نفح الطّيب - ج ٤

الشيخ أحمد بن محمد المقري التلمساني

نفح الطّيب - ج ٤

المؤلف:

الشيخ أحمد بن محمد المقري التلمساني


المحقق: يوسف الشيخ محمّد البقاعي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٣٠

علم ثنى العالمين عنك كما

ثنى عن الشمس من يلاحظها

وقد أتتني فديت شاغلة

للنفس أن قلت فاظ فائظها (١)

فأوضحنها تفز بنادرة

قد بهظ الأوّلين باهظها

فأجابه الزبيدي ، وضمّن شعره الشاهد على ذلك : [الطويل]

أتاني كتاب من كريم مكرّم

فنفّس عن نفس تكاد تفيظ

فسرّ جميع الأولياء وروده

وسيء رجال آخرون وغيظوا

لقد حفظ العهد الذي قد أضاعه

لديّ سواه والكريم حفيظ

وباحثت عن فاظت وقبلي قالها

رجال لديهم في العلوم حظوظ

روى ذاك عن كيسان سهل وأنشدوا

مقال أبي الغياظ وهو مغيظ

وسميت غياظا ولست بغائظ

عدوّا ولكن للصديق تغيظ

فلا رحم الرحمن روحك حيّة

ولا هي في الأرواح حين تفيظ

قلت : وفي خطاب الوزير بهذا البيت وإن حكي عن قائله ما لا يخفى أن اجتنابه المطلوب ، على أنه قد يقال «فاضت نفسه» بالضاد ، كما ذكره ابن السكيت في خلل «الألفاظ» له (٢) ، والله أعلم.

وكتب الزبيدي المذكور إلى أبي مسلم بن فهد (٣) : [الطويل]

أبا مسلم ، إنّ الفتى بجنابه

ومقوله ، لا بالمراكب واللبس

وليست ثياب المرء تغني قلامة

إذا كان مقصورا على قصر النفس (٤)

وليس يفيد العلم والحلم والحجا

أبا مسلم طول القعود على الكرسي

وقال ، وقد استأذن الحكم المستنصر في الرجوع إلى أهله بإشبيلية ولم يأذن له ، فكتب إلى جاريته سلمى : [مخلع البسيط]

ويحك يا سلم ، لا تراعي

لا بدّ للبين من زماع (٥)

__________________

(١) في ب : «إن قلت».

(٢) كذا في أصول النفح ، ولابن السكيت كتاب اسمه «الألفاظ» وقد يكون هو المراد.

(٣) انظر الجذوة ص ٤٣.

(٤) القلامة : قصاصة الظفر.

(٥) الزّماع : الرعدة أو شبهها تأخذ الإنسان إذا هم بأمر.

٣٨١

لا تحسبيني صبرت إلّا

كصبر ميت على النّزاع

ما خلق الله من عذاب

أشدّ من وقفة الوداع

ما بينها والحمام فرق

لو لا المناحات والنواعي (١)

إن يفترق شملنا وشيكا

من بعد ما كان ذا اجتماع

فكلّ شمل إلى افتراق

وكلّ شعب إلى انصداع

وكلّ قرب إلى بعاد

وكلّ وصل إلى انقطاع

واجتمع جماعة من الأدباء فيهم أبو الحسن سهل بن مالك والمهر بن الفرس وغيرهما بمدينة سبتة سنة ٥٨١ ، فتذاكروا محبوبا لهم يسكن الجزيرة الخضراء أمامهم ، فقالوا : ليقل كلّ واحد منكم (٢) شيئا فيه ، فقال سهل بن مالك : [الكامل]

لمّا حططت بسبتة قتب النّوى

والقلب يرجو أن يحوّل حاله (٣)

والجوّ مصقول الأديم كأنما

يبدي الخفيّ من الأمور صقاله

عاينت من بلد الجزيرة مكنسا

والبحر يمنع أن يصاد غزاله (٤)

كالشكل في المرآة تبصره وقد

قربت مسافته وعزّ مناله

فقال الجماعة : والله لا يقول أحد منا بعد هذا شيئا.

ولمّا قرأ أبو محمد عبد الله بن مطروح البلنسي صداق إملاك ، وغيّر فيه حال القراءة لفظة «غير» برفع ما كان منصوبا أو بالعكس ، أنشد بديها بعد الفراغ معتذرا عن لحنه : [مخلعالبسيط]

غيرت غيرا فصرت عيرا

وهكذا من يجدّ سيرا (٥)

فأجابه الحافظ أبو الربيع بن سالم الكلاعي ، وكان إلى جانبه ، بديهة : [مخلع البسيط]

ما أنت مما يظنّ فيه

بذاك جهل فظنّ خيرا (٦)

__________________

(١) الحمام : الموت.

(٢) في ه : «كل واحد منا».

(٣) في القدح : «ولما أنخت بسبتة قتب النوى».

والقتب : الرحل الصغير.

(٤) المكنس والكناس : مسكن الظباء.

(٥) العير ـ بفتح العين وسكون الياء : الحمار الأليف أو الوحشيّ.

(٦) في ه : «ما أنت ممن يظنّ منه».

٣٨٢

ووقف أبو أمية بن حمدون بباب الأستاذ الشلوبين ، فكتب في ورقة «أبو أمية بالباب» ودفع الورقة لخادم الأستاذ ، فلمّا نظر إليها الأستاذ نوّن تاء أمية ، ولمن يزد على ذلك ، وأمر الخادم بدفع الورقة إليه ، فلمّا نظر فيها أبو أمية انصرف ، علما منه أن الأستاذ صرفه ، فانظر إلى فطنة الشيخ والتلميذ ، مع أنّ الشيخ منسوب إلى التغفّل في غير العلم.

ومن حكايات أهل الأندلس في العفو أنّ المعتصم بن صمادح كان قد أحسن للنّحلي البطليوسي ، ثم إنّ النّحلي سار إلى إشبيلية ، فمدح المعتضد بن عباد بشعر قال فيه : [المتقارب]

أباد ابن عبّاد البربرا

وأفنى ابن معن دجاج القرى

ونسي ما قاله ، حتى حلّ بالمريّة ، فأحضره ابن صمادح لمنادمته ، وأحضر للعشاء موائد ليس فيها غير دجاج ، فقال النّحلي : يا مولاي ، ما عندكم في المرية لحم غير الدجاج؟ فقال :

إنما أردنا أن نكذبك (١) في قولك :

وأفنى ابن معن دجاج القرى

فطار سكر النحلي ، وجعل يعتذر ، فقال له : خفّض عليك ، إنما ينفق مثلك بمثل هذا ، وإنما العتب على من سمعه فاحتمل (٢) منك في حقّ من هو في نصابه ، ثم أحسن إليه ، وخاف النّحلي ، ففرّ من المرية ، ثم ندم فكتب إلى المعتصم : [المتقارب]

رضا ابن صمادح فارقته

فلم يرضني بعده العالم

وكانت مريّته جنّة

فجئت بما جاءه آدم

فما زال يتفقّده بالإحسان على بعد دياره ، وخروجه عن اختياره ، انتهى.

وقال في بلنسية أبو عبد الله الرصافي ، وقد خرج منها صغيرا : [الطويل]

بلادي التي ريشت قويدمتي بها

فريخا وآوتني قرارتها وكرا (٣)

مهادي ولين العيش في ريّق الصّبا

أبى الله أن أنسى اعتيادي بها خيرا

__________________

(١) في ب ، ه : «أردت أن أكذبك».

(٢) في ب ، ه : «فاحتمله منك».

(٣) في ه : «ريشت قديدمتي بها» تحريف.

والقويدمة : مصغر قادمة.

٣٨٣

وقال أبو بكر محمد بن يحيى الشلطيشي (١) : [الوافر]

وفاة المرء سرّ لم يكاشف

ولم تثبت حقيقته درايه

سيفنى كلّ ذي شبح ونفس

وتلتحق النهاية بالبدايه

وينصدع الجميع إلى صدوع

تعود به البريّة كالبرايه (٢)

كأنّ مصائب الدنيا سهام

لها الأيام أغراض الرمايه

فنل ما شئت إنّ الفقر بدء

وعش ما شئت إنّ الموت غايه (٣)

وقال أبو بكر محمد بن العطار اليابسي ، وهو من رجال الذخيرة : [البسيط]

أمطيت عزمك منه متن سابحة

خلت الحباب على لبّاتها لببا (٤)

تبدو على الموج أحيانا ويضمرها

كالعيس تعتسف الأهضاب والكثبا (٥)

وقال محمد بن الحسن الجبلي النحوي (٦) : [الطويل]

وما الأنس بالناس الذين عهدتهم

بأنس ولكن فقد رؤيتهم أنس

إذا سلمت نفسي وديني منهم

فحسبي أنّ العرض مني لهم ترس

وقال محمد بن حرب (٧) : [مجزوء الكامل]

طوبى لروضة جنّة

لك قد نويت ورودها

نظمت على لبّاتها

أيدي الغمام عقودها

وسقت بماء الورد وال

مسك الفتيت صعيدها (٨)

والطير تشدو في الغصو

ن المائدات قصيدها

وتعير سمع المستعي

ر نظيمها ونشيدها

__________________

(١) انظر المغرب ج ١ ص ٣٥٢.

(٢) البراية ـ بضم الباء ـ النحاتة المتساقطة من الشيء الذي نحت أو بري.

(٣) في ب : «إن الفقر حدّ».

(٤) اللبب : ما يشد من سيور السرج في صدر الدابة ليمنع تأخر السرج أو الرحل.

(٥) في ب : «كالعيس تعتسف الأهضام والكثبا».

وفي ه : «كالأيم يعتسف الأهضام والكثبا».

(٦) في أ : «الجيلي». وفي ه : «الحبلي» وقد أثبتناه كما في ب والجذوة.

(٧) انظر الجذوة ص ٨٥.

(٨) الصعيد : التراب.

٣٨٤

وكان في دار محمد بن اليسع شاعر الدولة العامرية وردة (١) ، وكان يهدي وردها كلّ عام إلى عارض الجيش أحمد بن سعيد ، فغاب العارض سنة ، فقال : [مجزوء الرمل]

قال لي الورد وقد لا

حظته في روضتيه

وهو قد أينع طيبا

جمع الحسن لديه

أين مولاي الذي قد

كنت تهديني إليه

قلت غاب العام فايأس

أن ترى بين يديه

فبدا يذبل حتى

ظهر الحزن عليه

وقال أحمد بن أفلح (٢) : [البسيط]

ما أستريح إلى حال فأحمدها

بالبين قلبي وقبل البين قد ذهبا

إن كان لي أرب في العيش بعدكم

فلا قضيت إذن من حبّكم أربا

وقال أحمد بن تليد (٣) الكاتب : [السريع]

لم أرض بالذّلّ وإن قلّا

والحرّ لا يحتمل الذّلّا

يا ربّ خلّ كان لي خامل

صار إلى العزّة ماخلا (٤)

حرّمت إلمامي على بابه

ووصله لم أره حلّا

تأبى عليّ النفس من أن أرى

يوما على مستثقل كلّا (٥)

وقال إسحاق بن المنادي (٦) ، وقد أهدى له من يهواه تفاحة : [الوافر]

مجال العين في ورد الخدود

يذكّر طيب جنّات الخلود

وآرجة من التفاح تزهو

بطيب النشر والحسن الفريد (٧)

أقول لها فضحت المسك طيبا

فقالت لي بطيب أبي الوليد

__________________

(١) انظر ترجمته في الجذوة ص ٩٠.

(٢) في أ : «محمد بن أفلح».

(٣) في ه : «أحمد بن تلميذ» تحريف. انظر الجذوة ص ١١١.

(٤) في ب : «صار إلى العزة فاحولّا».

(٥) الكلّ ـ بفتح الكاف : العالة على غيره.

(٦) في أ : «إسحاق بن المنادم». وصوبناه من ب.

(٧) الآرجة : من الأريجة : أي الريح الطيبة.

٣٨٥

وقال غالب بن عبد الله الثّغري (١) : [البسيط]

يا راحلا عن سواد المقلتين إلى

سواد قلب عن الأضلاع قد رحلا

غدا كجسم وأنت الروح فيه فما

ينفكّ مرتحلا ما دمت مرتحلا (٢)

وللفراق جوى لو مرّ أبرده

من بعد فرقتكم بالماء لاشتعلا (٣)

وقال الوزير أبو الحسن ابن الإمام الغرناطي يهجو مراكش المحروسة : [البسيط]

يا حضرة الملك ما أشهاك لي وطنا

لو لا ضروب بلاء فيك مصبوب

ماء زعاق وجوّ كلّه كدر

وأكلة من بذنجان ابن معيوب (٤)

وابن معيوب هذا كان من خدام أبي العلاء بن زهر ، يزعم الناس أنه سمّ ابن باجة لعداوته لابن زهر في باذنجان.

ولمّا بنى الفقيه أبو العباس ابن القاسم قصره بسلا وشيّده وصفته الشعراء ، وهنّته به ، ودعت له ، وكان بالحضرة حينئذ الوزير أبو عامر بن الحمارة ، ولم يكن أعدّ شيئا ، فأفكر قليلا ثم قال : [البسيط]

يا أوحد الناس قد شيّدت واحدة

فحلّ فيها حلول الشمس في الحمل (٥)

فما كدارك في الدنيا لذي أمل

ولا كدارك في الأخرى لذي عمل

وفيهم يقول ابن بقي في موشحته الشهيرة التي آخرها :

إن جئت أرض سلا

تلقاك بالمكارم فيدان (٦)

هم سطور العلا

ويوسف بن القاسم عنوان

وكان محمد بن عبادة بالمرية ، ومعه ابن القابلة السبتي ، فنظر إلى غلام وسيم يسبح ، وقد تعلّق بسفينة (٧) ، فقال ابن عبادة : [السريع]

انظر إلى البدر الذي لاح لك

__________________

(١) انظر الجذوة ص ٣٠٦.

(٢) في ه : «ما دام مرتحلا».

(٣) الجوى : النار.

(٤) في ه : «ماء زعاف».

(٥) في ب ، ه : «يا واحد الناس» وفيهما «محلّ الشمس في الحمل».

(٦) في ب : «تلقا لها بالمكارم فتيان».

(٧) في ب : «تعلق بمركب».

٣٨٦

فقال ابن القابلة : [السريع]

في وسط اللّجّة تحت الحلك

قد جعل الماء مكان السما

واتّخذ الفلك مكان الفلك

وقال ابن خروف ، ويروى لغيره : [السريع]

أيتها النفس إليه اذهبي

فحبّه المشهور من مذهبي

مفضّض الثغر له شامة

مسكيّة في خدّه المذهب

أيأسني التوبة من حبّه

طلوعه شمسا من المغرب

واجتمع في بستان واحد ثلاثة من شعراء الأندلس ، وهم : ابن خفاجة ، وابن عائشة وابن الزقاق ، فقال ابن خفاجة يصف الحال هنالك (١) : [مخلع البسيط]

لله نوريّة المحيّا (٢)

تحمل ناريّة الحميّا

درنا بها تحت ظلّ دوح

قد راق مرأى وطاب ريّا

تجسّم النّور فيه نورا

فكلّ غصن به ثريّا (٣)

وقال ابن عائشة : [مخلع البسيط]

ودوحة قد علت سماء

تطلع أزهارها نجوما

هفا نسيم الصّبا علينا

فخلتها أرسلت رجوما (٤)

كأنما الأفق غار لمّا

بدت فأغرى بها النسيما

وقال ابن الزقاق (٥) : [الخفيف]

ورياض من الشقائق أضحت

يتهادى بها نسيم الرياح

زرتها والغمام يجلد منها

زهرات تفوق لون الراح

قلت ما ذنبها؟ فقال مجيبا

سرقت حمرة الخدود الملاح

وقال الأديب أبو الحسن بن زنون : وقع بيدي ـ وأنا أسير بقيجاطة (٦) ، أعادها الله تعالى

__________________

(١) ديوان ابن خفاجة ص ٧٢.

(٢) في ه : «تحمل نارية المحيا» وليس بشيء.

(٣) النّور ـ بفتح النون ـ الزهر الأبيض.

(٤) في ه : «هفا نسيم الصبا عليها».

(٥) انظر ديوانه ص ١٢٥.

(٦) قيجاطة : من أعمال جيان ، وكانت مدينة نزهة خصيبة.

٣٨٧

دار إسلام! ـ كتاب ترجمته «كتاب التحف والطرف» لابن عفيون فوجدت فيه : قال الحسين بن الضحاك : [البسيط]

ما كان أحوجني يوما إلى رجل

في وسطه ألف دينار على فرس

في كفّه حربة يفري الدروع بها

وصارم مرهف الحدّين كالقبس

فلو رجعت ولم أظفر بمهجته

وقد خضبت ذباب الصارم الشكس

فلا اغتبطت بعيش وابتليت بما

يحول بيني وبين الشادن الأنس (١)

ووقف على هذه القطعة أبو نواس فقال : [البسيط]

ما كان أحوجني يوما إلى خنث

حلو الشمائل في باق من الغلس (٢)

في كفّه قهوة يسبي النفوس بها

محكّم الطّرف للألباب مختلس (٣)

فلو رجعت ولم أظفر بتكّته

وقد رويت من الصهباء كالقبس

فلا هنيت بعيش وابتليت بما

يكون منه صدود الشادن الأنس

هذا ألذّ وأشهى من منى رجل

في وسطه ألف دينار على فرس

ووقف على ذلك الوزير أبو عامر بن ينّق فقال : [البسيط]

ما كان أحوجني يوما إلى رجل

يردّد الذكر في باق من الغلس

في حلقه غنّة يشفي النفوس بها

وفي الحشا زفرة مشبوبة القبس

فلو رجعت ولم أوثر تلاوته

على سماع غناء الشادن الأنس

فلا حمدت إذن نفسي ولا اعتمدت

بي النجائب قصد البيت ذي القدس (٤)

ولا أسلت لقبر المصطفى مقلا

تبكي عليه بهامي الدمع منبجس (٥)

قال ابن زنون : فوقفت على ذلك (٦) ، فقلت : وكلّ ينفق ممّا عنده ، ومن عجائب صنعه تعالى أنه (٧) عند فراغي من كتب هذه القطعة وصل الفكاك إليّ ، وحلّ قيودي ، وأخرجني إلى بلاد المسلمين ، وهي : [البسيط]

__________________

(١) الشادن : ولد الغزال.

(٢) الخنث : من فيه لين النساء وتثنّيهنّ.

(٣) القهوة : الخمر.

(٤) النجائب : جمع نجيبة ، وهي الناقة السريعة.

وفي ب : «بي النجائب قصد البيت والقدس».

وفي ه «قصد البيت في القدس».

(٥) في ب : «ولا أسلت بقبر المصطفى مقلا».

وفي ه : «ولا أسلت بغير المصطفى مقلا».

(٦) في ب : «فوقفت على ذلك ـ يقول ابن زنون ـ فقلت :».

(٧) في ب : «ومن عجائب الله أنه ...».

٣٨٨

ما كان أحوجني يوما إلى رجل

يأتي فينبهني في فحمة الغلس

يفكّ قيدي وغلّي غير مرتقب

ولا مبال من الحجّاب والحرس

وقوله لي تأنيسا وتسلية

هذا سلاحي فالبسه وذا فرسي

فلو جبنت ولم أقبل مقالته

وأمتطي الطّرف وثبا فعل مفترس

إذن خلعت لباس المجد من عنقي

وصار حظّي منه حظّ مختلس

وأخلفتني أمانيّ التي طمحت

نفسي إليها وإحساني لكلّ مسي

وقال أبو بكر بن حبيش ، وقد زاره بعض أودّائه في يوم عيد فطر : [السريع]

أكلّ ذا الإجمال في ذا الجمال

الله أستحفظ ذاك الكمال

يا مالكا بالبرّ رقّي أما

يكفيك أن تملكني بالوصال

سرت إلى ربعي زورا كما

سرى إلى المهجور طيف الخيال

العيد لي وحدي بين الورى

حقا لأني قد رأيت الهلال

صومي مقبول وبرهانه

أني أدخلت جنان الوصال

وقال أبو بكر بن يوسف اللخمي ، وقد عاده في شكاية فتى وسيم من الأعيان كان والده خطيب البلد : [مخلع البسيط]

يا عائدي وهو أصل ما بي

أفديك من ممرض طبيب

أصميت لمّا رميت قلبي

بسهم ألحاظك المصيب (١)

وجئتني منكرا لسقمي

وتلك من عادة الحبيب

يا ساعة قد غفرت فيها

ما كان للدهر من ذنوب

ما كان في فضلها مثال

لو لم تكن جلسة الخطيب (٢)

وخاطب أبو زيد بن أبي العافية أبا عبد الله بن العطار القرطبي بقصيدة منها هذا البيت : [الوافر]

وكيف يفيق ذو صبر قصير

حليف وساوس حول طوال

يعرّض له بطوله وحوله ، ولصاحبه أبي محمد بن بلال بقصره ، فراجعه أبو عبد الله

__________________

(١) أصميت لما رميت : أي أصبت برميك مقتلا.

(٢) في ب ، ه : «ما كان فضلها مقال».

٣٨٩

المذكور بهذه الأبيات يعرض له فيها بجربه ، وكان أبو زيد أصابه جرب كثير : [الوافر]

أجل يا نافث السّحر الحلال

أتاني منك نظم كاللآلي

يروقك أوّلا لفظا ومعنى

ويلدغ آخرا لدغ الصّلال (١)

تعرّض فيه أنك ذو مطال

حليف وساوس حول طوال

كأنك لم تجرّب قطّ خلقا

ولم تعرف بتجربة الليالي

أأنسيت التجارب إذ تجاري

بهنّ الجربياء مع الشمال (٢)

فلا تغفل عن التجريب يوما

ولو أعطيت فيه جراب مال

وجرّب جار بيتك واختبره

وجرّ برجله إن كان قالي

وجار بنيك لا تستحي منه

ومن نجّار بابك لاتبال

وأجر ببالك الجرباء تبصر

نجوم الأفق تجري بانتقال

وجرّب أهل جربة تلف قوما

أبوا لبس الجوارب والنعال

تجارا باعة تجروا بزيت

تسمّوا بالتّجار بغير مال

إذا سمعوا بتمر في جريب

جروا ببطالة التمر البوالي (٣)

إذا جرّبت هذا الخلق أبدى

لك التجريب أجربة خوالي

ترى بالنّجح دهرا جرّ بؤسا

عليك وجار بالنّوب الثقال

وخرج ثلاثة أدباء لنزهة خارج مرسية ، وصلّوا خلف إمام بمسجد قرية ، فأخطأ في قراءته ، وسها في صلاته ، فلمّا خرج أحدهم كتب على حائط المسجد : [المجتث]

يا خجلتي لصلاة

صلّيتها خلف خلف (٤)

فلما خرج الثاني كتب تحته :

أغضّ عنها حياء

من المهيمن طرفي

فلما خرج الثالث كتب تحته :

فليس تقبل منّا

لو أنها ألف ألف

__________________

(١) الصلال : جمع صل وهو الثعبان.

(٢) الجربياء : ريح الشمال الباردة.

(٣) في ب ، ه : «جروا ببطاء ذي التمر البوالي».

(٤) في أ : «صليتها خلف جلف» والخلف : المتخلف الذي لا خير فيه.

٣٩٠

وقال أبو إسحاق بن خفيف (١) الأندلسي في أحدب أخذ مع صبي في خلوة فضربا ، وطيف بهما ، والأحدب على عنق الصبي : [مجزوء الوافر]

رأيت اليوم محمولا

وأعجب منه من حمله

جمال الناس تحملهم

وهذا حامل جمله

وقال أبو الصلت الأندلسي : [الطويل]

وقائلة : ما بال مثلك خاملا

أأنت ضعيف الرأي أم أنت عاجز

فقلت لها : ذنبي إلى القوم أنني

لما لم يحوزوه من المجد حائز

وكتب بعض المغاربة لأبي العباس بن مضاء يذكره بحاله : [مخلع البسيط]

يا غارسا لي ثمار مجد

سقيتها العذب من زلالك

أخاف من زهرها سقوطا

إن لم يكن سقيها ببالك

وكتب الكاتب أبو عبد الله القرطبي مستنجزا وعدا : [الوافر]

أبا عبد الإله وعدت وعدا

فأنجز تربح الشكر الجزيلا

ولا تمطل فإنّ المطل يمحو

من الإحسان رونقه الصقيلا

إذا كان الجميل يحبّ طبعا

فإني أكره الصبر الجميلا

وكتب ابن هذيل الفزاري للغني بالله سلطان لسان الدين بن الخطيب : [الرمل]

ليس يا مولاي لي من جابر

إذ غدا قلبي من البلوى جذاذا (٢)

غير صكّ أحمر تكتب لي

فيه يمناك اعتناء صحّ هذا

وقال أبو الحسن بن الزقاق في غلام يهودي كان يجلس معه وينادمه يوم سبت (٣) : [الطويل]

وحبّب يوم السبت عندي أنني

ينادمني فيه الذي أنا أحببت

ومن أعجب الأشياء أني مسلم

حنيف ولكن خير أيامي السبت

__________________

(١) في أ : «حفيف».

(٢) جذاذا : قطعا.

(٣) انظر ديوان ابن الزقاق ص ١١٣.

٣٩١

وقال أبو حيان : [المتقارب]

ويعجبني رشف تلك الشفاه

وعضّ الخدود وهصر القوام

محاسن فاقت قضيب الأراك

وورد الرياض وكأس المدام (١)

وكتب أحد الأدباء بمرسية إلى فتى وسيم من أعيانها كان يلازم حانوت بعض القضاة بها للتفقّه عليه ، بأبيات في غرض ، فراجعه عنه أبو العباس بن سعد بقوله : [الكامل]

ما للمحبّ لديّ غير صبابة

تقضي عليه ولوعة وغرام

فدع الطماعة واسترح باليأس من

وصل عليك إلى الممات حرام

وقال السميسر : [مخلع البسيط]

قرابة السوء شرّ داء

فاحمل أذاهم تعش حميدا

ومن تكن قرحة بفيه

يصبر على مصّه الصديدا (٢)

وقال ابن خفاجة (٣) : [الرمل]

إنّ للجنّة بالأندلس

مجتلى عين وريّا نفس

فسنا صبحتها من شنب

ودجا ليلتها من لعس (٤)

فإذا ما هبّت الريح صبا

صحت : واشوقي إلى الأندلس

وقال بعض الأندلسيين ممّن لم يحضرني اسمه الآن : [الطويل]

إذا صال ذو ودّ بودّ صديقه

فيا أيها الخلّ المصاحب لي صل بي

فإني مثل الماء لينا لصاحبي

وناهيك للأعداء من رجل صلب

وقال أبو يحيى بن هشام القرطبي : [مخلع البسيط]

وخائط رائع جمالا

وصاله غاية اقتراحي

تنعم منه الخيوط فتلا

بين أقاح وبين راح

تراه في السلم ذا طعان

بنافذات بلا جراح

__________________

(١) في ب ، ه : «محاسن فاتت قضيب الأرام».

(٢) الصديد : القيح يفسد به الجرح.

(٣) انظر ديوان ابن خفاجة ص ١٣٦.

(٤) اللعس : سواد مستحسن في باطن الشفة.

٣٩٢

حلّته أشبهت فؤادي

لكثرة الوخز في النواحي (١)

تقطّع الثوب راحتاه

كصنع ألحاظه الملاح

فقبله ما رأيت بدرا

ممزّقا بردة الصباح

وقال أبو جعفر أحمد بن عبد الولي البلنسي (٢) : [الطويل]

غصبت الثريّا في البعاد مكانها

وأودعت في عينيّ صادق نوئها

وفي كلّ حال لم تزالي بخيلة

فكيف أعرت الشمس حلّة ضوئها

قال ابن الأبار : أنشد مؤلف «قلائد العقيان» هذين البيتين لأبي جعفر البني اليعمري ، وأحدهما غالط من قبل اشتباه نسبهما ، والتفرقة بينهما مستوفاة في تأليفي (٣) المسمى ب «هداية المعتسف ، في المؤتلف والمختلف» انتهى.

وأبو جعفر بن عبد الولي المذكور أحرقه القنبيطور ـ لعنه الله تعالى! ـ حين تغلّبه بالروم على بلنسية. قال ابن الأبار : وذلك في سنة ثمان وثمانين وأربعمائة ، وقيل : إنّ إحراقه كان سنة تسعين وأربعمائة ، انتهى.

وقال أبو العباس القيجاطي فيما أنشده له ابن الطيلسان (٤) : [المجتث]

ليس الخمول بعار

على امرئ ذي جلال

فليلة القدر تخفى

وتلك خير الليالي

وقال أبو محمد بن جحاف (٥) المعافري البلنسي : [المتقارب]

أقول وقد خوّفوني القران

وما هو من شرّه كائن

ذنوبي أخاف وأمّا القران

فإني من شرّه آمن

وأبوه أبو أحمد هو المحرّق ببلنسية كما ذكرناه في غير هذا الموضع.

وقال أبو العباس المالقي (٦). [الطويل]

وبين ضلوعي للصبابة لوعة

بحكم الهوى تقضي عليّ ولا أقضي

جنى ناظري منها على القلب ما جنى

فيا من رأى بعضا يعين على بعض

__________________

(١) في ب ، ه : «حلقته أشبهت فؤادي».

(٢) انظر التكملة ص ٢٤.

(٣) في ج : «مستوفاة من تأليفي».

(٤) انظر التكملة ص ٤٦.

(٥) انظر التكملة ص ٥٦.

(٦) انظر التكملة ص ٦٩.

٣٩٣

ودخل أبو القاسم بن عبد المنعم ، وكان أزرق وسيما ، ومعه أبو عبد الله الشاطبي وأبو عثمان سعيد بن قوشترة ، على صاحب كتاب «مشاحذ الأفكار ، في مآخذ النّظّار» فقال ابن قوشترة : [الكامل]

عابوه بالزّرق الذي بجفونه

والماء أزرق والسّنان كذلكا (١)

فقال الشاطبي : [الكامل]

والماء يهدي للنفوس حياتها

والرمح يشرع للمنون مسالكا

فقال أبو بكر بن طاهر صاحب كتاب «المشاحذ» : [الكامل]

وكذاك في أجفانه سبب الردى

لكن أرى طيب الحياة هنالكا

وهذا من بارع الإجازة ، وكم لأهل الأندلس من مثل هذا الديباج الخسرواني ، رحمهم الله تعالى وسامحهم!

وكتب الشيخ الإمام العالم العلامة أبو عبد الله محمد بن الصائغ الأندلسي النحوي عند قول الحريري «آمنا أن يعززا (٢) بثالث» ما نصّه : قد جيء لهما بثالث ورابع في قافيتهما ، وهو قول بعض الفضلاء : [السريع]

ما الأمة اللّكعاء بين الورى

كمسلم حرّ أتى ملأمه (٣)

فمه إذا استجديت من قول لا

فالحرّ لا يملأ منها فمه

ثم قال : وبخامس وسادس :

انقدّ مهوى أزره فانثنى

مه يا عذولي في الذي انقدّ مه

مندمة قتل المعنّى فلا

ترسل سهام اللحظ تأمن دمه

قلت : رأيت في المغرب في هذا المعنى ما ينيّف على سبعين بيتا كلّها مساجلة لبيتي الحريري ، رحمه لله تعالى!

__________________

(١) السّنان : الرمح.

(٢) يعززا بثالث : يعضدا ويقويا ، وأراد أنه يعتقد أنه لا يستطيع أحد أن يأتي لهما بنظير ، وبيتا الحريري هما قوله في المقامة الحلبية من مقاماته وهما : في التنزيل العزيز : (إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ) [يس : ١٤].

(٣) اللكعاء : الحمفاء.

٣٩٤

وقال أبو بكر بن عبادة (١) الشاعر في أبي بكر والد الوزير أبي الوليد بن زيدون : [الخفيف]

أيّ ركن من الرياسة هيضا

وجموم من المكارم غيضا

حملوه من بلدة نحو أخرى

كي يوافوا به ثراه الأريضا (٢)

مثل حمل السحاب ماء طبيبا

لتداوي به مكانا مريضا

وكان المذكور توفي في ضيعة له ، ونقل تابوته إلى قرطبة فدفن في الرّبض سنة ٤٠٥ ، وولد سنة ٣٠٤.

وقال أبو بكر بن قزمان صاحب الموشحات : [الوافر]

وعهدي بالشباب وحسن قدّي

حكى ألف ابن مقلة في الكتاب

فصرت اليوم منحنيا كأني

أفتّش في التراب على شبابي

وقال : [السريع]

يا ربّ يوم زارني فيه من

أطلع من غرّته كوكبا

ذو شفة لمياء معسولة

ينشع من خدّيه ماء الصبا (٣)

قلت له هب لي بها قبلة

فقال لي مبتسما مرحبا

فذقت شيئا لم أذق مثله

لله ما أحلى وما أعذبا

أسعدني الله بإسعاده

يا شقوتي يا شقوتي لو أبى

قال لسان الدين : كان ابن قزمان نسيج وحده أدبا وظرفا ولوذعية وشهرة ؛ قال ابن عبد الملك : كان أديبا بارعا ، حلو الكلام ، مليح النثر (٤) ، مبرزا في نظم الزجل ، قال لسان الدين : وهذه الطريقة الزجلية بديعة تتحكّم فيها ألقاب البديع ، وتنفسح لكثير ممّا يضيق على الشاعر سلوكه ، وبلغ فيها أبو بكر ، رحمه الله تعالى ، مبلغا حجره الله عمّن سواه ، فهو آيتها المعجزة ، وحجّتها البالغة ، وفارسها المعلم ، والمبتدىء فيها والمتمّم.

وقال الفتح في حقّه (٥) : مبرز في البيان ، ومحرز للسّبق عند تسابق الأعيان ، اشتمل عليه

__________________

(١) في ب ، ه : «أبو بكر عبادة». بدون كلمة «بن».

(٢) ثراه الأريض : أي ثراه المعجب للعين.

(٣) اللمى : سمرة مستحسنة في باطن الشفة. وينشع ، بشربة ماء : بغيث بها.

(٤) في ب ، ه : «مليح التندير».

(٥) انظر القلائد ص ١٨٧.

٣٩٥

المتوكل على الله فرقّاه إلى مجالس ، وكساه ملابس ، فامتطى أسمى الرتب وتبوّأها ، ونال أسنى الخطط وما تملأها ، وقد أثبتّ له ما يعلم به رفيع قدره ، ويعرف كيف أساء له الزمان بغدره ، كقوله : [الكامل]

ركبوا السيول من الخيول وركّبوا

فوق العوالي السّمر زرق نطاف

وتجلّلوا الغدران من ماذيّهم

مرتجّة إلّا على الأكناف (١)

والماذي : العسل ، والنّطاف : جمع النّطفة وهي الماء الصافي قل أو كثر.

وقال الفقيه أبو بكر بن القوطية صاحب «الأفعال» في اللغة والغريب ، في زمن الربيع : [الكامل]

ضحك الثرى وبدا لك استبشاره

فاخضرّ شاربه وطرّ عذاره

ورنت حدائقه وزرّر نبته

وتعطّرت أنواره وثماره (٢)

واهتز ذابل كل ماء قرارة

لما أتى متطلعا آذاره

وتعمّمت صلع الرّبا بنباته

وترنّمت من عجبها أطياره (٣)

وقال في المطمح في حقّ ابن القوطية المذكور (٤) : إنه ممّن له سلف. وثنيّة كلّها شرف ، وهو أحد المجتهدين في الطلب ، والمشتهرين بالعلم والأدب ، والمنتدبين للعلم والتصنيف ، والمرتّبين له بحسن الترتيب والتأليف ، وكان له شعر نبيه ، وأكثره أوصاف وتشبيه ، انتهى.

وقال القاضي الأجلّ يونس بن عبد الله بن مغيث (٥) : [الطويل]

أتوا حسبة إذ قيل جدّ نحوله

فلم يبق من لحم عليه ولا عظم (٦)

فعادوا قميصا في فراش فلم يروا

ولا لمسوا شيئا يدلّ على جسم (٧)

طواه الهوى في ثوب سقم من الضنى

وليس بمحسوس بعين ولاوهم

وقال في المطمح فيه : إنه قاضي الجماعة بقرطبة ، فاضل ، ورع ، مبرز في النسّاك والزهّاد ، دائم الأرق في التخشّع والسّهاد ، مع التحقّق بالعلم والتميز بحمله (٨) ، والتحيز إلى فئة

__________________

(١) في ب ، ه : «إلا على الأكتاف».

والماذي : العسل الأبيض.

(٢) في ج : «ودنت حدائقه».

(٣) في ب ، ه : «وترنمت من عجمة أطياره».

(٤) انظر المطمح ص ٥٨.

(٥) انظر المطمح ص ٥٩.

(٦) كذا في ب ، ه. وفي أ : «أتوا حسه».

(٧) فعادوا : أي من العيادة ـ وهي زيارة المريض.

(٨) في ب : «والتمييز بجمله» وفي ه : «والتمييز بفضله».

٣٩٦

الورع وأهله ، وله تآليف في التصوّف والزهد ، منها «كتاب المنقطعين إلى الله» و «كتاب المجتهدين» وأشعار في هذا المعنى ، منها قوله : [الوافر]

فررت إليك من ظلمي لنفسي

وأوحشني العباد وأنت أنسي

قصدت إليك منقطعا غريبا

لتؤنس وحدتي في قعر رمسي (١)

وللعظمى من الحاجات عندي

قصدت وأنت تعلم سرّ نفسي

ولمّا أراد المستنصر بالله غزو الروم تقدّم إلى أبي محمد والده بالكون في صحبته ، ومسايرته في غزوته ، فاعتذر بعذر يجده ، وألم لا ينجده ، فقال له الحكم : إن ضمن له أن يؤلف في أشعار خلفائنا بالمشرق والأندلس مثل كتاب الصولي في أشعار خلفاء بني العباس أعفيته من الغزاة ، وجازيته أفضل المجازاة ، فأجابه إليه على أن يؤلفه بالقصر ، فزعم أنه رجل مزور ، وأن ذلك الموضع ممتنع على من يلمّ به ويزور ، فألفّه بدار الملك المطلّة على النهر ، وأكمله فيما دون شهر ، وتوفي والمستنصر بعد في غزاته (٢).

وقال ابن سيده صاحب «المحكم» يخاطب إقبال الدولة : [الطويل]

ألا هل إلى تقبيل راحتك اليمنى

سبيل؟ فإنّ الأمن في ذاك واليمنا

قال في المطمح : الفقيه أبو الحسن علي بن أحمد المعروف بابن سيده إمام في اللغة والعربية ، وهمام في الفئة الأدبية ، وله في ذلك أوضاع ، لأفهام أخلافها استدرار واسترضاع ، حرّرها تحريرا ، وأعاد طرف الذكاء بها قريرا ، وكان منقطعا إلى الموفّق صاحب دانية ، وبها أدرك أمانيه ، ووجد تجرّده للعلم وفراغه ، وتفرّد (٣) بتلك الإراغة ، ولا سيما كتابه المسمى بالمحكم ، فإنه أبدع كتاب وأحكم ، ولمّا مات الموفّق رائش جناحه ، ومثبت غرره وأوضاحه ، خاف من ابنه إقبال الدولة ، وأطاف به مكروها بعض من كان حوله ، إذ أهل الطلب كحيات مساورة ، ففرّ إلى بعض الأعمال المجاورة ، وكتب إليه منها مستعطفا : [الطويل]

ألا هل إلى تقبيل راحتك اليمنى

سبيل؟ فإنّ الأمن في ذاك واليمنا

فتنضى هموم طلّحته خطوبها

ولا غاربا يبقين منه ولا متنا (٤)

__________________

(١) الرمس : القبر.

(٢) في الأصول : «وتوفي المستنصر إذ ذاك» وهو خطأ والصحيح ما أثبتناه ، وهو في ب.

(٣) في ه «وتفرده بتلك الإراغة» والإراغة : الإرادة ، والطلب.

(٤) طلّحته : أتعبته ، وأعيته.

٣٩٧

غريب نأى أهلوه عنه وشفّه

هواهم فأمسى لا يقرّ ولا يهنا

فيا ملك الأملاك ، إني محلأ

عن الورد لا عنه أذاد ولا أدنى (١)

تحققت مكروها فأقبلت شاكيا

لعمري أمأذون لعبدك أن يعنى

وإن تتأكّد في دمي لك نيّة

فإني بسيف لا أحبّ له جفنا (٢)

إذا ما غدا من حرّ سيفك باردا

فقدما غدا من برد نعماكم سخنا

وهل هي إلّا ساعة ثم بعدها

ستقرع ما عمّرت من ندم سنّا

ومالي من دهري حياة ألذّها

فتجعلها نعمى عليّ وتمتنّا

إذا ميتة أرضتك عنا فهاتها

حبيب إلينا ما رضيت به عنّا

وقال الفقيه أبو محمد غانم بن الوليد الأندلسي المخزومي المالقي (٣) : [البسيط]

صيّر فؤادك للمحبوب منزلة

سمّ الخياط مجال للمحبّين

ولا تسامح بغيضا في معاشرة

فقلّما تسع الدنيا بغيضين

وله : [السريع]

الصبر أولى بوقار الفتى

من قلق يهتك ستر الوقار

من لزم الصبر على حالة

كان على أيامه بالخيار

وقال في المطمح فيه : إنه عالم متفرّس ، وفقيه مدرّس ، وأستاذ متجرد (٤) ، وإمام لأهل الأندلس مجوّد ، وأما الأدب فكان جلّ شرعته ، وهو رأس بغيته ، مع فضل وحسن طريقة ، وجدّ في جميع الأمور وحقيقة ، انتهى.

وقال المحدّث الحافظ أبو عمر بن عبد البر يوصي ابنه بمقصورة : [الطويل]

تجاف عن الدنيا وهوّن لقدرها

ووفّ سبيل الدين بالعروة الوثقى (٥)

وسارع بتقوى الله سرّا وجهرة

فلا ذمّة أقوى هديت من التقوى

ولا تنس شكر الله في كلّ نعمة

يمنّ بها فالشكر مستجاب النّعمى

__________________

(١) محلأ : ممنوع. ويذاد : يدافع.

(٢) في ب : «فإني سيف لا أحب له جفنا».

(٣) انظر المطمح ص ٦٠.

(٤) في ه ، والمطمح : «وأستاذ مجوّد» وبذلك يتكرر لفظ الفاصلتين.

(٥) في ه : «وخذ في سبيل الدين».

٣٩٨

فدع عنك ما لا حظّ فيه لعاقل

فإنّ طريق الحق أبلج لا يخفى (١)

وشحّ بأيام بقين قلائل

وعمر قصير لا يدوم ولا يبقى

ألم تر أنّ العمر يمضي مولّيا

فجدّته تبلى ومدته تفنى

نخوض ونلهو غفلة وجهالة

وننشر أعمالا وأعمارنا تطوى

تواصلنا فيه الحوادث بالردى

وتنتابنا فيه النوائب بالبلوى

عجبت لنفس تبصر الحقّ بيّنا

لديها وتأبى أن تفارق ما تهوى

وتسعى لما فيه عليها مضرّة

وقد علمت أن سوف تجزى بما تسعى

ذنوبي أخشاها ولست بآيس

وربّي أهل أن يخاف وأن يرجى

وإن كان ربي غافرا ذنب من يشا

فإني لا أدري أأكرم أم أخزى

وقال في المطمح : الفقيه الإمام العالم الحافظ أبو عمر يوسف بن عبد الله بن عبد البر ، إمام الأندلس وعالمها ، الذي التاحت به معالمها (٢) ، صحّح المتن والسند ، وميّز المرسل من المسند ، وفرّق بين الموصل (٣) والقاطع ، وكسا الملّة منه نور ساطع ، حصر الرواة ، وأحصى الضعفاء منهم والثقات ، وجدّ في تصحيح السقيم ، وجدد منه ما كان كالكهف والرّقيم ، مع معاناة العلل (٤) ، وإرهاف ذلك العلل ، والتنبيه والتوقيف ، والإتقان والتثقيف ، وشرح المقفل ، واستدراك المغفل ، وله فنون هي للشريعة رتاج ، وفي مفرق الملّة تاج ، أشهرت للحديث ظبا ، وفرعت لمعرفته ربا ، وهبّت لتفهّمه شمال (٥) وصبا ، وشفت منه وصبا ، وكان ثقة ، والأنفس على تفضيله متّفقة ، وأما أدبه فلا تعبر لجّته ، ولا تدحض حجّته ، وله شعر لم نجد منه إلّا ما نفث به أنفة ، وأقصى فيه عن معرفة ، فمن ذلك قوله ـ وقد دخل إشبيلية فلم يلق فيها مبرّة ، ولم يلق (٦) من أهلها تهلل أسرّة ، فأقام بها حتى أخلقه مقامه ، وأطبقه اغتمامه ، فارتحل وقال : [الطويل]

تنكّر من كنّا نسرّ بقربه

وعاد زغاقا بعدما كان سلسلا (٧)

__________________

(١) أبلج : مشرق ، مضيء.

(٢) التاحت معالمها : تلألأت.

(٣) في ب ، ه : «الموصول».

(٤) في ب ، ه : «مع معلنات العلل».

(٥) في ه : «والمطمح : «شمالا وصبا» والشمال والصبا ريحان ناعمتان.

(٦) في ه : «ولم ير».

(٧) في ب : «وعاد زعافا» وفي ه : «وصار زعافا».

٣٩٩

وحقّ لجار لم يوافقه جاره

ولا لاءمته الدار أن يتحوّلا

بليت بحمص والمقام ببلدة

طويلا لعمري مخلق يورث البلى

إذا هان حرّ عند قوم أتاهم

ولم ينأ عنهم كان أعمى وأجهلا

ولم تضرب الأمثال إلّا لعالم

وما عوتب الإنسان إلّا ليعقلا

وقال الفقيه أبو بكر بن أبي الدوس (١) : [الطويل]

إليك أبا يحيى مددت يد المنى

وقدما غدت عن جود غيرك تقبض

وكانت كنور العين يلمع بالدجا

فلمّا دعاه الصبح لبّاه ينهض

وقال في المطمح : إنه من أبدع الناس خطّا ، وأصحهم نقلا وضبطا ، اشتهر بالإقراء ، واقتصر بذلك على الأمراء ، ولم ينحطّ لسواهم ، ومطل الناس بذلك ولواهم ، وكان كثير التحوّل ، عظيم التجوّل ، لا يستقرّ في بلد ، ولا يستظهر على حرمانه بجلد ، فقذفته النوى ، وطردته عن كل ثوى (٢) ، ثم استقرّ آخر عمره بأغماث ، وبها مات ، وكان له شعر بديع يصونه أبدا ، ولا يمدّ به يدا.

أخبرني من دخل عليه بالمريّة فرآه في غاية الإملاق ، وهو في ثياب أخلاق (٣) ، وقد توارى في منزله تواري المذنب ، وقعد عن الناس قعود مجتنب ، فلمّا علم ما هو فيه ، وترفّعه عمّن يجتديه ، عاتبه في ذلك الاعتزال ، وآخذه حتى استنزله بغيض الإنزال (٤) ، وقال له : هلا كتبت إلى المعتصم ، فما في ذلك ما يصم (٥) ، فكتب إليه : إليك أبا يحيى مددت يد المنى ـ البيتين ، انتهى.

وقال الفقيه القاضي الفاضل أبو الفضل بن الأعلم ، حين أقلع وأناب ، وودع ذلك الجناب ، وتزهد وتنسّك ، وتمسّك من طاعة الله بما تمسّك ، وتذكّر يوما يتجرّد من أمله ، وينفرد فيه بعمله: [مجزوء الكامل]

الموت يشغل ذكره

عن كلّ معلوم سواه (٦)

__________________

(١) في ج : «بن أبي الدودس» وهو خطأ انظر ترجمته في المطمح ٦٣.

(٢) الثوى : الإقامة ، وأصله الثواء.

(٣) الإملاق : الفقر. ثياب أخلاق : باليات.

(٤) في ب ، ه : «بفيض الاستنزال».

(٥) يصم : يعيب.

(٦) في ه : «عن كل مأمول سواه».

٤٠٠