نفح الطّيب - ج ٤

الشيخ أحمد بن محمد المقري التلمساني

نفح الطّيب - ج ٤

المؤلف:

الشيخ أحمد بن محمد المقري التلمساني


المحقق: يوسف الشيخ محمّد البقاعي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٣٠

وأراد أن يندّر به ، فقال له ، وكان ذلك بعد إسلامه : يا أبا الفضل ، ما الذي تنظر فيه من الكتب ، لعلّه التوراة؟ فقال : نعم ، وجلدها (١) من جلد دبغه من تعلم ، فمات خجلا ، وضحك المقتدر.

وأراد الشاعر أبو الربيع سليمان السرقسطي حضور نديم له ، فكتب إليه : [السريع]

بالراح والريحان والياسمين

وبكرة الندمان قبل الأذين

وبهجة الروض بأندائه

مقلّدا منه بعقد ثمين

ألا أجب سبقا ندائي إلى ال

كأس تبدّت لذّة الشاربين

هامت بها الأعين من قبل أن

يخبرها الذوق بحقّ اليقين

لاحت لدينا شفقا معلنا

فكن لها بالله صبحا مبين

وكتب علي بن خير التطيلي (٢) إلى ابن عبد الصمد السرقسطي يستدعيه إلى مجلس أنس : أنا ـ أطال الله تعالى بقاء الكاتب سراج العلم وشهاب الفهم! ـ في مجلس قد عبقت تفاحه ، وضحكت راحه ، وخفقت حولنا للطرب ألوية ، وسالت بيننا للهو أودية ، وحضرتنا مقلة تسأل منك إنسانها (٣) ، وصحيفة فكن عنوانها ، فإن رأيت أن تجعل إلينا القصد ، لنحصل بك في جنّة الخلد ، صقلت نفوسا أصدأها بعدك ، وأبرزت شمسا أدجاها (٤) فقدك.

فأجابه ابن (٥) عبد الصمد : فضضت ـ أيها الكاتب العليم ، والمصقع (٦) الحبر الصميم ـ طابع كتابك ، فمنحني منه جوهر منتخب ، لا يشوبه مخشلب ، هو السحر إلّا أنه حلال ، دلّ على ودّ حنيت ضلوعك عليه ، ووثيق عهد انتدب كريم سجيّتك إليه ، فسألت فالق الحبّ ، وعامر القلب بالحبّ ، أن يصون لي حظي منك ، ويدرأ لي النوائب عنك ، ولم يمنعني أن أصرف وجه الإجابة إلى مرغوبك ، وأمتطي جواد الانحدار إلى محبوبك ، إلّا عارض ألم ألمّ بي فقيّد بقيده نشاطي ، وروّى براحته بساطي ، وتركني أتململ على فراشي كالسليم (٧) ، وأستمطر الإصباح من الليل البهيم ، وأنا منتظر لإدباره.

__________________

(١) في ب ، ه : «وتجليدها من جلد .. الخ». وأراد أن أباه دباغ.

(٢) انظر الذخيرة ج ٣ ص ٢٥٦.

(٣) الإنسان : بؤبؤ العين.

(٤) في ب : «وأبرزت شموسا أدجاها فقدك». وفي ه : «وأنرت شموسا أدجاها فقدك».

(٥) في ب : «فأجابه أبو عبد الصمد».

(٦) المصقع : البليغ.

(٧) في أ : «أتحامل على فراشي كالسليم» والسليم هنا : الملدوغ.

٢٠١

ومن لطف أهل الأندلس ورقّة طباعهم ما حكاه أبو عمرو بن سالم المالقي قال : كنت جالسا بمنزلي بمالقة ، فهاجت نفسي أن أخرج إلى الجبّانة ، وكان يوما شديد الحرّ ، فراودتها على القعود ، فلم تمكني من القعود ، فمشيت حتى انتهيب إلى مسجد يعرف برابطة الغبار ، وعنده الخطيب أبو محمد عبد الوهاب بن علي المالقي ، فقال لي : إني كنت أدعو الله تعالى أن يأتيني بك ، وقد فعل ، فالحمد لله ، فأخبرته بما كان مني ، ثم جلست عنده ، فقال : أنشدني ، فأنشدته لبعض الأندلسيين : [الكامل]

غصبوا الصباح فقسّموه خدودا

واستوعبوا قضب الأراك قدودا

ورأوا حصا الياقوت دون نحورهم

فتقلّدوا شهب النجوم عقودا

لم يكفهم حدّ الأسنّة والظّبا

حتى استعاروا أعينا وخدودا (١)

فصاح الشيخ ، وأغمي عليه ، وتصبّب عرقا ، ثم أفاق بعد ساعة ، وقال : يا بني ، اعذرني فشيئان يقهراني ، ولا أملك نفسي عندهما : النظر إلى الوجه الحسن ، وسماع الشعر المطبوع ، وانتهى (٢).

وستأتي هذه الأبيات في هذا الباب بأتمّ من هذا.

وعلى كل حال فهي لأهل الأندلس ، لا لابن دريد كما ذكره بعضهم ، وسيأتي تسمية صاحبها الأندلسي ، كما في كتاب «المغرب» لابن سعيد العنسي المشهور ، رحمه الله تعالى : وقال بعض الأدباء ليحيى الجزار ، وهو يبيع لحم ضأن : [المنسرح]

لحم إناث الكباش مهزول

فقال يحيى :

يقول للمشترين مه زولوا

وقال التطيلي الأعمى في وصف أسد رخام يرمي بالماء على بحيرة (٣) : [مجزوء الكامل]

أسد ولو أنّي أنا

قشه الحساب لقلت صخره

__________________

(١) الظّبا : جمع ظبة ، وهي حد السيف والسنان.

(٢) في ب : «انتهى» بإسقاط الواو.

(٣) انظر ديوان التطيلي ص ٢٤٩.

٢٠٢

وكأنّه أسد السما

ء يمجّ من فيه المجرّه

وحضر جماعة من أعيان الأدباء مثل الأبيض وابن بقي وغيرهما من الوشّاحين ، واتّفقوا على أن يصنع كلّ واحد منهم موشّحة ، فلمّا أنشد الأعمى موشّحته التي مطلعها :

ضاحك عن جمان

سافر عن بدر

ضاق عنه الزمان

وحواه صدري

خرّق كلّ منهم موشّحته.

وتحاكمت امرأة إلى القاضي أبي محمد عبد الله اللّارديّ الأصبحي ، وكانت ذات جمال ونادرة ، فحكم لزوجها عليها ، فقالت له : من يضيع قلبه كلّ طرف فاتر جدير أن يحكم بهذا ، تشير إلى قوله : [الخفيف]

أين قلبي؟ أضاعه كلّ طرف

فاتر يصرع الحليم لديه

كلّما ازداد ضعفه ازداد فتكا

أيّ صبر ترى يكون عليه

وحضر أبو إسحاق بن خفاجة مجلسا بمرسية مع أبي محمد جعفر بن عنق الفضّة الفقيه السالمي ، وتذاكرا ، فاستطال ابن عنق الفضّة ، ولعب بأطراف الكلام ، ولم يكن ابن خفاجة يعرفه ، فقال له : يا هذا ، لم تترك لأحد حظّا في هذا المجلس! فليت شعري من تكون؟ فقال : أنا القائل : [الرمل]

الهوى علّمني سهد الليال

ونظام الشعر في هذي اللآل

كلّما هبّت شمال منهم

لعبت بي عن يمين وشمال

وأرقّت فكرتي أرواحها

فأتت منهنّ بالسحر الحلال

كان كالملح أجاجا خاطري

وسحاب الحبّ أبدته زلال (١)

فاهتزّ ابن خفاجة ، وقال : من يكون هذا قوله لا ينبغي أن يجهل ، ولك المعذرة في جهلك ، فإنك لم تعرّفنا بنفسك ، فبالله من تكون؟ فقال : أنا فلان ، فعرفه وقضى حقّه.

وحكى ابن غالب في «فرحة الأنفس» أنّ الوزير أبا عثمان بن شنتفير وأبو عامر بن عبد شلب (٢) وفدا رسولين على المعتمد بن عباد ، عن إقبال الدولة بن مجاهد والمعتصم بن صمادح والمقتدر بن هود ، لإصلاح ما كان بين المعتمد وبين ابن ذي النون ، فسرّ المعتمد بهم

__________________

(١) الأجاج : المر الملح من الماء.

(٢) في ب ، ه : «ابن غند شلب».

٢٠٣

وأكرمهم ، ودعاهم إلى طعام صنعه لهم ، وكان لا يظهر شرب الراح منذ ولي الملك ، فلمّا رأوا انقباضه عن ذلك تحاموا الشراب ، فلمّا أمر بكتب أجوبتهم كتب له (١) أبو عامر : [الخفيف]

بقيت حاجة لعبد رغيب

لم يدع غيرها له من نصيب

هي خيرية المساء حديثا

وأنا في الصباح أخشى رقيبي (٢)

فإذا أمس كان عندي نهارا

لم تحفني عليه بعد الغروب

وإذا الليل جنّ حدّثت جلّا

سي بما كان من حديث غريب (٣)

قيل إنّ الدّجى لديك نهار

وكذاك الدّجى نهار الأريب

فتمنّيت ليلة ليس فيها

لذكا ذلك السّنا من مغيب

حيث أعطيك في الخلاء وتعطي

ني مداما كمثل ريق الحبيب

تم أغدو كأنني كنت في النو

م ، وأخفي المنام خوف هزيب

والهزيب : الرقيب العتيد في كلام أهل الأندلس ، فسرّ المعتمد وانبسط بانبساطه ، وضحك من مجونه ، وكتب إليه : [الخفيف]

يا مجابا دعا إلى مستجيب

فسمعنا دعاءه من قريب

إن فعلت الذي دعوت إليه

كنت فيما رغبت عين رغيب

واستحضره فنادمه خاليا ، وكساه ووصله ، وانقلب مسرورا ، وظنّ المعتمد أنّ ذلك يخفى من فعله عن ابن شنتفير ، فأعلم (٤) بالأمر القائد ابن مرتين ، فكاد يتفطّر حسدا وكتب إلى المعتمد : [الخفيف]

أنا عبد أوليته كلّ برّ

لم تدع من فنون برّك فنّا

غير رفع الحجاب في شربك الرا

ح فماذا جناه أن يتجنّى

وتمنّى شراب سؤرك في الكأ

س فبالله أعطه ما تمنّى (٥)

فسرته أبياته ، وأجابه : [الخفيف]

__________________

(١) في ب ، ه : «كتب إليه أبو عامر».

(٢) في أ : «أنا خيرته المساء حديثا» وفي ب : «أنا خيرية المساء حديثا».

(٣) في ب ، ه : «من حديث عجيب».

(٤) في ج : «فأعلمه بالأمر».

(٥) السؤر : بقية الشيء.

٢٠٤

يا كريم المحلّ في كلّ معنى

والكريم المحلّ ليس يعنّى

هذه الخمر تبتغيك فخذها

أو فدعها أو كيفيما شئت كنّا

وكان يقرأ في مجلس ملك السهلة أبي مروان بن رزين ذي الرياستين ديوان شعر محمد بن هانىء ، وكان القارئ فيه بله ، فلمّا وصل إلى قوله : [المتقارب]

حرام حرام زمان الفقير

اتّفق أن عرض للملك ما اشتغل به ، فقال للقارىء : أين وقفت؟ فقال : في حرام ، فقام الملك وقال : هذا موضع لا أقف معك فيه ، ادخل أنت وحدك ، ثم دخل إلى قصره ، وانقلب المجلس ضحكا.

وكان للملك المذكور وزير من أعاجيب الدهر ، وهو الكاتب أبو بكر بن سدراي (١) ، وذكره الحجاري في «المسهب» وقال : إنّ له شعرا أرقّ من نسيم السّحر ، وأندى من الطّلّ على الزهر ، ومنه قوله : [المجتث]

ما ضرّكم لو بعثتم

ولو بأدنى تحيّه

تهزّني من شذاها

إليكم الأريحيّه

خذوا سلامي إليكم

مع الرياح النّديّه

في كلّ سحرة يوم

تترى وكلّ عشيّه (٢)

يا ربّ طال اصطباري

ما الوجد إلّا بليّه

غيلان بالشرق أضحى

وحلّت الغرب ميّه (٣)

وقوله : [الوافر]

سأبغي المجد في شرق وغرب

فما ساد الفتى دون اغتراب

فإن بلّغت مأمولا فإني

جهدت ولم أقصّر في الطلاب

وإن أنا لم أفز بمراد سعيي

فكم من حسرة تحت التراب

وقال ملك بلنسية مروان بن عبد العزيز لمّا ولي مكانه من لا يساويه : [الطويل]

__________________

(١) انظر المغرب ج ٢ ص ٤٣٠.

(٢) تترى : تأتي متتابعة.

(٣) غيلان : هو الشاعر ذو الرمة ، وميّة : محبوبته.

٢٠٥

ولا غرو بعدي أن يسوّد معشر

فيضحي لهم يوم وليس لهم أمس

كذاك نجوم الجوّ تبدو زواهرا

إذا ما توارت في مغاربها الشمس

وقال ابن دحية : دخلت عليه وهو يتوضّأ ، فنظر إلى لحيته وقد اشتعلت بالشيب اشتعالا ، فأنشد لنفسه (١) ارتجالا : [الطويل]

ولمّا رأيت الشّيب أيقنت أنه

نذير لجسمي بانهدام بنائه

إذا ابيضّ مخضرّ النبات فإنه

دليل على استحصاده وفنائه (٢)

واعتلّ ابن ذي الوزارتين أبي عامر بن الفرج ، وزير المأمون بن ذي النون ، وهو من رجال الذخيرة والقلائد ، فوصف له أن يتداوى بالخمر العتيق ، وبلغه أنّ عند بعض الغلمان منها شيئا ، فكتب إليه يستهديه : [المجتث]

ابعث بها مثل ودّك

أرقّ من ماء خدّك

شقيقة النّفس ، فانضح

بها جوى ابني وعبدك

وهو القائل معتذرا عن تخلّفه عمّن جاءه منذرا : [الخفيف]

ما تخلّفت عنك إلّا لعذر

ودليلي في ذاك خوفي عليكا (٣)

هبك أنّ الفرار من غير عذر

أتراه يكون إلّا إليكا

وله من رسالة هناء : [المتقارب]

أهنىء بالعيد من وجهه

هو العيد لو لاح لي طالعا

وأدعو لي الله سبحانه

بشمل يكون لنا جامعا (٤)

وكتب إلى الوزير المصري (٥) يستدعيه أن يكون من ندمائه ، فكتب إليه الوزير المصري (٦) يستعمله اليوم ، فلمّا أراده كتب إليه : [الكامل]

ها قد أهبت بكم وكلّكم هوى

وأحقّكم بالشكر منّي السابق

__________________

(١) في ب : «فأنشدني لنفسه».

(٢) استحصد الزرع آن له أن يحصد.

(٣) في ه : «ودليلي في ذاك حرصي عليكا».

(٤) في ب : «وأدعو إلى الله ..».

(٥) في أ : «الوزير الحصري» تحريفا. وهو أبو محمد عبد الله بن خليفة القرطبي انظر المطمح والحلة.

(٦) في أ : «الوزير الحصري» تحريفا. وهو أبو محمد عبد الله بن خليفة القرطبي انظر المطمح والحلة.

٢٠٦

كالشمس أنت وقد أظلّ طلوعها

فاطلع وبين يديك فجر صادق

وله في رئيس مرسية أبي عبد الرحمن بن طاهر ، وكان ممتع المجالسة كثير النادرة : [الخفيف]

قد رأينا منك الذي قد سمعنا

فغدا الخبر عاضد الأخبار

قد وردنا لديك بحرا نميرا

وارتقينا حيث النجوم الدراري (١)

ولكم مجلس لديك انصرفنا

عنه مثل الصّبا عن الأزهار

وشرب الأديب الفاضل أبو الحسن علي بن حريق (٢) عشية مع من يهواه ، ورام الانفصال عنه لداره ، فمنعه سيل حال بينه وبين داره ، فبات عنده على غير اختياره ، فقال ابن حريق : [مخلع البسيط]

يا ليلة جادت الليالي

بها على رغم أنف دهري

للسّيل فيها عليّ نعمى

يقصر عنها لسان شكري

أبات في منزلي حبيبي

وقام في أهله بعذر

فبتّ لا حالة كحالي

ضجيع بدر صريع سكر

يا ليلة القدر في الليالي

لأنت خير من ألف شهر

ومن حسنات ابن حريق المذكور قوله : [الكامل]

يا ويح من بالمغرب الأقصى ثوى

حلف النّوى وحبيبه بالمشرق

لو لا الحذار على الورى لملأت ما

بيني وبينك من زفير محرق

وسكبت دمعي ثم قلت لسكبه

من لم يذب من زفرة فليغرق

لكن خشيت عقاب ربّي إن أنا

أحرقت أو أغرقت من لم أخلق

وله : [السريع]

لم يبق عندي للصّبا لذّة

إلّا الأحاديث على الخمر

وله : [المتقارب]

ققبّلت إثرك فوق الثّرى

وعانقت ذكرك في مضجعي

__________________

(١) في ه : «إذ وردنا لديك بحرا نميرا».

(٢) انظر ترجمته في المغرب ج ٢ ص ٣١٨.

٢٠٧

وله : [الرمل]

إنّ ماء كان في وجنتها

وردته السّنّ حتى نشفا

وذوى العنّاب من أنملها

فأعادته الليالي حشفا

وأورد له أبو بحر في «زاد المسافر» قوله : [الكامل]

كلّمته فاحمرّ من خجل

حتى اكتسى بالعسجد الورق

وسألته تقبيل راحته

فأبى وقال أخاف أحترق

حتى زفيري عاق عن أملي

إنّ الشّقيّ بريقه شرق (١)

وقوله في السواقي : [الكامل]

وكأنما سكن الأراقم جوفها

من عهد نوح مدّة الطوفان

فإذا رأينا الماء يطفح نضنضت

من كلّ خرق حيّة بلسان (٢)

وقال الفيلسوف أبو جعفر ابن الذهبي فيمن جمع بينه وبين أحد الفضلاء : [الخفيف]

أيها الفاضل الذي قد هداني

نحو من قد حمدته باختبار

شكر الله ما أتيت وجازا

ك ولا زلت نجم هدي لساري

أيّ برق أفاد أيّ غمام

وصباح أدّى لضوء نهار

وإذا ما النسيم كان دليلي

لم يحلني إلّا على الأزهار

وأنشد أبو عبد الله محمد بن عبادة الوشاح المعتصم بن صمادح شعرا يقول فيه : [الطويل]

ولو لم أكن عبدا لآل صمادح

وفي أرضهم أصلي وعيشي ومولدي

لما كان لي إلّا إليهم ترحّل

وفي ظلّهم أمسي وأضحي وأغتدي

فارتاح ، وقال : يا ابن عبادة ، ما أنصفناك بل أنت الحرّ لا العبد ، فاشرح لنا في أملك ، فقال : أنا عبدكم كما قال ابن نباتة : [البسيط]

لم يبق جودك لي شيئا أؤمّله

تركتني أصحب الدنيا بلا أمل

__________________

(١) كذا في أ، ب ، ه. وفي ج : «إن الشقاء بريعة شرق» محرفا.

(٢) نضنضت الحية : حركت لسانها.

٢٠٨

فالتفت إلى ابنه الواثق يحيى وليّ عهده وقال : إذا اصطنعت الرجال فمثل هذا فاصطنع ، ضمّه إليك وافعل معه ما تقتضيه وصيّتي به ، ونبّهني إليه كل وقت ، فأقام نديما لوليّ العهد المذكور.

وله فيهما الموشحات المشهورة ، كقوله :

كم في قدود البان

تحت اللمم

من أقمر

عواطي

بأنمل وبنان

مثل العنم (١)

لم تنبري

للعاطي

ولمّا بلغ المعتصم أنّ خلف بن فرج السميسر هجاه احتال في طلبه حتى حصل في قبضته ، ثم قال له : أنشدني ما قلت فيّ ، فقال له : وحقّ من حصّلني في يدك ما قلت شرّا فيك ، وإنما قلت : [البسيط]

رأيت آدم في نومي فقلت له :

أبا البريّة ، إنّ الناس قد حكموا

أنّ البرابر نسل منك ، قال : إذن

حوّاء طالقة إن كان ما زعموا

فأباح (٢) ابن بلقين صاحب غرناطة دمي ، فخرجت إلى بلادك هاربا فوضع عليّ من أشاع ما بلغك عني لتقتلني أنت فيدرك ثأره بك ، ويكون الإثم عليك ، فقال : وما قلت فيه خاصّة مضافا إلى ما قلته في عامة قومه؟ فقال : لمّا رأيته مشغوفا بتشييد قلعته التي يتحصّن فيها بغرناطة قلت : [مخلع البسيط]

يبني على نفسه سفاها

كأنه دودة الحرير

فقال له المعتصم : لقد أحسنت في الإساءة إليه ، فاختر : هل أحسن إليك وأخلي سبيلك أم أجيرك منه؟ فارتجل : [مجزوء الرجز]

خيّرني المعتصم

وهو بقصدي أعلم

وهو إذا يجمع لي

أمنا ومنّا أكرم (٣)

__________________

(١) العنم ، بفتحتين : نبات أملس دائم الخضرة ، فروعه أسطوانية تحمل أوراقا متقابلة تشبه ورق الزيتون ، إلّا أنها أشد خضرة ، وأزهاره قرمزية يتخذ منها خضاب.

(٢) في ب ، ه : «فنذر ابن بلقين».

(٣) في ه : «وهو آن يجمع لي» ولا يتم به الوزن.

٢٠٩

فقال : خاطرك خاطر شيطان ، ولك المنّ (١) والأمان ، فأقام في إحسانه بأوطانه ، حتى خلع عن ملكه وسلطانه :

ولمّا أنشده عمر بن الشهيد قصيدته التي يقول فيها (٢) : [الكامل]

سبط البنان كأنّ كلّ غمامة

قد ركّبت في راحتيه أناملا (٣)

لا عيش إلّا حيث كنت ، وإنما

تمضي ليالي العمر بعدك باطلا

التفت إلى من حضر من الشعراء وقال : هل فيكم من يحسن أن يجلب القلوب بمثل هذا؟ فقال أبو جعفر بن الخراز البطراني (٤) : نعم ، ولكن للسعادة هبّات ، وقد أنشدت مولانا قبل هذا أبياتا أقول فيها : [الطويل]

وما زلت أجني منك والدهر ممحل

ولا ثمر يجنى ولا الزرع يحصد

ثمار أياد دانيات قطوفها

لأغصانها ظلّ عليّ ممدّد

يرى جاريا ماء المكارم تحتها

وأطيار شكري فوقهنّ تغرّد

فارتاح المعتصم ، وقال : أأنت أنشدتني هذا؟ قال : نعم ، قال : والله كأنها ما مرّت بسمعي إلى الآن ، صدقت للسعد هبّات ، ونحن نجيزك عليها بجائزتين : الأولى لها ، والثانية لمطل راجيها وغمط إحسانها ، انتهى.

وقال بعض ذرّيّة ملوك إشبيلية (٥) : [الخفيف]

نثر الورد بالخليج وقد درج

أمواهه هبوب الرياح (٦)

مثل درع الكميّ مزّقها الطع

ن فسالت بها دماء الجراح

وقال ابن صارة في النارنج : [الطويل]

كرات عقيق في غصون زبرجد

بكفّ نسيم الريح منها صوالج

نقبّلها طورا وطورا نشمّها

فهنّ خدود بيننا ونوافج

وقال أبو الحسن بن الزقاق ابن أخت ابن خفاجة (٧) : [المتقارب]

__________________

(١) في ه : «ولك الأمن والأمان».

(٢) انظر الذخيرة ١ / ٢ : ١٩٥.

(٣) سبط البنان : أي كريم العطاء.

(٤) انظر ترجمته في المغرب ج ٢ ص ٣٥٥.

(٥) انظر ديوان ابن الزقاق ص ١٣١.

(٦) في ب ، ه : «وقد درجه بالهبوب مرّ الرياح».

(٧) انظر ديوان ابن الزقاق ص ١٧٩.

٢١٠

وما شقّ وجنته عابثا

ولكنّها آية للبشر

جلاها لنا الله كيما نرى

بها كيف كان انشقاق القمر

وقال : [الكامل]

ضربوا ببطن الواديين قبابهم

بين الصوارم والقنا الميّاد

والورق تهتف حولهم طربا بهم

فبكلّ محنية ترنّم شادي

يا بانة الوادي كفى حزنا بنا

أن لا نطارح غير بانة وادي

وقال : [الخفيف]

نحن في مجلس به كمل الأن

س ولو زرتنا لزاد كمالا

طلعت فيه من كؤوس الحميّا

ومن الزهر أنجم تتلالا (١)

غيرنّ النجوم دون هلال

فلتكن منعما لهنّ الهلالا (٢)

وقال : [الكامل]

وهويتها سمراء غنّت وانثنت

فنظرت من ورقاء في أملودها (٣)

تشدو ووسواس الحليّ يجيبها

مهما انثنت في وشيها وعقودها

أو ليس من بدع الزمان حمامة

غنّت فغنّى طوقها في جيدها

وقال : [البسيط]

لئن بكيت دما والعزم من شيمي

على الخليط فقد يبكي الحسام دما

وقال أبو تمام غالب بن رباح الحجام (٤) في دولاب طار منه لوح فوقف : [المنسرح]

وذات شدو وما لها حلم

كلّ فتى بالضمير حيّاها

وطار لوح بها فأوقفها

كلمحة العين حين جراها (٥)

وكان المذكور ربّي في قلعة رباح غربي طليطلة ، ولا يعلم له أب ، وتعلّم الحجامة

__________________

(١) الحميّا : الخمر.

(٢) في ه : «فلتكن منعما لهن هلالا».

(٣) الأملود : الغصن الناعم اللين.

(٤) انظر ترجمته في الذخيرة ج ٢ ص ٢٥٦ ، والمغرب ج ٢ ص ٤٠.

(٥) في ب ، ه : «ثم أجراها».

٢١١

فأتقنها ، ثم تعلّق بالأدب (١) حتى صار آية ، وهو القائل في ثريّا الجامع : [البسيط]

تحكي الثريّا الثريّا في تألّقها

وقد عراها نسيم فهي تتّقد

كأنها لذوي الإيمان أفئدة

من التخشّع جوف الليل ترتعد

وقال : [البسيط]

زرت الحبيب ولا شيء أحاذره

في ليلة قد لوت بالغمض أشفارا

في ليلة خلت من حسن كواكبها

دراهما وحسبت البدر دينارا

وقال في الثريا أيضا : [البسيط]

انظر إلى سرج في الليل مشرقة

من الزجاج تراها وهي تلتهب

كأنها ألسن الحيّات قد برزت

عند الهجير فما تنفكّ تضطرب (٢)

وقال : [الطويل]

ترى النّسر والقتلى على عدد الحصا

وقد مزّقت أحشاءها والترائبا

مضرّجة ممّا أكلن كأنها

عجائز بالحنّا خضبن ذوائبا

وقال ، وقد أبدع غاية الإبداع ، وأتى بما يحيّر الألباب ، وإن كان أبو نواس فاتح هذا الباب: [الطويل]

وكأس ترى كسرى بها في قرارة

غريقا ولكن في خليج من الخمر

وما صوّرته فارس عبثا به

ولكنّهم جاؤوا بأخفى من السّحر

أشاروا بما كانوا له في حياته

فنومي إليه بالسجود وما ندري

وما أحلى قوله (٣) : [الكامل]

الأقحوان رمى عليك ظلامة

لمّا عنفت عليه بالمسواك (٤)

لا يحمل النّور الأنيق تمسّه

كفّ بعود بشامة وأراك

وجلاؤه المخلوق فيه قد كفى

من أن يراع عراره بسواك (٥)

وقوله (٦) : [الوافر]

__________________

(١) في ه : «تعلق بالآداب».

(٢) الهجير : شدة الحر.

(٣) انظر الذخيرة ص ٢٦٢.

(٤) في ه : «الأقحوان أرى عليك ظلامة» تحريفا.

(٥) العرار : نبت طيب الرائحة.

(٦) انظر المغرب ج ٢ ص ٤٠.

٢١٢

صغار الناس أكثرهم فسادا

وليس لهم لصالحة نهوض

ألم تر في سباع الطير سرّا

تسالمنا ، ويأكلنا البعوض

وقد بلغ غاية الإحسان في قوله : [الوافر]

فما للملك ليس يرى مكاني

وقد كحلت لواحظه بنوري

كذا المسواك مطّرحا مهانا

وقد أبقى جلاء في الثغور

ومن حسناته قوله (١) : [السريع]

لي صاحب لا كان من صاحب

فإنه في كبدي جرحه

يحكي إذا أبصر لي زلّة

ذبابة تضرب في قرحه

ولقيه أبو حاتم الحجاري على فرس في غاية الضعف والرذالة قد أهلكها الوجى (٢) ، وكانا في جماعتين ، فقال له : يا أبا تمام ، أنشدني قولك : [الطويل]

وتحتي ريح تسبق الريح إن جرت

وما خلت أنّ الريح ذات قوائم

لها في المدى سبق إلى كلّ غاية

كأنّ لها سبقا يفوق عزائمي

وهمّة نفسي نزّهتها عن الوجى

فيا عجبا حتى العلا في البهائم

فلمّا أنشده إيّاها ردّ رأسه أبو حاتم إلى الجماعتين وقال : ناشدتكم الله أيجوز لحجّام على فرس مثل هذه الرمكة (٣) الهزيلة العرجاء ، أن يقول مثل هذا؟ فضحك جميع من حضر ، وأقبل أبو تمام من غيظه (٤) يسبّه.

ومن شعر الحجام المذكور قوله : [البسيط]

لا يفخر السيف والأقلام في يده

قد صار قطع سيوف الهند للقصب

فإن يكن أصلها لم يقو قوّتها

(فإنّ في الخمر معنى ليس في العنب)

وقال : [الكامل]

ثقلت على الأعداء إلّا أنها

خفّت على السّبّاب والإبهام

__________________

(١) انظر الذخيرة ص ٢٦٤.

(٢) الوجى ـ بفتح الواو والجيم : الحفا أو أشده ، حتى ليشق على الذي ما أصيب به المشي إنسانا كان أو دابة.

(٣) الرمكة : الفرس التي تتخذ للنسل.

(٤) في ب ، ه : «في غيظه».

٢١٣

أخذت من الليل البهيم سواده

وبدت تنمّق أوجه الأيام

وقال (١) : [الكامل]

نظر الحسود فازدرى لي هيئة

والفضل منّي لا يزال مبينا

قبحت صفاتي من تغيّر ودّه

صدأ المراة يقبّح التحسينا (٢)

وقال : (٣) [الطويل]

تصبّر وإن أبدى العدوّ مذمّة

فمهما رمى ترجع إليه سهامه

كما يفعل النحل الملمّ بلسعه

يريد به ضرّا وفيه حمامه

وقال : [البسيط]

وبارد الشّعر لم يؤلم به ولقد

أضرّ منه جميع الناس واعتزلا

كأنه الصّلّ لا تؤذيه ريقته

حتى إذا مجّها في غيره قتلا (٤)

وقال ابن الزقاق (٥) : [الطويل]

دعاك خليل والأصيل كأنه

عليل يقضّي مدة الرّمق الباقي

إلى شطّ منساب كأنك ماؤه

صفاء ضمير أو عذوبة أخلاق

ومهوى جناح للصّبا يمسح الرّبا

خفيّ الخوافي والقوادم خفّاق

على حين راح البرق في الجوّ مغمدا

ظباه ودمع المزن من جفنه راق

وقد حان منّي للرياض التفاتة

حبست بها كأسي قليلا عن الساقي

على سطح خيريّ ذكرتك فانثنى

يميل بأعناق ويرنو بأحداق (٦)

فصل زهرات منه هذا كأنها

وقد خضلت قطرا محاجر عشّاق

ولمّا مدح الحسيب أبو القاسم بن مسعدة (٧) الأوسي أمير المؤمنين عبد المؤمن بقوله : [الطويل]

__________________

(١) انظر الذخيرة ص ٢٦٣.

(٢) المراة : أصلها المرآة ، حذف الهمزة ، وألقى فتحها على الراء.

(٣) انظر الذخيرة ص ٢٦٣.

(٤) الصلّ : الحية الخبيثة.

(٥) انظر ديوان ابن الزقاق ص ٢٨٦.

(٦) الخيري : زهر المنثور الأصفر.

(٧) في ب : «أبو محمد القاسم بن مسعدة». وفي ج : «بن سعدة».

٢١٤

حنانيك مدعوّا ولبّيك داعيا

فكلّ بما ترضاه أصبح راضيا

طلعت على أرجائنا بعد فترة

وقد بلغت منّا النفوس التّراقيا

وقد كثرت منّا سيوف لدى العلا

ومن سيفك المنصور نبغي التقاضيا

وغيرك نادينا زمانا فلم يجب

وعزمك لم يحتج علاه مناديا

كتب اسمه وزير عبد المؤمن في جملة الشعراء ، فلمّا وقف على ذلك عبد المؤمن ضرب على اسمه وقال : إنما يكتب اسم هذا في جملة الحساب (١) ، لا تدنّسوه بهذه النسبة ، فلسنا ممّن يتغاضى على غمط حسبه ، ثم أجزل صلته ، وأمر له بضيعة يحرث له بها ، يعني بذلك أنه من ذريّة ملوك ؛ لأنّ جدّه كان ملك وادي الحجارة.

وقال أبو بكر محمد بن أرزق : [السريع]

هل علم الطائر في أيكه

بأنّ قلبي للحمى طائر

ذكّرني عهد الصّبا شجوه

وكلّ صبّ للصّبا ذاكر

سقى الحيا عهدا لهم بالحمى

دمع له ذكرهم ناثر (٢)

وقال أبو جعفر بن أرزق (٣) : [الطويل]

أراك ملكت الخافقين مهابة

بها ما تلحّ الشّهب بالخفقان (٤)

وتغضي العيون عن سناك كأنها

تقابل منك الشمس في اللّمعان (٥)

وتصفرّ ألوان العداة كأنما

رموا منك طول الدهر باليرقان

وقال أبو القاسم بن أزرق : [مخلع البسيط]

ذاك الزمان الذي تقضّى

يا ليته عاد منه حين

بكلّ عمري الذي تبقّى

وما أنا في الشّرا غبين (٦)

وقال راشد بن عريف الكاتب : [مخلع البسيط]

جمّع في مجلس ندامى

تحسدني فيهم النجوم

فقال لي منهم نديم

مالك إذ قمت لا تقوم

__________________

(١) في ب : «الحسباء».

(٢) في ب : «سقى عهودا لهم بالحمى».

(٣) انظر المغرب ج ٢ ص ٢٩.

(٤) في ه : «بها ما تلح الشهب في الخفقان».

(٥) في ه : «عن سناك كأنما».

(٦) الشرا : في الأصل الشراء ، حذف الهمزة.

٢١٥

فقلت إن قمت كلّ حين

فإنّ حظّي بكم عظيم

وليس عندي إذن ندامى

بل عندي المقعد المقيم

وقال الحسيب أبو جعفر بن عائش (١) : [السريع]

ولي أخ أورده سلسلا

لكنه يوردني مالحا

ألقاه كي أبسطه ضاحكا

ويلتقيني أبدا كالحا

وليس ينفكّ عنائي به

ما رمت من فاسده صالحا

قال الحجاري : وكتب إلى جدي إبراهيم في يوم صحو بعد مطر : [السريع]

إذا رأيت الجوّ يصحو فلا

تصح ، سقاك الله من سكر

تعال فانظر لدموع الندى

ما فعلت في مبسم الزهر

ولا تقل إنك في شاغل

فليس هذا آخر الدهر

تخلف ما فات سوى ساعة

تقتضى فيها لذة الخمر

فأجابه : [السريع]

لبّيك لبّيك ولو أنني

أسعى على الرأس إلى مصر

فكيف والدار جواري وما

عندي من شغل ولا عذر

ولو غدا لي ألف شغل بلا

عذر تركت الكلّ للحشر

وكلّما أبصرني ناظر

ببابكم عظّم من قدري

أنا الذي يشربها دائما

ما حضرت في الصّحو والقطر

وليس نقلي أبدا بعدها

إلّا الذي تعهد من شكري

[قال الحجاري : ولم يقصّر جدي في جوابه ، ولكن ابن عائش أشعر منه في ابتدائه ، ولو لم يكن له إلّا قوله «تعال فانظر ـ إلخ» لكفاه] ، قال : وفيه يقول جدي [إبراهيم](٢) يمدحه: [الطويل]

ولو كان ثان في الندى لابن عائش

لما كان في شرق وغرب أخو فقر

يهشّ إلى الأمداح كالغصن للصّبا

وبشر محيّاه ينوب عن الزهر (٣)

__________________

(١) انظر المغرب ج ٢ ص ٢٧.

(٢) ما بين المعقوفين ساقط من ج.

(٣) يهشّ : يبتسم ويرتاح وينشرح صدره.

٢١٦

فيا ربّ زد في عمره إنّ عمره

حياة أناس قد كفوا كلفة الدهر

وقتله ابن مسعدة ملك وادي الحجارة الثائر بها ، ولمّا قدّمه ليقتله قال : ارفق عليّ حتى أخاصم عن نفسي ، فقال : على لسانك قتلناك ، فقال له : لا رفق الله عليك يوم تحتاج إلى رفقه! فقال بجبروتيته (١) : ما رهبنا السيوف الحداد ، ونرهب (٢) دعاء الحسّاد.

وقال أبو الحسن علي بن شعيب (٣) : [الخفيف]

انزعي الوشي فهو يستر حسنا

لم تحزه برقمهنّ الثياب

ودّعيني عسى أقبّل ثغرا

لذّ فيه اللّمى وطاب الرّضاب

وعجيب أن تهجريني ظلما

وشفيعي إلى صباك الشباب

وقال أخوه أبو حامد الحسين حين كبا به فرسه فحصل في أسر العدوّ : [الوافر]

وكنت أعدّ طرفي للرزايا

يخلّصني إذا جعلت تحوم

فأصبح للعدا عونا لأني

أطلت عناءه فأنا الظّلوم

وكم دامت مسرّاتي عليه

وهل شيء على الدنيا يدوم

وقال أبو الحسن علي بن رجاء ، صاحب دار السكة والأحباس بقرطبة : [السريع]

يا سائلي عن حالتي إنّني

لا أشتكي حالي لمن يضعف

مع أنني أحذر من نقده

لا سيما إن كان لا ينصف

وأنشد له الحميدي في «الجذوة» (٤) : [الخفيف]

قل لمن نال عرض من لم ينله

حسبنا ذو الجلال والإكرام

لم يزدني شيئا سوى حسنات

لا ولا نفسه سوى آثام

كان ذا منعة فثقّل ميزا

ني بهذا فصار من خدّامي

وقال أبو محمد القاسم بن الفتح : [مجزوء الكامل]

أيام عمرك تذهب

وجميع سعيك يكتب

ثم الشهيد عليك من

ك فأين أين المهرب

__________________

(١) في ب ، ه : «بجبروته».

(٢) في ب ، ه : «نرهب» بغير واو.

(٣) انظر المغرب ج ٢ ص ٢٧.

(٤) انظر الجذوة ص ٨٢٩٥.

٢١٧

وقال أبو مروان عبد الملك بن (١) غصن : [الوافر]

فديتك لا تخف مني سلوّا

إذا ما غيّر الشّعر الصّغارا

أهيم بدنّ خمر صار خلّا

وأهوى لحية كانت عذارا (٢)

وقال : [مخلع البسيط]

قد ألحف الغيم بانسكابه

والتحف الجوّ في سحابه

قام داعي السرور يدعو

حيّ على الدّنّ وانتهابه

وتاه فيه النديم ممّا

يزدحم الناس عند بابه

وكان أحد الأعلام في الآداب والتاريخ والتأليف.

ونقم عليه المأمون بن ذي النون بسبب صحبته لرئيس (٣) بلده ابن عبيدة (٤) ، وبلغه أنه يقع فيه ، فنكبه أشرّ نكبة ، وحبسه ، فكتب إليه من السجن : [الطويل]

فديتك هل لي منك رحمى لعلّني

أفارق قبرا في الحياة فأنشر

وليس عقاب المذنبين بمنكر

ولكن دوام السخط والعتب منكر (٥)

ومن عجب قول العداة مثقّل

ومثلي في إلحاحه الدّهر يعذر

وألّف للمأمون رسالة «السجن والمسجون ، والحزن والمحزون» ورسالة أخرى سمّاها «بالعشر كلمات» ، وقال : [مخلع البسيط]

يا فتية خيرة فدتهم

من حادثات الزمان نفسي

شربهم الخمر في بكور

ونطقهم عندها بهمس

أما ترون الشتاء يلقي

في الأرض بسطا من الدّمقس

مقطّب عابس ينادي

يوم سرور ويوم أنس

وأخبر عنه (٦) الحميدي في الجذوة أنه شاعر أديب ، دخل المشرق ، وتأدّب ، وحجّ ، ورجع ، وشعره كثير. وله أبيات كتبها في طريق الحجّ إلى أحد القضاة : [الكامل]

يا قاضيا عدلا كأنّ أمامه

ملك يريه واضح المنهاج

__________________

(١) انظر المغرب ج ٢ ص ٣٣.

(٢) الدنّ : وعاء الخمر الضخم.

(٣) في ه : «لرائس بلده».

(٤) في ج : «أبي عبيدة».

(٥) في أ، ب ، ه «دوام السخط والعتب ينكر».

(٦) في ب ، ه : «وقال عنه».

٢١٨

طافت بعبدك في بلادك علّة

قعدت به عن مقصد الحجاج

واعتلّ في البحر الأجاج فكن له

بحرا من المعروف غير أجاج

وقال الزاهد الورع المحدّث أبو محمد إسماعيل ابن الديواني : [المتقارب]

ألا أيها العائب المعتدي

ومن لم يزل مؤذيا ازدد (١)

مساعيك يكتبها الكاتبون

فبيّض كتابك أو سوّد

وقال ابنه أبو بكر (٢) : [مجزوء الكامل]

خاصم عدوّك باللسا

ن وإن قدرت فبالسّنان

إنّ العداوة ليس يص

لحها الخضوع مدى الزمان

وقال إبراهيم الحجاري جدّ صاحب «المسهب» (٣) : [الطويل]

لئن كرهوا يوم الوداع فإنني

أهيم به وجدا من اجل عناقه

أصافح من أهواه غير مساتر

وسرّ التلاقي مودع في فراقه (٤)

وقال : [الخفيف]

كن كما شئت إنني لا أحول

غير مصغ لما يقول العذول (٥)

لك والله في الفؤاد محلّ

ما إليه مدى الزمان وصول

ومرادي بأن تزور خفيّا

ليت شعري متى يكون السبيل

وقال : [الخفيف]

قد توالت في حالتينا الظنون

فلنصدّق ما كذّبته العيون

ومرادي بأن تلوح بأفقي

بدر تمّ وذاك ما لا يكون

أنا قد قلت ما دعاني إليه

كثرة اليأس ، والحديث شجون

وإذا شئت أن تسفّه رأيي

فمحلّي من الرقيب مصون

وبه ما تشاء من كلّ معنى

كلّ من لم يجب له مجنون

وإلى كم تضلّ ليل الأماني

ومن اليأس لاح صبح مبين

__________________

(١) ازدد : يريد لا تترك ما أنت عليه.

(٢) في ب : «ابنه أبو بكر محمد».

(٣) انظر المغرب ج ٢ ص ٣٣.

(٤) في ب ، ه : «أصافح من أهواه غير مساتر».

(٥) لا أحول : لا أتحول ، ولا أتبدل.

٢١٩

وقال : [المجتث]

سألته عن أبيه

فقال خالي فلان

فانظر عجائب ما قد

أتت به الأزمان

دهر عجيب لديه

عن المعالي حران (١)

فما له غير ذمّ

كما تدين تدان

وقال الكاتب العالم أبو محمد بن خيرة الإشبيلي (٢) صاحب كتاب «الريحان والريعان» يمدح السيد أبا حفص ملك إشبيلية ابن أمير المؤمنين عبد المؤمن من قصيدة : [البسيط]

كأنما الأفق صرح والنجوم به

كواعب وظلام الليل حاجبه

وللهلال اعتراض في مطالعه

كأنه أسود قد شاب حاجبه

وأقبل الصبح فاستحيت مشارقه

وأدبر الليل فاستخفت كواكبه

كالسيد الماجد الأعلى الهمام أبي

حفص لرحلته ضمّت مضاربه

وأنشد له ابن الإمام في «سمط الجمان» : [الكامل]

رعيا لمنزله الخصيب وظلّه

وسقى الثرى النجديّ سحّ ربابه (٣)

واها على ساداته لا أدّعي

كلفا بزينبه ولا بربابه (٤)

ويعرف رحمه الله تعالى بابن المواعيني.

وقال ابنه أبو جعفر أحمد : [الخفيف]

يا أخي ، هاتها وحجّب سناها

عن مثير بها جنونا وسخفا

هذه الشمس إن بدت لضعيف ال

عين زادت في ذلك الضعف ضعفا

إنّما يشرب المدامة من إن

خشنت كفّه جفاها وكفّا

وكتب الوزير أبو الوليد إسماعيل بن حبيب الملقب بحبيب إلى أبيه : لمّا خلق الربيع من أخلاقك الغرّ ، وسرق زهره من شيمك الزّهر ، حسن في كلّ عين منظره ، وطاب في كل سمع خبره ، وتاقت النفوس إلى الراحة فيه ، ومالت إلى الإشراف على بعض ما يحتويه ، من النور الذي بسط على الأرض حللا ، لا ترى (٥) في أثنائها خللا ، سلوك نثرت على الثرى ، وقد

__________________

(١) الحران : مصدر حرن يحرن ، أي رفض الانقياد.

(٢) انظر ترجمته في المغرب ج ٢ ص ٢٤٢.

(٣) سح الرباب : شدة هطول السحاب.

(٤) رباب هنا : اسم امرأة.

(٥) في ه : «لا يرى الناظر في أثنائها خللا».

٢٢٠