نفح الطّيب - ج ٤

الشيخ أحمد بن محمد المقري التلمساني

نفح الطّيب - ج ٤

المؤلف:

الشيخ أحمد بن محمد المقري التلمساني


المحقق: يوسف الشيخ محمّد البقاعي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٣٠

وتزهّدوا حتى أصابوا فرصة

في أخذ مال مساجد وكنائس

وهذا المعنى استعمله الشعراء كثيرا.

وقال ـ فيما أظن ـ الفقيه الكاتب المحدّث الأديب الشهير أبو عبد الله محمد بن الأبار القضاعي ، وقد تكرّر ذكره في هذا الكتاب في مواضع : [الطويل]

لقد غضبت حتى على السّمط نخوة

فلم تتقلّد غير مبسمها سمطا

وأنكرت الشّيب الملمّ بلمّتي

ومن عرف الأيام لم ينكر الوخطا (١)

وقال ابن سعيد في القدح المعلى في حقّه : كاتب مشهور ، وشاعر مذكور ، كتب عن ولاة بلنسية ، وورد رسولا حين أخذ النصارى بمخنّق تلك الجهات ، وأنشد قصيدته السينية : [البسيط]

أدرك بخيلك خيل الله أندلسا

إنّ السبيل إلى منجاتها درسا

وعارضه جمع من الشعراء ما بين مخطئ ومحروم ، وأغري الناس بحفظها إغراء بني تغلب بقصيدة عمرو بن كلثوم (٢) ، إلّا أنّ أخلاقه لم تعنه على الوفاء بأسباب الخدمة ، فقلصت عنه تلك النعمة ، وأخر عن تلك العناية ، وارتحل إلى بجاية ، وهو الآن بها عاطل من الرّتب ، خال من حلى الأدب ، مشتغل بالتصنيف في فنونه ، متنفّل منه بواجبه ومسنونه ، ولي معه مجالسات آنق من الشباب ، وأبهج من الروض عند نزول السحاب (٣) ، ومما أنشدنيه من شعره : [الكامل]

يا حبّذا بحديقة دولاب

سكنت إلى حركاته الألباب (٤)

غنّى ولم يطرب وسقّى وهو لم

يشرب ومنه العود والأكواب

لو يدّعي لطف الهواء أو الهوى

ما كنت في تصديقه أرتاب

وكأنه ممّا شدا مستهزئ

وكأنه ممّا بكى ندّاب

وكأنه بنثاره ومداره

فلك كواكبه لها أذناب

__________________

(١) اللمّة : الشعر الذي يتجاوز شحمة الأذن. والوخط : مصدر وخط الشيب ، أي خالط البياض السواد.

(٢) لقد افتخر بنو تغلب بقصيدة عمرو بن كلثوم حتى قال فيهم الشاعر :

ألهى بني تغلب عن كل مكرمة

قصيدة قالها عمرو بن كلثوم

(٣) في ب : «غبّ نزول السحاب».

(٤) في ه : «سكنت إلى حركاتها الألباب».

١٢١

وقال أبو المعالي القيجاطي : [السريع]

فقلت يا ربعهم أين من

أحببته فيك وأين النديم

فقال عهد قد غدا شمله

كمثل ما ينثر درّ نظيم (١)

وقال أبو عمرو بن الحكم القبطلي ، وقبطلة : من أعمال وادي إشبيلية : [مخلع البسيط]

كم أقطع الدهر بالمطال؟

ساءت وحقّ الإله حالي

رحلت أبغي بكم نجاحا

فلم تفيدوا سوى ارتحالي

وعدتم ألف ألف وعد

لكنني عدت بالمحال

وقال أبو عمران القلعي : [الوافر]

طلعت عليّ والأحوال سود

كما طلع الصباح على الظلام

فقل لي كيف لا أوليك شعري

وإخلاص التحيّة والسلام

وقال أبو إسحاق إبراهيم بن أيوب المرسي : [مجزوء الرمل]

أنا سكران ولكن

من هوى ذاك الفلاني

كلّما رمت سلوّا

لم يزل بين عياني

وقال : [الوافر]

حبيبي ما لصبّك من مراد

سوى أن لا تدوم على البعاد

وإن كان ابتعادك بعد هذا

مقيما فالسلام على فؤادي (٢)

قال ابن سعيد : وكان المذكور إذا غنى هذه الأشعار اللطيفة على الأوتار ، لم يبق لسامعه عند الهموم من ثار ، مع أخلاق كريمة ، وآداب كانسكاب الدّيمة (٣) ، انتهى.

وقال ابن سعيد : في أبي بكر محمد بن عمار البرجي ، كاتب ابن هود ، القائل :

لمن يشهد حربا تحت رايات ابن هود.

__________________

(١) أراد : تفرقوا كالعقد المنثور بعد الشمل.

(٢) في ه : «فإن يدم ابتعادك بعد هذا».

(٣) الديمة : المطر الدائم الذي لا ينقطع.

١٢٢

إلخ : [مجزوء الرمل]

يا ابن عمار لقد أح

ييت لي ذاك السّميّا

في حلى نظم ونثر

علّقا في مسمعيّا (١)

ولقد حزت مكانا

من ذرى الملك عليّا

مثل ما قد حاز لكن

عش بنعماك هنيّا

وقال أبو بكر عبد الله بن عبد العزيز الإشبيلي المعروف بابن صاحب الرد (٢) :[السريع]

يا أبدع الخلق بلا مرية

وجهك فيه فتنة الناظرين

لا سيما إذ نلتقي خطرة

فيغلب الورد على الياسمين

طوبى لمن قد زرته خاليا

فمتّع النفس ولو بعد حين

من ذلك الثغر الذي ورده

ما زال فيه لذة الشاربين

وما حوى ذاك الإزار الذي

لم يعد عنه أمل الزائرين

وهذه الأبيات يقولها في غلام كان أدباء إشبيلية قد فتنوا به ، وكان مروره على داره.

وحكي (٣) عنه أنه أعطاه في زيارة خمسين دينارا ، ومرّت أيام ثم صادفه عند داره ، فقال له : أتريد أن أزورك ثانية؟ فقال له : لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين ، وهذا الجواب ـ على ما فيه من قلة الأدب ، وهتك حجاب الشريعة ـ من أشدّ الأجوبة إصابة للغرض ، والله تعالى يسمح له ، فقد قال ابن سعيد في حقّه : إن بيته بإشبيلية من أجلّ البيوت ، ولم يزل له مع تقلّب الزمان ظهور وخفوت ، وكان أديبا شاعرا ذوّاقا لأطراف العلوم ، انتهى.

ومن المشهورين بالمجون والخلاعة بالأندلس ـ مع البلاغة والبراعة ـ أبو جعفر أحمد بن طلحة الوزير الكاتب (٤) ، وهو من بيت مشهور من جزيرة شقر ، من عمل بلنسية ، وكتب عن ولاة من بني عبد المؤمن ، ثم استكتبه السلطان ابن هود حين تغلّب على الأندلس ، وربما استوزره في بعض الأحيان. وقال ابن سعيد (٥) : وهو ممّن كان والدي يكثر مجالسته ، ولم أستفد منه إلّا ما كنت أحفظه في مجالسته (٦) ، وكان شديد التهوّر ، كثير الطيش ، ذاهبا بنفسه كلّ مذهب ، سمعته مرّة وهو في محفل يقول : تقيمون القيامة لحبيب (٧) والبحتري والمتنبي ،

__________________

(١) في ه : «علقا من مسمعي».

(٢) انظر القدح ص ١١٢.

(٣) في ب : «وحكى».

(٤) انظر ترجمته في القدح ص ١١٤.

(٥) في ب : «قال ابن سعيد». سقطت الواو.

(٦) في ه : «احفظ في مجالسته».

(٧) حبيب : هو أبو تمام حبيب بن أوس الطائي الشاعر المشهور.

١٢٣

وفي عصركم من يهتدي إلى ما لم يهتدوا إليه؟ فأهوى له شخص له قحة وإقدام ، فقال : يا أبا جعفر ، فأرنا برهان ذلك ، ما أظنك تعني إلّا نفسك ، فقال : نعم ، ولم لا؟ وأنا الذي أقول ما لم يتنبّه (١) إليه متقدّم ، ولا يهتدي لمثله متأخّر : [السريع]

يا هل ترى أظرف من يومنا

قلّد جيد الأفق طوق العقيق

وأنطق الورق بعيدانها

مرقصة كلّ قضيب وريق

والشمس لا تشرب خمر الندى

في الأرض إلّا بكؤوس الشقيق

فلم ينصفوه في الاستحسان ، وردّوه في الغيظ إلى أضيق مكان ، فقلت له : يا سيدي ، هذا هو السحر الحلال ، فبالله إلّا ما زدتني (٢) من هذا النمط ، فقال : [الوافر]

أدرها فالسماء بدت عروسا

مضمّخة الملابس بالغوالي

وخدّ الروض حمّره أصيل

وجفن النهر كحّل بالظّلال

وجيد الغصن يشرق في لآل

تضيء بهنّ أكناف الليالي

فقلت : زد وعد ، فعاد والارتياح قد ملك عطفه ، والتّيه قد رفع أنفه ، فقال : [السريع]

لله نهر عندما زرته

عاين طرفي منه سحرا حلال

إذ أصبح الطّلّ به ليلة

وجال فيه الغصن شبه الخيال (٣)

فقلت : زد ، فأنشد : [الوافر]

ولمّا ماج بحر الليل بيني

وبينكم وقد جدّدت ذكرا

أراد لقاءكم إنسان عيني

فمدّ له المنام عليه جسرا

فقلت : إيه ، فقال : [الوافر]

ولمّا أن رأى إنسان عيني

بصحن الخدّ منه غريق ماء

أقام له العذار عليه جسرا

كما مدّ الظلام على الضياء

فقلت : أعد ، فأعاد ، وقال : حسبك لئلّا تكثر عليك المعاني ، فلا تقوم بحقّ قيمتها ، وأنشد : [الكامل]

__________________

(١) في ه : «ما لم ينته إليه متقدم».

(٢) في ه : «إلا ما زدتنا».

(٣) في ه : «إذ صبح الظل به ليلة».

١٢٤

هات المدام إذا رأيت شبيهها

في الأفق يا فردا بغير شبيه

فالصبح قد ذبح الظلام بنصله

فغدت تخاصمه الحمائم فيه

ثم قال : وكان قد تهتّك في غلام لابن هود ، ولكثرة انهزام ابن هود ربما انهزم مع العلج ، وفيه يقول : [الوافر]

ألفت الحرب حتى علّمتني

مقارعة الحوادث والخطوب

ولم أك عالما وأبيك حربا

بغير لواحظ الرشأ الرّبيب (١)

فها أنا بين تلك وبين هذي

مصاب من عدوّ أو حبيب

ولمّا هرب العلج (٢) إلى سبتة أحسن إليه القائم بها أبو العباس الينشتي (٣) فلم يقنع بذلك الإحسان ، وكان يأتي بما يوغر صدره ، فقال يوما في مجلسه : رميت مرة بقوس ، فبلغ السهم إلى كذا ، فقال ابن طلحة لشخص بجانبه : لو كان قوس قزح ما بلغ إلى كذا ، فشعر بقوله ، فأسرّها في نفسه ، ثم بلغه أنه هجاه بقوله : [الوافر]

سمعنا بالموفّق فارتحلنا

وشافعنا له حسب وعلم

ورمت يدا أقبّلها وأخرى

أعيش بفضلها أبدا وأسمو

فأنشدنا لسان الحال فيه

يد شلا وأمر لا يتمّ

فزاد في حنقه (٤) ، وبقي مترصدا له الغوائل ، فحفظت عنه أبيات قالها وهو في حالة استهتار في شهر رمضان ، وهي : [الوافر]

يقول أخو الفضول وقد رآنا

على الإيمان يغلبنا المجون

أتنتهكون شهر الصوم هلّا

حماه منكم عقل ودين

فقلت اصحب سوانا ، نحن قوم

زنادقة مذاهبنا فنون

تدين بكل دين غير دين الرّع

اع فما به أبدا ندين

بحيّ على الصّبوح الدّهر ندعو

وإبليس يقول لنا أمين (٥)

__________________

(١) الرشأ : ولد الغزالة الذي قوي ومشى مع أمه. والربيب مثله.

(٢) في ب ، ه : «ولما هرب بالعلج».

(٣) كذا في ج ، وفي ه : «أبو العباس السبتي». وفي أ«أبو العباس البنتي» وقد صوبناه من ب.

(٤) حنقه : غضبه.

(٥) في ج : بحي على الصبوح الزهر ندعو» محرفا.

١٢٥

فيا شهر الصيام إليك عنّا

إليك ففيك أكفر ما نكون (١)

فأرسل إليه من هجم عليه وهو على هذه الحال ، وأظهر أنه يرضي العامة بقتله ، فقتله ، وذلك سنة ٦٣١ ، انتهى. وحاكي الكفر ليس بكافر ، والله سبحانه وتعالى للزلات غير الكفر غافر.

وقال محمد بن أحمد الإشبيلي بن البناء : [الطويل]

كأنك من جنس الكواكب كنت لم

يفتك طلوعا حالها وتواريا

تجلّيت من شرق تروق تلألؤا

فلما انتحيت الغرب أصبحت هاويا

ولمّا أمر المستنصر الموحّدي بضرب ابن غالب الداني ألف سوط وصلبه ، وضرب بإشبيلية خمسمائة ، فمات ، وضرب بقية الألف حتى تناثر لحمه ، ثم صلب ، قال ابنه أبو الربيع (٢) يرثيه:[البسيط]

جهلا لمثلك أن يبكي لما قدرا

وأن يقول أسى : يا ليته قبرا

فاضت دموعك أن قاموا بأعظمه

وقد تطاير عنه اللحم وانتثرا

ومنها :

ضاقت به الأرض ممّا كان حمّلها

من الأيادي فملّت شلوه شلوه ضجرا (٣)

وعزّ جسمك أن يحظى به كفن

فما تسربل إلّا الشمس والقمرا

وقال أبو العلاء عبد الحق المرسي رحمه الله تعالى (٤) : [الرمل]

يا أبا عمران دعني والذي

لم يمل بي خاطري إلّا إليه

ما نديمي غير من يخدمني

لا الذي يجلسني بين يديه

يرفع الكلفة عنّي ويرى

أنها واجبة منّي عليه

وقال ابن غالب الكاتب بمالقة (٥) : [الكامل]

__________________

(١) في ه : «ففيك أكفر ما يكون».

(٢) في ه : «قال ابنه الربيع يرثيه».

(٣) الشلو : القطعة من اللحم وجمعه أشلاء.

(٤) انظر القدح ص ١٢٦.

(٥) انظر القدح ص ١٢٨.

١٢٦

لا تخش قولا قد عقدت الألسنا

وابعث خيالك قد سحرت الأعينا

واعطف عليّ فإنّ روحي زاهق

وانظر إليّ بنظرة إن أمكنا

لا يخدعنّك أن تراني لابسا

ثوبي فقد أصبحت فيه مكفّنا

ما زال سحرك يستميل خواطري

بأرقّ من ماء الصفاء وألينا

حتى غدوت ببحر حبّ زاخر

فرمت بي الأمواج في شطّ الضّنا (١)

وقال : [الكامل]

ما للنسيم لدى الأصيل عليلا

أتراه يشكو زفرة وغليلا

جرّ الذّيول على ديار أحبّتي

فأتى يجرّ من السّقام ذيولا

وقال أبو عبد الله بن عسكر الغساني قاضي مالقة : [السريع]

أهواك يا بدر وأهوى الذي

يعذلني فيك وأهوى الرقيب

والجار والدار ومن حلّها

وكلّ من مرّ بها من قريب

ما إن تنصّرت ولكنّني

أقول بالتثليث قولا غريب

يطابق الألحان والكاس إذ

تبسم عجبا والغزال الربيب (٢)

وكان أبو أمية بن عفير (٣) قاضي إشبيلية ـ مع براعته ، وتقدّمه في العلوم الشرعية ـ أقوى الناس بالعلوم الأدبية المرعية ، وقد اشتهر بسرعة الخاطر في الارتجال ، وعدم المناظر له في ذلك المجال ، قال ابن سعيد : رأيته كثيرا ما يصنع القصائد والمقطّعات ، وهو يتحدّث أو يفصل بين الغرماء في أكثر الأوقات ، ومن شعره : [مخلع البسيط]

ديارهم صاح نصب عيني

وليس لي وصلة إليها (٤)

إلّا سلامي لدى ابتعاد

من بعد سكّانها عليها

وقوله رحمه الله تعالى : [الوافر]

ووجه تغرق الأبصار فيه

ولكن يترك الأرواح هيما

__________________

(١) الضّنا : المرض والهزال.

(٢) في ب : «تطابق الألحان».

(٣) في ج : «ابن غفير» والتصويب من أ، ب ، ه ، والقدح ص ١٣٢.

(٤) في ه : «ديارهم هي نصب عيني». وفي القدح «ديارهم تلك نصب عيني».

١٢٧

أتاني ثم حيّاني حبيب

به وأباحني الخدّ الرّقيما

فمرّ لنا مجون في فنون

سلكت به الصراط المستقيما

قلت : أما مجرّد الارتجال فأمر عن الكثير صادر ، وأما كونه مع التحدّث أو فصل الخصومات فهو نادر ، وقد حكينا منها في هذا الكتاب من القسم الأول موارد ومصادر.

ويعجبني من الواقع لأهل المشرق من ذلك قضية علي بن ظافر ، إذ قال (١) : بتّ ليلة والشهاب يعقوب ابن أخت نجم الدين في منزل اعترفت له مشيّدات القصور ، بالانخفاض والقصور ، وشهدت له ساميات البروج ، بالاعتلاء ، والعروج ، قد ابيضّت حيطانه ، وطاب استيطانه ، وابتهج به سكانه وقطّانه ، والبدر قد محا خضاب الظّلماء ، محياه (٢) في زرقة قناع السماء ، وكسا الجدران ثيابا من فضّة ، ونثر كافوره على مسك الثرى بعد أن سحقه ورضّه ، والروض قد ابتسم محيّاه ، ووشت بأسرار محاسنه ريّاه ، والنسيم قد عانق قامات الأغصان فميّلها ، وغصبها مباسم نورها فقبّلها ، وعندنا مغنّ قد وقع على تفضيله الإجماع ، وتغايرت على محاسنه الأبصار والأسماع ، إن بدا فالشمس طالعة ، وإن شدا فالورق (٣) ساجعة ، تغازله مقلة سراج قد قصر على وجهه تحديقه ، وقابله فقلنا البدر قابل عيّوقه ، وهو يغار عليه من النسيم كلّما خفق وهبّ ، ويستجيش عليه بتلويح بارقه الموشّى بالذهب ، ويديم حرقته وسهده ، ويبذل في إلطافه طاقته وجهده ، فتارة يضمّخه بخلوقه ، وتارة يحلّيه بعقيقه ، وآونة يكسوه أثواب شقيقه ، فلم نزل (٤) كذلك حتى نعس طرف المصباح ، واستيقظ نائم الصباح ، فصنعت بديها في المجلس ، وكتبت بها إلى الأعز بن المؤيد رحمه الله تعالى أصف تلك الليلة التي ارتفعت على أيام الأعياد ، كارتفاع الرءوس على الأجياد (٥) ، بل فضلت ليلات الدهر ، كفضل البدر على النجوم الزّهر : [الخفيف]

غبت عني يا ابن المؤيد في وق

ت شهيّ يلهي المحبّ المشوقا

ليلة ظلّ بدرها يلبس الجد

ران ثوبا مفضّضا مرموقا

وغدا الطّلّ فيه ينثر كافو

را فيعلو مسك التراب السّحيقا

__________________

(١) انظر بدائع البداءة ج ٢ ، ص ٢٠٦.

(٢) في ب : «وجلا محياه ..».

(٣) الورق : جمع ورقاء ، وهي الحمامة التي يميل لونها إلى الخضرة.

(٤) في ج : «فلم يزل كذلك».

(٥) الأجياد : جمع جيد ، وهو العنق.

١٢٨

وتبدّى النسيم يعتنق الأغ

صان لمّا سرى عناقا رفيقا

بتّ فيها منادما لصديق

ظلّ بين الأنام خلّا صدوقا

هو مثل الهلال وجها صبيحا

ومثال النسيم ذهنا رقيقا

وغزال كالبدر وجها وغصن ال

بان قدّا والخمرة الصّرف ريقا

مظهر للعيون ردفا مهيلا

وحشا ناحلا وقدّا رشيقا

إن تغنّى سمعت ، داود أو لا

ح تأمّلت يوسف الصدّيقا

وإذا قابل السراج رأينا

منه بدرا يقابل العيّوقا (١)

وأظنّ الصباح هام بمرآ

ه فأبدى قلبا حريقا خفوقا

هو نجم ما لاح في الجدر كافو

ر بياض إلّا كساه خلوقا

ما بدا نرجس الكواكب إلّا

قام من نومه يرينا الشقيقا (٢)

وإذا ما بدت جواهرها في ال

جوّ أبدى في الأرض منهم عقيقا

فغدونا تحت الدجى نتعاطى

من رقيق الآداب خمرا رحيقا (٣)

وجعلنا ريحاننا طيب ذكرا

ك فخلناه عنبرا مفتوقا

ذاك وقت لولا مغيبك عنه

كان بالمدح والثناء خليقا

قال : فأجاب عنها من الوزن دون الروي : [الخفيف]

قد أتتني من الجمال قصيد

يا لها من قصيدة غرّاء

جمعت رقّة الهواء وطيب ال

مسك في سبكها وصفو الماء

فأرتنا طباعه وشذاه

والذي حاز ذهنه من ذكاء

سيدي هل جمعت فيها اللآلي

يا أخا المجد أم نجوم السماء

أفحمتني حسنا وحقّ أيادي

ك التي لا تعدّ بالإحصاء

فتركت الجواب والله عجزا

فابسط العذر فيه يا مولائي

هل يسامي الثرى الثريّا وأنّى

يدّعي النجم فرط نور ذكاء (٤)

__________________

(١) العيّوق : نجم أحمر مضيء في طرف المجرة الأيمن يتلو الثريا ولا يتقدمها.

(٢) في ب : «قام في قومه يرينا الشقيقا».

(٣) الخمر الرقيق : الخمر الصافية. وقد جاء في ج : «خمرا رقيقا» ، وليس بشيء.

(٤) ذكاء ، بضم الذال : الشمس.

١٢٩

رجع إلى أهل الأندلس :

وقال ابن السماك (١) : [البسيط]

إياك أن تكثر الإخوان مغتنما

في كلّ يوم إلى أن يكثر العدد

في واحد منهم تصفي الوداد له

من التكاليف ما يفنى به الجلد

وله : [الطويل]

تحنّ ركابي نحو أرض وما لها

وما لي من ذاك الحنين سوى الهمّ

وكم راغب في موضع لا يناله

وأمسيت منه مثل يونس في اليمّ

بهذا قضى الرحمن في كلّ ساخط

يموت على كره ويحيا على رغم

ولمّا قام الباجي بإشبيلية وخلع طاعة ابن هود ، وأبدل شعاره الأسود العباسيّ في البنود ، قال أبو محمد عبد الحق الزهري القرطبي في ذلك : [البسيط]

كأنما الراية السوداء قد نعبت

لهم غرابا ببين الأهل والولد (٢)

مات الهوى تحتها من فرط روعته

فأظهر الدهر منها لبسة الكمد

وأنشدهما القائم الباجي في جملة قصيدة.

وقال الوزير أبو الوليد إسماعيل بن حجاج الأعلم الإشبيلي (٣) : [الكامل]

أمسى الفراش يطوف حول كؤوسنا

إذ خالها تحت الدّجى قنديلا

ما زال يخفق حولها بجناحه

حتى رمته على الفراش قتيلا

وله : [الكامل]

لاموا على حبّ الصّبا والكاس

لمّا بدا وضح المشيب براسي

والغصن أحوج ما يكون لسقيه

أيام يبدو بالأزاهر كاسي

وله ، وقد رأى على نهر قرطبة ثلاثين نفسا مصلوبين من قطّاع الطريق : [المتقارب]

ثلاثون قد صفّفوا كلّهم

وقد فتحوا أذرعا للوداع

__________________

(١) في أ«ابن السمان» وفي ه «ابن السماذ» وقد صوبناه من ب.

(٢) في ج : «كأنما الراية السوداء قد نصبت .. الخ». ونعبت : صاحت وأنذرت بالفراق.

(٣) انظر ترجمته في اختصار القدح ص ١٤٠.

١٣٠

وما ودّعوا غير أرواحهم

فكان وداعا لغير اجتماع

وله في فتى وسيم عضّ كلب وجنته : [الطويل]

وأغيد وضّاح المحاسن باسم

إذا قامر الأرواح ناظره قمر (١)

تعمّد كلب عضّ وجنته التي

هي الورد إيناعا وأبقى بها أثر

فقلت لشهب الأفق كيف صماتكم

وقد أثّر العوّاء في صفحة القمر (٢)

وقال الفقيه أبو الحجاج يوسف بن محمد البياسي المؤرخ الأديب ، المصنّف الشهير ، وكان حافظا لنكت الأندلسين حديثا وقديما ، ذاكرا لفكاهاتهم التي صيرته للملوك خليلا ونديما (٣) ، في صبيّ من أعيان الجزيرة الخضراء ، تهافت في حبّه جماعة من الأدباء والشعراء.

وكان من القوم الذين هاموا بالمذكور ، وقاموا فيه المقام المشهور ، أديب يقال له الفار ، فتسلّط على البياسي حتى سافر من الجزيرة وكان يلقّب بالقط (٤) : [الطويل]

عذرت أبا الحجّاج من ربّ شيبة

غدا لابسا في الحب ثوبا من القار

وألجأه الفأر المشارك للنوى

ولم أر قطّا قبله فرّ من فار

وله : [الخفيف]

قد سلونا عن الذي تدريه

وجفوناه إذ جفا بالتّيه

وتركناه صاغرا لأناس

خدعوه بالزّور والتّمويه

لمضلّ يسوقه لمضلّ

وسفيه يقوده لسفيه

وله ، وقد كتب إلى بعض أصحابه يذكّره بالأيام السوالف (٥) : [الوافر]

أبا حسن لعمرك إنّ ذكري

لأيام النعيم من الصواب

أمثلي ليس يذكر عهد حمص

وقد جمحت بنا خيل التصابي

ونحن نجرّ أثواب الأماني

مطرّزة هنالك بالشباب

وعهد بالجزيرة ليس ينسى

وإن أغفلته عند الخطاب

__________________

(١) في ج : «وأغيد وضاح المباسم باسم».

(٢) الصمات : الصمت : السكوت.

(٣) في ه : «خديما ونديما». وفي القدح «جليسا ونديما».

(٤) في هذه الصفحة اختلاف في ترتيب الفقرات بين النسخ وإن كان غير مهم.

(٥) السوالف : الماضية ، الزائلة.

١٣١

هو الأحلى لديّ وإن حماني

عن العسل اجتماع للذّباب

وسار (١) إلى المحبوب ، وكان كثير الاجتماع به في جنّة لوالده على وادي العسل ، فقال(٢) : [مجزوء الرجز]

جنّة وادي العسل

كم لي بها من أمل

لو لم يكن ذبابها

يمنع ذوق العسل

قال ابن سعيد : ولمّا التقينا بتونس بعد إيابي من المشرق ، وقد ولج ظلام الشّعر (٣) على وجهه المشرق ، قلت لأبي الحجاج مشيرا إلى محبوبه ، وقد غطى هواه عنده على عيوبه : [السريع]

خلّ أبا الحجّاج هذا الذي

قد كنت فيه دائم الوجد

وانظر إلى لحيته واعتبر

ممّا جنى الشّعر على الخدّ

والله سبحانه يسمح للجميع ، في هذا الهزل الشنيع ، ويصفح عنّا في ذكره ، إنه مجيب سميع.

وقال صاحب «البدائع» (٤) ركب الأستاذ أبو محمد بن صارة مع أصحاب له في نهر إشبيلية في عشية سال أصيلها على لجين الماء عقيانا ، وطارت زواريقها في سماء النهر عقبانا ، وأبدى نسيمها من الأمواج والدارات سررا وأعكانا ، في زورق يجول جولان الطّرف ، ويسودّ اسوداد الطّرف ، فقال بديها : [الوافر]

تأمّل حالنا والجوّ طلق

محيّاه وقد طفل المساء (٥)

وقد جالت بنا عذراء حبلى

تجاذب مرطها ريح رخاء

بنهر كالسّجنجل كوثريّ

تعبّس وجهها فيه السماء (٦)

واتفق أن وقف أبو إسحاق بن خفاجة على القطعة واستظرفها واستلطفها ، فقال يعارضها على وزنها ورويها وطريقتها : [الوافر]

__________________

(١) في القدح : «أشار» وبه يستقيم المعنى أكثر مما ورد في النفح.

(٢) في ب : «وقال».

(٣) في ه : «ورد كلام الشعر». في القدح : «دلج ظلام الشعر».

(٤) انظر البدائع ج ٢ ص ١٤٢.

(٥) طفلت الشمس : مالت للغروب واحمرت.

(٦) السجنجل : المرآة.

١٣٢

ألا يا حبّذا ضحك الحميّا

بحانتها وقد عبس المساء

وأدهم من جياد الماء مهر

تنازح جلّه ريح رخاء (١)

إذا بدت الكواكب فيه غرقى

رأيت الأرض تحسدها السماء

وقال الأديب ابن خفاجة في ديوانه : صاحبت في صدري من المغرب سنة ثلاث وثمانين وأربعمائة أبا محمد عبد الجليل بن وهبون شاعر المعتمد ، وكان أبو جعفر بن رشيق يومئذ قد تمنّع ببعض حصون مرسية ، وشرع في النفاق ، فقطع السبيل ، وأخاف الطريق ، ولمّا حاذينا قلعته وقد احتدمت جمرة الهجير ، وملّ الركب رسيمه وذميله ، وأخذ كلّ منّا يرتاد مقيله (٢) ، اتفقنا على أن لا نطعم طعاما ، ولا نذوق مناما ، حتى نقول في صورة تلك الحال ، وذلك الترحال ، ما حضر ، وشاء الله أن أجبل ابن وهبون واعتذر (٣) ، وأخذت عفو خاطري ، فقلت أتربّص به ، وأعرّض بعظم لحيته : [الوافر]

ألا قل للمريض القلب مهلا

فإنّ السيف قد ضمن الشقاء (٤)

ولم أر كالنّفاق شكاه حرّ

ولا كدم الوريد له دواء (٥)

وقد دحي النجيع هناك أرضا

وقد سمك العجاج به سماء

وديس به انحطاطا بطن واد

مذ اعشب شعر لحيته ضراء

وقال ابن خفاجة أيضا : حضرت يوما مع أصحاب لي ، ومعهم صبي متهم في نفسه ، واتّفق أنهم تحاوروا في تفضيل الرمان على العنب ، فانبرى ذلك الصبي فأفرط في تفضيل العنب ، فقلت بديها أعبث به : [السريع]

صلني لك الخير برمّانة

لم تنتقل عن كرم العهد

لا عنبا أمتصّ عنقوده

ثديا كأني بعد في المهد

وهل يرى بينهما نسبة

من عدل الخصية بالنّهد

فخجل خجلا شديدا وانصرف.

__________________

(١) في ه : «وأدهم من جياد الماء نهد».

(٢) الرسيم والذميل : ضربان من السير. والمقيل : النوم عند الظهر.

(٣) في ه : «وشاء الله إجبال ابن وهبون فاعتذر».

(٤) في ب : «ضمن الشفاء».

(٥) في ب : «ولم أر كالنقاق شكاة حر». وفي ج : «ولم أر كالنفاق شكاه غر».

١٣٣

قال : وخرجت يوما بشاطبة إلى باب السّمّارين ، ابتغاء الفرجة على خرير ذلك الماء بتلك الساقية ، وذلك سنة ٤٨٠ ، وإذ بالفقيه أبي عمران بن أبي تليد (١) رحمه الله تعالى قد سبقني إلى ذلك ، فألفيته جالسا على دكان كانت هناك مبنية لهذا الشأن ، فسلّمت عليه ، وجلست إليه ، مستأنسا به ، فجرى أثناء ما تناشدناه ذكر قول ابن رشيق : [مجزوء الكامل]

يا من يمرّ ولا تمرّ

به القلوب من الفرق

بعمامة من خدّه

أو خدّه منها استرق

فكأنّه وكأنّها

قمر تعمّم بالشّفق

فإذا بدا وإذا انثنى

وإذا شدا وإذا نطق

شغل الخواطر والجوا

نح والمسامع والحدق

فقلت ، وقد أعجب بها جدّا ، وأثنى عليها كثيرا : أحسن ما في القطعة سياقة الأعداد ، وإلّا فأنت تراه قد استرسل فلم يقابل بين ألفاظ البيت الأخير والبيت الذي قبله فينزل بإزاء كل واحدة منها ما يلائمها ، وهل ينزل بإزاء قوله «وإذا نطق» قوله «شغل الحدق» وكأنه نازعني القول في هذا غاية الجهد ، فقلت بديها : [مجزوء الكامل]

ومهفهف طاوي الحشا

خنث المعاطف والنظر (٢)

ملأ العيون بصورة

تليت محاسنها سور

فإذا رنا وإذا مشى

وإذا شدا وإذا سفر

فضح الغزالة والغما

مة والحمامة والقمر

فجنّ بها استحسانا ، انتهى.

قال ابن ظافر : والقطعة القافيّة ليست لابن رشيق ، بل هي لأبي الحسين (٣) علي بن بشر الكاتب أحد شعراء اليتيمة.

وكان بين السميسر الشاعر وبين بعض رؤساء المريّة واقع لمدح مدحه فلم يجزه عليه ، فصنع ذلك الرجل دعوة للمعتصم بن صمادح صاحب المرية ، واحتفل فيها بما يحتفل مثله في

__________________

(١) هكذا في ب ، ج. وفي أ، ه : «لابن أبي تلميذ».

(٢) الخنث : من فيه لين النساء وتثنّيهن.

(٣) في ه : «لأبي الحسين بن علي بن بشر». وقد وهم ابن ظافر وتابعه المقري فهي لأبي الحسن لا أبي الحسين ـ علي بن أبي بشر الكاتب أحد شعراء الخريدة وقد ترجم له الصفدي في الوافي.

١٣٤

دعوة سلطان مثل المعتصم ، فصبر السميسر إلى أن ركب السلطان متوجّها إلى الدعوة ، فوقف له في الطريق ، فلمّا حاذاه رفع صوته بقوله : [البسيط]

يا أيها الملك الميمون طائره

ومن لذي مأتم في وجهه عرس

لا تفرسنّ طعاما عند غيركم

إنّ الأسود على المأكول تفترس

فقال المعتصم : صدق والله ، ورجع من الطريق ، وفسد على الرجل ما كان عمله.

ونظير هذه الحكاية (١) أن عبّاد بن الحريش كان قد مدح رجلا من كبار أصبهان أرباب الضيع والأملاك والتبع الكثير ، فمطله بالجائزة ، ثم أجازه بما لم يرضه ، فردّه عليه ، وبعد ذلك بحين عمل الرجل دعوة غرم عليها ألوف دنانير كثيرة لأبي دلف القاسم بن عيسى العجلي على أن يجيء إليه من الكرج ، ووصل أبو دلف ، فلمّا وقعت عين عبّاد عليه وهو يساير بعض خواصّه أومأ إلى ذلك السائر وأنشد بأعلى صوته : [مجزوء الخفيف]

قل له يا فديته

قول عبّاد : ذا سمج

جئت في ألف فارس

لغداء من الكرج

ما على النّفس بعد ذا

في الدناءات من حرج

فقال أبو دلف ، وكان أخوف الناس من شاعر : صدق والله ، أجيء من الكرج إلى أصبهان حتى أتغدّى بها؟ والله ما بعد هذا في دناءة النفس من شيء. ثم رجع من طريقه ، وفسد على الرجل كل ما غرمه ، وعرف من أين أتي. وتخوف أن يعود عبّاد عليه بشرّ منها ، فسيّر إليه جائزة سنيّة مع جماعة من أصحابه ، فاجتمعوا به ، وسألوه فيه ، وفي قبول الجائزة ، فلم يقبل الجائزة ، ثم أنشد بديها : [السريع]

وهبت يا قوم لكم عرضه

فقالوا : جزاك الله تعالى خيرا! فقال :

كرامة للشّعر لا للفتى

لأنه أبخل من ذرّة

على الذي تجمعه في الشّتا

انتهى.

وذكر أبو الصّلت أمية بن عبد العزيز الأندلسي ما معناه (٢) : أنه عزم بمصر هو ورفقة له

__________________

(١) انظر البدائع ج ٢ ، ص ١٤٩.

(٢) انظر بدائع البداءة ج ، ص ١٥١.

١٣٥

على الاصطباح ، فقصدوا بركة الحبش ، في وقت ولاية الغبش ، وحلّوا منها روضا بسم زهره ، ونسم عطره ، فأداروا كؤوسا ، تطلع من المدام شموسا ، وعاينوها نجوما ، تكون لشياطين الهموم رجوما ، فطرب حتى أظهر الطرب نشاطه ، وأبرز ابتهاجه وانبساطه ، فقال : [المنسرح]

لله يومي ببركة الحبش

والجوّ بين الضياء والغبش

النّيل تحت الرياح مضطرب

كصارم في يمين مرتعش

ونحن في روضة مفوّفة

دبّج بالنّور عطفها ووشي (١)

قد نسجتها يد الغمام لنا

فنحن من نورها على فرش

فعاطني الراح إنّ تاركها

من سورة الهمّ غير منتعش

وأسقني بالكبار مترعة

فهنّ أروى لشدّة العطش

فأثقل الناس كلّهم رجل

دعاه داعي الصّبا فلم يطش

وهذا أبو الصّلت أمية من كبراء أدباء الأندلس العلماء الحكماء ، وقد ترجمناه في الباب الخامس في المرتحلين من الأندلس إلى المشرق.

وقال رحمه الله تعالى : كنت مع الحسن بن علي بن تميم بن المعز بن باديس بالمهدية في الميدان ، وقد وقف يرمي بالنشاب ، فصنعت فيه بديها : [السريع]

يا ملكا مذ خلقت كفّه

لم تدر إلّا الجود والباسا

إنّ النجوم الزّهر مع بعدها

قد حسدت في قربك الناسا

وودّت الأملاك لو أنها

تحوّلت تحتك أفراسا (٢)

كما تمنّى البدر لو أنه

عاد لنشّابك برجاسا (٣)

وصنع الوزير أبو جعفر أحمد الوقشي وزير الرئيس أبي إسحاق بن همشك صهر الأمير أبي عبد الله محمد بن مردنيش في غلام أسود في يده قضيب نور بديها : [الوافر]

وزنجيّ أتى بقضيب نور

وقد زقّت لنا بنت الكروم

فقال فتى من الفتيان صفها

فقلت الليل أقبل بالنجوم (٤)

__________________

(١) مفوّفة : مزركشة. ودبّج : زوّق. ووشي : زين ونقش وحسّن بالألوان.

(٢) في ب : «وودّت الأفلاك ..».

(٣) البرجاس : هدف يوضع على شيء مرتفع ليرمى جمع براجيس.

(٤) في ه : «فقال فتى من الفتيان صفه».

١٣٦

ولمّا أفرط أبو بكر يحيى اليكي (١) في هجاء أهل فاس تعسّفوا عليه (٢) ، وساعدهم واليهم مظفر الخصي من قبل أمير المسلمين علي بن يوسف ، والقائد عبد الله بن خيار الجياني ، وكان يتولّى أمورا سلطانية بها ، فقدّموا رجلا ادّعى عليه بدين ، وشهد عليه به رجل فقيه يعرف بالزناتي ، ورجل آخر يكنى بأبي الحسين من مشايخ البلد ، فأثبت الحقّ عليه ، وأمر به إلى السجن ، فرفع إليه ، وسيق سوقا عنيفا ، فلمّا وصل إلى بابه طلب ورقة من كاتبه ، وكتب فيها ، وأنفذها إلى مظفر مع العون الذي أوصله إلى السجن ، فكان ما كتب : [الكامل]

ارشوا الزناتيّ الفقيه ببيضة

يشهد بأنّ مظفرا ذو بيضتين

واهدوا إليه دجاجة يحلف لكم

ما ناك عبد الله عرس أبي الحسين

وقال أبو الحسن (٣) علي بن عتيق بن مؤمن القرطبي الأنصاري : عمل والدي محملا للكتب من قضبان تشبه سلّما ، فدخل عليه أبو محمد عبد الله بن مفيد ، فرآه ، فقال ارتجالأ :[الخفيف]

أيها السّيّد الذكيّ الجنان

لا تقسني بسلّم البنيان

فضل شكلي على السلالم أني

محمل للعلوم والقرآن

حزت من حلية المحبين ضعفي

واصفراري ورقّة الأبدان

فادع للصانع المجيد بفوز

ثم وال الدعاء للإخوان

ثم عمل أيضا : [الخفيف]

أيها السّيّد الكريم المساعي

التفت صنعتي وحسن ابتداعي

أنا للنّسخ محمل خفّ حملي

أنا في الشكل سلّم الاطلاع

وقال أحمد بن رضى المالقي : [البسيط]

ليس المدامة ممّا أستريح له

ولا مجاوبة الأوتار والنّغم

وإنّما لذّتي كتب أطالعها

وخادمي أبدا في نصرتي قلمي

وقال أبو القاسم البلوي الإشبيلي : [الوافر]

__________________

(١) في نسخ النفح : «أبو يحيى اليكي» والتصويب من البدائع ج ٢ ص ١٥٧. ومن زاد المسافر وفي زاد المسافر بعض أهاجيه.

(٢) في ه : «تعصبوا عليه».

(٣) في نسخة عند ج : «أبو الحسين».

١٣٧

لمن أشكو مصابي في البرايا

ولا ألقى سوى رجل مصاب

أمور لو تدبّرها حكيم

لعاش مدى الزمان أخا اكتئاب

أما في الدهر من أفشي إليه

بأسراري فيؤنس بالجواب

يئست من الأنام فما جليس

يعزّ على نهاي سوى كتابي

وقال أبو زكريا يحيى بن صفوان بن إدريس ، صاحب كتاب «العجالة» و «زاد المسافر» وغيرهما : [مجزوء الرمل]

ليت شعري كيف أنتم

وأنا الصّبّ المعنّى (١)

كلّ شيء لم تكونوا

فيه لفظ دون معنى

وله في نصراني وسيم لقيه يوم عيد : [المتقارب]

توحّد في الحسن من لم يزل

يثلّث والقلب في صدّه (٢)

يشفّ لك الماء من كفّه

ويقتدح النار من خدّه

وهذان البيتان نسبهما له بعض معاشريه ، وأبوه صفوان سابق الميدان.

وقال ابن بسام (٣) : ساير ابن عمار في بعض أسفاره غلامان من بني جهور أحدهما أشقر العذار والآخر أخضره ، فجعل يميل بحديثه (٤) لمخضرّ العذار ، ثم قال ارتجالا : [المتقارب]

تعلّقته جهوريّ النّجار

حليّ اللّمى جوهريّ الثنايا (٥)

من النّفر البيض أسد الزمان

رقاق الحواشي كرام السجايا

ولا غرو أن تغرب الشارقات

وتبقى محاسنها بالعشايا

ولا وصل إلّا جمان الحديث

نساقطه من ظهور المطايا

شنئت المثلّث للزعفران

وملت إلى خضرة في التفايا (٦)

ومعناه أنّ ابن عمار أبغض المثلث لدخول الزعفران فيه لشبهه بعذار الأشقر منهما ، وأحبّ خضرة التفايا ، وهو لون طعام يعمل بالكزبرة ، لشبهها بعذار الأخضر منهما.

__________________

(١) المعنّى : المتعب.

(٢) في ه : «يوحّد في الحسن». يثلث ، أي أنه ما زال نصرانيا.

(٣) بدائع البداءة ج ٤ ص ١٣٠.

(٤) في ه : «يميل في حديثه».

(٥) النجار : الأصل.

(٦) التفايا : من بسائط الأطعمة من لحم الضأن ويضاف إليها كزبرة وملح وفلفل وأشياء أخرى ، وهي أنواع.

١٣٨

وقال أبو العرب بن معيشة الكناني السبتي : أخبرني شيخ من أهل إشبيلية كان قد أدرك دولة آل عباد ، وكان عليه من أثر كبر السنّ ودلائل التعمير ما يشهد له بالصدق ، وينطق بأنّ قوله الحقّ ، قال : كنت في صباي حسن الصورة ، بديع الخلقة ، لا تلمحني عين أحد إلّا ملكت قلبه ، وخلبت خلبه (١) ، وسلبت لبّه ، وأطلت كربه ، فبينا أنا واقف على باب دارنا إذا بالوزير أبي بكر بن عمار قد أقبل في موكب زجل (٢) ، على فرس كالصخرة الصّمّاء قدّت من قنّة (٣) الجبل ، فحين حاذاني ورآني اشرأبّ إليّ ينظرني وبهت يتأمّلني ، ثم دفع بمخصرة كانت بيده في صدري ، وأنشد : [مجزوء الكامل]

كفّ هذا النّهد عنّي

فبقلبي منه جرح

هو في صدرك نهد

وهو في صدري رمح

وعبر في «البدائع» على طريقة القلائد بما صورته : ذكر الفتح بن خاقان ما هذا معناه: أخبرني ذو الوزارتين أبو المطرف بن عبد العزيز أنه حضر عند المؤتمن بن هود في يوم أجرى الجوّ فيه أشقر برقه ، ورمى بنبل ودقه ، وحملت الرياح فيه أوقار السحاب على أعناقها ، وتمايلت قامات الأغصان في الحلل الخضر من أوراقها ، والأزهار قد تفتّحت عيونها ، والكمائم قد ظهر مكنونها ، والأشجار قد انصقلت بالقطر ، ونشرت ما يفوق ألوان البز وبثّت ما يعلو العطر ، والراح قد أشرقت نجومها في بروج الراح (٤) ، وحاكت شمسها شمس الأفق فتلفّعت بغيوم الأقداح ، ومديرها قد ذاب ظرفا فكاد يسيل من إهابه (٥) ، وأخجل خدّها حسنا فتكلّل بعرق حبابه ، إذا بفتى رومي من أصبح فتيان المؤتمن قد أقبل متدرّعا كالبدر اجتاب سحابا ، والخمر اكتست حبابا ، والطاووس انقلب حبابا ، فهو ملك حسنا إلّا أنه جسد ، وغزال لينا إلّا أنه في هيئة الأسد ، وقد جاء يريد استشارة المؤتمن في الخروج إلى موضع كان عوّل فيه عليه ، وأمره أن يتوجّه إليه ، فحين وصل إلى حضرته لمحه ابن عمار والسكر قد استحوذ على لبّه ، وانبثّت سراياه في ضواحي قلبه (٦) ، فأشار إليه وقرّبه ، واستبدع ذلك اللباس واستغربه ، وجدّ في أن يستخرج تلك الدّرّة من ماء ذلك الدّلاص (٧) ، وأن يجلي عنه كما يجلى الخبث عن

__________________

(١) خلبه : استمال قلبه. والخلب ـ بكسر الخاء وسكون اللام : حجاب القلب ، وأراد هنا : القلب.

(٢) الزّجل : الذي يرفع صوته بالتطريب ، وأراد هنا الموكب ذا الصوت المرتفع.

(٣) قنة الجبل : قمته وأعلى مكان فيه.

(٤) الراح الأولى : الخمر. والثانية : اليد.

(٥) الإهاب : الجلد.

(٦) كذا في أصول النفح. وفي بدائع البداءة «نواهي قلبه». وهو أفضل.

(٧) الدلاص : الليّن البرّاق.

١٣٩

الخلاص ، وأن يوفّر على ذلك الوفر نعمة جسمه ، ويكون هو الساقي على عادته القديمة ورسمه ، فأمره المؤتمن بقبول أمره وامتثاله ، واحتذاء أمثاله ، فحين ظهرت تلك الشمس من حجبها ، ورمت شياطين النفوس من كمت المدام بشهبها ، ارتجل ابن عمار : [الكامل]

وهويته يسقي المدام كأنه

قمر يدور بكوكب في مجلس

متناوح الحركات يندى عطفه

كالغصن هزّته الصّبا بتنفّس

يسقي بكأس في أنامل سوسن

ويدير أخرى من محاجر نرجس

يا حامل السّيف الطويل نجاده

ومصرّف الفرس القصير المحبس

إياك بادرة الوغى من فارس

خشن القناع على عذار أملس

جهم وإن حسر القناع فإنما

كشف الظلام عن النهار المشمس

يطغى ويلعب في دلال عذاره

كالمهر يلعب في اللجام المجرس

سلّم فقد قصف القنا غصن النّقا

وسطا بليث الغاب ظبي المكنس (١)

عنّا بكأسك قد كفتنا مقلة

حوراء قائمة بسكر المجلس

وصنع فيه أيضا : [الوافر]

وأحور من ظباء الروم عاط

بسالفتيه من دمعي فريد

قسا قلبا وشنّ عليه درعا

فباطنه وظاهره حديد

بكيت وقد دنا ونأى رضاه

وقد يبكي من الطرب الجليد

وإنّ فتى تملّكه برقّ

وأحرز حسنه لفتى سعيد

وقال (٢) في «البدائع» مؤلّفه ما نصّه : خرج المعتصم بن صمادح صاحب المرية يوما إلى بعض متنزهاته ، فحلّ بروضة قد سفرت عن وجهها البهيج ، وتنفّست عن مسكها الأريج ، وماست معاطف أغصانها ، وتكلّلت بلؤلؤ الطلّ أجياد قضبانها ، فتشوّف (٣) إلى الوزير أبي طالب بن غانم أحد كبراء دولته ، وسيوف صولته ، فكتب إليه بديها بورقة كرنب بعود من شجرة : [مخلع البسيط]

أقبل أبا طالب إلينا

واسقط سقوط النّدى علينا

__________________

(١) المكنس : مأوى الغزال ، يستكن فيه من الحر.

(٢) في ب : «وذكر في البدائع ..».

(٣) في ب ، ه : «فتشوق».

١٤٠