الشيخ أحمد بن محمد المقري التلمساني
المحقق: يوسف الشيخ محمّد البقاعي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٣٠
أسد ولو أني أنا |
|
قشه الحساب لقلت صخره |
فكأنه أسد السما |
|
ء يمجّ من فيه المجرّه (١) |
قال ابن ظافر : صرنا في بعض العشايا على البساتين المجاورة للنيل ، فرأينا فيه بئرا عليها دولابان متحاذيان ، قد دارت أفلاكهما بنجوم القواديس ، ولعبت بقلوب ناظريهما لعب الأماني بالمفاليس (٢) ، وهما يئنّان أنين الأشواق ، ويفيضان ماء أغزر من دموع العشّاق ، والروض قد جلا للأعين زبرجده (٣) ، والأصيل قد راقه حسنه فنثر عليه عسجده (٤) ، والزهر قد نظم جواهره في أجياد الغصون ، والسواقي قد أذابت (٥) من سلاسل فضّتها كلّ مصون ، والنبت قد اخضرّ شاربه وعارضه ، وطرف النسيم قد ركضه في ميادين الزهر راكضه ، ورضاب الغيث قد استقرّ من الطين في لمى ، وحيّات المجاري حائرة تخاف من زمرّد النبات أن يدركها العمى ، والبحر قد صقل النسيم درعه ، وزعفران العشي قد ألقى في ذيل الجوّ ردعه ، فأوسعنا ذلك المكان حسنا وقلوبنا استحواذا ، وملأ أبصارنا وأسماعنا مسرّة والتذاذا ، وملنا إلى الدولابين شاكّين أزمرا حين سجعت (٦) قيان الطير بألحانها ، وشدت على عيدانها ، أم ذكرا أيام نعما وطابا ، وكانا أغصانا رطابا ، فنفيا عنهما لذيد الهجوع ، ورجّعا النوح وأفاضا الدموع طلبا للرجوع ، وجلسنا نتذاكر ما في تركيب الدواليب ، من الأعاجيب ، ونتناشد ما وصفت به من الأشعار ، الغالية الأسعار ، فأفضى بنا الحديث الذي هو شجون ، إلى ذكر قول الأعمى التّطيلي في أسد نحاس يقذف الماء :
أسد ولو أني ـ إلخ
فقال لي القاضي أبو الحسن علي بن المؤيد رحمه الله تعالى : يتولّد من هذا في الدولاب معنى يأخذ بمجامع المسامع ، ويطرب الرائي (٧) والسامع ، فتأمّلت ما قاله بعين بصيرتي البصيرة ، واستمددت مادة غريزتي الغزيرة ، فظهر لي معنّى ملأني أطرابا ، وأوسعني إعجابا ،
__________________
(١) المجرّة : نجوم في السماء لا ترى بالعين المجردة ، وإنما يرى ضوؤها كبقعة بيضاء.
(٢) المفاليس : جمع مفلس ، وهو الذي ليس لديه نقود.
(٣) الزبرجد : حجر كريم يشبه الزمرد ، متعدد الألوان.
(٤) العسجد : الذهب.
(٥) في ب : «أذالت».
(٦) في ج : «شجت».
(٧) في ب : «يطرب الراوي والسامع».
وأطرق كلّ منّا ما جاش به مدّ بحره ، وأنبأه به شيطان فكره ، فلم يكن إلّا كنقرة العصفور ، الخائف من الناطور (١) ، حتى كمل ما أردنا من غير أن يقف واحد منّا على ما صنعه الآخر ، فكان الذي قال : [الخفيف]
حبّذا ساعة العشيّة والدو |
|
لاب يهدي إلى النفوس المسرّه |
أدهم لا يزال يعدو ولكن |
|
ليس يعدو مكانه قدر ذرّه (٢) |
ذو عيون من القواديس تبكي |
|
كل عين من فائض الدمع ثرّه (٣) |
فلك دائر يرينا نجوما |
|
كل نجم يبدي لدينا المجرّه |
وكان الذي قلت : [الوافر]
ودولاب يئنّ أنين ثكلى |
|
ولا فقدا شكاه ولا مضرّه (٤) |
ترى الأزهار في ضحك إذا ما |
|
بكى بدموع عين منه ثرّه |
حكى فلكا تدور به نجوم |
|
تؤثّر في سرائرنا المسرّه |
يظلّ النجم يشرق بعد نجم |
|
ويغرب بعدما تجري المجرّه |
فعجبنا من اتفاقنا ، وقضى العجب منه سائر رفاقنا ، انتهى.
رجع : وكان لأبي محمد عبد الله بن شعبة الوادي آشي (٥) ابن شاعر ، فعرض عليه شعرا ، نظمه ، فأعجبه ، فقال : [السريع]
شعرك كالبستان في شكله |
|
يجمع بين الآس والورد |
فاصنع به إن كنت لي طائعا |
|
ما يصنع الفارس بالبند (٦) |
ولشاعر الأندلس أبي عبد الله بن الحداد الوادي آشي (٧) ، وهو من رجال الذخيرة : [الوافر]
__________________
(١) الناطور : حارس الزرع والبستان.
(٢) يعدو ، في صدر البيت : يسير سيرا سريعا. ويعدو في عجز البيت معناه يجاوز.
(٣) في ه : «تبدى كل عين من فائض الماء عبره». والثرة : الغزيرة.
(٤) أنّ يئنّ : تأوّه.
(٥) انظر الذخيرة ج ١ ص ٢٠١. والمغرب ج ٢ ص ١٤٣.
(٦) البند : العلم الكبير.
(٧) انظر الذخيرة ١ / ٢ : ٢٠١. والمغرب ج ٢ ص ١٤٣.
لزمت قناعتي وقعدت عنهم |
|
فلست أرى الوزير ولا الأميرا |
وكنت سمير أشعاري سفاها |
|
فعدت بها لفلسفتي سميرا |
وله في العروض تأليف مزج فيه بين الأنحاء الموسيقية ، والآراء الخليلية ، وردّ فيه على السرقسطي المنبوز بالحمار.
وله في المعتصم بن صمادح (١) : [الطويل]
لعلّك بالوادي المقدّس شاطىء |
|
فكالعنبر الهنديّ ما أنا واطئ |
وإنّي في ريّاك واجد ريحهم |
|
فجمر الأسى بين الجوانح ناشئ |
ولي في السّرى من نارهم ومنارهم |
|
هداة حداة والنجوم طوافىء |
لذلك ما حنّت ركابي وحمحمت |
|
عرابي وأوحى سيرها المتباطىء (٢) |
فهل هاجها ما هاجني؟ ولعلّها |
|
إلى الوخد من نيران قلبي لواجىء (٣) |
رويدا فذا وادي لبينى وإنه |
|
لورد لباناتي وإني لظامىء (٤) |
موارد تهيامي ومسرح ناظري |
|
فللشّوق غايات بها ومبادئ |
واعترض عليه بعضهم بأنه همز في هذه القصيدة ما لا يهمز ، فقال : [الطويل]
عجبت لغمّازين علمي بجهلهم |
|
وإنّ قناتي لا تلين على الغمز (٥) |
تجلّت لهم آيات فهمي ومنطقي |
|
مبيّنة الإعجاز ملزمة العجز (٦) |
ولاحت لهم همزيّة أو حديّة |
|
وويل بها ويل لذي الهمز واللّمز |
رموها بنقص بيّنت فيه نقصهم |
|
ومن لمس الأفعى شكا ألم النّكز (٧) |
فإن أنكرت أفهامهم بعض همزها |
|
فقد عرفت أكبادهم صحّة الهمز |
__________________
(١) انظر الذخيرة ص ٢١٨.
(٢) حمحم الحصان : صات صوتا غير مرتفع ، وهو غير الصهيل. والعراب : الخيول الكريمة السالمة من الهجنة.
(٣) الوخد : ضرب من السير.
(٤) اللبانات : جمع لبانة ، وهي الحاجة.
(٥) في ج : «لا تلين من الغمز».
(٦) في ه : «تجلت لهم رايات فهمي».
(٧) نكزته الأفعى : لسعته.
وله وهو مما يتغنّى به بالأندلس : [الكامل]
فذر العقيق مجانبا لعقوقه |
|
ودع العذيب عذيب ذات الخال |
أفق محلّى بالقواضب والقنا |
|
للأغيد المعطار لا المعطال |
حجبوك إلّا من توهّم خاطري |
|
وحموك إلّا من تصوّر بالي |
والقارظان جميل صبري والكرى |
|
فمتى أرجّي منك طيف خيال (١) |
ومن بدائعه قوله (٢) : [الكامل]
سامح أخاك إذا أتاك بزلّة |
|
فخلوص شيء قلّما يتمكّن |
في كلّ شيء آفة موجودة |
|
إنّ السّراج على سناه يدخّن (٣) |
وأنشد أحد الأدباء هذين البيتين متمثّلا ، فأعجبا المعتصم ، وسأل عن قائلهما ، فأخبر ، فتبسّم وقال : أتعرف إلى من أشار بهذا المعنى؟ قال : ما أعرف إلّا أنه مليح ، فقال المعتصم : كنت في الصّبا وهو معي ، ألقّب بسراج الدولة ، فقاتله الله ما أشعره ، فسلوه ، فلمّا باحثوه في ذلك أقرّ بحسن حدس المعتصم. واكتنفته سعايات ، وكان ممّن يغلب لسانه على عقله ، ففرّ من المريّة ، وحبس أخوه بها ، فقال : [الكامل]
الدهر لا ينفكّ من حدثانه |
|
والمرء منقاد لحكم زمانه (٤) |
وعلمت أنّ السّعد ليس بمنجح |
|
ما لا يكون السّعد من أعوانه |
والجدّ دون الجدّ ليس بنافع |
|
والرّمح لا يمضي بغير سنانه |
وبلغت الأبيات المعتصم فقال : شعره أعقل منه ، صدق فإنه لا يتهيّأ له صلاح عيش إلّا بأخيه ، وهو منه بمنزلة السّنان من الرمح ، ثم أمر بإطلاقه ولحاقه به.
ولمّا قال في المعتصم : [الكامل]
يا طالب المعروف دونك فاتركن |
|
دار المريّة وارفض ابن صمادح |
رجل إذا أعطاك حبّة خردل |
|
ألقاك في قيد الأسير الطائح |
لو قد مضى لك عمر نوح عنده |
|
لا فرق بينك والبعيد النازح |
__________________
(١) القارضان : يضرب بهما المثل فيمن لا يرجع.
(٢) انظر الذخيرة ص ٢٣٥.
(٣) السنا : الضوء.
(٤) حدثان الدهر : مصائبه.
اغتاظ عليه ، وأبعده ، ففرّ من بلده (١).
ومن المنسوب إليه في النساء : [البسيط]
خن عهدها مثل ما خانتك منتصفا |
|
وامنح هواها بنسيان وسلوان |
فالغيد كالروض في خلق وفي خلق |
|
إن مرّ جان أتى من بعده جان |
وله : [الخفيف]
حيثما كنت ظاعنا أو مقيما |
|
دم رفيعا وعش منيعا سليما (٢) |
وقال ابن دحية في «المطرب» (٣) : إنّ من المجيدين في الجدّ والهزل ، ورقيق النظم والجزل ، صاحبنا الوزير أبا بلال (٤) ، وقال لي : إنه كان وبرد شبابه قشيب (٥) ، وغصن اعتداله رطيب ، بقميص النّسك متقمّص ، وبعلم الحديث متخصّص ، فاجتاز يوما وبيده مجلّد من صحيح مسلم بقصر بعض الملوك الأكابر ، ومن بعض مناظره ناظر ، ومجلسه بخواصّ ندمائه حال ، وصوت المثاني والمثالث عال ، فقال : أطلعوا لنا هذا الفقيه ، فلعلّنا نضحك منه. فلما مثل بين يديه وحيّا ، أمر الساقي بمناولته كأس الحميّا ، فتقبّض متأففا ، وأبدى تمعرا (٦) وتقشفا ، والسلطان يستغرب ضحكا بما هجم عليه ، ويد الساقي ممدودة إليه ، واتّفق أن انشقّت من ذاتها الزجاجة ، فظهر من السلطان التطيّر من ذلك ، فأنشد الفقيه مرتجلا : [المنسرح]
ومجلس بالسرور مشتمل |
|
لم يخل فيه الزجاج من أدب |
سرى بأعطافه يرنّحه |
|
فشقّ أثوابه من الطرب (٧) |
فسرّ السلطان وسرّي عنه ، واستحسن من الفقيه ما بدا منه ، وأمر له بجائزة سنيّة ، وخلعة رائقة بهيّة (٨).
وما أحسن قول ابن البراق (٩) : [مخلع البسيط]
__________________
(١) في ب : «ففر عن بلده».
(٢) الظاعن : المرتحل.
(٣) انظر المطرب ص ٢٤١.
(٤) في ه : «أبو بلال» وهو خطأ. وفي المطرب «كصاحبنا الوزير أبي القاسم ابن البراق».
(٥) القشيب : الجديد.
(٦) التمعّر : تغير الوجه وميله إلى الاصفرار.
(٧) يرنحه : يميّله.
(٨) في ب : «وخلعة رائقة بهية».
(٩) انظر المغرب ص ١٤٩.
يا سرحة الحيّ يا مطول |
|
شرح الذي بيننا يطول |
ولي ديون عليك حلّت |
|
لو أنه ينفع الحلول |
وقوله : [الكامل]
انظر إلى الوادي إذا ما غرّدت |
|
أطياره شقّ النسيم ثيابه |
أتراه أطربه الهديل وزاده |
|
طربا وحقّك أن حللت جنابه (١) |
وله في غلام على فمه أثر المداد : [مخلع البسيط]
يا عجبا للمداد أضحى |
|
على فم ضمّن الزّلالا |
كالقار أضحى على المحيّا |
|
والليل قد لامس الهلالا (٢) |
وكتب أبو محمد عبد الله في معذرة (٣) إلى بعض أصحابه من الأسر في طليطلة : [مجزوء الكامل]
لو كنت حيث تجيبني |
|
لأذاب قلبك ما أقول |
يكفيك منّي أنني |
|
لا أستقلّ من الكبول (٤) |
وإذا أردت رسالة |
|
لكم فما ألفي رسول |
هذا وكم بتنا وفي |
|
أيماننا كأس الشّمول |
والعود يخفق والدخا |
|
ن العنبريّ به يجول |
حال الزمان ولم يزل |
|
مذ كنت أعهده يحول (٥) |
ولأبي الحسن علي بن مهلهل الجلياني (٦) في أبي بكر بن سعيد صاحب أعمال غرناطة في دولة الملثّمين : [الكامل]
لو لا النّهود لما عراك تنهّد |
|
وعلى الخدود القلب منك يخدّد |
يا نافذا قلبي بسهم جفونه |
|
مالي على سهم رميت به يد |
وقال أبو زكريا يحيى بن مطروح في غلام كاتب أطلّ عذاره (٧) : [البسيط]
__________________
(١) الهديل : صوت الحمام.
(٢) القار : الزفت. والحميا : الخمر.
(٣) في ب : «أبو محمد عبد الله بن عذرة».
(٤) الكبول : القيود ، واحدها كبل.
(٥) حال الزمان : تحول من حال إلى حال.
(٦) انظر ترجمته في المغرب ج ٢ ص ١٥٠.
(٧) انظر المغرب ج ٢ ص ١٥٥.
يا حسنه كاتبا قد خطّ عارضه |
|
في خدّه حاكيا ما خطّ بالقلم |
لام العذول عليه حين أبصره |
|
فقلت دعني فزين البرد بالعلم |
وانظر إلى عجب ممّا تلوم به |
|
بدر له هالة قدّت من الظّلم |
قولوا عن البحر ما شئتم ولا عجب |
|
من عنبر الشّحر أو من درّ مبتسم (١) |
وله ، وقد عزل عن مالقة وال غير مرضيّ ، ونزل المطر على إثره ، وكان الناس في جدب : [السريع]
وربّ وال سرّنا عزله |
|
فبعضنا هنّأه البعض |
قد واصلتنا السّحب من بعده |
|
ولذّ في أجفاننا الغمض |
لو لم يكن من نجس شخصه |
|
ما طهّرت من بعده الأرض |
وكان الكاتب أبو بكر محمد بن نصر الأوسي (٢) مختصّا بوزير عبد المؤمن أبي جعفر بن عطية ، فقال فيه : [الطويل]
أبا جعفر نلت الذي نال جعفر |
|
ولا زلت بالعليا تسرّ وتحبر (٣) |
عليك لنا فضل وبرّ وأنعم |
|
ونحن علينا كلّ مدح يحبّر (٤) |
وحدّث من حضر مجلس الوزير ابن عطية وقد أحسّ من عبد المؤمن التغير الذي أفضى إلى قتله ، وقد افتتح ابن نصر مطلع هذه القصيدة ، فتغيّر وجه أبي جعفر ؛ لأنّ جعفر بن يحيى كان آخر أمره الصلب ، فكأنّ هذا عمّم الدعاء ، والعجب أنه قتل مثل جعفر بعد ذلك.
وهذا الشاعر هو القائل : [الطويل]
وما أنا عن ذاك الهوى متبدّل |
|
وذا الغدر بالإخوان غير كريم |
بغيرك أجري ذكر فضلك في الندى |
|
كما قد جرى بالروض هبّ نسيم |
وإن كان عندي للجديد لذاذة |
|
فلست بناس حرمة لقديم |
ولأبي عبد الله محمد بن علي اللوشي (٥) يخاطب صاحب «المسهب» : [الخفيف]
__________________
(١) الشّحر : الشطّ.
(٢) انظر المغرب ج ٢ ص ١٥٦.
(٣) أراد بجعفر : جعفر بن يحيى بن خالد البرمكي ، وتحبر ـ بالبناء للمجهول ـ تسرّ.
(٤) يحبّر ـ بتشديد الباء مبنيا للمجهول ـ ينمّق ويزيّن.
(٥) انظر المغرب لابن سعيد ٢ / ١٥٨. وقد ذكره باسم محمد بن عبد المولى ، وذكر له البيتين الأولين.
بي إليكم شوق شديد ولكن |
|
ليس يبقى مع الجفاء اشتياق |
إن يغيّركم الفراق فودّي |
|
لو خبرتم يزيد فيه الفراق (١) |
وله : [مجزوء الكامل]
لو أنّ لي قلبا كقل |
|
بك كنت أهجر هجركا |
يكفيك أنك قد نسي |
|
ت ولست أنسى ذكركا |
ومن العجائب أنني |
|
أفنى وأكتم سرّكا |
كن كيفما تختاره |
|
فالحبّ يبسط عذركا |
وله : [الكامل]
هل عندكم علم بما فعلت بنا |
|
تلك الجفون الفاتكات بضعفها |
نصحا لكم أن تأمنوها أنها |
|
سحر النّهى ما تبصرون بطرفها (٢) |
ولابنه أبي محمد عبد المولى ، وكان ماجنا ، لمّا نعي إليه وهو على الشراب أحد أصحابه مرتجلا : [مجزوء الرمل]
إنّما دنياك أكل |
|
وشراب وقحاب (٣) |
ثم من بعد صراخ |
|
ووداع وتراب |
وله : [مجزوء الرمل]
يا نديم اشرب على أف |
|
ق صقيل وحديقه (٤) |
واسقني ثم اسقني |
|
ثمّ اسقني خمرا وريقه |
من غزال تطلع الشم |
|
س بخدّيه أنيقه |
لا تفوّت ساعة من |
|
كأس خمر وعشيقه |
واجتنب ما سخرت جه |
|
لا له هذي الخليقه |
رغبوا في باطل زو |
|
ر بزهد في الحقيقه |
__________________
(١) في ه : «لو جزيتم».
(٢) في ب : «إنها سحر النهى ..».
(٣) القحاب : جمع قحبه ، وهي المرأة البغي الفاجرة الفاسدة.
(٤) في ه : «يا نديمي اشرب».
ليس إلّا ما تراه |
|
أنا أدرى بالطريقه |
قال أبو عمران موسى بن سعيد : قلنا له : ما هذا الاعتقاد الفاسد الذي لا ينبغي لأحد أن يصحبك به؟ فقال : هذا قول لا فعل ، وقد قال الله تعالى : (أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ (٢٢٥) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ (٢٢٦)) [سورة الشعراء ، الآية : ٢٢٥ ـ ٢٢٦].
ثم قال ابن سعيد : ولو لا أنّ حاكي الكفر ليس بكافر ما ذكرتها ، وهذا منزع من قال من المجوس : [مجزوء الرمل]
خذ من الدنيا بحظّ |
|
قبل أن ترحل عنها |
فهي دار لا ترى من |
|
بعدها أحسن منها |
وهذا كفر صراح ، وقائله قد تقمّص كفرا ، اللهم غفرا!
وطلب منه بعض الأرذال ، أن يكتب له شفاعة عند أحد العمّال ، فكتب له (١) رسالة فيها هذه الأبيات : [السريع]
كتبته مولاي في طالع |
|
ما طار فيه طائر اليمن |
وفكرة حائلة والحشا |
|
ينهب بالهمّ وبالحزن (٢) |
كلّفنيه ساقط أخرق |
|
مشتهر بالطحن والقرن |
أكذب خلق الله أرداهم |
|
أخوفهم في الخوف والأمن |
يكفر ما يسدى إليه ولا |
|
يعذر خلقا سيء الظنّ |
فإن صنعت الخير ألفيته |
|
شرا وأضحى المجد ذا غبن (٣) |
وانتقد الناس عليك الذي |
|
تسدي له في أيّ ما فنّ |
فافعل به ما هو أهل له |
|
واسمعه تفسيرا ولا أكني |
أهنه واصفعه ولا تترك ال |
|
بوّاب يكرمه لدى الإذن |
واقطع بفيه القول واحرمه من |
|
ردّ جواب أنسه يدني |
وكلّما استنبط رأيا فس |
|
فّهه ودعه مسخن الجفن |
__________________
(١) في ه : «فكتب معه رسالة».
(٢) حائلة : متغيرة.
(٣) ذا غبن : من الغبينة ، وهي الخديعة.
فهو إذا أكرمته فاسد |
|
وصالح بالهون واللّعن |
شفاعتي في مثله هذه |
|
فلا سقاه هاطل المزن (١) |
ودفع إليه الكتاب مختوما ، فسرّ به ، وحمله إلى العامل ، وسافر إليه أياما ، فلمّا دفعه إليه قرأه وضحك ، ودفعه إلى من يشاركه في ذلك من أصحابه ، فوعده بخير وأخرجه إلى شغل لم يرضه ، فلمّا عاد منه قال له : أخرجتني لأرذل (٢) شغل وأخسّه فما فائدة الشفاعة إذن؟ فقال له : أو تريد أن أفعل معك ما تقتضيه شفاعة صاحبك؟ قال : لا أقلّ من ذلك ، فأمر من يأتيه بالأبيات ، فقرئت عليه ، فانصرف في أسوإ حال ، فلما دخل عليه (٣) غرناطة ـ وكان عبد المولى تزوّج فيها امرأة اغتبط بها ـ فتزيّا (٤) هذا الرجل بزي أهل البادية ، وزوّر كتابا على لسان زوجة لعبد المولى في بلدة أخرى ، وقال في الكتاب : وقد بلغني أنك تزوّجت غيري ، وأردت أن أكتب إليك في أن تطلقني ، فوصلني كتابك تعرفني فيه أن الزوجة الجديدة لم توافق اختيارك ، وأنك ناظر في طلاقها ، فردّني ذلك عمّا عزمت عليه ، فانظر في تعجيل ما وعدت به من طلاقها ، فإنك إن لم تفعل لم أبق معك أبدا ، فلمّا مرّ بدار عبد المولى رأى جارية زوجته فقال لها : أنا رجل بدوي أتيت من عند فلانة زوجة أبي محمد عبد المولى ، فعندما سمعت ذلك أعلمت ستها ، وأخذت الكتاب ، فوقفت على ما فيه غير شاكّه في صحّته ، فلمّا دخل عبد المولى وجدها على خلاف ما فارقها عليه ، فسألها عن حالها ، فقالت : أريد الطلاق ، فقال : ما سبب هذا وأنا أرغب الناس فيك؟ فألقت إليه الكتاب ، فلمّا وقف عليه حلف لها أن هذا ليس بصحيح ، وأنّ عدوّا له اختلقه عليه ، فلم يفد ذلك عندها شيئا ، ولم يطب له بعد ذلك معها عيش ، فطلّقها ، وعلم أن ذلك الرجل هو الذي فعل ذلك ، فقال له : لا جزاك الله خيرا ، ولا أصلح لك حالا! فقال : وأنت كذلك ، فهذه بتلك ، والبادي أظلم ، فما كان ذنبي عندك حين كتبت في حقّي ما كتبت؟ فقال له : مثلك لا يقول «ما ذنبي» أنت كلّك ذنوب : [الوافر]
ألست بألأم الثّقلين طرا |
|
وأثقلهم وأفحشهم لسانا؟ (٥) |
فمهما تبغ برا عند شخص |
|
تزد منه بما تبغي هوانا |
فانصرف عنه عالي اللسان بلعنته.
وكان أحد بني عبد المؤمن قد ألزمه أن ينسخ له كتابا بموضع منفرد ، فخطر له يوما جلد
__________________
(١) المزن : جمع مزنة ، وهي السحابة الممطرة.
(٢) أرذل شغل : أحطّه وأخسّه.
(٣) في ب : «فدخل غرناطة».
(٤) في ب : «تزيّا».
(٥) الثقلان : الإنس والجن.
عميرة ، واتّفق أن مرّ السيد يوما بذلك الموضع ، فنظر إليه في تلك الحال (١) ، فقال له السيد (٢) : ما تصنع؟ فقال : الدواة جفّت ، ولم أجد ما أسقيها (٣) به إلّا ماء ظهري ، فضحك السيد ، وأمر له بجارية ، فقال : [المجتث]
قل للعميرة طلّق |
|
ت بعد طول زواج |
قد كان مائي ضياعا |
|
يمرّ في غير حاج (٤) |
حتى حباني بحسنا |
|
ء قابل للنتاج |
فكان ناقل خمر |
|
من حنتم لزجاج (٥) |
كانت تمرّ ضياعا |
|
فأصبحت كالسراج |
وقال حاتم بن سعيد : [الخفيف]
جنّبوني عن المدامة إلّا |
|
عند وقت الصباح أو في الأصيل |
واشفعوها بكلّ وجه مليح |
|
ودعوني من كلّ قال وقيل |
وإذا ما أردتم طيب عيشي |
|
فاحجبوني عن كلّ وجه ثقيل (٦) |
وقال مالك بن محمد بن سعيد (٧) : [الوافر]
أتاني زائرا فبسطت خدّي |
|
له ويقلّ بسط الخدّ عندي |
فقلت له أيا مولاي ألفا |
|
فقال وأنت ألفا عبد عبدي |
وعانقني وقبّلني ونادى |
|
بلطف منه كيف رأيت وعدي |
وقال في استهداء مقص : [الطويل]
ألا قل نعم في مطلب قد حكاه لا |
|
يفصّل إذ نبغي الوصال موصّلا |
نشقّ به صدر النهار وقد بدا |
|
ظلاما بأمثال النجوم مكلّلا |
__________________
(١) في ه : «في تلك الحالة».
(٢) في ه : «فقال له الخادم».
(٣) في ه : «ولم أجد ماء أسقيها به».
(٤) أراد ب : «مائي» ماء ظهره.
(٥) الحنتم : الجرّة الخضراء ، وكذلك شجرة الحنظل.
(٦) في ه : «طيب عيش». وفيها «فاحجبوني عن وجه كل ثقيل».
(٧) انظر ترجمته في المغرب ٢ / ١٧١.
وقال : [البسيط]
سارت كبدر وليل الخدر يسترها |
|
ولو بدا وجهها جاءتك بالفلق (١) |
ودونها من صليل اللامعات حمّى |
|
فالبرق والرعد دون الشمس في الأفق (٢) |
واجتمع بغرناطة محمد بن غالب الرصافي الشاعر المشهور ومحمد بن عبد الرحمن الكتندي (٣) الشاعر وغيرهما من الفضلاء والرؤساء ، فأخذوا يوما في أن يخرجوا لنجد أو لحوز (٤) مؤمل ، وهما منتزهان من أشرف وأظرف منتزهات غرناطة ، ليتفرجوا ويصقلوا الخواطر بالتطلّع في ظاهر البلد ، وكان الرصافي قد أظهر الزهد وترك الخلاعة ، فقالوا : ما لنا غنى عن أبي جعفر ابن سعيد ، اكتبوا له ، فصنعوا هذا الشعر وكتبوه (٥) له ، وجعلوا تحته أسماءهم : [الطويل]
بعثنا إلى ربّ السماحة والمجد |
|
ومن ما له في ملّة الظرف من ندّ |
ليسعدنا عند الصبيحة في غد |
|
لنسعى إلى الحور المؤمّل أو نجد |
نسرّح منّا أنفسا من شجونها |
|
ثوت في شجون هنّ شرّ من اللحد (٦) |
ونظفر من بخل الزمان بساعة |
|
ألذّ من العليا وأشهى من الحمد |
على جدول ما بين ألفاف دوحة |
|
تهزّ الصّبا فيها لواء من الرّند |
ومن كان ذا شرب يخلّى بشأنه |
|
ومن كان ذا زهد تركناه للزهد |
وما ظرفه يأبى الحديث على الطّلى |
|
ولا أن يديل الهزل حينا من الجدّ |
تهزّ معاني الشعر أغضان ظرفه |
|
ويمرح في ثوب الصبابة والوجد |
وما نغّص العيش المهنّأ غير أن |
|
يمازجه تكليف ما ليس بالود (٧) |
نظمنا من الخلّان عقد فرائد |
|
ولمّا نجد إلّاك واسطة العقد |
فماذا تراه لا عدمناك ساعة |
|
فنحن بما تبديه في جنّة الخلد |
ورشدك مطلوب وأمرك نحوه ار |
|
تقاب وكلّ منك يهدي إلى الرشد |
__________________
(١) الفلق : الصبح.
(٢) اللامعات : السيوف. وصليلها : صوت وقع بعضها على بعض.
(٣) انظر ترجمته في المغرب ج ٢ ٢٦٤.
(٤) في ب : «لحور».
(٥) في ب ، ه : «وكتبوا له».
(٦) نسرّح الأنفس : نطلقها من سجنها.
(٧) في ه : «يمازحه تكليف» بالحاء مهملة.
فكان جوابه لهم : [الطويل]
هو القول منظوما أو الدرّ في العقد |
|
هو الزّهر نفّاح الصبا أم شذا الودّ |
أتاني وفكري في عقال من الأسى |
|
فحلّ بنفث السّحر ما حلّ من عقد |
ومن قبل علمي أين مبعث وجهه |
|
علمت جناب الورد من نفس الورد |
وأيقنت أنّ الدهر ليس براجع |
|
لتقديم عصر أو وقوف على حدّ |
فكلّ أوان فيه أعلام فضله |
|
ترادف موج البحر ردا إلى ردّ |
فكم طيّها من فائت متردّم |
|
يهزّ بما قد ضمرت معطف الصّلد (١) |
فيا من بهم تزهى المعالي ومن لهم |
|
قياد المعالي ما سوى قصدكم قصدي (٢) |
فسمعا وطوعا للذي قد أشرتم |
|
به لا أرى عنه مدى الدهر من بدّ |
فقوموا على اسم الله نحو حديقة |
|
مقلّدة الأجياد موشيّة البرد |
بها قبّة تدعى الكمامة فاطلعوا |
|
بها زهرا أذكى نسيما من النّدّ |
وعندي ما يحتاج كلّ مؤمّل |
|
من الراح والمعشوق والكتب والنرد (٣) |
فكلّ إلى ما شاءه لست ثانيا |
|
عنانا له إنّ المساعد ذو الودّ |
ولست خليّا من تأنّس قينة |
|
إذا ما شدت ضلّ الخليّ عن الرشد (٤) |
لها ولد في حجرها لا تزيله |
|
أوان غناء ثم ترميه بالبعد (٥) |
فيا ليتني قد كنت منها مكانه |
|
تقلّبني ما بين خضر إلى نهد |
ضمنت لمن قد قال إني زاهد |
|
إذا حلّ عندي أن يحول عن الزهد |
فإن كان يرجو جنّة الخلد آجلا |
|
فعندي له في عاجل جنّة الخلد |
فركبوا إلى جنّته ، فمرّ لهم أحسن يوم على ما اشتهوا ، وما زالوا بالرصافي إلى أن شرب لمّا غلب عليه الطرب ، فقال الكتندي : [الطويل]
__________________
(١) يشير إلى قول عنترة :
هل غادر الشعراء من متردّم |
|
أم هل عرفت الدار بعد توهّم |
(٢) في ب : «قياد المعاني».
(٣) في ه : «وعندي ما يختار كل مؤمل».
(٤) القينة : الأمة ، وهنا الأمة المغنية.
(٥) أراد بالولد الذي في حجرها : العود.
غلبناك عمّا رمته يا ابن غالب |
|
براح وريحان وشدو وكاعب |
فقال أبو جعفر : [الطويل]
بدا زهده مثل الخضاب فلم يزل |
|
به ناصلا حتى بدا زور كاذب |
فلمّا غربت الشمس قالوا : ما رأينا أقصر من هذا اليوم ، وما ينبغي أن يترك بغير وصف ، فقال أبو جعفر : أنا له ، ثم قال بعد فكرة ، وهو من عجائبه التي تقدم بها المتقدّمين وأعجز المتأخّرين (١) : [مجزوء الكامل]
الله يوم مسرّة |
|
أضوا وأقصر من ذباله (٢) |
لمّا نصبنا للمنى |
|
فيه بأوتار حباله |
طار النهار به كمر |
|
تاع فأجفلت الغزاله (٣) |
فكأننا من بعده |
|
بعنا الهداية بالضلاله |
والنهار : ذكر الحبارى ، وإليه أشار بقوله «طار النهار» والغزالة : الشمس ، ولا يخفى حسن التوريتين ، فسلّم له الجميع ، تسليم السامع المطيع.
وعلى ذكر الغزالة في هذا الموضع فلأبي جعفر أيضا فيها ، وهو من بدائعه ، قوله : [الطويل]
بدا ذنب السّرحان ينبئ أنه |
|
تقدّم سبت والغزالة خلفه |
ولم تر عيني مثله من متابع |
|
لمن لا يزال الدهر يطلب حتفه (٤) |
وقوله : [الخفيف]
اسقني مثل ما أنار لعيني |
|
شفق ألبس الصباح جماله |
قبل أن تبصر الغزالة تستد |
|
رج منه على السماء غلاله |
وتأمّل لعسجد سال نهرا |
|
كرعت فيه ، أو تقضّى ، غزاله |
__________________
(١) انظر المغرب ج ٢ ص ١٦٧.
(٢) أضوا : أصله أضوأ ، اسم تفضيل من الضوء ، فقلب الهمزة ألفا لانفتاح ما قبلها والذّبالة ـ بضم الذال المعجمة ـ فتيلة الشمعة وغيرها.
(٣) أجفلت الغزالة : مضت مسرعة من نضورها.
(٤) الحتف : الموت.
ومن نظم أبي جعفر قوله : [الكامل]
لو لم يكن شدو الحمائم فاضلا |
|
شدو القيان لما استخفّ الأغصنا (١) |
طرب ثنى حتى الجماد ترنّحا |
|
وأفاض من دمع السحائب أعينا |
وقوله (٢) : [الكامل]
في الروض منك مشابه من أجلها |
|
يهفو له طرفي وقلبي المغرم |
الغصن قدّ ، والأزاهر حلية ، |
|
والورد خدّ ، والأقاحي مبسم |
وقوله : [الطويل]
ألا حبّذا نهر إذا ما لخظته |
|
أبى أن يردّ اللحظ عن حسنه الأنس |
ترى القمرين الدهر قد عنيا به |
|
يفضّضه بدر وتذهبه شمس |
وقوله ، وقد مرّ بقصر من قصور أمير المؤمنين عبد المؤمن وقد رحل عنه : [البسيط]
قصر الخليفة لا أخليت من كرم |
|
وإن خلوت من الأعداد والعدد |
جزنا عليك فلم تنقص مهابته |
|
والغيل يخلو وتبقى هيبة الأسد (٣) |
وقوله من أبيات : [الكامل]
سرّح لحاظك حيث شئت فإنه |
|
في كلّ موقع لحظة متأمّل |
وقوله أيضا : [الخفيف]
ولقد قلت للذي قال حلّوا |
|
ههنا : سر فإننا ما سئمنا (٤) |
لا تعيّن لنا مكانا ولكن |
|
حيثما مالت اللواحظ ملنا |
وقال : [الطويل]
ألا هاتها إنّ المسرّة قربها |
|
وما الحزن إلّا في توالي جفائها |
مدام بكى الإبريق عند فراقها |
|
فأضحك ثغر الكاس عند لقائها |
__________________
(١) القيان : الإماء المغنيات.
(٢) انظر المغرب ج ٢ ص ١٦٧.
(٣) في ج «جزنا عليه» وقد أثبتنا ما في أ، ب ، ه. وهو الأصح. والغيل : موضع الأسد.
(٤) ما سئمنا : ما مللنا.
وقال : [السريع]
عرّج على الحور وخيّم به |
|
حيث الأماني ضافيات الجناح |
واسبق له قبل ارتحال الندى |
|
ولا تزره دون شاد وراح |
وكن مقيما منه حيث الصّبا |
|
تمتار مسكا من أريج البطاح (١) |
والقضب مال البعض منها على |
|
بعض كما يثني القدود ارتياح |
وشقّ جيب الصبر قصف إذا |
|
شقّت جيوب الطّلّ منها الرياح (٢) |
لم أحص كم غاديته ثابتا |
|
واسترقصتني الراح عند الرواح |
وقوله : [الطويل]
ألا حبّذا روض بكرنا له ضحى |
|
وفي جنبات الروض للطلّ أدمع |
وقد جعلت بين الغصون نسيمة |
|
تمزّق ثوب الطّلّ منها وترقع |
ونحن إذا ما ظلّت القضب ركّعا |
|
نظلّ لها من هزّة السكر نركع |
وكان ابن الصابوني (٣) في مجلس أحد الفضلاء بإشبيلية ، فقدّم فيما قدّم خيار ، فجعل أحد الأدباء يقشرها بسكين ، فخطف ابن الصابوني السكين من يده ، فألحّ عليه في استرجاعها ، فقال له ابن الصابوني : كفّ عنّي وإلّا جرحتك بها ، فقال له صاحب المنزل : اكفف عنه لئلّا يجرحك ويكون جرحك جبارا (٤) ، تعريضا بقول النبيّ صلى الله عليه وسلم «جرح العجماء جبار» فاغتاظ ابن الصابوني ، وخرج من الاعتدال ، وأخطأ بلسانه ، وما كفّ إلّا بعد الرغبة والتضرّع.
ومن نظم ابن الصابوني : [الطويل]
بعثت بمرآة إليك بديعة |
|
فأطلع بسامي أفقها قمر السّعد |
لننظر فيها حسن وجهك منصفا |
|
وتعذرني فيما أكنّ من الوجد (٥) |
فأرسل بذاك الخدّ لحظك برهة |
|
لتجني منه ما جناه من الورد |
مثالك فيها منك أقرب ملمسا |
|
وأكثر إحسانا وأبقى على العهد (٦) |
__________________
(١) تمتار : تجمع.
(٢) في ب : «وشق جيب الصبح نور كما».
(٣) انظر القدح ص ٦٩. والمغرب ج ١ ص ٢٦٣.
(٤) جبار ـ بضم الجيم ـ هدر لا شيء فيه ، والعجماء : البهيمة.
(٥) أكنّ : أخفي.
(٦) وأبقى : اسم تفضيل من الفعل بقي.
وقوله في لابس أحمر : [المنسرح]
أقبل في حلّة مورّدة |
|
كالبدر في حلّة من الشّفق |
تحسبه كلّما أراق دمي |
|
يمسح في ثوبه ظبا الحدق (١) |
ورحل إلى القاهرة والإسكندرية فلم يلتفت إليه ، ولا عوّل عليه ، وكان شديد الانحراف ، فانقلب على عقبه يعضّ يديه ، على ما جرى عليه ، فمات عند إيابه إلى الإسكندرية كمدا ، ولم يعرف له بالديار المصرية مقدار.
وحضر يوما بين يدي المعتضد الباجي ملك إشبيلية وقد نثرت أمامه جملة من دنانير سكّت (٢) باسمه ، فأنشد : [السريع]
قد فخر الدينار والدّرهم |
|
لمّا علا ذين لكم ميسم (٣) |
كلاهما يفصح عن مجدكم |
|
وكل جزء منه فرد فم |
ومرّ فيها إلى أن قال في وصف الدنانير : [السريع]
كأنها الأنجم والبعد قد |
|
حقق عندي أنها الأرجم |
فأشار السلطان إلى وزيره ، فأعطاه منها جملة ، وقال له : بدّل هذا البيت لئلا يبقى ذما.
وكان يلقّب بالحمار ، ولذا قال فيه ابن عتبة الطبيب : [السريع]
يا عير حمص عيّرتك الحمير |
|
بأكلك البرّ مكان الشعير (٤) |
وهو أبو بكر محمد بن الفقيه أبي العباس أحمد بن الصابوني شاعر إشبيلية الشهير الذكر ، والذي أظهره مأمون بني عبد المؤمن ، وله فيه قصائد عدّة ، منها قوله في مطلع : [الكامل]
استول سبّاقا على غاياتها |
|
نجح الأمور يبين في بدآتها (٥) |
وله الموشحات المشهورة ، رحمه الله تعالى!
__________________
(١) الظبا : جمع ظبة ، وهي حد السيف.
(٢) في ه : «دنانير سكته باسمه».
(٣) ذين : إشارة للدرهم والدينار ، والميسم ـ بكسر الميم ـ العلامة.
(٤) العير : الحمار. و «حمص» مصروفة في ب.
(٥) سباقا : مبالغة اسم فاعل من سبق.
ومن حكايات الصبيان أن ابن أبي الخصال (١) ، وهو من شقورة ، اجتاز بأبدة وهو صبيّ صغير يطلب الأدب ، فأضافه بها القاضي ابن مالك ، ثم خرج معه إلى حديقة معروشة ، فقطف لهما منها عنقودا أسود ، فقال القاضي : [مجزوء الرجز]
انظر إليه في العصا
فقال ابن أبي الخصال :
كرأس زنجيّ عصى
فعلم أنه سيكون له شأن في البيان.
وحدّث أبو عبد الله بن زرقون (٢) أن أبا بكر ابن المنخل وأبا بكر الملاح الشّلبيين كانا متواخيين متصافيين ، وكان لهما ابنان صغيران قد برعا في الطلب ، وحازا قصب السبق في حلبة الأدب ، فتهاجى الابنان بأقذع الهجاء (٣) ، فركب ابن المنخل في سحر من الأسحار مع ابنه عبد الله ، فجعل يعتبه على هجاء بني الملاح ويقول له : قد قطعت ما بيني وبين صديقي وصفيي أبي بكر في إقذاعك في ابنه (٤) ، فقال له ابنه : إنه بدأني والبادي أظلم ، وإنما يجب أن يلحى (٥) من بالشرّ تقدم ، فعذره أبوه ، فبينما هما على ذلك إذ أقبلا على واد تنقّ فيه الضفادع (٦) ، فقال أبو جعفر لابنه : أجز : [الهزج]
تنقّ ضفادع الوادي
فقال ابنه :
بصوت غير معتاد
فقال الشيخ :
كأنّ نقيق مقولها
فقال ابنه :
بنو الملاح في النادي
__________________
(١) انظر الشريشي ج ١ ص ٣٦٤.
(٢) انظر زاد المسافر ص ٨٨.
(٣) في ب : «بأقذع هجاء».
(٤) الإقذاع : الهجاء الممض ، والسبّ.
(٥) يلحى : يلام.
(٦) تنق الضفادع : تصوت ، والنقيق : صوتها.
فلما أحسّت الضفادع بهما صمتت ، فقال أبو بكر :
وتصمت مثل صمتهم
فقال ابنه :
إذا اجتمعوا على زاد
فقال الشيخ :
فلا غوث لملهوف
فقال الابن :
ولا غيث لمرتاد
ولا خفاء أنّ هذه الإجازة لو كانت من الكبار لحصلت منها الغرابة ، فكيف ممّن هو في سنّ الصّبا؟
ومن حكايات النصارى واليهود من أهل الأندلس ـ أعادها الله تعالى إلى الإسلام عن قريب ، إنه سميع مجيب ـ ما حكي أنّ ابن المرعزي (١) النصراني الإشبيلي أهدى كلبة صيد للمعتمد بن عبّاد وفيها يقول : [مخلع البسيط]
لم أر ملهى لذي اقتناص |
|
ومكسبا مقنع الحريص |
كمثل خطلاء ذات جيد |
|
أتلع في صفرة القميص (٢) |
كالقوس في شكلها ولكن |
|
تنفذ كالسّهم للقنيص |
إن تخذت أنفها دليلا |
|
دلّ على الكامن العويص (٣) |
لو أنها تستثير برقا |
|
لم يجد البرق من محيص (٤) |
ومنها في المديح :
يشفع تنويله بودّ |
|
شفع القياسات بالنصوص |
__________________
(١) كثر التصحيف في أصول النفح ، ففي ب ، ج «المرغوي» وفي أصل ه «المرغري». وفي نسخة «المزعري» ، وفي نسخة «المغري» وجاء في المغرب ج ١ ص ٢٦٤ «المرعز» وقد أثبتنا ما في أ.
(٢) في الأصول «خطار» وقد أثبتنا ما في ب وهو الصحيح. والخطلاء : المسترخية الأذن.
(٣) العويص : الصعب ، الخفي عن الفهم.
(٤) محيص : محيد ، مهرب.
وقال : [الكامل]
الله أكبر أنت بدر طالع |
|
والنّقع دجن والكماة نجوم (١) |
والجود أفلاك وأنت مديرها |
|
وعدوّك الغاوي وهنّ رجوم |
وقال : [البسيط]
نزلت في آل مكحول وضيفهم |
|
كنازل بين سمع الأرض والبصر |
لا تستضيء بضوء في بيوتهم |
|
ما لم يكن لك تطفيل على القمر |
وسببهما أنه نزل عندهم فلم يوقدوا له سراجا.
وقال نسيم الإسرائيلي : [المجتث]
يا ليتني كنت طيرا |
|
أطير حتى أراكا |
بمن تبدّلت غيرا |
|
ولم نحل عن هواكا (٢) |
وهو شاعر وشّاح من أهل إشبيلية ، وذكره الحجاري في المسهب.
وقال إبراهيم بن سهل الإسرائيلي في أصفر ارتجالا : [السريع]
كان محيّاك له بهجة |
|
حتى إذا جاءك ماحي الجمال |
أصبحت كالشمعة لمّا خبا |
|
منها الضياء اسودّ فيها الذّبال (٣) |
وهو شاعر إشبيلية ووشّاحها ، وقرأ على أبي علي الشلوبين وابن الدباج وغيرهما.
وقال العز في حقّه ، وكان أظهر الإسلام ما صورته : كان يتظاهر بالإسلام ، ولا يخلو مع ذلك من قدح واتّهام ، انتهى.
وسئل بعض المغاربة عن السبب في رقة نظم ابن سهل ، فقال : لأنه اجتمع فيه ذلّان : ذلّ العشق ، وذل اليهودية.
ولما غرق قال فيه بعض الأكابر : عاد الدّرّ إلى وطنه.
ومن نظم ابن سهل المذكور قوله : [الطويل]
__________________
(١) النقع : المعركة. والدجن : الظلام الشديد. والكماة : جمع كمي وهو المحارب المدجج بالسلاح.
(٢) ورد هذا البيت في ب ، ه :
بمن تبدلت غيري |
|
أو لم تحل عن هواكا |
(٣) خبا الضوء : خمد : والذبال : جمع ذبالة ، وهي الفتيلة.