نفح الطّيب - ج ٤

الشيخ أحمد بن محمد المقري التلمساني

نفح الطّيب - ج ٤

المؤلف:

الشيخ أحمد بن محمد المقري التلمساني


المحقق: يوسف الشيخ محمّد البقاعي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٣٠

وقال : [المجتث]

بدا الهلال فلمّا

بدا نقصت وتمّا

كأنّ جسمي فعل

وسحر عينيه «لمّا»

وكان لا يملك نفسه في النظر إلى الصّور الحسان ، وأتاه يوما أحد أصحابه بولد له فتّان الصورة ، فعندما دخل مجلسه قصر عليه طرفه ، ولم يلتفت إلى والده ، وجعل والده يوصيه عليه وهو لا يعلم ما يقوله [ولم يلتفت إلى والده](١) وقد افتضح في طاعة هواه ، فقال له الرجل : يا أبا بكر ، حقّق النظر فيه لعلّه مملوك ضاع لك ، وقد جبره الله تعالى عليك ، ولكن على من يتركه عندك لعنة الله ، هذا ما عملت بمحضري ، والله إن غاب معك عن بصري لمحة لتفعلنّ به ما اشتهر عنك ، وأخذ ولده وانصرف به ، فانقلب المجلس ضحكا.

وقال أبو جعفر أحمد بن الأبّار الإشبيلي ، وهو من رجال «الذخيرة» (٢) : [الخفيف]

زارني خيفة الرقيب مريبا

يتشكّى منه القضيب الكثيبا

رشأ راش لي سهام المنايا

من جفون يسبي بهنّ القلوبا (٣)

قال لي ما ترى الرقيب مطلّا

قلت دعه أتى الجناب الرحيبا

عاطه أكؤس المدام دراكا

وأدرها عليه كوبا فكوبا

واسقنيها من خمر عينيك صرفا

واجعل الكأس منك ثغرا شنيبا (٤)

ثم لمّا أن نام من نتّقيه

وتلقّى الكرى سميعا مجيبا (٥)

قال لا بدّ أن تدبّ عليه

قلت أبغي رشا وآخذ ذيبا

قال فابدأ بنا وثنّ عليه

قلت عمري لقد أتيت قريبا

فوثبنا على الغزال ركوبا

وسعينا على الرقيب دبيبا

فهل ابصرت أو سمعت بصبّ

ناك محبوبه وناك الرّقيبا

وأنشد له ابن حزم : [الكامل]

أو ما رأيت الدهر أقبل معتبا

متنصّلا بالعذر ممّا أذنبا

بالأمس أذبل في رياضك أيكة

واليوم أطلع في سمائك كوكبا

__________________

(١) ما بين حاصرتين ساقط من ب ، ه.

(٢) انظر الذخيرة ج ٢ ص ٥٢.

(٣) راش السهم : جعل عليه الريش وهيأه.

(٤) الشنيب والأشنب : الأبيض الأسنان ، المتفرّقها.

(٥) هذا البيت ساقط من ه.

٢٦١

وقيل : إنه خاطب بهما ابن عبّاد ملك إشبيلية وقد ماتت له بنت وولد له ابن ، وبعضهم ينسبهما لغيره.

ودخل الأديب أبو القاسم بن العطار الإشبيلي حمّاما بإشبيلية ، فجلس إلى جانبه وسيم خمريّ العينين ، فافتتن بالنظر إليه والمحادثة إلى أن قام وقعد في مكانه أسود ، فقال : [الطويل]

مضت جنّة المأوى وجاءت جهنّم

فها أنا أشقى بعد ما كنت أنعم

وما كان إلّا الشمس حان غروبها

فأعقبها جنح من الليل مظلم

وقال الأديب المصنّف أبو عمرو عثمان بن علي بن عثمان بن الإمام الإشبيلي ، صاحب «سمط الجمان» : [الطويل]

عذيري من الأيام لا درّ درّها

لقد حمّلتني فوق ما كنت أرهب

وقد كنت جلدا ما ينهنهني النوى

ولا يستبيني الحادث المتغلّب

يقاسي صروف الدهر مني مع الصّبا

جذيل حكاك أو عذيق مرجّب (١)

وكنت إذا ما الخطب مدّ جناحه

عليّ تراني تحته أتقلّب

فقد صرت خفّاق الجناح يروعني

غراب إذا أبصرته وهو ينعب

وأحسب من ألقى حبيبا مودعا

وأنّ بلاد الله طرّا محصّب

وقد امتعض للآداب في صدر دولة بني عبد المؤمن ، فجمع شمل الفضلاء الذين اشتملت عليهم المائة السابعة إلى مبلغ سنّه منها في ذلك الأوان ، واستولى بذلك على خصل الرهان ، وانفرد بهذه الفضيلة التي لم ينفرد بها إلّا فلان وفلان.

وكان الأديب العالم الصالح أبو الحسن علي بن جابر الدباج الإشبيلي إماما في فنون العربية ، ولكن شهر بإقراء كتب الآداب كالكامل للمبرد ونوادر القالي وما أشبه ذلك ، وكان ـ مع زهده ـ فيه لوذعيّة ، ومن ظرفه أن أحد تلامذته قال لغلام جميل الصورة : بالله أعطني قبلة تمسك رمقي ، فشكاه إلى الشيخ وقال له : يا سيدي ، قال لي هذا كذا ، فقال له الشيخ : وأعطيته ما طلب؟ فقال : لا ، فقال له : ما هذه الثقالة؟ ما كفاك أن حرمته حتى تشتكي به أيضا؟ وحسبك من جلالة قدره أنّ أهل إشبيلية رضوا به إماما في جامع العديس (٢).

__________________

(١) جذيل حكاك : عبارة تقال لمن يستشفى برأيه. والعذيق : مصغر عذيق ، وهو اللبق الحاذق. والمرجّب : المعظّم. وورد فيما يعرف بحديث القيفة «أنا جذيلها المحكّك وعذيقها المرجّب». والبيت مأخوذ منه.

(٢) في ب : «العدبس».

٢٦٢

وله : [البسيط]

لمّا تبدّت وشمس الأفق بادية

أبصرت شمسين من قرب ومن بعد

من عادة الشمس تعشي عين ناظرها

وهذه نورها يشفي من الرّمد (١)

وقال مالك بن وهيب : [الطويل]

أراميتي بالسحر من لحظاتها

نعيذك كيف الرمي من دون أسهم

ألا فاعلمي أن قد أصبت ، فواصلي

سهامك أو كفّي فلست بمسلم (٢)

فإنسان عين الدهر أصميت فاحذري

مطالبة بالقلب واليد والفم

أما هو في غيل غدا غابه القنا

تحفّ به آساد كلّ ملثّم

ولو أنّ لي ركنا شديدا بنجدة

أويت له من بأس لحظك فارحمي (٣)

وهو إشبيلي ، كان من أهل الفلسفة كما في «المسهب» ؛ قال : وهو فيلسوف المغرب ، ظاهر الزهد والورع ، استدعاه من إشبيلية أمير المسلمين علي بن يوسف بن تاشفين إلى حضرة مرّاكش ، وصيّره جليسه وأنيسه ، وفيه يقول بعض أعدائه : [الخفيف]

دولة لابن تاشفين عليّ

طهّرت بالكمال من كلّ عيب

غير أنّ الشيطان دسّ إليها

من خباياه مالك بن وهيب (٤)

وأمره علي بمناظرة محمد بن تومرت الملقب بالمهدي الذي أنشأ دولة بني عبد المؤمن.

وقال أبو الصلت أمية بن عبد العزيز المذكور في غير هذا الموضع من هذا الكتاب يستدعي بعض إخوانه : [مجزوء الرمل]

بمعاليك وجدّك

جد بلقياك لعبدك

حضر الكلّ ولكن

لم يطب شيء لفقدك

__________________

(١) تعشي عينه : تجعلها عشواء. والأعشى : من ساء بصره بالليل والنهار.

(٢) فواصلي سهامك : تابعيها متواصلة.

(٣) في ب : «ولو أن لي ركنا شديدا بنجوة».

(٤) في ه : «من جناياه مالك بن وهيب».

٢٦٣

وقال : [المنسرح]

وراغب في العلوم مجتهد

لكنّه في القبول جلمود (١)

فهو كذي عنّة به شبق

ومشتهي الأكل وهو ممعود (٢)

وقال : [الوافر]

لئن عرضت نوى وعدت عواد

أدالت من دنوّك بالبعاد

فما بعدت عن اللّقيا جسوم

تدانت بالمحبّة والوداد

ولكن قرب دارك كان أندى

على كبدي وأحلى في فؤادي

وله في مجمرة : [الطويل]

ومحرورة الأحشاء لم تدر ما الهوى

ولم تدر ما يلقى المحبّ من الوجد

إذا ما بدا برق المدام رأيتها

تثير غماما في النّديّ من النّدّ

ولم أر نارا كلّما شبّ جمرها

رأيت الندامى منه في جنّة الخلد

وقوله من قصيدة : [البسيط]

وإن هم نكصوا يوما فلا عجب

قد يكهم السيف وهو الصارم الذكر (٣)

العود أحمد والأيام ضامنة

عقبى النجاح ووعد الله منتظر

وقال : [السريع]

تقريب ذي الأمر لأهل النّهى

أفضل ما ساس به أمره

هذا به أولى وما ضرّه

تقريب أهل اللهو في النّدره

عطارد في جلّ أوقاته

أدنى إلى الشمس من الزّهره

وقوله : [الطويل]

تفكّر في نقصان مالك دائما

وتغفل عن نقصان جسمك والعمر

__________________

(١) الجلمود : الصخرة.

(٢) ذو العنة : الذي يعجز عن إتيان النساء.

(٣) كهم السيف : كلّ ولم يقطع.

٢٦٤

ويثنيك خوف الفقر عن كلّ بغية

وخيفة حال الفقر شرّ من الفقر (١)

وقوله : [المنسرح]

يا ليلة لم تبن من القصر

كأنها قبلة على حذر

لم تك إلّا «كلا» ولا ومضت

تدفع في صدرها يد السّحر

وقال فيمن نظر إليه فأعرض عنه : [البسيط]

قالوا ثنى عنك بعد البشر صفحته

فهل أصاخ إلى الواشي فغيّره (٢)

فقلت لا بل درى وجدي بعارضه

فردّ صفحته عمدا لأبصره

وقال : [مجزوء الكامل]

حكت الزمان تلوّنا

لمحبّها العاني الأسير (٣)

فوصالها برد الأص

يل وهجرها حرّ الهجير (٤)

وقال يستدعي : [الخفيف]

هو يوم كما تراه مطير

كلب القرّ فيه والزّمهرير (٥)

وأرانا الغمام والبرد ثوبي

ن علينا كلاهما مجرور

ولدينا شمسان شمس من الرا

ح وشمس تسعى بها وتدور

فمن الرأي أن تشبّ الكواني

ن بأجذالها وترخى الستور

فاترك الاعتذار فيه فترك ال

شّرب في مثل يومنا تغرير (٦)

وقال : [الطويل]

هو البحر غص فيه إذا كان ساكنا

على الدّرّ واحذره إذا كان مزبدا

__________________

(١) في ب ، ه : «وخوفك حال الفقر شرّ من الفقر».

(٢) أصاخ إليه : استمع إليه.

(٣) العاني : المتعب المعنّى.

(٤) الهجير : شدة الحر.

(٥) الزمهرير : البرد الشديد.

(٦) في ب ، ه : «فترك الشرب في مثل يومنا تعذير».

٢٦٥

وقال : [الخفيف]

غبت عنّا فغاب كلّ جمال

ونأى إذ نأيت كلّ سرور

ثم لمّا قدمت عاودنا الأن

س وقرّت قلوبنا في الصدور

فلو أنّا نجزي البشير بنعمى

لوهبنا حياتنا للبشير

وقال : [السريع]

كم ضيّعت منك المنى حاصلا

كان من الأحزم أن يحفظا

فالفظ بها عنك فمن حقّ ما

يخفي صواب الرأي أن يلفظا

فإن تعلّلت بأطماعها

فإنما تحلم مستيقظا

وقال : [الطويل]

يقولون لي صبرا وإني لصابر

على نائبات الدهر وهي فواجع (١)

سأصبر حتى يقضي الله ما قضى

وإن أنا لم أصبر فما أنا صانع

وقال : [مجزوء الرمل]

بأبي خود شموع

أقبلت تحمل شمعه (٢)

فالتقى نوراهما واخ

تلفا قدرا ورفعه

ومسير الشمس تسته

دي بضوء النجم بدعه

وقال في فرس أشهب : [مخلع البسيط]

وأشهب كالشّهاب أضحى

يلوح في مذهب الجلال

قال حسودي وقد رآه

يخبّ تحتي إلى القتال (٣)

من ألجم الصبح بالثريّا

وأسرج البرق بالهلال

وقال : [الطويل]

رمتني صروف الدهر بين معاشر

أصحّهم ودّا عدوّ مقاتل

وما غربة الإنسان في غير داره

ولكنها في قرب من لا يشاكل (٤)

__________________

(١) صبرا : مفعول مطلق منصوب لفعل محذوف. والتقدير : اصبر صبرا.

(٢) الشّموع : اللعوب. والخود : المرأة الشابة الناعمة.

(٣) خبّ الفرس : نقل أيامنه وأياسره جميعا في العدو.

(٤) يشاكل : يماثل.

٢٦٦

وقال : [السريع]

أصبحت صبّا دنفا مغرما

أشكو جوى الحبّ وأبكي دما

هذا وقد سلّم إذ مرّ بي

فكيف لو مرّ وما سلّما

وقال : [الوافر]

وقفنا للنّوى فهفت قلوب

أضرّ بها الجوى وهمت شؤون

يناجي بعضنا باللّحظ بعضا

فتعرب عن ضمائرنا العيون (١)

فلا والله ما حفظت عهود

كما ضمنوا ولا قضيت ديون

ولو حكم الهوى يوما بعدل

لأنصف من يفي ممّن يخون

أمرّ بداركم وأغضّ طرفي

مخافة أن تظنّ بي الظنون

ولمّا رأى عبد الرحمن بن سبلاق (٢) الحضرمي الإشبيلي في النوم أنه مرّ على قبر وقوم يشربون حوله وسط أزاهر فأمروه أن يرثي صاحب القبر ، وهو أبو نواس الحسن بن هانىء ، قال : [السريع]

جادك يا قبر انسكاب الغمام

وعاد بالروح عليك السلام

ففيك أضحى الظّرف مستودعا

واستترت عنّا عيون الظلام (٣)

وقال أبو بكر محمد بن نصر الإشبيلي : [الكامل]

وكأنما تلك الرياض عرائس

ملبوسهنّ معصفر ومزعفر

أو كالقيان لبسن موشيّ الحلى

فلهنّ في وشي اللباس تبختر

وقال أحمد بن محمد الإشبيلي : [البسيط]

أما ترى النرجس الغضّ الذكيّ بدا

كأنه عاشق شابت ذوائبه

أو المحبّ شكا لمّا أضرّ به

فرط السّقام فعادته حبائبه

وقال : [الخفيف]

ربّ نيلوفر غدا مخجل الرا

ئي إليه نفاسة وغرابه (٤)

__________________

(١) تعرب : تفصح.

(٢) في ب : «بن شبلاق».

(٣) في ه : «واستترت عنك عيون الظلام».

(٤) النيلوفر : نبات يطفو على وجه الماء.

٢٦٧

كمليك للزنج في قبّة بي

ضاء يدنو الدّجا فيغلق بابه

وقال أبو الأصبغ بن سيد (١) : [السريع]

كأنما النرجس في منظر ال

حسن الذي أمثاله تبتغى

أنامل من فضّة فوقه

كأس من التبر به أفرغا

وقال أبو إسحاق إبراهيم بن خيرة الصباغ ممّا أنشده له أبو عامر بن سلمة (٢) في كتاب «حديقة الارتياح» : [مجزوء الكامل]

يوم كأنّ سحابه

لبست عماميّ المصامت (٣)

حجبت به شمس الضّحى

بمثال أجنحة الفواخت

فالغيث يبكي فقدها

والبرق يضحك مثل شامت

والرعد يخطب مفصحا

والجوّ كالمحزون ساكت

والروض يسقيه الحيا

والنّور ينظر مثل باهت (٤)

فاشرب ولذّ بجنّة

واطرب فإنّ العمر فائت

وله : [الرمل]

ربّ ليل طال لا صبح له

ذي نجوم أقسمت أن لا تغور

قد هتكنا جنحه من فلق

من خمور ووجوه كالبدور

إن بدت تشبهها في كأسها

نار إبراهيم في برد ونور (٥)

صرعتنا أن علونا ظهرها

في ميادين التصابي والسرور (٦)

وكأنّا ، حين قمنا ، معشر

نشروا بعد ممات من قبور

وقال أبو بكر بن حجاج : [السريع]

لمّا كتمت الحبّ لا عن قلى

ولم أجد إلّا البكا والعويل

__________________

(١) في ب : «أبو الحسن الأصبغ بن سيد». وأشار في الحاشية أن «الحسن» زيادة الجذوة ص ١٦٤.

(٢) في ب ، ه : «أبو عامر بن مسلمة».

(٣) المصامت : جمع المصمت هو الجامد لا جوف له كالحجر.

(٤) الحيا : المطر.

(٥) في ب ، ه : «إذ بدت تشبهها في كأسها».

وإبراهيم هو إبراهيم الخليل عليه السلام.

(٦) في ب : «صرعتنا إذ علونا ظهرها».

٢٦٨

ناديت والقلب به مغرم

يا حسبي الله ونعم الوكيل

وقال : [الطويل]

يقولون إنّ السّحر في أرض بابل

وما السّحر إلّا ما أرتك محاجره

وما الغصن إلّا ما انثنى تحت برده

وما الدّعص إلّا ما طوته مآزره (١)

وما الدّرّ إلّا ثغره وكلامه

وما الليل إلّا صدغه وغدائره

وهذه الأبيات من قصيدة في محمد بن القاسم بن حمّود ، ملك الجزيرة الخضراء ، أعادها الله تعالى!

وقال الرصافي أبو عبد الله الشاعر المشهور ، وهو ابن روميّ الأندلس ، في حريري : [الخفيف]

وبنفسي من لا أسمّيه إلّا

بعض إلمامة وبعض إشاره

هو والظبي في المجال سواء

ما استعار الغزال منه استعاره (٢)

أغيد يمسك الحرير بفيه

مثل ما يمسك الغزال العراره (٣)

وهو القائل يمدح أمير المؤمنين عبد المؤمن بن علي : [البسيط]

لو جئت نار الهدى من جانب الطّور

قبست ما شئت من علم ومن نور

ولأبي جعفر أحمد بن الجزار (٤) : [الطويل]

وما زلت أجني منك والدهر ممحل

ولا ثمر يجنى ولا زرع يحصد

ثمار أياد دانيات قطوفها

لأوراقها ظلّ عليّ ممدّد

يرى جاريا ماء المكارم تحتها

وأطيار شكري فوقهنّ تغرّد

ولمّا نفي أبو جعفر ابن البني (٥) من ميورقة ، وأقلع في البحر ثلاثة أميال ، ونشأت ريح ردّته ، لم يتجاسر أحد من إخوانه على إتيانه ، فكتب إليهم : [الوافر]

__________________

(١) الدعص : تل الرمل الصغير المستدير.

(٢) في ب ، ه : «ما استفاد الغزال منه استعارة».

(٣) العرارة : واحدة العرار ، وهو نبات طيب الرائحة.

(٤) انظر المغرب ج ٢ : ٣٥٦.

(٥) انظر ترجمته في القلائد ص ٢٩٨. وفي المغرب ج ٢ ص ٣٥٧.

٢٦٩

أحبّتنا الألى عنتوا علينا

وأقصونا وقد أزف الوداع (١)

لقد كنتم لنا جذلا وأنسا

فما بالعيش بعدكم انتفاع (٢)

أقول وقد صدرنا بعد يوم

أشوق بالسفينة أم نزاع

إذا طارت بنا حامت عليكم

كأنّ قلوبنا فيها شراع

وله : [الطويل]

غصبت الثّريّا في البعاد مكانها

وأودعت في عينيّ صادق نوئها

وفي كلّ حال لم تزالي بخيلة

فكيف أعرت الشمس حلّة ضوئها

وله في غلام يرمي الطيور : [البسيط]

قالوا تصيب طيور الجوّ أسهمه

إذا رماها فقلنا عندها الخبر (٣)

تعلّمت قوسها من قوس حاجبه

وأيّد السهم من أجفانه الحور (٤)

يلوح في بردة كالنّقس حالكة

كما أضاء بجنح الليلة القمر (٥)

وربما راق في خضراء مونقة

كما تفتّح في أوراقه الزّهر

وقال الأديب الكاتب القاضي أبو المطرف ابن عميرة المخزومي ، لمّا قصّ شعر ملك شرق الأندلس زيان بن مردنيش مزين ، في يوم رفع فيه أبو المطرف شعرا ، فخرجت صلة المزين ، ولم تخرج صلة أبي المطرف (٦) : [الوافر]

أرى من جاء بالموسى مواسى

وراحة من أذاع المدح صفرا

فأنجح سعي ذا إذ قصّ شعرا

وأخفق سعي ذا إذ قصّ شعرا

واسم أبي المطرف أحمد ، وهو من جزيرة شقر ، من كورة بلنسية.

وكان الكاتب الحسيب أبو جعفر أحمد بن طلحة يعشق علجا من علوج ابن هود ويماشيه في غزواته ، وفيه يقول : [مخلع البسيط]

__________________

(١) في ب ، ه : «أحبتنا الألى عتبوا علينا».

والألى : الذين. وعنت عليه : أوقعه في ضيق وكلفه ما يصعب عليه.

(٢) الجذل : الفرح.

(٣) في ب ، ه : «فقلنا عندنا الخبر».

(٤) في ب ، ه : «تعلمت قوسه من قوس حاجبه».

(٥) النّقس : الحبر.

(٦) انظر القدح ص ٤٣.

٢٧٠

ما أحضر الغزو من صلاح

كلّا ولا رغبة الجهاد

لكن لكيما يكون داع

لقربنا خيرة الجياد

وقد تقدمت حكايته فلتراجع.

وكان صنوبري الأندلس أبو إسحاق بن خفاجة ، وهو من رجال الذخيرة والقلائد والمسهب والمطرب والمغرب ، وشهرته تغني عن الإطناب فيه ، مغرى بوصف الأنهار والأزهار وما يتعلّق بها (١) ، وأهل الأندلس يسمّونه الجنّان ، ومن أكثر من شيء عرف به ، وتوفي سنة ثلاث أو خمس وثلاثين وخمسمائة ، وولد سنة خمسين وأربعمائة ، ومن نظمه قوله (٢) : [الخفيف]

ربما استضحك الحباب حبيب

نفضت لونها عليه المدام

كلّما مرّ قاصرا من خطاه

يتهادى كما تهادى الغمام (٣)

سلّم الغصن والكثيب علينا

فعلى الغصن والكثيب السلام

وبات مع بعض الرؤساء فكاد ينطفئ السراج ثم تراجع نوره ، فقال : [الكامل]

وأغرّ ضاحك وجهه مصباحه

فأنار ذا قمرا وذلك فرقدا

ما إن خبا تلقاء نور جبينه

حتى ذكا بذكائه فتوقّدا

وله : [الطويل]

كتبت وقلبي في يديك أسير

يقيم كما شاء الهوى ويسير

وفي كلّ حين من هواك وأدمعي

بكلّ مكان روضة وغدير

وله : [البسيط]

كتابنا ولدينا البدر ندمان

وعندنا أكؤس للراح شهبان

والقضب مائسة والطير ساجعة

والأرض كاسية والجوّ عريان

ولمّا سئل أبو بكر محمد بن أحمد الأنصاري المعروف بالأبيض عن لغة فعجز عنها بمحضر من خجل منه أقسم أن يقيّد رجليه بقيد حديد ، ولا ينزعه حتى يحفظ «الغريب

__________________

(١) في ج : «وما يتعلق بهما».

(٢) ديوان ابن خفاجة ص ٢٢٣.

(٣) في ب ، ه ، وديوان ابن خفاجة ط صادر ببيروت «يتهادى كما يمرّ الغمام».

٢٧١

المصنّف» ، فاتّفق أن دخلت عليه أمّه في تلك الحال ، فارتاعت ، فقال : [الكامل]

ريعت عجوزي أن رأتني لابسا

حلق الحديد ومثل ذاك يروع (١)

قالت جننت؟ فقلت : بل هي همّة

هي عنصر العلياء والينبوع

سنّ الفرزدق سنّة فتبعتها

إني لما سنّ الكرام تبوع

وكان شاعرا وشّاحا وطاح دمه على يد الزبير أمير قرطبة لمّا هجاه بمثل قوله : [الكامل]

عكف الزبير على الضلالة جاهدا

ووزيره المشهور كلب النار

ما زال يأخذ سجدة في سجدة

بين الكؤوس ونغمة الأوتار

فإذا اعتراه السّهو سبّح خلفه

صوت القيان ورنّة المزمار

ولمّا بلغ الزبير عنه ذلك وغيره أمر بإحضاره ، فقرعه ، وقال : ما دعاك إلى هذا؟ فقال : إني لم أر أحقّ بالهجو منك ، ولو علمت ما أنت عليه من المخازي لهجوت نفسك إنصافا ، ولم تكلها إلى أحد ، فلما سمع الزبير ذلك قامت قيامته ، وأمر بقتله.

وأنشد له ابن غالب في «فرحة الأنفس» قوله في حلقة حائط : [البسيط]

وحلقة كشعاع الشمس صافية

لو قابلت كوكبا في الجوّ لالتهبا

تأنّق القين في إحكام صنعتها

حتى أفاض على أطرافها الذهبا (٢)

كأنها بيضة قد قدّ قونسها

وكلّ جنب لها بالطعن قد ثقبا (٣)

وقال فيمن يحدّث نفسه بالخلافة : [الوافر]

أمير المؤمنين ، نداء شيخ

أفادك من أماليه اللطيفه

تحفّظ أن يكون الجذع يوما

سريرا من أسرّتك المنيفه

وأذكر منك مصلوبا فأبكي

وتضحكني أمانيك السخيفه

وهاجى ابن سارة ، فقال فيه ابن سارة (٤) : [الكامل]

ومن العجائب أن يكون الأبيض

بحماره بين السوابق يركض

__________________

(١) ريعت : خافت وفزعت.

(٢) القين : الحدّاد.

(٣) البيضة : الخوذة. والقونس : أعلى الخوذة.

(٤) انظر زاد المسافر ص ٦٧.

٢٧٢

وقال إمام النحاة بالأندلس أبو علي عمر الشلوبين فيمن اسمه قاسم (١) : [الطويل]

وممّا شجا قلبي وفيّض مدمعي

هوى قدّ قلبي إذ كلفت بقاسم (٢)

وكنت أظنّ الميم أصلا فلم تكن

وكانت كميم ألحقت بالزراقم

والزراقم : الحيّات ، مشتقّة من الزرقة ، والميم زائدة ، يريد أن ميم قاسم كميمها ، فهو قاس ، وهو منسوب إلى حصن سلوبينية (٣) على ساحل غرناطة ، وله من الشهرة والتآليف ما يغني عن الإطناب في وصفه ، وله «التوطئة» و «شرح الجزولية» وغيرهما ، وكان مغفلا ، ومع ذلك فهو آية الله تعالى في العربية ، وكان في لسانه لكنة ، ولمّا أراد مأمون بني عبد المؤمن التوجّه إلى مرسية ، وقد ثار بها ابن هود ، وأنشده الشعراء ، وتكلّم في مجلسه الخطباء ، قام الشلوبين وقال دعاء منه : ثلّمك الله ونثرك ، يريد سلّمك الله ونصرك ؛ لأنه بلكنته يبدل (٤) السين والصاد ثاء ، فكان كما قال : عاد المأمون وقد ثلم عسكره ونثر.

ولمّا مرض الفقيه الزاهد أبو إسحاق إبراهيم الإلبيري دخل عليه الوزير أبو خالد هاشم بن رجاء ، فرأى ضيق مسكنه ، فقال : لو اتخذت غير هذا المسكن لكان أولى بك ، فقال وهو آخر شعر قاله : [مخلع البسيط]

قالوا ألا تستجيد بيتا

تعجب من حسنه البيوت

فقلت ما ذلكم صوابا

عشّ كثير لمن يموت (٥)

لو لا شتاء ولفح قيظ

وخوف لصّ وحفظ قوت

ونسوة يبتغين سترا

بنيت بنيان عنكبوت

وقال أبو بكر بن عبادة القزاز الموشّح في ابن بسّام صاحب «الذخيرة» : [الخفيف]

يا منيفا على السّماكين سام

حزت خصل السباق عن بسّام

إن تحك مدحة فأنت زهير

أو تشبّب فعروة بن حزام

أو تباكر صيد المها فابن حجر

أو تبكي الديار فابن جذام (٦)

__________________

(١) انظر القدح ص ١٥٣.

(٢) في ب ، ه : «وفضّ مدامعي».

(٣) في ب : «شلوبينة».

(٤) في ب ، ه : «يرد السين».

(٥) ما ذا لكم صوابا : أي ليس هذا صوابا.

(٦) في ب : «ابن حذام» وفي ه «ابن خذام». وقد أثبتنا ما في أ. وابن حجر : هو امرؤ القيس الشاعر.

٢٧٣

أو تذمّ الزمان وهو حقيق

فأبو الطيب البعيد المرامي

ولمّا انتثر سلك نظام ملك لمتونة تفرّق ملك الأندلس رؤساء البلاد ، وكان من جملتهم الأمير أبو الحسن بن نزار لما له من الأصالة في وادي آش ، فحسده أهل بلده ، وقصدوا تأخيره عن تلك المرتبة ، فخطبوا في بلدهم لملك شرق الأندلس محمد بن مردنيش ، ووجّه لهم عمّاله وأوصالهم أن يخرج هذا الأسد من غيله ، ويفرّق بينه وبين تأميله ، ورفعوا له أشعارا كان يستريح بها على كاسه ، ويبثّها بمحضر من يركن إليه من جلّاسه ، ومنها قوله ، وقد استشعر من نفسه أنها أهل للتقديم ، مستحقّة لطلب سلفه القديم : [البسيط]

الآن أعرف قدر النّفع والضّرر

فكيف أصدر ما للملك من صدر

وكيف أطلع في أفق العلا قمرا

ويستهلّ بكفّي واكف الدرر (١)

وكيف أملأ صدر الدهر من رعب

وأستقلّ بحمل الحادث النّكر

وأستعدّ لما ترمي الخطوب به

وأستطيل على الأيام بالفكر

لكنني ربما بادرت منتهزا

لفرصة مرقت كاللمح بالبصر (٢)

في أمّ رأسي ما يعيا الزمان به

شرحا فسل بعدها الأيام عن خبري

فعندما وقف ابن مردنيش على هذا القول وجّه إلى وادي آش من حمله إليه ، وقيّده ، وقدم به إلى مرسية أسيرا ، بعدما كان مرتقبا أن يقدم أميرا ، فلمّا وقعت عين ابن مردنيش عليه قال له : أمكن الله منك يا فاجر ، فقال : أنت ـ أعزّك الله! ـ أولى بقول الخير من قول الشّرّ ، ومن أمكنه الله من القدرة على الفعل فما يليق به أن يستقدر بالقول ، فاستحيا منه ، وأمر به للسجن ، فمكث فيه مدّة ، وصدرت عنه أشعار في تشوّقه إلى بلاده ، منها قوله : [المتقارب]

لقد بلغ الشوق فوق الذي

حسبت فهل للتلاقي سبيل

فلو أنني متّ من شوقكم

غراما لما كان إلّا قليل

تعلّلني بالتداني المنى

وينشدني الدهر : صبر جميل

فقل لبثينة إن أصبحت

بعيدا فلم يسل عنها جميل

أغضّ جفوني عن غيرها

وسمعي عن اللوم فيها يميل

__________________

(١) الواكف : المطر المنهمل ، واستعار المعنى هنا للدرر.

(٢) في ه : «لفرصة فرقت كاللمح بالبصر».

٢٧٤

ولم يزل على حاله من السجن إلى أن تحيّل في جارية محسنة للغناء (١) حسنة الصوت وصنع (٢) موشحته التي أولها :

نازعك البدر اللياح

بنت الدنان (٣)

فلم يدع لك اقتراح

على الزمان

وفيها يقول :

يا هل أقول للحسود

والعيس تحدى (٤)

يا لائمي على السراح

كانت أماني

أخرجها ذاك السماح

إلى العيان

وجعل يلقيها (٥) على الجارية حتى حفظتها ، وأحكمت الغناء بها ، وأهداها إلى ابن مردنيش بعد ما أوصاها أنها متى (٦) استدعاها إلى الغناء وظفرت به في أطرب ساعة وأسرّها غنّته بهذه الموشحة ، وتلطّفت في شأن رغبتها في سراح قائلها ، فلعلّ الله تعالى يجعل في ذلك سببا ، واتّفق أن ظفرت بما أوصاها به ، وأحسنت غناء الموشحة ، فطرب ابن مردنيش لسماع مدحه ، وأعجبه مقاصد قائلها ، فسألها : لمن هي؟ فقالت : لمولاي عبدك ابن نزار ، فقال : أعيدي عليّ قوله «يا لائمي على السراح» فأعادته ، فداخلته عليه الرأفة والأريحية (٧) بما أصابه ، فأمر في الحين بحلّ قيده ، واستدعى به إلى موضعه في ذلك الوقت ، فلمّا دخل خلع عليه وأدناه وقال له : يا أبا الحسن ، قد أمرنا لك بالسّراح على رغم الحسود ، فارجع إلى بلدك مباحا لك أن تطلب الملك بها وبغيرها إن قدرت ، فأنت أهل لأن تملك جميع الأندلس ، لا وادي آش ، فقال له : والله يا سيدي بل ألتزم طاعتك والإقرار بأنك بعثتني من قبر رماني فيه الحسّاد والوشاة ، ثم شربا حتى تمكّنت (٨) بينهما المطايبة ، فقال له : يا ابن نزار ، الآن أريد أن أسألك عن شيء ، قال : وما هو يا سيدي؟ قال : عمّا في أمّ رأسك حين قلت : [البسيط]

في أمّ رأسي ما يعيا الزمان به

شرحا فسل بعدها الأيام عن خبري

فقال له : يا سيدي ، لا تسمع إلى غرور نفس ألقته (٩) على لسان نشوان لعبت بأفكاره

__________________

(١) في ه : «محسنة في الغناء».

(٢) في ب : «وضع موشحته».

(٣) اللياح : الأبيض الناصع. والبدر اللياح : المنير.

وبنت الدنان : الخمر.

(٤) «يا» في صدر البيت للتنبيه.

(٥) في ه : «وجعل من يلقيها على الجارية».

(٦) في ج «أوصاها أنه متى».

(٧) في ه : «الرقة والأريحية».

(٨) في ه : «إلى أن تمكنت».

(٩) في ه : «ألفته».

٢٧٥

الأماني وغطّت على عقله الآمال ، والله لقد بقيت في داري أروم الاجتماع بجارية مهينة قدر سنة فما قدرت على ذلك ، ومنعتني منها زوجتي ، فكيف أطلب ما دونه قطع الرءوس ونهب النفوس؟ فضحك ابن مردنيش ، وجدّد له الإحسان ، وجهّزه إلى بلده ، وأمر عمّاله أن يشاركوه في التدبير ، ويستأذنوه في الصغير والكبير ، فتأثّل (١) به مجده ، وعظم سعده.

ومن شعره قوله : [السريع]

انظر إلى الروض سحيرا وقد

بثّ به الطّلّ علينا العيون

يرقب منّا يقظة للمنى

فقل لها أهلا بداعي المجون (٢)

وحثّها شمسا إلى أن ترى

شمس الضحى تطرق تلك الجفون

وقوله : [الطويل]

تنبّه لمعشوق وكأس وقينة

وروض ونهر ليس يبرح خفّاقا

فقد نبّهت هذي الحدائق ورقها

وفتّح فيها الصبح بالطّلّ أحداقا

ومهما تكن في ضيقة فأدر لها

كؤوس الطّلا فالسّكر يوسع ما ضاقا (٣)

وقوله : [الكامل]

عطف القضيب مع النسيم تميّلا

والنهر موشيّ الخمائل والحلى

تركته أعطاف الغصون مظلّلا

ولنا عن النهج القويم مضلّلا

أمسى يغازلنا بمقلة أشهل

والطرف أسحر ما تراه أشهلا (٤)

وقال بعضهم : استدعاني أبو الحسن بن نزار لمجلس أنس بوادي آش ، فلمّا احتفل مجلسنا ، وطابت لذّتنا قال : والله ما تمام هذه المسرّة إلّا حضور أبي جعفر بن سعيد وهو الآن بوادي آش ، فوافقناه على ذلك لما نعلم من طيب حالتنا معهما ، وأنهما لا يأتيان إلّا بما يأتي به اجتماع النسيم والروض ، فخلا في موضع وكتب له : [الكامل]

يا خير من يدعى لكاس دائر

ووجوه أقمار وروض ناضر

إنّا حضرنا في النديّ عصابة

معشوقة من ناظم أو ناثر

__________________

(١) تأثل المجد : تأصل وثبت.

(٢) في ب : «ترقب منا ..».

(٣) الطلا : ما يطبخ من عصير العنب ، أي الخمرة.

(٤) العين الشهلاء : التي يخالط سوادها زرقة.

٢٧٦

كلّ مخلّى للذي يختاره

في الأمن من ناه له أو زاجر (١)

ما إن لهم شغل بفنّ واحد

بل كلّ ما يجري بوفق الخاطر

شدو ورقص واقتطاف فكاهة

وتعانق وتغامز بنواظر

وهم كما تدري بأفقي أنجم

لكن لنا شوق لبدر زاهر

سيدي ، لا زلت متقدّما لكل مكرمة! هل يجمل التخلّف عن ناد قام فيه السرور على ساق ، وضحك فيه الأنس بملء فيه ، وانسدل به ستر الصون ، وفاء عليه ظلّ النعيم ، وسفرت فيه وجوه الطرب ، وركضت خيل اللهو ، وثار قتام الند (٢) ، وهطلت سحاب ماء الورد ، وجليت الكؤوس (٣) ، كالعرائس على كراسي العروس ، المثقلة بالعاج والآبنوس ، وكأنّ قطع النهار ممتزجة بقطع الظلام ، أو بني حام قد خالطت بني سام وعلى رؤوس الأقداح ، تيجان نظمها امتزاج الماء بالراح (٤) ، فطورا تستحيي (٥) فيبدو خجلها ، وطورا تمتزج فيظهر وجلها ، والعود ترجمان المسرّة قد جعلته أمّه في حجرها ، كولد ترضعه بدرّها ، وساقي الشّرب كالغصن الرطيب ، أوراقه أردية الشرب ، وأزهاره الكؤوس ، التي لا تزال تطلع وتغرب كالشموس ، ساق يفهم بالإشارة ، حلو الشمائل عذب العبارة ، ذو طرف سقيم ، وخدّ كأنه من خفره لطيم ، ولدينا من أصناف الفواكه والأزاهر ، ما يحار فيه الناظر ، وهل تكمل لذة دون إحضار خدود الورد ، وعيون النرجس ، وأصداغ الآس ، ونهود السفرجل ، وقدود قصب السكر ، ومباسم قلوب الجوز ، وسرر التفاح ، ورضاب ابنة العنب؟ فقد اكتمل بهذه الأوصاف المختلسة من أوصاف الحبائب الطرب : [الطويل]

فطر بجناح الشوق عند وصولها

إليك ولا تجعل سواك جوابها

فلا عين إلّا وهي ترنو بطرفها

إليك فيسّر في المطال حسابها

فقد أصبحت تعلو عليها غشاوة

لبعدك فاكشف عن سناها ضبابها

قال أبو جعفر : فجعلت وصولي جواب ما نظم ونثر ، وألفيت الحالة يقصر عن خبرها

__________________

(١) مخلّى : متروك.

(٢) القتام : الغبار ، وهنا الدخان. والند : عود يتبخر به.

(٣) في ب ، ه : «وطيبت الكؤوس».

(٤) الراح : الخمر.

(٥) في ه : «يستحسن». وما أثبتناه من أ، ب ، ج وهو أفضل.

٢٧٧

الخبر ، فانغمسنا في النعيم ، انغماس عرف الزهر في النسيم (١) ، ومرّ لنا يوم غضّ الدهر عنه جفنه ، حتى حسبناه عنوانا لما وعد الله تعالى به في الجنّة.

وشرب يوما مع أبي جعفر بن سعيد والكتندي الشاعر في جنة بزاوية غرناطة ، وفيها صهريج ماء قد أحدق به شجر نارنج وليمون وغير ذلك من الأشجار ، وعليه أنبوب ماء تتحرّك به صورة جارية راقصة بسيوف وطيفور رخام يصنع في أنبوبة الماء صورة خباء ، فقالوا : نقتسم (٢) هذه الأوصاف الثلاثة ، فقال أبو جعفر يصف الراقصة : [الطويل]

وراقصة ليست تحرّك دون أن

يحرّكها سيف من الماء مصلت

يدور بها كرها فتنضى صوارما

عليه فلا تعيا ولا هو يبهت (٣)

إذا هي دارت سرعة خلت أنها

إلى كلّ وجه في الرياض تلفّت (٤)

وقال ابن نزار في خباء الماء : [الطويل]

رأيت خباء الماء ترسل ماءها

فنازعها هبّ الرياح رداءها

تطاوعه طورا وتعصيه تارة

كراقصة حلّت وضمّت قباءها

وقد قابلت خير الأنام فلم تزل

لديه من العلياء تبدي حياءها

إذا أرسلت جودا أمام يمينه

أبي العدل إلّا أن يردّ إباءها

وقد قيل : إنّ هذه الأبيات صنعها بمحضر الأمير أبي عبد الله بن مردنيش ملك شرق الأندلس ، وإنه لمّا ألجأته الضرورة أن يرتجل في مثل ذلك شيئا ، وكانت هذه عنده معدّة ، فزعم أنه ارتجلها ، قال أبو عمر بن سعيد (٥) : وهذا هو الصحيح ، فإنه ما كانت عادته أن يخاطب عمي أبا جعفر بخير الأنام ؛ فإنّ كلّ واحد منهما كفؤ الآخر.

وقال الكتندي : [الوافر]

وصهريج تخال به لجينا

يذاب وقد يذهّبه الأصيل (٦)

كأنّ الروض يعشقه فمنه

على أرجائه ظلّ ظليل

__________________

(١) العرف ـ بفتح العين وسكون الراء ـ الرائحة الطيبة.

(٢) في ه : «نتقسّم».

(٣) لا تعيا : لا تتعب.

(٤) خلت : حسبت. وتلفّت : تتلفّت ، حذف إحدى التاءين.

(٥) في ب : «أبو عمرو بن سعيد».

(٦) اللجين : الفضة.

٢٧٨

وتمنحه أكفّ الشمس عشقا

دنانيرا فمنه لها قبول

إذا رفع النسيم القضب عنها

فحينئذ يكون لها سبيل

وللنارنج تحت الماء لمّا

تبدّى عكسها جمر بليل (١)

وللّيمون فيه دون سبك

جلاجل زخرف بصبا تجول

فيا روضا به صقلت جفوني

وأرهف متنه الزهر الكليل

تناثر فيك أسلاك الغوادي

وقبّل صفح جدولك القبول (٢)

ولا برحت تجمّع فيك شملا

من الأكياس والكاس الشّمول (٣)

بدور تستنير بها نجوم

مع الإصباح ليس لها أفول (٤)

يهيم بهم نسيم الروض إلفا

فمن وجد له جسم عليل

وروي أنّ الوزير أبا الأصبغ عبد العزيز بن الأرقم وزير المعتصم بن صمادح رأى راية خضراء فيها صنيفة بيضاء في يد علج من علوج المعتصم نشرها على رأسه ، فقال : [الكامل]

نشرت عليك من النعيم جناحا

خضراء صيّرت الصباح وشاحا

تحكي بخفق قلب من عاديته

مهما يصافح صفحها الأرواحا

ضمنت لك النعمى برأي ظافر

فترقّب الفأل المشير نجاحا

وكان هذا الوزير آية الله تعالى في الوفاء ، وأرسله المعتصم إلى المعتمد بن عبّاد ، فأعجبت المعتمد محاولته ، ووقع في قلبه ، فأراد إفساده على صاحبه ، وأخذ معه في أن يقيم عنده ، فقال له : ما رأيت من صاحبي ما أكره فأوثر عند غيره ما أحب (٥) ، ولو رأيت ما أكره لما كان من الوفاء تركي له في حين فوّض إليّ أمره ، ووثق بي ، وحمّلني أعباء دولته ، فاستحسن ذلك ابن عباد ، وقال له : فاكتم عليّ ، فلما عاد إلى صاحبه سأله عن جميع ما جرى له ، فقال له في أثناء ذلك : وجرى لي معه ما إن أعلمتك به خفت أن تحسب فيه كالامتنان والاستظهار ، وتظنّ أنّ خاطري فسد به ، وإن كتمتك لم أوف النصيحة حقّها ، وخفت أن تطّلع عليه من غيري ، فيحطّني ذلك من عينك ، وتحسب فيه كيدا ، فحمل عليه في أن يعلمه ، فأعلمه

__________________

(١) في ه : «وللنارنج تحت الماء مهما».

(٢) في ج : «وقبل صفح جدواك القبول».

(٣) الأكياس : جمع كيس ، وهو الظريف الفطن. والشمول : الخمر.

(٤) في ب : «بدور تستدير».

(٥) أوثر : أفضل.

٢٧٩

بعد أن تلطّف هذا التلطّف ، وهو من رجال الذخيرة والمسهب ، وابنه الوزير أبو عامر من رجال القلائد.

ومن نظم أبي عامر : [المتقارب]

فتى الخيل يقتادها ذبّلا

خفافا تباري القنا الذّابلا (١)

ترى كلّ أجرد سامي التّليل

وتحسبه غصنا مائلا (٢)

وللوزير الكاتب أبي محمد بن فرسان واسمه عبد البرّ ، وهو حسنة وادي آش ، يخاطب يحيى الميورقي (٣) : [الكامل]

أنعم بتسريح عليّ فعلّه

سبب الزيارة للحطيم ويثرب

ولئن تقوّل كاشح أنّ الهوى

درست معالمه وأنكر مذهبي (٤)

فمقالتي ما إن مللت وإنما

عمري أبى حمل النّجاد بمنكبي

وعجزت عن أن أستثير كمينها

وأشقّ بالصّمصام صدر الموكب (٥)

وهذه الأبيات كتب بها إليه وقد أسنّ وملّ من الجهد معه ، يرغب في سراحه إلى الحجاز ، رحمه الله تعالى ، وتقبّل نيّته بمنّه ويمنه!

وقال حاتم بن حاتم بن سعيد العنسي (٦) وكان صاحب سيف وقلم ، وعلم وعلم : [الكامل]

يا دانيا مني وما أنا زائر

لا أنت معذور ولا أنا عاذر

ما ذا يضرّك إذ ظللت بظلمة

أن لا يطالع منك بدر زاهر

وتوفي المذكور بغرناطة سنة ثلاث وتسعين وخمسمائة.

وقال التطيلي الأعمى في أسد نحاس (٧) يقذف الماء : [مجزوء الكامل]

__________________

(١) القنا : الرماح.

(٢) التليل : العنق.

(٣) انظر المغرب ج ٢ ص ١٤٢.

(٤) في أ : «أرست معالمه وأنك مذهبي» وقد أثبتنا ما في ب ، ه ، ج وهو الأصح.

(٥) الصمصام : السيف.

(٦) انظر المغرب ج ٢ ص ١٦٨.

(٧) مرّ البيتان سابقا في الجزء الرابع وقد ورد هناك أن الأسد من رخام وليس من نحاس.

٢٨٠