نفح الطّيب - ج ٤

الشيخ أحمد بن محمد المقري التلمساني

نفح الطّيب - ج ٤

المؤلف:

الشيخ أحمد بن محمد المقري التلمساني


المحقق: يوسف الشيخ محمّد البقاعي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٣٠

وقد استشرتك في الحديث فهل ترى

أن يدخل الغربان وكر الهيثم (١)

وله (٢) : [البسيط]

يجفى الفقير ويغشى الناس قاطبة

باب الغنيّ ، كذا حكم المقادير

وإنما الناس أمثال الفراش فهم

بحيث تبدو مصابيح الدنانير

وله : [البسيط]

عندي لفقدك أوجال أبيت بها

كأنني واضع كفّي على قبس

ولا ملامة إن لم أهد نيّره

حتى تمدّ إليها كفّ مقتبس

قد كنت أودع سرّ الشوق في طرس

لكنني خفت أن يعدو على الطّرس

وأنشد له أبو سهل شيخ دار الحديث بالقاهرة في إملائه : [الكامل]

قف بالكثيب لغيرك التأنيب

إنّ الكثيب هوى لنا محبوب (٣)

يا راحلين لنا عليكم وقفة

ولكم علينا دمعنا المسكوب

تخلى الديار من المحبّة والهوى

أبدا وتعمر أضلع وقلوب

وقال ارتجالا في وصف فرس أصفر : [الوافر]

أطرف فات طرفي أم شهاب

هفا كالبرق ضرّمه التهاب

أعار الصبح صفحته نقابا

ففرّ به وصحّ له النقاب

فمهما حثّ خال الصبح وافى

ليطلب ما استعار فما يصاب

إذا ما انقضّ كلّ النجم عنه

وضلّت عن مسالكه السحاب

فيا عجبا له فضل الدراري

فكيف أذال أربعه التراب (٤)

سل الأرواح عن أقصى مداه

فعند الريح قد يلفى الجواب (٥)

وقال أبو عمر الطلمنكي : دخلت مرسية ، فتشبّث بي أهلها يسمعون (٦) عليّ الغريب

__________________

(١) الهيثم : الصقر ، وفرخ النسر ، وفرخ العقاب. وجمعه هياثم.

(٢) انظر القدح ص ١٥٩.

(٣) الهوى هنا : المحبوب من إطلاق المصدر وإرادة اسم المفعول.

(٤) أذال : امتهن.

(٥) في أ : «سل الأرواح عن أدنى مداه».

(٦) في ب ، ه : «يسمعوا».

١٨١

المصنّف ، فقلت : انظروا من يقرأ لكم ، وأمسكت أنا كتابي ، فأتوني برجل أعمى يعرف بابن سيده ، فقرأه عليّ من أوّله إلى آخره ، فعجبت من حفظه ، وكان أعمى ابن أعمى.

وابن سيده المذكور هو أبو الحسن علي بن أحمد بن سيده ، وهو صاحب كتاب «المحكم».

ومن نظمه ممّا كتب به إلى ابن الموفّق : [الطويل]

ألا هل إلى تقبيل راحتك اليمنى

سبيل فإنّ الأمن في ذاك واليمنا

ومنها :

ضحيت فهل في برد ظلّك نومة

لذي كبد حرّى وذي مقلة وسنى

وتوفي ابن سيده المذكور سنة ثمان وخمسين وأربعمائة ، وعمره نحو الستين ، رحمه الله تعالى!

ومن حكاياتهم في حبّ العلم أنّ المظفر بن الأفطس صاحب بطليوس كان كما قال ابن الأبّار كثير الأدب ، جمّ المعرفة ، محبّا لأهل العلم ، جمّاعة للكتب ، ذا خزانة عظيمة ، لم يكن في ملوك الأندلس من يفوقه في أدب ومعرفة ، قاله ابن حيان.

وقال ابن بسام (١) : كان المظفر أديب ملوك عصره غير مدافع ولا منازع ، وله التصنيف الرائق ، والتأليف الفائق ، المترجم ب «التذكرة» والمشتهر أيضا اسمه بالكتاب المظفّري ، في خمسين مجلّدا ، يشتمل على فنون وعلوم من مغاز وسير ومثل وخبر وجميع ما يختصّ به علم الأدب ، أبقاه للناس خالدا ، وتوفي المظفر سنة ستين وأربعمائة.

وكان يحضر العلماء للمذاكرة ، فيفيد ويستفيد ، رحمه الله تعالى!

ومن التآليف الكبار لأهل الأندلس كتاب «السماء والعالم» الذي ألّفه أحمد بن أبان صاحب شرطة قرطبة ، وهو مائة مجلّد ، رأيت بعضه بفاس ، وتوفي ابن أبان سنة اثنتين وثمانين وثلاثمائة ، رحمه الله تعالى!.

ولأهل الأندلس دعابة وحلاوة في محاوراتهم (٢) ، وأجوبة بديهية مسكتة ، والظّرف فيهم والأدب كالغريزة ، حتى في صبيانهم ويهودهم ، فضلا عن علمائهم وأكابرهم.

__________________

(١) انظر الذخيرة ج ٢ ص ٢٥٥.

(٢) في ه : «مجاورتهم» بالجيم ، محرفا.

١٨٢

ولنذكر جملة من ذكر الجلّة فنقول :

حكي عن عالم ألمريّة القاضي أبي الحسن مختار الرعيني ، وكان فيه حلاوة ولوذعية (١) ووقار وسكون ، أنه استدعاه يوما زهير ملك المريّة من مجلس حكمه ، فجاءه يمشي مشية قاض قليلا قليلا ، فاستعجله رسول زهير ، فلم يعجل ، فلمّا دخل عليه قال له : يا فقيه ، ما هذا البطء؟ فتأخّر إلى باب المجلس ، وطلب عصا ، وشمّر ثيابه ، فقال له زهير : ما هذا؟ قال : هذا يليق باستعجال الحاجب لي ، فوقع في خاطري أنه عزلني عن القضاء وولّاني الشرطة ، فضحك زهير واستحلاه ولم يعد إلى استعجاله.

وهذا القاضي هو القائل ـ وقد دخل حمّاما فجلس بإزائه عاميّ أساء الأدب عليه ـ : [الطويل]

ألا لعن الحمّام دارا فإنه

سواء به ذو العلم والجهل في القدر

تضيع به الآداب حتى كأنها

مصابيح لم تنفق على طلعة الفجر

وروي أنّ المقرئ أبا عبد الله محمد بن الفراء إمام النحو واللغة في زمانه ـ وكانت فيه فطنة ولوذعيّة ـ أبطأ خروجه يوما إلى تلامذته ، فطال بهم الكلام في المذاكرة فقال أحدهم نصف بيت ، وكان فيهم وسيم من أبناء الأعيان ، وكان ابن الفراء كثير الميل إليه ، فلمّا خرج قال له : يا أستاذ ، عملت نصف بيت ، وأريد أن تتمّه ، فقال : ما هو؟ فقال : [المتقارب]

ألا بأبي شادن أوطف (٢)

فقال الأستاذ ابن الفراء بديها : [المتقارب]

إذا كان وردك لا يقطف

وثغر ثناياك لا يرشف

فأيّ اضطرار بنا أن نقول :

ألا بأبي شادن أوطف

وهذا ابن الفراء هو القائل (٣) : [مجزوء الخفيف]

قيل لي : قد تبدّلا

فاسل عنه كما سلا

لك سمع وناظر

وفؤاد فقلت : لا

__________________

(١) لوذعية : ذكاء متوقد.

(٢) الأوطف : الكثير شعر الحاجبين والعينين ، مؤنثه وطفاء ، وجمعه وطف.

(٣) انظر زاد المسافر ص ١٠٠.

١٨٣

قيل : غال وصاله

قلت : لمّا غلا حلا

أيّها العاذل الذي

بعذابي توكّلا

عد صحيحا مسلّما

لا تعيّر فتبتلى

وتذكّرت بهذا ما أنشده لسان الدين في كتابه ، «روضة التعريف ، بالحب الشريف» (١) :

[مجزوء الخفيف]

قلت للساخر الذي

رفع الأنف فاعتلى (٢)

أنت لم تأمن الهوى

لا تعيّر فتبتلى

ومن بديع نظم ابن الفراء المذكور قوله : [المتقارب]

شكوت إليه بفرط الدّنف

فأنكر من قصّتي ما عرف (٣)

وقال الشهود على المدّعي

وأمّا أنا فعليّ الحلف

فجئنا إلى الحاكم الألمعيّ

قاضي المجون وشيخ الطّرف

وكان بصيرا بشرع الهوى

ويعلم من أين أكل الكتف

فقلت : له إقض ما بيننا

فقال الشهود على ما تصف

فقلت له شهدت أدمعي

فقال إذا شهدت تنتصف

ففاضت دموعي من حينها

كفيض السحاب إذا ما يكف (٤)

فحرّك رأسا إلينا وقال

دعوا يا مهاتيك هذا الصلف

كذا تقتلون مشاهيرنا

إذا مات هذا فأين الخلف

وأوما إلى الورد أن يجتنى

وأوما إلى الرّيق أن يرتشف

فلمّا رآه حبيبي معي

ولم يختلف بيننا مختلف

أزال العناد فعانقته

كأني لام وحبّي ألف

فظلت أعاتبه في الجفا

فقال عفا الله عمّا سلف

وحكي عن الزهري خطيب إشبيلية ـ وكان أعرج ـ أنه خرج مع ولده إلى وادي إشبيلية ، فصادف (٥) جماعة في مركب ، وكان ذلك بقرب الأضحى ، فقال بعضهم له : بكم هذا

__________________

(١) في أ : «روضة التعريف ، بالحسب الشريف».

(٢) في ب ، ه : «واعتلى».

(٣) الدنف : المرض الشديد.

(٤) وكف يكف : سال.

(٥) في ه : «فصادفه جماعة».

١٨٤

الخروف؟ وأشار إلى ولده ، فقال له الزهري : ما هو للبيع ، فقال : بكم هذا التيس (١)؟ وأشار إلى الشيخ الزهري ، فرفع رجله العرجاء وقال : هو معيب لا يجزئ في الضحيّة ، فضحك كل من حضر ، وعجبوا من لطف خلقه.

وركب مرّة هذا النهر مع الباجي يوم خميس ، فلمّا أصبحا وصعد الزهري يخطب يوم الجمعة ، والباجي حاضر قدّامه ، فنظر إليه الباجي وأومأ إلى محلّ الحدث ، وأخرج لسانه ، فجعل الزهري يلمس عصا الخطبة ، يشير بالعصا إلى جوابه على ما قصد ، رحمه الله تعالى!

ومرّ العالم أبو القاسم بن ورد صاحب التآليف في علم القرآن والحديث بجنّة لأحد الأعيان فيها ورد ، فوقف بالباب وكتب إليه : [الخفيف]

شاعر قد أتاك يبغي أباه

عند ما اشتاق حسنه وشذاه (٢)

وهو بالباب مصغيا لجواب

يرتضيه النّدى فماذا تراه (٣)

فعندما وقف على البيتين علم أنه ابن ورد ، فبادر من جنّته إليه ، وأقسم في النزول عليه ، ونثر من الورد ما استطاع بين يديه.

وحكي أن أبا الحسين (٤) سليمان بن الطراوة نحويّ المرية حضر مع ندماء ، وإلى جانبه من أخذ بمجامع قلبه ، فلمّا بلغت النوبة إليه استعفى من الشرب ، وأبدى القطوب ، فأخذ ابن الطراوة الجام من يده وشربها عنه ، ويا بردها على كل كبده ، ثم قال بديها : [السريع]

يشربها الشيخ وأمثاله

وكلّ من تحمد أفعاله

والبكر إن لم يستطع صولة

تلقى على البازل أثقاله (٥)

ودخل عليه وهو مع ندمائه غلام والكأس (٦) في يده فقال : [الوافر]

__________________

(١) في ه : «فبكم هذا التيس».

(٢) في ب ، ه : «شاعر قد عراك يبغي أباه».

(٣) في ج : «يرتضي بالندى» وقد أثبتنا ما في أ، ب ، ه.

(٤) في أ، ج «أبا الحسن».

(٥) في ه : «والبكر إن لم يستطع رحله» والبكر ، بفتح الباء سكون الكاف : الفتي من الجمال. والبازل : الذي طلعت نابه من الإبل.

ويشير الشاعر في هذا البيت إلى قول الشاعر :

وابن اللبون إذا ما لزّ في قرن

لم يستطع صولة البزل القناعيس

(٦) في ب ، ه : «بكأس في يده».

١٨٥

ألا بأبي وغير أبي غزال

أتى وبراحه للشرب راح

فقال منادمي في الحسن صفه

فقلت الشمس جاء بها الصباح

وقال فيمن جاء بالراح : [الطويل]

ولمّا رأيت الصبح لاح بخدّه

دعوتهم رفقا تلح لكم الشمس

وأطلعها مثل الغزالة وهو كال

غزال فتمّ الطيب واكتمل الأنس

وقال ، وقد شرب ليلة في القمر (١) : [الطويل]

شربنا بمصباح السماء مدامة

بشاطي غدير والأزاهر تنفح (٢)

وظلّ جهول يرقب الصبح ضلّة

ومن أكؤس لم يبرح الليل يصبح (٣)

وكان (٤) عبد الله بن الحاج المعروف بمدغلّيس صاحب الموشّحات يشرب مع ندماء ظراف في جنّة بهجة ، فجاءتهم ورقة من ثقيل يرغب في الإذن ، وكان له ابن مليح فكتب إليه مدغليس : [مجزوء الرمل]

سيّدي هذا مكان

لا يرى فيه بلحيه

غير تيس مصفعانيّ

له بالصّفع كديه

أوله ابن شافع في

ه فيلقى بالتّحيّه (٥)

أيها القابل أقبل

سائقا تلك المطيّه (٦)

وكان مدغلّيس هذا مشهورا بالانطباع والصنعة في الأزجال ، خليفة ابن قزمان في زمانه ، وكان أهل الأندلس يقولون : ابن قزمان في الزجالين بمنزلة المتنبي في الشعراء ، ومدغلّيس بمنزلة أبي تمام ، بالنظر إلى الانطباع والصناعة ، فابن قزمان ملتفت إلى المعنى ، ومدغلّيس ملتفت للفظ ، وكان أديبا معربا لكلامه مثل ابن قزمان ، ولكنه لمّا رأى نفسه في الزجل أنجب اقتصر عليه.

ومن شعره قوله : [المجتث]

ما ضرّكم لو كتبتم

حرفا ولو باليسار

__________________

(١) في ب : «وقد شرب ليلة القمر».

(٢) تنفح : تنشر العطر.

(٣) في ب ، ه : «ومن أكؤسي لم يبرح الليل يصبح».

(٤) في ب ، ه : «وكان أبو عبد الله بن الحاج».

(٥) في ب ، ه : «أيها القابل بادر».

(٦) في ب ، ه : «أيها القابل بادر».

١٨٦

إذ أنتم نور عيني

ومطلبي واختياري

وقال الخطيب الأديب النحوي أبو عبد الله (١) محمد بن عبد الله بن الفراء ـ المذكور قبل هذا بقريب ـ الضرير ، في صبيّ كان يقرأ عليه النحو ، اسمه حسن ، وهو غاية الجمال ـ بعد أن سأله : كيف تقول إذا تعجّبت من حسنك؟ فقال أقول : ما أحسني ـ [السريع]

يا حسنا ما لك لم تحسن

إلى نفوس بالهوى متعبه

رقمت بالورد وبالسوسن

صفحة خدّ بالسنا مذهبه

وقد أبى صدغك أن أجتني

منه وقد ألدغني عقربه

يا حسنه إذ قال ما أحسني

ويا لذاك اللفظ ما أعذبه

ففوّق السهم ولم يخطني

وإذ رآني ميّتا أعجبه

وقال كم عاش وكم حبّني

وحبّه إياي قد عذّبه

يرحمه الله على أنني

قتلي له لم أدر ما أوجبه

وقد كان (٢) ابن الفراء من فضلاء المائة السادسة ، ذكره ابن غالب في «فرحة الأنفس ، في فضلاء العصر من الأندلس» وكان شاعرا مجيدا ، يعلّم بألمرية القرآن والنحو واللغة ، وكانت فيه فطنة ولوذعية ، وذكاء وألمعيّة ، خرق بها العوائد.

وحكي أنّ قاضي المرية قبل شهادته في سطل ميزه في حمام باللمس ، واختبره في ذلك بحكاية طويلة.

وذكره صفوان في «زاد المسافر» ووصفه بالخطيب.

وجدّه القاضي أبو عبد الله ابن الفراء مشهور بالصلاح والفضل والزهد ، ومن العجائب أنه ليس له ترجمة في «المغرب» ، ولمّا كتب أمير المسلمين يوسف بن تاشفين إلى أهل ألمرية يطلب منهم المعونة جاوبه بكتابه المشهور الذي يقول فيه [ما صورته :](٣) فما ذكره أمير المسلمين من افتضاء المعونة وتأخّري عن ذلك ، وأنّ الباجي ، وجميع القضاة والفقهاء بالعدوة والأندلس أفتوا بأنّ عمر بن الخطاب ، رضي الله تعالى عنه ، اقتضاها ، وكان صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وضجيعه في قبره ، ولا يشكّ في عدله ، فليس أمير المسلمين بصاحب

__________________

(١) زيادة في ب ، ه.

(٢) في ب ، ه : «وهذا ابن الفراء من فضلاء المائة السادسة».

(٣) ما بين حاصرتين ساقط من ب.

١٨٧

رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا بضجيعه في قبره ، ولا من لا يشكّ في عدله ، فإن كان الفقهاء والقضاة أنزلوك بمنزلته في العدل ، فالله تعالى سائلهم عن تقلّدهم فيك ، وما اقتضاها عمر ، رضي الله تعالى عنه ، حتى دخل مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وحلف أن ليس عنده درهم واحد في بيت مال المسلمين ينفقه عليهم ، فلتدخل (١) المسجد الجامع هنالك بحضرة من أهل العلم وتحلف أن ليس عندك درهم واحد ولا في بيت مال المسلمين ، وحينئذ تستوجب ذلك ، والسلام ، انتهى.

وأمّا ابن الفراء الأخفش بن ميمون (٢) الذي ذكره الحجاري في «المسهب» فليس هو من هؤلاء ، بل هو من حصن القبداق (٣) من أعمال قلعة بني سعيد ، وتأدّب في قرطبة ، ثم عاد إلى حضرة غرناطة ، واعتكف بها على مدح وزيرها اليهودي ، وهو القائل : [البسيط]

صابح محيّاه تلق النّجح في الأمل

وانظر بناديه حسن الشمس في الحمل

ما إن يلاقي خليل فيه من خلل

وكلّما حال صرف الدهر لم يحل

وكان يهاجي المنفتل شاعر إلبيرة ، ومن هجاء المنفتل (٤) له قوله : [مجزوء الرمل]

لابن ميمون قريض

زمهرير البرد فيه

فإذا ما قال شعرا

نفقت سوق أبيه

ولمّا وفد على المرية مدح رفيع الدولة بن المعتصم بن صمادح بشعر ، فقال له بعض من أراد ضرّه : يا سيدي ، لا تقرب هذا اللعين ، فإنه قال في اليهودي : [الطويل]

ولكنّ عندي للوفاء شريعة

تركت بها الإسلام يبكي على الكفر

فقال رفيع الدولة : هذا والله هو الحرّ الذي ينبغي أن يصطنع ، فلو لا وفاؤه ما بكى كافرا بعد موته ، وقد وجدنا في أصحابنا من لا يرعى مسلما في حياته. فقال فيه المنفتل (٥) : [المجتث]

إن كنت أخفش عين

فإنّ قلبك أعمى

فكيف تنثر نثرا

وكيف تنظم نظما

ومن شعر الأخفش المذكور قوله : [الطويل]

__________________

(١) في ب : «فتدخل المسجد».

(٢) انظر المغرب ج ٢ ص ١٨٢.

(٣) في ب : «القبداق».

(٤) في ه : «ومن هجائه المنفتل له» وليس بشيء.

(٥) انظر المغرب ج ٢ ص ١٨٤.

١٨٨

إذا زرتكم غبّا فلم ألق بالبرّ

وإن غبت لم أطلب ولم أجر في الذّكر

فإني إذن أولى الورى بفراقكم

ولا سيّما بعد التجلّد والصّبر

ولمّا وفد على المنصور بن أبي عامر الشاعر المشهور أبو عبد الله محمد بن مسعود الغسّاني البجالي (١) اتّهم برهق في دينه ، فسجنه في المطبق مع الطليق القرشي ، والطليق غلام وسيم ، وكان ابن مسعود كلفا به يومئذ وفيه يقول : [البسيط]

غدوت في السجن خدنا لابن يعقوب

وكنت أحسب هذا في التكاذيب

رامت عداتي تعذيبي وما شعرت

أنّ الذي فعلوه ضدّ تعذيبي

راموا بعادي عن الدنيا وزخرفها

فكان ذلك إدنائي وتقريبي

لم يعلموا أنّ سجني لا أبا لهم

قد كان غاية مأمولي ومرغوبي

وسجن ابن مسعود (٢) والطليق قبله ، ووقع بينه وبين الطليق ، وعاد المدح هجاء ، فقال فيه : [السريع]

ولي جليس قربه منّي

بعد الأماني كذبا عنّي

قد قذيت من لحظه مقلتي

وقرّحت من لفظه أذني

هوّن لي في السجن من قربه

أشدّ في السجن من السجن (٣)

لو أنّ خلقا كان ضدّا له

زاد على يوسف في الحسن

إذا ارتمى فكري في وجهه

سلّط إبطيه على ذهني

كأنما يجلس من ذا وذا

بين كنيفين من النّتن

وقال يخاطب المنصور من السجن : [السريع]

دعوت لمّا عيل صبري فهل

يسمع دعواي المليك الحليم

مولاي مولاي ، ألا عطفة

تذهب عني بالعذاب الأليم

إن كنت أضمرت الذي زخرفوا

عنّي فدعني للقدير الرحيم

فعنده نزّاعة للشّوى

وعنده الفردوس ذات النعيم

__________________

(١) انظر الجذوة ص ٨٦.

(٢) في ب ، ه : «وانطلق ابن مسعود والطليق قبله».

(٣) في ب ، ه : «راهنني في السجن من قربه».

١٨٩

وركب بعض أهل المريّة في وادي إشبيلية ، فمرّ على طاقة من طاقات شنتبوس ، وهو يغنّي:

خلين من واد ومن قوارب

ومن نزاها في شنتبوس (١)

غرس الحبق الذي في داري

أحبّ عندي من العروس (٢)

فأخرجت رأسها جارية وقالت له : من أي بلد أنت يا من غنّى؟ فقال : من ألمرية ، فقالت : وما أعجبك في بلدك حتى تفضّله على وادي إشبيلية وهو بوجه مالح وقفا أحرش؟ وهذا من أحسن تعييب ، وذلك أنها أتته بالنقيض من إشبيلية ، فإنّ وجهها النهر العذب ، وقفاها بجبال الرحمة أشجار التين والعنب ، لا تقع العين إلّا على خضرة في أيام الفرج ، وأين إشبيلية من المرية. وفي ألمرية يقول السميسر شاعرها : [الخفيف]

بئس دار المرية اليوم دارا

ليس فيها لساكن ما يحبّ

بلدة لا تمار إلّا بريح

ربّما قد تهبّ أو لا تهبّ

يشير إلى أنّ مرافقها مجلوبة ، وأن الميرة تأتيها في البحر من برّ العدوة ، وفيها يقول أيضأ :[المجتث]

قالوا المرية فيها

نظافة قلت إيه

كأنها طست تبر

ويبصق الدم فيه

وحكى مؤرخ الأندلس أبو الحجاج البياسي (٣) ، أنه دخل عليه في مجلس أنس شيخ ضخم الجثّة مستثقل ، فقال البياسي (٤) : [مجزوء الخفيف]

اسقني الكأس صاحيه

ودع الشيخ ـ ناحيه (٥)

فقال الكاتب أبو جعفر أحمد بن رضي : [مجزوء الخفيف]

إن تكن ساقيا له

ليس ترويه ساقيه

وحكي أنّ العالي إدريس الحمودي لمّا عاد إلى ملكه بمالقة وبّخ قاضيها الفقيه أبا

__________________

(١) في ب ، ه : «خلين من واد».

(٢) في أ، ج ، ه «الفردوس» والتصويب من ب. والعروس أحد متنزهات إشبيلية.

(٣) في ه : «وحضر مؤرخ الأندلس أبو الحجاج البياسي».

(٤) انظر المغرب ج ١ ص ٤٢٧.

(٥) في ب ، ه : «اسقني الكأس ضاحيه».

١٩٠

علي بن حسّون ، وقال له : كيف بايعت عدويّ من بعدي وصحبته؟ فقال : وكيف تركت أنت ملكك لعدوّك؟ فقال : ضرورة القدرة حملتني على ذلك ، فقال : وأنا أيضا حصلت في يد من لا يسعني (١) إلّا طاعته.

ومن نظم القاضي المذكور : [السريع]

رفعت من دهري إلى جائر

ويبتغي العدل بأحكامي

أضحت به أملاكه مثل أش

كال خيال طوع أيامي

هذا لما أبرم ذا ناقض

كأنّهم في حكم أحلام

وكان الفقيه العالم أبو محمد عبد الله الوحيدي قاضي مالقة جرى ـ كما قال الحجاري ـ في صباه طلق الجموح ولم يزل يعاقب بين غبوق وصبوح ، إلى أن دعاه النذير ، فاهتدى منه بسراج منير ، وأحلّته تلك الرجعة ، فيما شاء من الرفعة.

وقال بعض معاشريه : كنت أماشيه زمن الشباب ، فكلّما مررنا على امرأة يدعو حسنها وشكلها إلى أن تحير فيه (٢) الألباب ، أمال إليها طرفه ، ولم ينح عنها صرفه ، ثم سايرته بعد لمّا رجع عن ذلك واقتصر ، فرأيته يغضّ البصر ، ويخلي الطريق معرضا إلى ناحية ، متى زاحمته امرأة ولو حكت الشمس ضاحية (٣) ، فقلت له في ذلك ، فقال : [الخفيف]

ذاك وقت قضيت فيه غرامي

من شبابي في سترة الإظلام

ثم لمّا بدا الصباح لعيني

من مشيبي ودّعته بسلام

ومن شعره في صباه : [البسيط]

لا ترتجوا رجعتي باللوم عن غرض

ولتتركوني وصيدي فرصة الخلس

طلبتم ردّ قلبي عن صبابته

ومن يردّ عنان الجامح الشرس

ولمّا أقصر باطله ، وعرّيت أفراس الصبا ورواحله (٤) ، قال : [الطويل]

__________________

(١) في ه : «في يد لا تسعني».

(٢) في ب ، ه : «إلى أن تحير الألباب».

(٣) في ج : «ولو حكمت الشمس ضاحية».

(٤) أخذ هذا من قول زهير بن أبي سلمة المزني في مطلع قصيدة :

صحا القلب عن سلمى وأقصر باطله

وعرّي أفراس الصبا ورواحله

١٩١

ولمّا بدا شيبي عففت عن الهوى

كما يهتدي حلف السّرى بنجوم (١)

وفارقت أشياع الصبابة والطّلا

وملت إلى أهلي علا وعلوم (٢)

ولمّا تألّب بنو حسّون على القاضي الوحيدي المذكور صادر عنه العالم الأصولي أبو عبد الله بن الفخار ، وطلع في حقّه إلى حضرة الإمامة مراكش ، وقام في مجلس أمير المسلمين ابن تاشفين ، وهو قد غصّ بأربابه ، وقال : إنه لمقام كريم ، نبدأ فيه بحمد الله على الدنوّ منه ، ونصلّي على خيرة أنبيائه محمد الهادي إلى الصراط المستقيم ، وعلى آله وصحابته نجوم الليل البهيم ، أمّا بعد ، فإنا نحمد الله الذي اصطفاك للمؤمنين أميرا (٣) ، وجعلك للدين الحنيفي نصيرا وظهيرا ، ونفزع إليك ممّا دهمنا في حماك ، ونبثّ إليك ما لحقنا من الضيم ونحن تحت ظلّ علاك ، ويأبى الله أن يدهم من احتمى بأمير المسلمين ، ويصاب بضيم من ادّرع بحصنه الحصين ، شكوى قمت بها بين يديك في حقّ أمرك الذي عضده مؤيّده ، لتسمع منها ما تختبره برأيك وتنقده ، وإنّ قاضيك ابن الوحيدي الذي قدّمته في مالقة للأحكام ، ورضيت بعدله فيمن بها من الخاصة والعوام ، لم يزل يدلّ على حسن اختيارك بحسن سيرته ، ويرضي الله تعالى ويرضي الناس بظاهره وسريرته ، ما علمنا عليه من سوء ، ولا درينا له موقف خزي ، ولم يزل جاريا على ما يرضي الله تعالى ويرضيك ويرضينا إلى أن تعرّضت بنو حسّون إلى الطعم في أحكامه ، والهدّ من أعلامه ، ولم يعلموا أنّ اهتضام المقدّم ، راجع على المقدّم ، بل جمحوا في لجاجهم فعموا وصمّوا ، وفعلوا وأمضوا ما به همّوأ : [الخفيف]

وإلى السّحب يرفع الكفّ من قد

جفّ عنه مسيل عين ونهر

فملأ سمعه بلاغة أعقبت نصره ونصر صاحبه.

ومن شعر ابن الفخار المذكور ، ويعرف بابن نصف الربض ، قوله : [الطويل]

أمستنكر شيب المفارق في الصّبا

وهل ينكر النّور المفتّح في الغصن (٤)

أظنّ طلاب المجد شيّب مفرقي

وإن كنت في إحدى وعشرين من سنّي

وقوله : [المتقارب]

__________________

(١) في ب ، ه : «ولما بدا شيبي عطفت على الهدى». والسري : السير ليلا.

(٢) الصبابة : رقة الحب. والطلا : الهوى.

(٣) في ب ، ه : «للمسلمين أميرا».

(٤) النّور : نوع من الزهر الأبيض.

١٩٢

أقلّ عتابك إنّ الكريم

يجازي على حبّه بالقلى (١)

وخلّ اجتنابك إنّ الزمان

يمرّ بتكديره ما حلا

وواصل أخاك بعلّاته

فقد يلبس الثوب بعد البلى

وقلّ كالذي قاله شاعر

نبيل وحقّك أن تنبلا

إذا ما خليل أسا مرّة

وقد كان فيما مضى مجملا (٢)

ذكرت المقدّم من فعله

فلم يفسد الآخر الأوّلا

ولمّا وفد أبو الفضل بن شرف (٣) من برجة في زي تظهر عليه البداوة بالنسبة إلى أهل حضرة المملكة العظمى أنشده قصيدته القافية (٤) : [الرمل]

مطل الليل بوعد الفلق

وتشكّى النجم طول الأرق

ضربت ريح الصّبا مسك الدّجى

فاستفاد الروض طيب العبق

وألاح الفجر خدّا خجلا

جال من رشح النّدى في عرق

جاوز الليل إلى أنجمه

فتساقطن سقوط الورق

واستفاض الصبح فيه فيضة

أيقن النجم لها بالغرق

فانجلى ذاك السنا عن حلك

وانمحى ذاك الدجى عن شفق

بأبي بعد الكرى طيف سرى

طارقا عن سكن لم يطرق

زارني والليل ناع سدفه

وهو مطلوب بباقي الرّمق

ودموع الطّلّ تمريها الصّبا

وجفون الروض غرقى الحدق (٥)

فتأتّى في إزار ثابت

وتثنّى في وشاح قلق

وتجلّى وجهه عن شعره

فتجلّى فلق عن غسق

نهب الصبح دجى ليلته

فحبا الخدّ ببعض الشفق

سلبت عيناه حدّي سيفه

وتحلّى خدّه بالرونق

__________________

(١) القلى : البغض.

(٢) أسا : أصلها أساء ، وحذف الشاعر الهمزة لضرورة الوزن ، وهذا جائز.

(٣) في ج : «بن شرف بن برجة» محرفا.

(٤) في ب ، ه : «قصيدته الفائقة» وزاد في ب : «وهي». انظر القصيدة في الذخيرة ج ٣ ص ٢٧٧.

(٥) تمريها : تسيل ماءها.

١٩٣

وامتطى من طرفه ذا خبب

يلثم الغبراء إن لم يعنق (١)

أشوس الطرف علته نخوة

يتهادى كالغزال الخرق

لو تمطّى بين أسراب المها

نازعته في الحشا والعنق

حسرت دهمته عن غرّة

كشفت ظلماؤها عن يقق (٢)

لبست أعطافه ثوب الدجى

وتحلّى خدّه باليقق

وانبرى تحسبه أجفل عن

لسعة أو جنّة أو أولق

مدركا بالمهل ما لا ينتهي

لاحقا بالرفق ما لم يلحق

ذو رضا مستتر في غضب

ذو وقار منطو في خرق

وعلى خدّ كعضب أبيض

أذن مثل سنان أزرق

كلّما نصّبها مستمعا

بدت الشّهب إلى مسترق

حاذرت منه شبا خطّيّة

لا يجيد الخطّ ما لم يمشق

كلّما شامت عذاري خدّه

خفقت خفق فؤاد فرق (٣)

في ذرا ظمآن فيه هيف

لم يدعه للقضيب المورق

يتلقّاني بكفّ مصقع

يقتفي شأو عذار مفلق

إن يدر دورة طرف يلتمح

أو يجل جول لسان ينطق

عصفت ريح على أنبوبه

وجرت أكعبه في زئبق

كلّما قلّبه باعد عن

متن ملساء كمثل البرق

جمع السّرد قوى أزرارها

فتآخذن بعهد موثق

أوجبت في الحرب من وخز القنا

فتوارت حلقا في حلق

كلّما دارت بها أبصارها

صوّرت منها مثال الحدق

زلّ عنه متن مصقول القوى

يرتمي في مائها بالحرق

لو نضا وهو عليه ثوبه

لتعرّى عن شواظ محرق (٤)

أكهب من هبوات أخضر

من فرند أحمر من علق (٥)

__________________

(١) الخبب ، والعنق : ضربان من السير.

(٢) اليقق : البياض.

(٣) في ب : «فؤاد الفرق».

(٤) الشواظ : لهب لا دخان له.

(٥) أكهب : أغبر مائل للسواد.

١٩٤

وارتوت صفحاه حتى خلته

بحيا منّ لكفّيك سقي

يا بني معن لقد ظلّت بكم

شجر لولاكم لم تورق

لو سقي حسّان إحسانكم

ما بكى ندمانه في جلّق (١)

أو دنا الطائيّ من حيّكم

ما حدا البرق لربع الأبرق

أبدعوا في الفضل حتى كلّفوا

كاهل الأيام ما لم يطق

فلما سمعها المعتصم لعبت بارتياحه ، وحسده بعض من حضر ، وكان من جملة من حسده ابن أخت غانم ، فقال له : من أي أنت؟ قال : أنا من الشرف في الدرجة العالية ، وإن كانت البادية عليّ بادية ، ولا أنكر حالي ، ولا أعرف بخالي ، فمات ابن أخت غانم خجلا ، وشمت به كلّ من حضر.

وابن شرف المذكور (٢) هو الحكيم الفيلسوف أبو الفضل جعفر ابن أديب إفريقية أبي عبد الله محمد بن شرف الجذامي ؛ ولد ببرجة ، وقيل : إنه دخل الأندلس مع أبيه وهو ابن سبع سنين ، ومن نظمه قوله : [الطويل]

رأى الحسن ما في خدّه من بدائع

فأعجبه ما ضمّ منه وحرّفا

وقال لقد ألفيت فيه نوادرا

فقلت له لا بل غريبا مصنّفا (٣)

وقوله : [مخلع البسيط]

قد وقف الشكر بي لديكم

فلست أقوى على الوفاده

ونلت أقصى المراد منكم

فصرت أخشى من الزياده

وقوله : [المتقارب]

إذا ما عدوّك يوما سما

إلى رتبة لم تطق نقضها

فقبّل ولا تأنفن كفّه

إذا أنت لم تستطع عضّها

وقوله ، وقد تقدّم به على كل شاعر : [البسيط]

__________________

(١) جلق : دمشق. وحسان : هو حسان بن ثابت شاعر الرسول صلى الله عليه وسلم وقد كان قبل الإسلام شاعر الغساسنة في الشام.

(٢) انظر ترجمته في المغرب ج ٢ ص ٢٣٠ ، والقلائد ص ٢٥٢.

(٣) ورّى بكتاب النوادر وكتاب الغريب المصنف.

١٩٥

لم يبق للجور في أيامهم أثر

غير الذي في عيون الغيد من حور (١)

وأوّل هذه القصيدة قوله :

قامت تجرّ ذيول العصب والحبر

ضعيفة الخصر والميثاق والنظر (٢)

وكان قد قصر أمداحه على المعتصم ، وكان يفد عليه في الأعياد وأوقات الفرج والفتوحات ، فوفد عليه مرّة يشكو عاملا ناقشه في قرية يحرث فيها ، وأنشده الرائية التي مرّ مطلعها إلى أن بلغ قوله :

لم يبق للجور

البيت.

فقال له : كم في القرية التي تحرث فيها؟ فقال : فيها نحو خمسين بيتا ، فقال له : أنا أسوّغك جميعها لهذا البيت الواحد ، ثم وقّع له بها ، وعزل عنها نظر كلّ وال.

وله ابن فيلسوف شاعر مثله ، وهو أبو عبد الله محمد بن أبي الفضل (٣) المذكور ، وهو القائل : [الخفيف]

وكريم أجارني من زمان

لم يكن من خطوبه لي بدّ (٤)

منشد كلّما أقول تناهى

ما لمن يبتغي المكارم حدّ

وابن أخت غانم هو العالم اللغوي أبو عبد الله محمد بن معمر (٥) ؛ من أعيان مالقة ، متفنّن في علوم شتّى ، إلّا أنّ الغالب عليه علم اللغة ، وكان قد رحل من مالقة إلى المرية ، فحلّ عند ملكها المعتصم بن صمادح بالمكانة العلية ، وهو القائل في ابن شرف الطمذكور : [الكامل]

قولوا لشاعر برجة هل جاء من

أرض العراق فحاز طبع البحتري

__________________

(١) في ب : «إلّا الذي في عيون ..».

(٢) العصب : نوع من الثياب المخططة. والحبر : نوع من الثياب القطنية أو الكتانية المخططة اشتهرت باليمن.

(٣) انظر ترجمته في المغرب ج ٢ ص ٢٣٢.

(٤) أجارني : حماني.

(٥) انظر ترجمته في المغرب ج ١ ص ٤٣٣. وبغية الوعاة في طبقات النحاة ، وهو من علماء مالقة من أهل المائة السادسة ، متفنن في علوم شتى إلا أن الأغلب عليه علم اللغة وفيه أكثر تآليفه. (انظر بغية الوعاة ج ١ ص ٢٤٧).

١٩٦

وافى بأشعار تضجّ بكفّه

وتقول : هل أعزى لمن لم يشعر

يا جعفرا ، ردّ القريض لأهله

واترك مباراة لتلك الأبحر (١)

لا تزعمن ما لم تكن أهلا له

هذا الرّضاب لغير فيك الأبخر

وذكره ابن اليسع في معربه وقال : إنه حدثه بداره في مالقة وهو ابن مائة سنة ، وأخذ عنه عام أربعة وعشرين وخمسمائة ، وله تآليف منها «شرح كتاب النبات» لأبي حنيفة الدّينوري ، في ستين مجلّدا ، وغير ذلك.

وغانم خاله الذي يعرف به هو الإمام العالم غانم المخزومي ، نسب إليه لشهرة ذكره ، وعلوّ قدره.

ولمّا قرأ العالم الشهير أبو محمد بن عبدون في أول شبابه على أبي الوليد بن ضابط النحوي المالقي ، جرى بين يديه ذكر الشعر ، وكان قد ضجر منه ، فقال : [المجتث]

الشعر خطّة خسف

فقال ابن عبدون معرّضا به حين كان مستجديا بالشعر (٢) ، وكان إذ ذاك شيخا : [المجثت]

لكلّ طالب عرف

للشيخ عيبة عيب

وللفتى ظرف ظرف

وابن ضابط هو القائل في المظفر بن الأفطس (٣) : [الطويل]

نظمنا لك الشعر البديع لأننا

علمنا بأنّ الشعر عندك ينفق

فإن كنت منّي بامتداح مظفّرا

فإني في قصدي إليك موفّق

ودخل غانم المخزومي السابق ذكره ، وهو من رجال الذخيرة ، على الملك بن حبّوس صاحب غرناطة ، فوسّع له على ضيق كان في المجلس ، فقال : [البسيط]

صيّر فؤادك للمحبوب منزلة

سمّ الخياط مجال للمحبّين

ولا تسامح بغيضا في معاشرة

فقلّما تسع الدنيا بغيضين

وهو القائل : [الطويل]

__________________

(١) القريض : الشعر.

(٢) في ب : «مستجديا بالنظم».

(٣) انظر التكملة ص ٤٠٧.

١٩٧

وقد كنت أغدو نحو قطرك فارحا

فها أنا أغدو نحو قبرك ثاكلا

وقد كنت في مدحيك سحبان وائل

فها أنا من فرط التأسّف باقلا (١)

وله أيضا : [السريع]

الصبر أولى بوقار الفتى

من ملك يهتك ستر الوقار

من لزم الصبر على حالة

كان على أيّامه بالخيار

وكتب أبو علي الحسن بن الغليظ إلى صاحبه أبي عبد الله بن السراج ، وقد قدم من سفر(٢): [البسيط]

يا من أقلّب طرفي في محاسنه

فلا أرى مثله في الناس إنسانا

لو كنت تعلم ما لقيت بعدك ما

شربت كأسا ولا استحسنت ريحانا

فورد عليه من حينه وقال : أردت مجاوبتك ، فخفت أن أبطئ ، وصنعت الجواب في الطريق : [البسيط]

يا من إذا ما سقتني الراح راحته

أهدت إليّ بها روحا وريحانا

من لم يكن في صباح السبت يأخذها

فليس عندي بحكم الظرف إنسانا

فكن على حسن هذا اليوم مصطبحا

مذاكرا حسنا فيه وإحسانا

وفي البساتين إن ضاق المحلّ بنا

مندوحة لا عدمنا الدهر بستانا

ووفد أبو علي الحسن بن كسرين المالقي (٣) الشاعر المشهور على ملك إشبيلية السيد أبي إسحاق إبراهيم ابن أمير المؤمنين يوسف ابن أمير المؤمنين عبد المؤمن بن علي ، فأنشده قصيدة طار مطلعها في الأقطار ، كلّ مطار ، وهو : [الكامل]

قسما بحمص إنه لعظيم

فهي المقام وأنت إبراهيم

ووصف الشاعر عطاء المالقي غادة جعلت على رأسها تاجا فقال : [السريع]

وذات تاج رصّعوا دوره

فزاد في لألائها باللآل

كأنها شمس وقد توّجت

بأنجم الجوزاء فوق الهلال

__________________

(١) سحبان وائل : مضرب المقل في الفصاحة ، وباقل ؛ مضرب المثل في العي والفهاهة.

(٢) انظر المغرب ج ١ ص ٤٣٦.

(٣) انظر التكملة ص ٢٦٤.

١٩٨

قد اشتكى الخلخال منها إلى

سوارها فاشتبها في المقال (١)

وأجريا ذكر الوشاح الذي

لمّا يزل من خصرها في مجال

فقال : لم أرض بما نلته

وليتني مثلكما لا أزال

أغصّ بالخصر وأعيا به

كغصّ ظمآن بماء زلال

وإنما الدهر بغير الرّضا

يقضي فكلّ غير راض بحال

وهو القائل : [مجزوء الخفيف]

سل بحمّامنا الذي

كلّ عن شكره فمي (٢)

كم أراني بقربه

جنّة في جهنّم

وكان يحضر حلقة الإمام السّهيلي وضيء الوجه من تلامذته ، فانقطع لعارض ، فخرج السهيلي مارّا في الطريق الذي جرت عادته بالمشي فيه ، فوجد قناة تصلح ، فمنعته من المرور ، فرجع وسلك طريقا آخر ، فمرّ على دار تلميذه الوضيء ، فقال له بعض أصحابه ممازحا بعبوره على منزله ، فقال : نعم ، وأنشد ارتجالا : [المتقارب]

جعلت طريقي على بابه

ومالي على بابه من طريق

وعاديت من أجله جيرتي

وآخيت من لم يكن لي صديق

فإن كان قتلي حلالا لكم

فسيروا بروحي سيرا رفيق

وأبو القاسم السّهيلي مشهور ، عرّف به ابن خلكان وغيره ، ويكنى أيضا بأبي زيد ، وهو صاحب كتاب «الروض الأنف» وغيره.

واجتاز على سهيل وقد خربه العدوّ لمّا أغار عليه وقتلوا أهله وأقاربه ، وكان غائبا عنهم ، فاستأجر من أركبه دابّة ، وأتى به إليه ، فوقف بإزائه ، وأنشد (٣) : [الكامل]

يا دار ، أين البيض والآرام؟

أم أين جيران عليّ كرام

راب المحبّ من المنازل أنه

حيّا فلم يرجع إليه سلام (٤)

__________________

(١) في ه : «الخلخال منها إلى سرارها».

(٢) لكلّ : عجز ، وأراد أنه فوق قدرة الواصفين على وصفه.

(٣) انظر المغرب ج ١ ص ٣٧٠.

(٤) رابه : أوقعه في الشك.

١٩٩

لمّا أجابني الصّدى عنهم ولم

يلج المسامع للحبيب كلام

طارحت ورق حمامها مترنّما

بمقال صبّ والدموع سجام

(يا دار ما فعلت بك الأيام

ضامتك والأيام ليس تضام)

وجرى بين السهيلي والرصافي الشاعر المشهور ما اقتضى قول الرصافي : [المتقارب]

عفا الله عنّي فإنّي امرؤ

أتيت السلامة من بابها

على أنّ عندي لمن هاجني

كنائن غصّت بنشّابها (١)

ولو كنت أرمي بها مسلما

لكان السهيليّ أولى بها

وتوفي السهيلي بمراكش سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة ، وزرت قبره بها مرارا سنة عشر وألف ، وسكن رحمه الله تعالى إشبيلية مدّة ، ولازم القاضي أبا بكر بن العربي وابن الطراوة ، وعنه أخذ لسان العرب ، وكان ضريرا.

ومن شعره أيضا لما قال : «كيف أمسيت» مكان «كيف أصبحت» (٢) : [الطويل]

لئن قلت صبحا كيف أمسيت مخطئا

فما أنا في ذاك الخطا بملوم (٣)

طلعت وأفقي مظلم لفراقكم

فخلتك بدرا والمساء همومي

وحكي أنّ الوزير الكاتب أبا الفضل بن حسداي الإسلامي السرقسطي ، وهو من رجال الذخيرة ، عشق جارية ذهبت بلبّه ، وغلبت على قلبه ، فجنّ بها جنونه ، وخلع عليها دينه ، وعلم بذلك صاحبها (٤) فزفّها إليه ، وجعل زمامها في يديه ، فتحامى (٥) عن موضعه من وصلها أنفة من أن يظنّ الناس أنّ إسلامه كان من أجلها ، فحسن ذكره ، وخفي على كثير من الناس أمره ، ومن شعره قوله : [الطويل]

وأطربنا غيم يمازج شمسه

فيستر طورا بالسحاب ويكشف

ترى قزحا في الجوّ يفتح قوسه

مكبّا على قطن من الثّلج يندف

وكان في مجلس المقتدر بن هود ينظر في مجلّد ، فدخل الوزير الكاتب أبو الفضل بن الدباغ

__________________

(١) الكنائن : جمع كنانة ، وهي جعبة السهام.

(٢) في ب ، ه : «كيف أمسيت» موضع «كيف أصبحت».

(٣) الخطا : الخطأ ـ مهموز ، وخفف الهمزة وهو جائز.

(٤) في ب ، ه : «وعلم بذلك صاحبه».

(٥) في ب ، ه : «فتجافى عن موضعه».

٢٠٠