نفح الطّيب - ج ٤

الشيخ أحمد بن محمد المقري التلمساني

نفح الطّيب - ج ٤

المؤلف:

الشيخ أحمد بن محمد المقري التلمساني


المحقق: يوسف الشيخ محمّد البقاعي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٣٠

يا حسنها دائرة

من ياسمين مشرق

والورد قد قابلها

في حلّة من شفق

كعاشق وحبّه

تغامزا بالحدق (١)

فاحمرّ ذا من خجل

واصفرّ ذا من فرق (٢)

قال : فقلت للحسن : هات ، فقال : سبقني المهذب إلى ما لمحته في هذا المعنى ، وهو قولي : [مجزوء الرمل]

يا حسنها دائرة

من ياسمين كالحلي

والورد قد قابلها

في حلّة من خجل

كعاشق وحبّه

تغامزا بالمقل

فاحمرّ ذا من خجل

واصفرّ ذا من وجل

قال : فعجبت من اتفاقهما في سرعة الاتحاد ، والمبادرة إلى حكاية الحال ، انتهى.

وما ألطف قول بعضهم : [الطويل]

أرى الورد عند الصبح قد مدّ لي فما

يشير إلى التقبيل في حالة اللّمس (٣)

وبعد زوال الشمس ألقاه وجنة

وقد أثّرت في وسطها قبلة الشمس

وقال ابن ظافر في «بدائع البداءة» (٤) : اجتمع الوزير أبو بكر بن القبطرنة والأديب أبو العباس ابن صارة الأندلسيان في يوم جلا ذهب برقه ، وأذاب ورق ودقه ، والأرض قد ضحكت لتعبيس السماء ، واهتزّت وربت عند نزول الماء ، فقال ابن القبطرنة : [الكامل]

هذي البسيطة كاعب أبرادها

حلل الربيع وحليها النّوّار

فقال ابن صارة : [الكامل]

وكأنّ هذا الجوّ فيها عاشق

قد شفّه التعذيب والإضرار (٥)

ثم قال ابن صارة أيضا : [الكامل]

وإذا شكا فالبرق قلب خافق

وإذا بكى فدموعه الأمطار

__________________

(١) الحب ، بكسر الحاء : المحبوب.

(٢) الفرق ، بفتح الفاء والراء : الخوف.

(٣) في ه : «في ساعة اللمس».

(٤) البدائع ج ١ ص ١٨٦.

(٥) شفّه الحب : أضعفه.

١٦١

فقال ابن القبطرنة : [الكامل]

من أجل ذلّة ذا وعزّة هذه

يبكي الغمام وتضحك الأزهار

وتذكّرت هنا ما حكاه ابن ظافر في الكتاب المذكور أنه اجتمع مع القاضي الأعز يوما فقال له ابن ظافر : أجز : [الرجز]

طار نسيم الروض من وكر الزّهر

فقال الأعز :

وجاء مبلول الجناح بالمطر

ويعجبني قول ابن قرناص : [الطويل]

أظنّ نسيم الروض والزهر قد روى

حديثا ففاحت من شذاه المسالك

وقال دنا فصل الربيع فكلّه

ثغور لما قال النسيم ضواحك

رجع إلى الأندلسيين ـ وما أرقّ قول ابن الزقاق (١) : [الخفيف]

ورياض من الشقائق أضحت

يتهادى بها نسيم الرياح

زرتها والغمام يجلد منها

زهرات تفوق لون الراح

قلت ما ذنبها؟ فقال مجيبا

سرقت حمرة الخدود الملاح

وقال أبو إسحاق بن خفاجة (٢) : [الطويل]

تعلّقته نشوان من خمر ريقه

له رشفها دوني ولي دونه السّكر

ترقرق ماء مقلتاي ووجهه

ويذكي على قلبي ووجنته الجمر

أرقّ نسيبي فيه رقّة حسنه

فلم أدر أيّ قبلها منهما السّحر (٣)

وطبنا معا شعرا وثغرا كأنما

له منطقي ثغر ولي ثغره شعر

وقال أبو الصّلت أمية بن عبد العزيز : [الطويل]

وقائلة : ما بال مثلك خاملا

أأنت ضعيف الرأي أم أنت عاجز

فقلت لها : ذنبي إلى القوم أنني

لما لم يحوزوه من المجد حائز

__________________

(١) ديوان ابن الزقاق ص ١٢٥.

(٢) ديوان ابن خفاجة ص ٣٥٣.

(٣) في ه : «أرق نسيبي فيه رقة نفسه».

١٦٢

وما فاتني شيء سوى الحظّ وحده

وأمّا المعالي فهي عندي غرائز (١)

وقال : [مجزوء الرمل]

جدّ بقلبي وعبث

ثم مضى وما اكترث

واحربا من شادن

في عقد الصّبر نفث

يقتل من شاء بعي

نيه ومن شاء بعث

وقال الفاضل البليغ (٢) يحيى بن هذيل أحد أعيان شعراء الأندلس : [الرمل]

نام طفل النبت في حجر النّعامى

لاهتزاز الطّلّ في مهد الخزامى (٣)

وسقى الوسميّ أغصان النّقا

فهوت تلثم أفواه الندامى (٤)

كحّل الفجر لهم جفن الدّجى

وغدا في وجنة الصبح لثاما

تحسب البدر محيّا ثمل

قد سقته راحة الصبح مداما (٥)

حوله الزهر كؤوس قد غدت

مسكة الليل عليهنّ ختاما

وتذكرت هنا قول الآخر ، وأظنّه مشرقيّا (٦) : [الرمل]

بكر العارض تحدوه النّعامى

فسقاك الريّ يا دار أماما

وتمشّت فيك أرواح الصّبا

يتأرّجن بأنفاس الخزامى

قد قضى حفظ الهوى أن تصبحي

للمحبّين مناخا ومقاما

وبجرعاء الحمى قلبي ، فعج

بالحمى واقرأ على قلبي السلاما

وترحّل فتحدّث عجبا

أنّ قلبا سار عن جسم أقاما

قل لجيران الغضى آها على

طيب عيش بالغضى لو كان داما

حمّلوا ريح الصّبا من نشركم

قبل أن تحمل شيحا وثماما (٧)

__________________

(١) في ه «وأما المعالي فهي عندي عزائز».

(٢) في ب ، ه : «وقال البليغ الفاضل».

(٣) النعامى : ريح الجنوب. والخزامى : زهر متعدد الألوان طيب الرائحة.

(٤) الوسمي : مطر الربيع الأول.

(٥) الثمل : السكران.

(٦) الأبيات لمهيار الديلمي. انظر ديوان ج ٣ ص ٣٢٧.

(٧) الشيح والثمام : عشبان طيّبا الرائحة.

١٦٣

وابعثوا أشباحكم لي في الكرى

إن أذنتم لجفوني أن تناما

وخرج بعض علماء الأندلس من قرطبة إلى طليطلة ، فاجتار بحريز بن عكاشة ، الشجاع المشهور الذي ذكرنا في هذا الباب ما يدلّ على شجاعته وقوّته وأيده ، بقلعة رباح ، فنزل بخارجها في بعض جنباتها ، وكتب إليه : [مجزوء الرمل]

يا فريدا دون ثان

وهلالا في العيان

عدم الراح فصارت

مثل دهن البيلسان (١)

فبعث إليه بها ، وكتب معها : [مجزوء الرمل]

جاء من شعرك روض

جاده صوب اللسان

فبعثناها سلافا

كسجاياك الحسان

وقال الوزير أبو عامر بن شهيد يتغزّل (٢) : [الرمل]

أصباح شيم أم برق بدا

أم سنا المحبوب أورى أزندا (٣)

هبّ من مرقده منكسرا

مسبلا للكمّ مرخ للرّدا (٤)

يمسح النّعسة من عيني رشا

صائد في كلّ يوم أسدا

أوردته لطفا آياته

صفوة العيش وأرعته ددا (٥)

فهو من دلّ عراه زبدة

من مريج لم تخالط زبدا

قلت هب لي يا حبيبي قبلة

تشف من عمّك تبريح الصّدى

فانثنى يهتزّ من منكبه

مائلا لطفا وأعطاني اليدا

كلّما كلّمني قبّلته

فهو إمّا قال قولا ردّدا

كاد أن يرجع من لثمي له

وارتشاف الثغر منه أدردا (٦)

وإذا استنجزت يوما وعده

أمطل الوعد وقال اصبر غدا

__________________

(١) في ب ، ه : «مثل دهن البلّسان».

(٢) انظر ديوان ابن شهيد ص ٤٩.

(٣) في ب : «أورى زندا» وفي ه : «وسنا المحبوب أورى زندا».

(٤) الرّدا : أصله الرداء ، حذفت الهمزة لضرورة القافية.

(٥) الدد : اللهو واللعب. وفي ج : «صفوة للعيش أرعته ددا».

(٦) في أ : «أزردا» وفي ه : «إذا ردا». والتصويب من ب.

١٦٤

شربت أعطافه ماء الصّبا

وسقاه الحسن حتى عربدا

فإذا بتّ به في روضة

أغيد يغذو نباتا أغيدا (١)

قام في الليل بجيد أتلع

ينفض اللّمّة من دمع الندى

ومكان عازب عن جيرة

أصدقاء وهم عين العدا

ذي نبات طيّب أعراقه

كعذار الشّعر في خدّ بدا

تحسب الهضبة منه جبلا

وحدور الماء منه أبردا

وقال يرثي القاضي ابن ذكوان ، نجيب ذلك الأوان ، وقد افتنّ في الآداب ، وسنّ فيها سنّة ابن داب ، وما فارق ربع الشباب شرخه ، ولا استمجد في الكهولة عفاره ولا مرخه (٢) ، وكان لأبي عامر هذا قسيم نفسه ، ونسيم أنسه (٣) : [الطويل]

ظننّا الذي نادى محقّا بموته

لعظم الذي أنحى من الرّزء كاذبا (٤)

وخلنا الصباح الطّلق ليلا وأننا

هبطنا خداريّا من الحزن كاربا

ثكلنا الدّنا لمّا استقلّ وإنما

فقدناك يا خير البريّة ناعبا (٥)

وما ذهبت ، إذ حلّ في القبر ، نفسه

ولكنما الإسلام أدبر ذاهبا

ولمّا أبى إلّا التحمّل رائحا

منحناه أعناق الكرام ركائبا

يسير به النّعش الأعزّ وحوله

أباعد كانوا للمصاب أقاربا

عليه حفيف للملائك أقبلت

تصافح شيخا ذاكر الله تائبا

تخال لفيف الناس حول ضريحه

خليطا تخطّى في الشريعة هاربا (٦)

إذا ما امتروا سحب الدموع تفرّعت

فروع البكا عن بارق الحزن لاهبا

فمن ذا لفصل القول يسطع نوره

إذا نحن ناوينا الألدّ المناوبا (٧)

ومن ذا ربيع المسلمين يقوتهم

إذا الناس شاموها بروقا كواذبا

__________________

(١) في ب : «أغيد يقرو نباتا أغيدا». وفي ج : «أغيد يغذو بنانا أغيدا».

(٢) المرخ والعفار : شجران سريعا الورى ، وفي أمثالهم «في كل شجر نار ، واستمجد المرخ والعفار».

(٣) ديوان ابن شهيد ص ٢٣.

(٤) الرزء : المصيبة.

(٥) في ه : «ثكلت الدجى لما استقلّ».

(٦) في ب ، ه : «خليط قطا وافى الشريعة هاربا».

(٧) في ه : «إذا نحن ناولنا الألد».

١٦٥

فيا لهف قلبي آه ذابت حشاشتي

مضى شيخنا الدّفّاع عنّا النوائبا

ومات الذي غاب السرور لموته

فليس وإن طال السّرى منه آئبا

وكان عظيما يطرق الجمع عنده

ويعنو له ربّ الكتيبة هائبا

وذا مقول عضب الغرارين صارم

يروح به عن حومة الدين ضاربا

أبا حاتم صبر الأديب فإنني

رأيت جميل الصّبر أحلى عواقبا (١)

وما زلت فينا ترهب الدهر سطوة

وصعبا به نعيي الخطوب المصاعبا

سأستعتب الأيام فيك لعلّها

لصحّة ذاك الجسم تطلب طالبا

لئن أفلت شمس المكارم عنكم

لقد أسأرت بدرا لها وكواكبا (٢)

قال في «المطمح» (٣) : ودبّت إلى أبي عامر بن شهيد أيام العلويين عقارب ، برئت بها منه أباعد وأقارب ، واجهه بها صرف قطوب ، وانبرت إليه منها (٤) خطوب ، نبا لها جنبه (٥) عن المضجع ، وبقي بها ليالي يأرق ولا يهجع ، إلى أن أعلقت في الاعتقال آماله ، وعقلته في عقال أذهب ماله ، فأقام مرتهنا ، ولقي وهنا ، وقال : [الطويل]

قريب بمحتلّ الهوان مجيد

يجود ويشكو حزنه فيجيد

نعى صبره عند الإمام فيا له

عدوّ لأبناء الكرام حسود

وما ضرّه إلّا مزاح ورقّة

ثنته سفيه الذّكر وهو رشيد

جنى ما جنى في قبّة الملك غيره

وطوّق منه بالعظيمة جيد

وما فيّ إلّا الشّعر أثبته الهوى

فسار به في العالمين فريد (٦)

أفوه بما لم آته متعرّضا

لحسن المعاني تارة فأزيد

فإن طال ذكري بالمجون فإنها

عظائم لم يصبر لهنّ جليد

وهل كنت في العشّاق أول عاقل

هوت بحجاه أعين وخدود (٧)

فراق وشجو واشتياق وذلّة

وجبّار حفّاظ عليّ عتيد

فمن يبلغ الفتيان أنّي بعدهم

مقيم بدار الظالمين وحيد

__________________

(١) في ج : «أبا حاتم صبر الأديم».

(٢) أسأرت : أبقت بقية.

(٣) المطمح ص ٢٠.

(٤) في ه : «وانبرت إليه منه خطوب».

(٥) في ه : «نبالها جفنة».

(٦) في ب ، ه : «فريد».

(٧) حجاه : عقله.

١٦٦

مقيم بدار ساكنوها من الأذى

قيام على جمر الحمام قعود

ويسمع للحيان في جنباتها

بسيط كترجيع الصّدى ونشيد (١)

ولست بذي قيد يرنّ ، وإنما

على اللّحظ من سخط الإمام قيود

وقلت لصدّاح الحمام وقد بكى

على القصر إلفا والدموع تجود

ألا أيها الباكي على من تحبّه

كلانا معنّى بالخلاء فريد

وهل أنت دان من محبّ نأى به

عن الإلف سلطان عليه شديد

فصفّق من ريش الجناحين واقعا

على القرب حتى ما عليه مزيد (٢)

وما زال يبكيني وأبكيه جاهدا

وللشوق من دون الضّلوع وقود

إلى أن بكى الجدران من طول شجونا

وأجهش باب جانباه حديد (٣)

أطاعت أمير المؤمنين كتائب

تصرّف في الأموال كيف تريد

فللشمس عنها بالنهار تأخّر

وللبدر شحنا بالظلام صدود

ألا إنها الأيام تلعب بالفتى

نحوس تهادى تارة وسعود

وما كنت ذا أيد فأذعن ذا قوى

من الدهر مبد صرفه ومعيد (٤)

وراضت صعابي سطوة علويّة

لها بارق نحو الندى ورعود

تقول التي من بيتها كفّ مركبي

أقربك دان أم مداك بعيد (٥)

فقلت لها أمري إلى من سمت به

إلى المجد آباء له وجدود

ثم قال (٦) : ولزمته آخر عمره علّة دامت به سنين ، ولم تفارقه حتى تركته يد جنين ، وأحسب أن الله أراد بها تمحيصه ، وإطلاقه من ذنب كان قنيصه ، فطهره تطهيرا ، وجعل ذلك على العفو له ظهيرا ، فإنها أقعدته حتى حمل في المحفّة ، وعاودته (٧) حتى غدت لرونقه مشتفّة ، وعلى ذلك فلم يعطل لسانه ، ولم يبطل إحسانه ، ولم يزل يستريح إلى القول ، ويزيح

__________________

(١) في ب ، ه : «ويسمع للجنان في جنباتها».

(٢) في ه : «فصفق من ريش الجناحين واقفا».

(٣) في ج : «إلى أن بكى الجذلان». والشجو : الحزن. وأجهش : بكى.

(٤) الأيد : القوة.

(٥) في ه : «أقربك دان أم نواك مديد».

(٦) انظر المطمح ص ٢١.

(٧) في ه : «وعادته».

١٦٧

ما كان يجده من الغول ، وآخر شعر قاله قوله : [الطويل]

ولمّا رأيت العيش لوّى برأسه

وأيقنت أنّ الموت لا شكّ لاحقي

تمنّيت أني ساكن في عباءة

بأعلى مهبّ الرّيح في رأس شاهق

أردّ سقيط الطّلّ في فضل عيشتي

وحيدا وأحسو الماء ثني المعالق

خليليّ ، من ذاق المنيّة مرّة

فقد ذقتها خمسين ، قولة صادق (١)

كأني ، وقد حان ارتحالي ، لم أفز

قديما من الدنيا بلمحة بارق

فمن مبلغ عنّي ابن حزم وكان لي

يدا في ملمّاتي وعند مضايقي :

عليك سلام الله إنّي مفارق

وحسبك زادا من حبيب مفارق

فلا تنس تأبيني إذا ما ذكرتني

وتذكار أيّامي وفضل خلائقي (٢)

وحرّك له بالله من أهل فنّنا

إذا غيّبوني كلّ شهم غرانق (٣)

عسى هامتي في القبر تسمع بعضه

بترجيع شاد أو بتطريب طارق

فلي في ادّكاري بعد موتي راحة

فلا تمنعوها لي علالة زاهق

وإني لأرجو الله فيما تقدّمت

ذنوبي به ممّا درى من حقائق (٤)

وكان أبو مروان عبد الملك بن غصن (٥) مستوليا على وزارة ابن عبيدة (٦) ولسانه ينشد : [الطويل]

وشيّدت مجدي بين أهلي ولم أقل

ألا ليت قومي يعلمون صنيعي

وهجا ابن ذي النون بقوله : [الطويل]

تلقّبت بالمأمون ظلما ، وإنني

لآمن كلبا حيث لست مؤمّنه

حرام عليه أن يجود ببشره

وأمّا النّدى فاندب هنالك مدفنه

سطور المخازي دون أبواب قصره

بحجّابه للقاصدين معنونه

__________________

(١) في ج : «خليلي من رام المنية .. فقد رمتها».

(٢) في ه : «فلا تنس تأبيني إذا ما فقدتني».

(٣) في ب : «وحرك له بالله مهما ذكرتني .. كل سهم». والغرانق : الأبيض الناعم الجميل.

(٤) في ه : «فيما درى من حقائقي».

(٥) في ج : «عبد الملك بن حصن».

(٦) في ج : «ابن عبدة».

١٦٨

فلمّا تمكّن منه المأمون سجنه ، فكتب إلى ابن هود من أبيات : [الطويل]

أيا راكب الوجناء بلّغ تحيّة

أمير جذام من أسير مقيّد

ولمّا دهتني الحادثات ولم أجد

لها وزرا أقبلت نحوك أعتدي (١)

ومثلك من يعدي على كلّ حادث

رمى بسهام للردى لم ترصد (٢)

فعلّك أن تخلو بفكرك ساعة

لتنقذني من طول همّ مجدّد

وها أنا في بطن الثرى وهو حامل

فيسّر على رقبى الشفاعة مولدي

حنانيك ألفا بعد ألف فإنني

جعلتك بعد الله أعظم مقصدي

وأنت الذي يدري إذا رام حاجة

تضلّ بها الآراء من حيث يهتدي

فرقّ له ابن هود ، وتحيّل حتى خلّصه بشفاعته ، فلمّا قدم عليه أنشده : [المتقارب]

حياتي موهوبة من علاكا

وكيف أرى عادلا عن ذراكا (٣)

ولو لم يكن لك من نعمة

عليّ وأصبحت أبغي سواكا

لناديت في الأرض هل مسعف

مجيب فلم يصغ إلّا نداكا

فطرب ابن هود ، وخلع عليه ثوب وزارته ، وجعله من أعلام سلطنته وإمارته.

وقال المنصور بن أبي عامر للشاعر المشهور أبي عمر يوسف الرمادي : كيف ترى حالك معي؟ فقال : فوق قدري ودون قدرك! فأطرق المنصور كالغضبان ، فانسلّ الرمادي وخرج وقد ندم على ما بدر منه ، وجعل يقول : أخطأت ، لا والله ما يفلح مع الملوك من يعاملهم بالحقّ ، ما كان ضرّني لو قلت له : إني بلغت السماء ، وتمنطقت بالجوزاء ، وأنشد (٤) : [الطويل]

متى يأت هذا الموت لا يلف حاجة

لنفسي إلّا قد قضيت قضاءها

لا حول ولا قوة إلّا بالله. ولمّا خرج كان في المجلس من يحسده على مكانه من المنصور ، فوجد فرصة فقال : وصل الله لمولانا الظفر والسعد! إنّ هذا الصنف صنف زور وهذيان لا يشكرون نعمة ، ولا يرعون إلّا ولا ذمّة ، كلاب من غلب ، وأصحاب من أخصب ، وأعداء من أجدب ، وحسبك منهم أنّ الله جلّ جلاله يقول فيهم (وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ (٢٢٤))

__________________

(١) في ه : «أغتدي». والوزر : الملجأ. وأعتدي : أراد أطلب النصرة.

(٢) يعدي : ينصر.

(٣) عادلا : مائلا.

(٤) في ب : «وأنشدته».

١٦٩

[سورة الشعراء ، الآية : ٢٢٤] ـ إلى (ما لا يَفْعَلُونَ) [سورة الشعراء ، الآية : ٢٢٦] والابتعاد منهم أولى من الاقتراب ، وقد قيل فيهم : ما ظنّك بقوم الصدق يستحسن إلّا منهم؟ فرفع المنصور رأسه ، وكان محبّا في أهل الأدب والشعر ، وقد اسودّ وجهه ، وظهر فيه الغضب المفرط ، ثم قال : ما بال أقوام يشيرون في شيء لم يستشاروا فيه ، ويسيئون الأدب بالحكم فيما لا يدرون ، أيرضى أم يسخط؟ وأنت أيّها المنبعث للشّرّ دون أن يبعث ، قد علمنا غرضك في أهل الأدب والشعر عامة ، وحسدك لهم ؛ لأنّ الناس كما قال القائل : [مجزوء الرمل]

من رأى الناس له فض

لا عليهم حسدوه

وعرفنا غرضك في هذا الرجل خاصّة ، ولسنا إن شاء الله تعالى نبلّغ أحدا غرضه في أحد ، ولو بلّغناكم بلغنا في جانبكم ، وإنك ضربت في حديد بارد ، وأخطأت وجه الصواب ، فزدت بذلك احتقارا وصغارا ، وأني ما أطرقت من كلام الرمادي (١) إنكارا عليه ، بل رأيت كلاما يجلّ عن الأقدار الجليلة ، وتعجّبت من تهدّيه له بسرعة ، واستنباطه له على قلة (٢) من الإحسان الغامر ما لا يستنبطه غيره بالكثير ، والله لو حكّمته في بيوت الأموال لرأيت أنها لا ترجح ما تكلّم به قلبه ذرة ، وإياكم أن يعود أحد منكم إلى الكلام في شخص قبل أن يؤخذ معه فيه ، ولا تحكموا علينا في أوليائنا ولو أبصرتم منا التغيّر عليهم ، فإنّنا لا نتغيّر عليهم بغضا لهم وانحرافا عنهم ، بل تأديبا وإنكارا ، فإنّا من نريد إبعاده لم نظهر له التغيّر ، بل ننبذه مرّة واحدة ، فإن التغيّر إنما يكون لمن يراد استبقاؤه ، ولو كنت مائل السمع لكلّ أحد منكم في صاحبه لتفرّقتم أيدي سبا ، وجونبت أنا مجانبة الأجرب ، وإني قد أطلعتكم على ما في ضميري فلا تعدلوا عن مرضاتي ، فتجنّبوا سخطي بما جنيتموه على أنفسكم ، ثم أمر أن يردّ الرمادي وقال له : أعد عليّ كلامك ، فارتاع ، فقال : الأمر على خلاف ما قدرت ، الثواب أولى بكلامك من العقاب ، فسكن لتأنيسه ، وأعاد ما تكلّم به ، فقال المنصور : بلغنا أنّ النعمان بن المنذر حشا فم النابغة بالدّرّ لكلام استملحه (٣) منه ، وقد أمرنا لك بما لا يقصر عن ذلك ما هو أنوه وأحسن عائدة ، وكتب له بمال وخلع وموضع يتعيّش (٤) منه ، ثم ردّ رأسه إلى المتكلّم في شأن الرمادي ، وقد كاد يغوص في الأرض لو وجد لشدّة ما حلّ به ممّا رأى وسمع (٥) وقال : والعجب من قوم

__________________

(١) في ب ، ه : «من خطاب الرمادي».

(٢) في ب ، ه : «على قلته».

(٣) في ب ، ه : «لكلام استحسنه منه».

(٤) في ه : «وموضع ينتعش منه».

(٥) في ه : «عما سمع ورأى».

١٧٠

يقولون الابتعاد من الشعراء أولى من الاقتراب ، نعم ذلك لمن ليس له مفاخر يريد تخليدها ، ولا أياد يرغب في نشرها ، فأين الذين قيل فيهم (١) : [الطويل]

على مكثريهم رزق من يعتريهم

وعند المقلّين السماحة والبذل

وأين الذي قيل فيه (٢) : [المديد]

إنما الدنيا أبو دلف

بين مبداه ومحتضره

فإذا ولّى أبو دلف

ولّت الدنيا على أثره

أما كان في الجاهلية والإسلام أكرم ممّن قيل فيه هذا القول؟ بلى ، ولكن صحبة الشعراء والإحسان إليهم أحيت غابر ذكرهم ، وخصّتهم بمفاخر عصرهم ، وغيرهم لم تخلّد الأمداح مآثرهم فدثر ذكرهم ، ودرس فخرهم ، انتهى.

ومن حكاياتهم في العدل أنه لمّا بنى المعتصم بن صمادح ملك ألمرية قصوره المعروفة بالصمادحية غصبوا أحد الصالحين في جنّة وألحقوها بالصمادحية ، وزعم ذلك الصالح أنها لأيتام من أقاربه ، فبينا المعتصم يوما يشرب على الساقية الداخلة إلى الصمادحية إذ وقعت عينه على أنبوب قصبة مشمع ، فأمر من يأتيه به ، فلمّا أزال عنه الشمع وجد فيه ورقة فيها «إذا وقفت أيها الغاصب على هذه الورقة فاذكر قول الله تعالى (إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ فَقالَ أَكْفِلْنِيها وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ (٢٣)) [سورة ص ، الآية : ٢٣] لا إله إلّا الله ، أنت ملك قد وسّع الله تعالى عليك ، ومكّن لك في الأرض ، ويحملك الحرص على ما يفنى أن تضمّ إلى جنّتك الواسعة العظيمة قطعة أرض لأيتام حرّمت بها حلالها ، وخبثت طيبها ، ولئن تحجّبت عني بسلطانك ، واقتدرت عليّ بعظم شأنك ، فنجتمع غدا بين يدي من لا يحجب عن حقّ ، ولا تضيع عنده شكوى. فلمّا استوعب قراءتها دمعت عيناه ، وأخذته خشية خيف عليه منها ، وكانت عادته رحمه الله تعالى ، وقال : عليّ بالمشتغلين ببناء الصمادحية ، فأحضروا ، فاستفسرهم عمّا زعم الرجل ، فلم يسعهم إلّا صدقه ، واعتذروا بأنّ نقصها من الصمادحية يعيبها في عين الناظر ، فاستشاط غضبا وقال : والله إنّ عيبها في عين الخالق أقبح من عيبها في عين المخلوق ، ثم أمر بأن تصرف إليه (٣) ، واحتمل تعويرها لصمادحيته. ولقد مرّ بعض أعيان ألمرية وأخيارها مع جماعة على هذا المكان الذي أخرجت منه جنّة الأيتام فقال أحدهم : والله

__________________

(١) البيت لزهير بن أبي سلمى. انظر ديوانه (شرح الأعلم ، ص ٢٢).

(٢) انظر طبقات ابن المعتز ، ص ١٧٢. والبيتان لعلي بن جبلة.

(٣) في ب ، ه : «بأن تصرف عليه».

١٧١

لقد عورت هذه القطعة هذا المنظر العجيب ، فقال له : اسكت ، فو الله إنّ هذه القطعة طراز هذا المنظر وفخره ، وكان المعتصم إذا نظر إليها قال : أشعرتم أن هذا المكان المعوجّ في عيني أحسن من سائر ما استقام من الصمادحية؟ ثم إنّ وزيره ابن أرقم لم يزل يلاطف الشيخ والأيتام حتى باعوها عن رضا بما اشتهوا من الثمن ، وذلك بعد مدة طويلة ، فاستقام بها بناء الصمادحية ، وحصل للمعتصم حسن السمعة في الناس ، والجزاء عند الله تعالى : ولمّا مات المعتصم بن صمادح ركب البحر ابنه وليّ عهده الواثق عزّ الدولة أبو محمد عبد الله ، وفارق الملك كما أوصاه المعتصم والده وفي ذلك يقول : [الطويل]

لك الحمد بعد الملك أصبحت خاملا

بأرض اغتراب لا أمرّ ولا أحلي (١)

وقد أصدأت فيها الجذاذة أنملي

كما نسيت ركض الجياد بها رجلي (٢)

فلا مسمعي يصغي لنغمة شاعر

وكفّي لا تمتدّ يوما إلى بذل

قال ابن اللبانة الشاعر : ما علمت حقيقة جور الدهر حتى اجتمعت ببجاية مع عزّ الدولة بن المعتصم بن صمادح فإني رأيت منه خير من يجتمع به ، كأنه لم يخلقه الله تعالى إلّا للملك والرياسة وإحياء الفضائل ، ونظرت إلى همّته تنمّ من تحت خموله كما ينمّ فرند السيف وكرمه من تحت الصدأ (٣) ، مع حفظه لفنون الأدب والتواريخ وحسن استماعه وإسماعه ، ورقّة طباعه ولطافة ذهنه ، ولقد ذكرته لأحد من صحبته من الأدباء في ذلك المكان ووصفته بهذه الصفات ، فتشوّق إلى الاجتماع به ، ورغب إليّ في أن أستأذنه في ذلك ، فلما أعلمت عزّ الدولة قال : يا أبا بكر ، لتعلم أنّا اليوم في خمول وضيق لا يتّسع لنا معهما ، ولا يحمل بنا الاجتماع مع أحد ، لا سيما مع ذي أدب ونباهة يلقانا بعين الرحمة ، ويزورنا بمنّة التفضّل في زيارتنا ، ونكابد من ألفاظ توجّعه وألحاظ تفجّعه ما يجدّد لنا همّا قد بلي ، ويحيي كمدا قد فني ، وما لنا قدرة على أن نجود عليه بما يرضى به عن همّتنا ، فدعنا كأننا في قبر ، نتدرع لسهام الدهر بدرع الصبر ، وأما أنت فقد اختلطت بنا اختلاط اللحم بالدم ، وامتزجت امتزاج الماء بالخمر ، فكأنّا لم نكشف حالنا لسوانا ، ولا أظهرنا ما بنا لغيرنا ، فلا تحمل غيرك محملك ، قال ابن اللبانة : فملأ والله سمعي بلاغة لا تصدر إلّا عن سداد ونفس أبيّة متمكّنة من

__________________

(١) في ه : «لك الحمد بعد الملك أصبح خاملا».

(٢) في أ : «وقد أصدأت فيها الجذاذة منهلي».

(٣) فرند السيف : ما يرى في السيف من تموجات الضوء.

١٧٢

أعنّة البيان ، وانصرفت متمثّلا (١) : [الطويل]

لسان الفتى نصف ونصف فؤاده

ولم يبق إلّا صورة اللحم والدم

وكائن ترى من صامت لك معجب

زيادته أو نقصه في التكلّم

وكتب إليه ابن اللبانة : [البسيط]

يا ذا الذي هزّ أمداحي بحليته

وعزّه أن يهزّ المجد والكرما (٢)

واديك لا زرع فيه اليوم تبذله

فخذ عليه لأيام المنى سلما

فتحيّل في قليل برّ ووجّهه إليه وكتب معه : [البسيط]

المجد يخجل من يفديك من زمن

ثناك عن واجب البرّ الذي علما

فدونك النّزر من مصف مودّته

حتّى يوفّيك أيام المنى السّلما

ومن شعر عز الدولة المذكور : [الطويل]

أفدّي أبا عمرو وإن كان عاتبا

فلا خير في ودّ يكون بلا عتب

وما كان ذاك الودّ إلّا كبارق

أضاء لعيني ثم أظلم في قلبي

وقال الشقندي في الطرف : إنّ عزّ الدولة أشعر من أبيه. وأمّا أخوه رفيع الدولة الحاجب أبو زكريا يحيى بن المعتصم فله أيضا نظم رائق ، ومنه ما كتب به إلى يحيى بن مطروح يستدعيه لأنس (٣) : [الرمل]

يا أخي بل سيّدي بل سندي

في مهمّات الزمان الأنكد

لح بأفق غاب عنه بدره

في اختفاء من عيون الحسّد

وتعجّل فحبيبي حاضر

وفمي يشتاق كأسي في يدي

فأجابه ابن مطروح ، وهو من أهل باغة ، بقوله : [الرمل]

أنا عبد من أقلّ الأعبد

قبلتي وجه بأفق الأسعد

كلما أظمأني ورد فما

منهلي إلّا بذاك المورد

ها أنا بالباب أبغي إذنكم

والظّما قد مدّ للكأس يدي

__________________

(١) البيتان لزهير بن أبي سلمى المزني ، انظر شرح القصائد العشر للتبريزي تحقيق فخر الدين قباوة.

(٢) في ه : «هز أمداحي بحيلته».

(٣) انظر المغرب ج : ٢ ص ٢٠٠.

١٧٣

وكان قد سلّط عليه إنسان مختلّ إذا رآه يقول : هذا ألف لا شيء عليه ، يعني أنّ ملكه ذهب عنه وبقي فارغا منه ، فشكا رفيع الدولة ذلك إلى بعض أصحابه ، فقال : أنا أكفيك مؤونته ، واجتمع مع الأحمق ، واشترى له حلواء ، وقال له : إذا رأيت رفيع الدولة بن المعتصم فسلّم عليه وقبّل يده ولا تقل هذا ألف لا شيء عليه ، فقال : نعم ، واشترط الوفاء بذلك ، إلى أن لقيه فجرى نحوه وقبّل يده وقال : هذا هو باء بنقطة من أسفل ، فقامت قيامة رفيع الدولة ، وكان ذلك أشدّ عليه ، وكان به علّة الحصا فظنّ أنّ الأحمق علم ذلك وقصده ، وصار كلّما أحسّ به في موضع تجنّبه.

واستأذن يوما على أحد وجوه دولة المرابطين فقال أحد جلسائه (أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ) [سورة البقرة ، الآية : ١٣٤] استحقارا له واستثقالا للإذن له ، فبلغ ذلك رفيع الدولة فكتب إليه : [الطويل]

خلت أمّتي لكنّ ذاتي لم تخل

وفي الفرع ما يغني إذا ذهب الأصل

وما ضرّكم لو قلتم قول ماجد

يكون له فيما يجيء به الفضل

وكلّ إناء بالذي فيه راشح

وهل يمنح الزنبور ما مجّه النّحل

سأصرف وجهي عن جناب تحلّه

ولو لم تكن إلّا إلى وجهك السّبل

فما موضع تحتلّه بمرفّع

ولا يرتضى فيه مقال ولا فعل

وقد كنت ذا عذل لعلّك ترعوي

ولكن بأرباب العلا يجمل العذل

وأما أخوهما أبو جعفر بن المعتصم فله ترجمة في المسهب والمطرب والمغرب (١) ، ومن شعره : [الطويل]

كتبت وقلبي ذو اشتياق ووحشة

ولو أنه يسطيع مرّ يسلّم

جعلت سواد العين فيه سواده

وأبيضه طرسا وأقبلت ألثم

فخيّل لي أني أقبّل موضعا

يصافحه ذاك البنان المسلّم (٢)

وأما أختهم أم الكرم فذكرناها مع النساء فلتراجع.

وقال أبو العلاء بن زهر : [الكامل]

تمّت محاسن وجهه وتكاملت

لمّا بدا وعليه صدغ مونق

وكذلك البدر المنير جماله

في أن تكنّفه سماء أزرق

__________________

(١) انظر المغرب ج : ٢ ص ٢٠٠.

(٢) في ب : «البنان المسلم».

١٧٤

وقال أبو الفضل بن شرف : [السريع]

يا من حكى البيدق في شكله

أصبح يحكيك وتحكيه

أسفله أوسع أجزائه

ورأسه أصغر ما فيه

وقال ابن خفاجة (١) : [السريع]

يا أيها الصّبّ المعنّى به

ها هو لا خلّ ولا خمر

سوّد ما ورّد من خدّه

فصار فحما ذلك الجمر

وقال أبو عبد الله البياسي : [الرمل]

صغر الرأس وطول العنق

شاهدا عدل بفرط الحمق

ولمّا سمعه أبو الحسن بن حريق قال : [الرمل]

صغر الرأس وطول العنق

خلقة منكرة في الخلق

فإذا أبصرتها من رجل

فاقض في الحين له بالحمق

وقال أبو الحسن بن الفضل (٢) يذكر مقاما قامه سهل بن مالك وابن عيّاش : [الطويل]

لعمري لقد سرّ الخلافة قائما

بخطبته الغرّاء سهل بن مالك

وأما ابن عياش وقد كان مثله

فضلّوا جميعا بين تلك المسالك (٣)

ومات وماتوا حسرة وحسادة

وغيظا فقلنا هالك في الهوالك

وسهل بن مالك له ترجمة مطوّلة ، رحمه الله تعالى!

ومن حكاياتهم في الوفاء وحسن الاعتذار والقيام بحقّ الإخاء أنّ الوزير الوليد بن عبد الرحمن بن غانم كان صديقا للوزير هاشم بن عبد العزيز ، ثابتا على مودّته ، ولمّا قضى الله تعالى على هاشم بالأسر أجرى السلطان محمد بن عبد الرحمن الأموي ذكره في جماعة من خدّامه ، والوليد حاضر ، فاستقصره ، ونسبه للطيش والعجلة والاستبداد برأيه ، فلم يكن فيهم من اعتذر عنه غير الوليد ، فقال : أصلح الله تعالى الأمير! إنه لم يكن على هاشم التخير في الأمور (٤) ، ولا الخروج عن المقدور ، بل قد استعمل جهده ، واستفرغ نصحه ، وقضى حقّ

__________________

(١) انظر ديوان ابن خفاجة ص ١٩٠.

(٢) انظر القدح ص ١٠٨.

(٣) في ب : «وأما ابن عياش ومن كان مثله».

(٤) في ه : «التحير في الأمور» ، بالحاء ، وهو تحريف ، وقد أثبتنا ما في أ، ب ، ج.

١٧٥

الإقدام ، ولم يكن ملاك النصر بيده ، فخذله من وثق به ، ونكل عنه من كان معه ، فلم يزحزح قدمه عن موطن حفاظه ، حتى ملك مقبلا غير مدبر ، مبليا غير فشل ، فجوزي خيرا عن نفسه وسلطانه ، فإنه لا طريق للملام عليه ، وليس عليه ما جنته الحرب الغشوم ، وأيضا فإنه ما قصد أن يجود بنفسه إلّا رضا للأمير ، واجتنابا لسخطه ، فإذا كان ما اعتمد فيه الرضا جالب التقصير فذلك معدود في سوء الحظ ، فأعجب الأمير كلامه ، وشكر له وفاءه ، وأقصر فيما بعد عن تفنيد هاشم ، وسعى في تخليصه ، واتّصل الخبر بهاشم ، فكتب إليه : الصديق من صدقك في الشدّة لا في الرخاء ، والأخ من ذبّ عنك في الغيب لا في المشهد ، والوفيّ من وفى لك إذا خانك زمان ، وقد أتاني من كلامك بين يدي سيدنا ـ جعل الله تعالى نعمته سرمدا! ـ ما زادني بمودّتك اغتباطا ، وبصداقتك ارتباطا ، ولذلك ما كنت أشدّ يدي على وصلك ، وأخصّك (١) بإخائي ، وأنا الآن بموضع لا أقدر فيه على جزاء غير الثناء ، وأنت أقدر مني على أن تزيد ما بدأت به بأن تتمّ ما شرعت فيه ، حتى تتكمّل لك المنّة ، ويستوثق عقد الصداقة ، إن شاء الله تعالى ، وكتب إليه بشعر منه : [الطويل]

أيا ذاكري بالغيب في محفل به

تصامت جمع عن جواب به نصري

أتتني والبيداء بيني وبينها

رقى كلمات خلّصتني من الأسر

لئن قرّب الله اللقاء فإنني

سأجزيك ما لا ينقضي غابر الدّهر (٢)

فأجابه الوليد : خلصك الله أيها البدر من سرارك! وعجّل بطلوعك في أكمل تمامك وإبدارك (٣)! وصلني شكرك على أن قلت ما علمت ، ولم أخرج عن النصح للسلطان بما زكنته (٤) من ذلك ، والله تعالى شاهد ، على أنّ ذلك في مجالس غير المجلس المنقول لسيدي إن خفيت عن المخلوق فما تخفى عن الخالق ، ما أردت بها إلّا أداء بعض ما أعتقده لك ، وكم سهرت وأنا نائم ، وقمت في حقي وأنا قاعد ، والله لا يضيع أجر من أحسن عملا ، ثم ذكر أبياتا لم تحضرني الآن.

ومن حكاياتهم في علوّ الهمّة في العلم والدنيا أنه دخل أبو بكر بن الصائغ المعروف بابن باجة جامع غرناطة ، وبه نحويّ حوله شباب يقرءون ، فنظروا إليه ، وقالوا له مستهزئين به : ما

__________________

(١) في ه : «وأخصه بإخائي» محرفا. والتصويب من بقية النسخ.

(٢) في ه : «فإن قرب الله اللقاء».

(٣) وإبدار البدر : طلوعه وتمامه.

(٤) في ه : «بما زكيته من ذلك». وزكن له بفتح الزاي وكسر الكاف : خالطه وكان معه.

١٧٦

يحمل الفقيه؟ وما يحسن من العلوم؟ وما يقول؟ فقال لهم : أحمل اثني عشر ألف دينار ، وها هي تحت إبطي ، وأخرج لهم اثنتي عشرة ياقوتة ، كلّ واحدة منها بألف دينار ، وأمّا الذي أحسنه فاثنا عشر علما أدونها علم العربية الذي تبحثون فيه ، وأما الذي أحسنه فاثنا عشر علما أدونها (١) علم العربية الذي تبحثون فيه ، وأما الذي أقول فأنتم كذا ، وجعل يسبهم ، هكذا نقلت هذه الحكاية من خطّ الشيخ أبي حيان النحوي ، رحمه الله تعالى!

ومن حكاياتهم في الذكاء واستخراج العلوم واستنباطها أنّ أبا القاسم عباس بن فرناس ، حكيم الأندلس ، أوّل من استنبط بالأندلس صناعة الزجاج من الحجارة وأوّل من فكّ بها كتاب العروض للخليل ، وأوّل من فكّ الموسيقى ، وصنع الآلة المعروفة بالمنقالة (٢) ، ليعرف الأوقات على غير رسم ومثال ، واحتال في تطيير جثمانه ، وكسا نفسه الريش ، ومدّ له جناحين ، وطار في الجوّ مسافة بعيدة ، ولكنه لم يحسن الاحتيال في وقوعه ، فتأذّى في مؤخره ، ولم يدر أنّ الطائر إنما يقع على زمكّه (٣) ، ولم يعمل له ذنبا ، وفيه قال مؤمن بن سعيد الشاعر من أبيات : [الطويل]

يطمّ على العنقاء في طيرانها

إذا ما كسا جثمانه ريش قشعم (٤)

وصنع في بيته هيئة السماء ، وخيّل للناظر فيها النجوم والغيوم والبروق والرعود ، وفيه يقول مؤمن بن سعيد أيضا : [المنسرح]

سماء عباس الأديب أبي ال

قاسم ناهيك حسن رائقها

أمّا ضراط استه فراعدها

فليت شعري ما لمع بارقها

لقد تمنّيت حين دوّنها

فكري في البصق في است خالقها (٥)

وأنشد ابن فرناس الأمير محمدا من أبيات : [الطويل]

رأيت أمير المؤمنين محمدا

وفي وجهه بذر المحبّة يثمر

فقال له مؤمن بن سعيد : قبحا لما ارتكبته! جعلت وجه الخليفة محرثا يثمر فيه البذر ، فخجل وسبّه.

__________________

(١) أدونها : أقلها قيمة.

(٢) في ب : «بالمنقانة» وفي أ، ه «المنقالة». وفي ج «المثقال». وهي الساعة أي آلة حساب الوقت.

(٣) في ه : «زمكته». والزمك ـ بكسر الزاي والميم وتشديد الكاف ـ ذنب الطائر. ومثله الزمكي ، بزيادة ألف مقصورة.

(٤) القشعم : النسر.

(٥) في ب : «حين دوّمها .. فكري بالبصق ..».

١٧٧

وأول من اشتهر في الأندلس بعلم الأوائل والحساب والنجوم أبو عبيدة مسلم بن أحمد المعروف بصاحب القبلة ؛ لأنه كان يشرّق في صلاته ، وكان عالما بحركات الكواكب وأحكامها ، وكان صاحب فقه وحديث ، دخل المشرق ، وسمع بمكّة من علي بن عبد العزيز ، وبمصر من المزني وغيره.

ومنهم يحيى بن يحيى المعروف بابن السمينة ، من أهل قرطبة ، وكان بصيرا بالحساب والنجوم والنحو واللغة والعروض ومعاني الشعر والفقه والحديث والأخبار والجدل ، ودخل إلى المشرق ، وقيل : إنه كان معتزلي المذهب.

وأبو القاسم أصبغ بن السمح ، وكان بارعا في علم النجوم (١) والهندسة ، وله تآليف منها كتاب «المدخل إلى الهندسة في تفسير أقليدس» ، وكتاب كبير في الهندسة ، وكتابان في الأسطرلاب ، وزيج على مذاهب الهند المعروف بالسند هند.

وأبو القاسم بن الصفار ، وكان عالما بالهندسة والعدد والنجوم ، وله زيج مختصر على مذاهب السند هند ، وله كتاب في عمل الأسطرلاب.

ومنهم أبو الحسن الزهراوي ، وكان عالما بالعدد وبالطب (٢) والهندسة ، وله كتاب شريف في المعاملات على طريق البرهان.

ومنهم أبو الحكم عمر الكرماني ، من أهل قرطبة ، من الراسخين في علم العدد والهندسة ، ودخل المشرق ، واشتغل بحرّان ، وهو أوّل من دخل برسائل إخوان الصفا إلى الأندلس.

ومنهم أبو مسلم بن خلدون من أشراف إشبيلية ، وكان متصرّفا في علوم الفلسفة والهندسة والنجوم والطب ، وتلميذه ابن برغوث ، وكان عالما بالعلوم الرياضية ، وتلميذه أبو الحسن مختار الرعيني ، وكان بصيرا بالهندسة والنجوم ، وعبد الله بن أحمد السرقسطي ، كان ناقدا (٣) في علم الهندسة والعدد والنجوم ، ومحمد بن الليث ، كان بارعا في العدد والهندسة وحركات الكواكب ، وابن حيّ ، قرطبي بصير بالهندسة والنجوم ، وخرج عن الأندلس سنة اثنتين وأربعين وأربعمائة ، ولحق بمصر ، ودخل اليمن ، واتّصل بأميرها الصّليحي القائم

__________________

(١) في ه : «بارعا في علم النحو والهندسة ـ الخ» وما أثبتناه موافق ل : أ، ب ، ج.

(٢) في ب : «والطب».

(٣) في ب ، ه : «كان نافذا في علم الهندسة».

١٧٨

بدعوة (١) المستنصر العبيدي ، فحظي عنده ، وبعثه رسولا إلى بغداد إلى القائم بأمر الله ، وتوفي باليمن بعد انصرافه من بغداد ، وابن الوقشي (٢) الطليطلي ، عارف بالهندسة والمنطق والزيوج ، وغيرهم ممّن يطول تعدادهم.

وكان الحافظ أبو الوليد هشام الوقشي من أعلم الناس بالهندسة وآراء الحكماء والنحو واللغة ومعاني الأشعار والعروض وصناعة الكتابة والفقه والشروط والفرائض وغيرها ، وهو كما قال الشاعر : [الوافر]

وكان من العلوم بحيث يقضى

له في كلّ فنّ بالجميع

ومن شعره قوله : [الكامل]

قد بيّنت فيه الطبيعة أنها

بدقيق أعمال المهندس ماهره

عنيت بمبسمه فخطّت فوقه

بالمسك خطّا من محيط الدائره

وعزم على ركوب البحر إلى الحجاز فهاله ذلك ، فقال : [السريع]

لا أركب البحر ولو أنني

ضربت فيه بالعصا فانفلق (٣)

ما إن رأت عيني أمواجه

في فرق إلّا تناهى الفرق

وكان الوزير أبو المطرف عبد الرحمن بن مهند (٤) مصنّف الأدوية المفردة آية الله تعالى في الطب وغيره ، حتى أنه عانى جميع ما في كتابه من الأدوية المفردة ، وعرف ترتيب قواها ودرجاتها ، وكان لا يرى التداوي بالأدوية ما أمكن بالأغذية أو ما يقرب منها ، وإذا اضطرّ إلى الأدوية فلا يرى التداوي بالمركّبة ما وجد سبيلا إلى المفردة ، وإذا اضطرّ إلى المركّب لم يكثر التركيب ، بل يقتصر على أقل ما يمكنه ، وله غرائب مشهورة في الإبراء من الأمراض الصعبة والعلل المخوفة بأيسر علاج وأقربه.

ومنهم ابن البيطار (٥) ، وهو عبد الله بن أحمد المالقي الملقّب بضياء الدين ، وله عدّة

__________________

(١) في ه : «بدعوة معن المستنصر العبيدي».

(٢) كذا في أ، ب ، ه. وفي ج : «أبو الوقشي».

(٣) يشير بذلك إلى قصة موسى عليه السلام التي وردت في القرآن الكريم في أكثر من موضع وإلى معجزاته ومنها ضربه بعصاه البحر وانفلاقه كما جاء في سورة الشعراء ، الآية ٦٣ (فَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ).

(٤) في أ، ج ، ه : «شهيد» والتصويب من ابن أبي أصيبعة ج ٢ ص ٤٩.

(٥) انظر ابن أبي أصيبعة ج ٢ ص ١٣٣.

١٧٩

مصنّفات في الحشائش لم يسبق إليها ، وتوفي بدمشق سنة ست وأربعين وستمائة ، أكل عقارا قاتلا فمات من ساعته ، رحمه الله تعالى!.

ومن حكاياتهم في الحفظ أن الأديب الأوحد حافظ إشبيلية ، بل الأندلس في عصره ، أبا المتوكل الهيثم بن أحمد بن أبي غالب ، كان أعجوبة دهره في الرواية للأشعار والأخبار ، قال ابن سعيد : أخبرني من أثق به أنه حضر معه ليلة عند أحد رؤساء إشبيلية فجرى ذكر حفظه ، وكان ذلك في أول الليل ، فقال لهم : إن شئتم تختبروني (١) أجبتكم ، فقالوا له : بسم الله ، إنّا نريد أن نحدّث عن تحقيق ، فقال : اختاروا أيّ قافية شئتم لا أخرج عنها ، حتى تعجبوا (٢) ، فاختاروا القاف ، فابتدأ من أوّل الليل إلى أن طلع الفجر ، وهو ينشد وزن : [الكامل]

أرق على أرق ومثلي يأرق (٣)

وسمّاره قد نام بعض وضجّ بعض ، وهو ما فارق قافية القاف.

وقال أبو عمران بن سعيد : دخلت عليه يوما بدار الأشراف بإشبيلية ، وحوله أدباء ينظرون في كتب منها ديوان ذي الرّمّة ، فمدّ الهيثم يده إلى الديوان المذكور ، فمنعه منه أحد الأدباء ، فقال : يا أبا عمران ، أواجب أن يمنعه مني وما يحفظ منه بيتا ، وأنا أحفظه؟ فأكذبته الجماعة ، فقال : اسمعوني وأمسكوه ، فابتدأ من أوّله حتى قارب نصفه ، فأقسمنا عليه أن يكفّ ، وشهدنا له بالحفظ.

وكان آية في سرعة البديهة ، مشهورا بذلك ، قال أبو الحسن بن سعيد : عهدي به في إشبيلية يملي على أحد الطلبة شعرا ، وعلى ثان موشحة ، وعلى ثالث زجلا ، كلّ ذلك ارتجالا.

ولمّا أخذ الحصار بمخنّق إشبيلية في مدة الباجي خرج خروج القارظين (٤) ، ولا يدري حيث ولا أين.

ومن شعره وقد نزل بداره عبيد السلطان ، وكتب به إلى صاحب الأنزال : [الكامل]

كم من يد لك لا أقوم بشكرها

وبها أشير إليك إن خرست فمي

__________________

(١) كذا في نسح النفح ، والأفضل أن يقال : «تختبرونني» أو «إن شئتم أن تختبرونني».

(٢) في ه : «حتى تعجبوا» وعجّ : رفع صوته.

(٣) هذا صدر بيت لأبي الطيب المتنبي والبيت هو :

أرق على أرقي ومثلي يأرق

وجوى يزيد وعبرة تتدفق

(٤) أي خرج ولم يعد ، ولم يدر أحد إلى أين ذهب. شأن القارظين المضروب بها المثل في عدم الأوبة.

١٨٠