ملك ، فأتى النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال له : أبشر بنورين قد أوتيتهما ، لم يؤتهما نبيّ قبلك : فاتحة الكتاب ، وخواتيم سورة البقرة ، لن تقرأ حرفا منهما إلا أوتيته».

التفسير والبيان :

أخبر الله تعالى عن نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعن المؤمنين بالإيمان بأصول الاعتقاد فقال : صدّق الرسول محمد والمؤمنون برسالته ، بالذي أنزل على قلب محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم من ربّه ، من العقائد والأحكام تصديق يقين واطمئنان. قال النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما نزلت عليه هذه الآية فيما رواه الحاكم في مستدركه : «حقّ له أن يؤمن».

كلّ منهم آمن بوجود الله ووحدانيته وتمام حكمته في خلقه ، وبوجود الملائكة الذين لهم مهام عديدة منها السفارة بالوحي بين الله ورسله ، وبالرّسل الكرام الذين أنزل الله عليهم كتبا وصحفا لهداية البشر ، قائلين جميعا : لا نفرق بين الرّسل في الرّسالة والتّشريع من حيث المبدأ ، وأن دعوتهم واحدة هي الإقرار بوجود الله ووحدانيته والدّعوة إلى مكارم الأخلاق. وأما التّفضيل بين الرّسل في آية سابقة : (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ) [البقرة ٢ / ٢٥٣] ، إنما هو في مزايا أخرى غير الرّسالة والتّشريع. وفي هذا إشارة إلى فضيلة المؤمنين على غيرهم من أهل الكتاب الذين يؤمنون ببعض الرّسل ويكفرون بالبعض الآخر.

وقال المؤمنون : بلّغنا الرّسول بالوحي ، فسمعنا القول سماع تدبّر وفهم وقبول ، وأطعنا الأوامر إطاعة إذعان وانقياد ، معتقدين أن كل أمر ونهي إنما هو لسعادة الدّنيا والآخرة.

ويسألون الله تعالى المغفرة بالسّتر في الدّنيا وترك الجزاء في الآخرة ، فأنت المتصرف في أمورنا وإليك المرجع والمآب ، فتفعل فينا ما تشاء. قال جبريل : «إن الله قد أحسن الثناء عليك وعلى أمتك ، فسل تعطه ، فسأل : (لا يُكَلِّفُ

١٣٣

اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) إلى آخر الآية».

لا يكلّف الله أحدا فوق طاقته ، وهذا من لطفه تعالى ورأفته بهم ، وهذه الآية هي التي أوضحت للصحابة ما أشفقوا منه في قوله تعالى : (وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ) أي أنه تعالى وإن حاسب وسأل ، لكن لا يعذّب إلا بما يملك الشخص دفعه ، فأما ما لا يملك دفعه من وسوسة النفس وحديثها ، فهذا لا يكلّف به الإنسان ، علما بأن كراهية وسوسة السّوء من الإيمان.

ومنع التّكاليف الشّاقة والتّكليف باليسير مشار إليه في كثير من آي القرآن ، نحو : (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ ، وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) [البقرة ٢ / ١٨٥] ، ونحو : (وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) [الحج ٢٢ / ٧٨].

وللنّفس الإنسانيّة من الأعمال التي تدخل تحت التّكليف المحتمل غير الشّاق ما كسبت من خير وما اكتسبت من شرّ ، ولها الثواب على الخير ، وعليها العقاب على الشّر.

وأضيف الاكتساب إلى الشّر لبيان أنه يحتاج إلى تكلّف وعناء وتخطيط ومصادمة الطبيعة والأعراف ، أما الخير فلا يحتاج إلى جهد كثير ؛ لأنه مما أودع الله في طبع الإنسان ، وترتاح النفس لفعله ، ولا يحتاج إلى حذر وتدبير ، ويقدم الإنسان عليه كلما صفت نفسه وأحسّت بضعفها أمام الخالق ، وبفقرها إليه يوم المحنة الكبرى وكشف الحساب الدّقيق الشامل الرّهيب أمام الله والنّاس.

ثم أرشد الله تعالى عباده إلى هذا الدّعاء ، وقد تكفّل لهم بالإجابة وهو : (رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا) أي إن تركنا فرضا نسيانا ، أو فعلنا حراما ناسين ، أو أخطأنا الصواب في العمل جهلا منا بوجهه الشرعي ، فلا تعاقبنا عليه ، يؤيده ما رواه ابن ماجه والبيهقي والطبراني والحاكم عن أبي ذرّ

١٣٤

وابن عباس وثوبان أنّ النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن الله تعالى تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه».

ـ (رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً ، كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا) أي لا تكلّفنا من الأعمال الشاقة ، وإن أطقناها ، كما كلفت الأمم الماضية قبلنا كبني إسرائيل الذين كانت توبتهم بقتل التائب نفسه ، وإيجاب ربع المال في الزّكاة ، وقطع موضع النّجاسة من الثوب إذا تنجّس. أما رسالة النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ففيها التّخفيف والتّيسير والسّماحة والسّهولة ؛ لأنه نبيّ الرحمة المهداة للأمم قاطبة ، روى الخطيب وغيره عن جابر عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «بعثت بالحنيفية السّمحة».

ـ (رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ) أي من التكليف والمصائب والبلاء ، فلا تبتلينا بما لا قدرة لنا عليه من الفتن. (وَاعْفُ عَنَّا) فيما بيننا وبينك مما تعلمه من تقصيرنا وزللنا. (وَاغْفِرْ لَنا) فيما بيننا وبين عبادك ، فلا تظهرهم على عيوبنا وأعمالنا القبيحة. (وَارْحَمْنا) فيما يستقبل ، فجنبنا بتوفيقك الوقوع في ذنب آخر.

ويلاحظ أن عدم المؤاخذة على النسيان والخطأ يستتبع العفو ، وأن عدم حمل الإصر (الحرج والحمل الثقيل) يستوجب المغفرة ، وأن عدم تحميل ما لا يطاق يتطلب الرحمة.

ـ (أَنْتَ مَوْلانا) متولي أمورنا ومالكنا ، وناصرنا ، وعليك توكلنا ، وأنت المستعان ، وعليك التّكلان ، ولا حول ولا قوّة إلا بك.

ـ (فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ) أي الذين جحدوا دينك ، وأنكروا وحدانيتك ورسالة نبيّك ، وعبدوا غيرك ، وأشركوا معك من عبادك ، فانصرنا عليهم ، واجعل لنا العاقبة عليهم في الدّنيا والآخرة.

وكان معاذ رضي‌الله‌عنه إذا فرغ من هذه السورة قال : آمين.

١٣٥

وقد تكفّل الله بالإجابة ، ثبت في صحيح مسلم عن أبي هريرة عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «قال الله : نعم» ، وعن ابن عباس عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «قال الله : قد فعلت».

فقه الحياة أو الأحكام :

دلّت الآيتان على ما يلي :

١ ـ الإيمان لا يتجزّأ : فالمؤمن يجب عليه الإيمان بكل ما أوحى الله به ، والمؤمنون يؤمنون بأن الله واحد أحد ، فرد صمد ، لا إله غيره ، ولا ربّ سواه ، ويصدقون بجميع الأنبياء والرّسل والكتب المنزلة من السماء على عباد الله المرسلين والأنبياء ، لا يفرقون بين أحد منهم ، فيؤمنون ببعض ، ويكفرون ببعض ، بل الجميع عندهم صادقون بارّون ، راشدون ، مهديون ، هادون إلى سبيل الخير.

وليس المؤمنون كاليهود والنصارى الذين يؤمنون ببعض الأنبياء ويكفرون ببعض.

٢ ـ الإيمان يستلزم الطاعة : المؤمن بالله يؤمن بصدق لقائه ، ويسمع ويطيع أوامره ، ويتجنّب نواهيه ، فلا يقصر في واجب ، ولا ينغمس في معصية ، فذلك يتصادم مع الإيمان.

٣ ـ الإسلام دين اليسر : فهو يمتاز بقلّة التّكاليف والفرائض والواجبات ، وبيسر تكاليفه ، وعدم التّكليف بالشّاق من الأعمال ، فلا تكليف فوق الطاقة ، وإنما التّكليف بحسب الوسع والقدرة ، والطاعة على قدر الطاقة ، فقد يكلّفنا الله بأمور فيها شيء من المشقّة لكنها معتادة متحمّلة مقدور عليها ، كثبوت الواحد للعشرة من الكفار في مبدأ الإسلام حينما كان المسلمون قلّة ، وهجرة الإنسان وخروجه من وطنه ، ومفارقة أهله ووطنه وعادته ، أما المشقات الثّقيلة والأمور المؤلمة فهي مرفوعة عنا ، وكان بعضها على الأمم السابقة ، كتكليفهم بقتل أنفسهم

١٣٦

للتوبة ، وقرض موضع النّجاسة كالبول من ثيابهم وجلودهم ، فلله الحمد والمنّة ، والفضل والنّعمة.

والخلاصة : إن قوله تعالى : (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) نصّ على أن الله تعالى لا يكلّف أحدا ما لا يقدر عليه ولا يطيقه ، ولو كلّف أحدا ما لا يقدر عليه ولا يستطيعه ، لكان مكلّفا له ما ليس في وسعه. وهذا أصل عظيم في الدّين وركن من أركان الإسلام.

هذا من حيث الواقع الفعلي ، أما من حيث الجواز العقلي ، فلم يمنع الأشاعرة من تكليف ما لا يطاق ، فهو جائز عقلا وإن لم يقع شرعا.

٤ ـ المسؤولية الشخصية : (لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ) [البقرة ٢ / ٢٨٦] : للإنسان ما كسب من الحسنات ، وعليه ما اكتسب من السّيئات ، مثل قوله : (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) [الأنعام ٦ / ١٦٤] ، (وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْها) [الأنعام ٦ / ١٦٤].

روى ابن مردويه عن ابن عباس قال : «كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا قرأ آخر سورة البقرة وآية الكرسي ، ضحك ، وقال : إنهما من كنز الرحمن تحت العرش» ، وإذا قرأ : (مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ) [النساء ٤ / ١٢٣] ، (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى ، وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى ، ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى) [النجم ٥٣ / ٣٩ ـ ٤١] استرجع واستكان.

٥ ـ ودلّت آية (لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ) على أنه يطلق على أفعال العباد الكسب والاكتساب ، وعلى أن من قتل غيره بمثقّل كحجر وخشب ، أو بخنق أو تغريق ، فعليه ضمانه قصاصا أو دية ، خلافا لأبي حنيفة الذي جعل ديته على العاقلة (القبيلة) وذلك يخالف الظاهر. ودلّت على أن سقوط القصاص عن الأب بقتل ولده لا يقتضي سقوطه عن شريكه ، فالقود واجب على

١٣٧

شريك الأب في رأي المالكية خلافا لأبي حنيفة ، وعلى شريك المخطئ خلافا للشافعي وأبي حنيفة ، ودلّت أيضا على وجوب الحدّ على المرأة العاقلة البالغة إذا مكنت مجنونا من نفسها.

٦ ـ رفع الإثم عن الخطأ والنسيان : دلّت الآية على أن الإثم مرفوع حال الخطأ والنسيان. وأما الأحكام الدّنيوية المتعلّقة بهما فالصّحيح أنها تختلف بحسب الوقائع ، فقسم لا يسقط باتّفاق كالغرامات والدّيات والصّلوات المفروضات ، وقسم يسقط باتّفاق كالقصاص والنّطق بكلمة الكفر. وقسم ثالث مختلف فيه كمن أكل ناسيا في رمضان أو حنث ساهيا. وهذا يدل على أن أحكام العباد وحقوق الناس ثابتة ، كما سنبيّن في سورة النساء.

خلاصة أهم الأحكام في سورة البقرة المسمّاة «فسطاط القرآن» :

أولا ـ العقائد :

١ ـ دعوة جميع الناس إلى عبادة الله تعالى.

٢ ـ تحريم اتّخاذ الأنداد والشركاء مع الله.

٣ ـ إثبات الوحي والرّسالة بالقرآن وتحدّي الناس بالإتيان بسورة من مثله.

٤ ـ أساس الدّين : توحيد الله ، وإثبات البعث ومحاجة الكافرين الضالين في ذلك.

ثانيا ـ الأحكام العملية الفرعية :

١ ـ إباحة الأكل من الطّيّبات.

٢ ـ الحفاظ على حق الحياة بتشريع القصاص والقتال في سبيل الله.

١٣٨

٣ ـ أحكام أركان الإسلام : إقامة الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وصوم رمضان ، والحج والعمرة.

٤ ـ إنفاق المال في سبيل الله تحقيقا للتّكافل الاجتماعي في الإسلام.

٥ ـ تحريم الخمر والميسر والرّبا.

٦ ـ الولاية على اليتامى ومخالطتهم في المعيشة.

٧ ـ أحكام الزواج من طلاق ورضاع وعدّة ونفقة.

٨ ـ الوصية الواجبة.

٩ ـ كتابة وثيقة الدّين والإشهاد عليه والرّهان وكتمان الشهادة ونصاب الشهادة المطلوب في المعاملات.

١٠ ـ أداء الأمانة.

١١ ـ صيغة الدّعاء المطلوبة في التّشريع.

١٣٩

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة آل عمران

هي السّورة الثالثة ، وهي سورة مدنيّة وآياتها مائتان. نزلت بعد الأنفال

مدى صلتها بسورة البقرة :

هناك أوجه اتّصال وشبه ومقارنة بين السورتين : البقرة وآل عمران ، وهي ما يأتي :

١ ـ موقف الناس من القرآن : بدئت السورتان بذكر القرآن (أو الكتاب) وحدد موقف الناس منه ، ففي البقرة : ذكر حال المؤمنين وغير المؤمنين به ، وفي آل عمران : ذكر موقف الزائغين الذين يتصيّدون ما تشابه منه ، ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله ، وموقف الرّاسخين في العلم الذين يؤمنون بمحكمه ومتشابهه ، قائلين : كلّ من عند ربّنا.

٢ ـ عقد التّشابه بين خلق آدم وخلق عيسى : ففي البقرة تذكير بخلق آدم ، وفي آل عمران تذكير بخلق عيسى ، وتشبيه الثاني بالأول في خلق غير معتاد.

٣ ـ محاجّة أهل الكتاب : في السورة الأولى : إفاضة في محاجّة اليهود وبيان عيوبهم ونقائصهم ونقضهم العهود ، وفي الثانية : إيجاز في محاجّة النصارى ، لتأخرهم في الوجود عن اليهود.

٤ ـ تعليم صيغة الدّعاء في ختام كلّ منهما : في الأولى دعاء يناسب بدء الدّين ويمسّ أصل التّشريع وبيان خصائصه في قلّة التّكاليف ودفع الحرج والأخذ باليسر والسماحة ، وفي الثانية : دعاء بالتّثبيت على الدّين وقبول دعوة الله إلى الإيمان ، وطلب الثواب عليه في الآخرة.

١٤٠