نفح الطّيب - ج ٤

الشيخ أحمد بن محمد المقري التلمساني

نفح الطّيب - ج ٤

المؤلف:

الشيخ أحمد بن محمد المقري التلمساني


المحقق: يوسف الشيخ محمّد البقاعي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٣٠

وقال ابن مرج الكحل : اجتمعنا في حانوت بعض الأطباء بإشبيلية فأضجرناه بكثرة جلوسنا عنده ، وتعذّرت المنفعة عليه من أجلنا ، فأنشدنا : [مجزوء الرمل]

خفّفوا عنّا قليلا

ربّ ضيق في براح

هل شكوتم من سقام

أو جلسنا للصحاح؟

فأضفت إليهما ثالثا ، وأنشدته إياه على سبيل المداعبة (١) : [مجزوء الرمل]

إن أتيتم ففرادى

ذاك حكم المستراح

ودخل أبو محمد غانم بن وليد مجلس باديس بن حبوس ، فوسّع له على ضيق كان فيه ، فقال : [البسيط]

صيّر فؤادك للمحبوب منزلة

سمّ الخياط مجال للمحبّين

ولا تسامح بغيضا في معاشرة

فقلّما تسع الدنيا بغيضين

ودخل على أبي جعفر اللمائي (٢) بعض أصحابه عائدا في علّته التي مات فيها ، وجعل يروّح عليه بمروحة ، فقال أبو جعفر على البديهة : [المنسرح]

روّحني عائدي فقلت له

لا لا تزدني على الذي أجد (٣)

أما ترى النار وهي خامدة

عند هبوب الرياح تتّقد

وقال الأعلم : ليكن محفوظك من النظم مثل قول ابن القبطرنة (٤) : [المتقارب]

دعاك خليلك واليوم طل

وعارض وجه الثّرى قد بقل (٥)

لقدرين فاحا وشمّامة

وإبريق راح ونعم المحل

ولو شاء زاد ولكنه

يلام الصديق إذا ما احتفل

وقال أبو عامر بن ينّق (٦) الشاطبي : [البسيط]

ما أحسن العيش لو أنّ الفتى أبدا

كالبدر يرجو تماما بعد نقصان

إذ لا سبيل إلى تخليد مأثرة

إذ لا سبيل إلى تخليد جثمان (٧)

__________________

(١) في ج : «وأنشدته إياها». والأصح ما أثبتناه وهو في أ، ب ، ه ، كما أثبتنا.

(٢) في أ«اللماي» وقد صوّبناه من ب.

(٣) عائدي : «زائري في مرضي».

(٤) انظر المغرب ج ١ ص ٣٦٨.

(٥) بقل : ظهر. وبقلت الأرض : أنبتت البقل.

(٦) كذا في أ، ب ، ه. وهو في ج : «بن نيق».

(٧) المأثرة : المكرمة المتوارثة ، وجمعها مآثر.

٣٦١

وقال أبو الحسن اللورقي (١) : [مجزوء الكامل]

عجبا لمن طلب المحا

مد وهو يمنع ما لديه

ولباسط آماله

للغير لم يبسط يديه

لم لا أحبّ الضّيف أو

أرتاح من طرب إليه

والضّيف يأكل رزقه

عندي ويحمدني عليه

وقال أبو عيسى بن لبّون ، وهو من قواد المأمون بن ذي النون (٢) : [البسيط]

نفضت كفّي من الدنيا وقلت لها

إليك عني فما في الحقّ أغتبن

من كسر بيتي لي روض ومن كتبي

جليس صدق على الأسرار مؤتمن

أدري به ما جرى في الدهر من خبر

فعنده الحقّ مسطور ومختزن

وما مصابي سوى موتي ويدفنني

قوم ومالهم علم بمن دفنوا

وقال أبو عامر بن الحمارة (٣) : [الطويل]

ولي صاحب أحنو عليه وإنه

ليوجعني حينا فلا أتوجّع

أقيم مكاني ما جفاني وربما

يسائلني الرّجعى فلا أتمنّع

كأني في كفّيه غصن أراكة

تميل على حكم النسيم وترجع

وقال أبو العباس بن السعود (٤) [البسيط]

تبّا لقلب عن الأحباب منصرف

يهوى أحبّته ما خالس النظرا

مثل السّجنجل فيه الشخص تبصره

حتى إذا غاب لم يترك به أثرا (٥)

ومرض أبو الحكم بن غلندة (٦) ، فعاده جماعة من أصحابه فيهم فتى صغير السنّ ، فوفّاه من برّه ما أوجب تغيّرهم ، ففطن لذلك وأنشد ارتجالا : [الطويل]

__________________

(١) انظر المغرب ج ٢ ص ٢٨٠.

(٢) انظر المغرب ج ٢ ص ٣٧٧.

(٣) في أ : «وقال أبو عامر بن الحمار». وقد أثبتنا ما في ب والمغرب. انظر ترجمته في المغرب ج ٢ ص ١٢٠.

(٤) هو أبو العباس بن السعود كاتب ابن همشك. انظر المغرب ج ٢ ص ٥٢.

(٥) السجنجل : المرآة.

(٦) في أ : «علندة».

٣٦٢

تكثّر من الإخوان للدهر عدّة

فكثرة درّ العقد من شرف العقد

وعظّم صغير القوم وابدأ بحقّه

فمن خنصري كفّيك تبدأ بالعقد

ثم نظر إليهم وأنشدهم ارتجالا قوله : [البسيط]

مغيث أيوب والكافي لذي النون

يحلّني فرجا بالكاف والنون

كم كربة من كروب الدّهر فرّجها

عني ولم ينكشف وجهي لمن دوني

وقال القاضي أبو موسى بن عمران : [مجزوء الكامل]

ما للتجارب من مدى

والمرء منها في ازدياد

قد كنت أحسب ذا العلا

من حاز علما واستفاد

فإذا الفقيه بغير ما

ل كالخيام بلا عماد (١)

شرف الفتى بنضاره

إنّ الفقير أخو الجماد

ما العلم إلّا جوهر

قد بيع في سوق الكساد (٢)

وقال أبو بكر بن الجزار السّرقسطي : [الكامل]

إيّاك من زلل اللسان فإنما

عقل الفتى في لفظه المسموع

والمرء يختبر الإناء بنقره

ليرى الصحيح به من المصدوع

وقال أبو عامر أحمد بن عبد الملك بن شهيد : تناول بعض أصحابنا نرجسة ، فركّبها في وردة ، ثم دفعها إليّ وإلى صاعد ، وقال : قولا ، فأبهمت دوننا أبواب القول ، فدخل الدميري (٣) ، وكان أمّيا لا يذكر من الكلام إلّا ما علق بنفسه في المجالس ، وينفذ مع هذا في المطوّلات من الأشعار ، فأشعر بأمرنا ، فجعل يقول دون روية : [السريع]

ما للأديبين قد اعيتهما

مليحة من ملح الجنّة

نرجسة في وردة ركّبت

كمقلة تطرف في وجنه

وقال أبو محمد بن حزم في «طوق الحمامة» (٤) : [الطويل]

__________________

(١) في ب : «كالخباء بلا عماد».

(٢) في ه : «ما الحلم إلّا جوهر».

(٣) في ب : «فدخل الزهيري» وفي ج «فدخل الزبير».

(٤) انظر طوق الحمامة ص ١٦.

٣٦٣

خلوت بها والراح ثالثة لنا

وجنح ظلام الليل قد مدّ واعتلج

فتاة عدمت العيش إلّا بقربها

فهل في ابتغاء العيش ويحك من حرج

كأني وهي والكأس والخمر والدّجا

حيا وثرى والدّرّ والتبر والسبج (١)

قال : وهذه خمس تشبيهات لا يقدر أحد على أكثر منها إذ تضيق الأعاريض عنه.

قال أبو عامر بن مسلمة : ولا أذكر مثلها إلّا قول بعض (٢) : [البسيط]

فأمطرت لؤلؤا من نرجس فسقت

وردا وعضّت على العنّاب بالبرد

إلّا أنه لم يعطف خمسة على خمسة كما صنع ابن حزم ، بل اكتفى بالعلم في التشبيهات.

قال : ومن أغرب ما وقع لي من التشبيهات في بيت قول ابن برون الأكشوني الأندلسي يصف فرسا وردا أغرّ محجّلا : [الكامل]

فكأن غرّته وتحجيلاته

خمس من السّوسان وسط شقائق

قال : وهذا على التحقيق ستة على ستة ، ولم أسمع بمثله لأحد (٣).

قال ابن الجلاب : وكلام أبي عامر هذا لا يخلو من النقد.

وقال ابن صارة : [السريع]

انظر إلى البدر وإشراقه

على غدير موجه يزهر (٤)

كمشحذ من حجر أخضر

خطّ عليه ذهب أحمر (٥)

وقال أبو القاسم بن العطار الإشبيلي : [الطويل]

ركبنا سماء النّهر والجوّ مشرق

وليس لنا إلّا الحباب نجوم

وقد ألبسته الأيك برد ظلالها

وللشمس في تلك البرود رقوم (٦)

__________________

(١) السبج : خرز أسود.

(٢) ينسب هذا البيت للوأواء الدمشقي.

(٣) في ب : «لأحد من الأندلسيين ولا من المشارقة».

(٤) يزهر : يتلألأ.

(٥) في ه : «خط عليه ذهب أخضر».

(٦) الأيك : جمع أيكة ، هي الشجرة الكبيرة الملتفة. والرقوم : جمع رقم وهو تخطيط الثوب.

٣٦٤

وقال ابن صارة : [الكامل]

والنّهر قد رقّت غلالة صبغه

وعليه من ذهب الأصيل طراز

تترقرق الأمواج فيه كأنها

عكن الخصور تضمّها الأعجاز

وقال سهل بن مالك : [البسيط]

وربّ يوم وردنا فيه كلّ منى

وقلّ في مثل ذاك اليوم أن نردا

في روضتين بشطّي سلسل شبم

كما اجتليت من المحبوب مفتقدا

يبدّد القطر في أثنائه حلقا

فتنظم منها فوقه زردا

وقال ابن صارة : [الخفيف]

انظر النهر في رداء عروس

صبغته بزعفران العشيّ

ثم لمّا هبّ النسيم عليه

هزّ عطفيه في دلاص الكميّ (١)

ولبعضهم في شكل يرمي الماء مجوفا مثل الخباء وتمزّقه الريح أحيانا : [الكامل]

ومطنّب للماء ما أوتاده

إلّا نتائج فكر طبّ حاذق (٢)

لعبت به أيدي الصبا فكأنها

أيدي الصبابة بالفؤاد العاشق

وقال صفوان بن إدريس يصف تفاحة في ماء :

ولم أر فيما تشتهي العين منظرا

كتفاحة في بركة بقرار

يفيض عليها ماؤها فكأنها

بقيّة خدّ في اخضرار عذار

وقال أبو جعفر بن وضاح في دولاب : [الطويل]

وباكية والروض يضحك كلّما

ألحّت عليه بالدموع السواجم (٣)

يروقك منها إن تأمّلت نحوها

زئير أسود والتفاف أراقم (٤)

تخلّص من ماء الغدير سبائكا

فتنبتها في الروض مثل الدراهم

__________________

(١) الدلاص : اللين البراق. والكمي : لابس السلاح.

(٢) طنب السقاء (أو الماء) : علقه في أحد أطناب الخيمة.

(٣) الدموع السواجم : التي تسيل غزيرة.

(٤) في ه : «زئير أسود والتفات أراقم».

والأراقم : جمع أرقم وهو ذكر الحيات أو أخبثها.

٣٦٥

وقال الوزير بن عمار : [الكامل]

يوم تكاثف غيمه فكأنّه

دون السماء دخان عود أخضر

والطّلّ مثل برادة من فضّة

منثورة في تربة من عنبر

والشمس أحيانا تلوح كأنها

أمة تعرّض نفسها للمشتري

وقال أبو الحسن بن سعد الخير : [الكامل]

لله دولاب يفيض بسلسل

في روضة قد أينعت أفنانا

قد طارحته بها الحمائم شجوها

فيجيبها ويرجّع الألحانا

فكأنه دنف يدور بمعهد

يبكي ويسأل فيه عمّن بانا (١)

ضاقت مجاري طرفه عن دمعه

فتفتّحت أضلاعه أجفانا

وقال ابن أبي الخصال : [الطويل]

وورد جنيّ طالعتنا خدوده

ببشر ونشر يبعثان على السكر

وحفّ ترنجان به فكأنه

خدود العذارى في مقانعها الخضر

وقال ابن صارة (٢) : [البسيط]

يا ربّ نارنجة يلهو النديم بها

كأنها كرة من أحمر الذهب

أو جذوة حملتها كفّ قابسها

لكنها جذوة معدومة اللهب (٣)

وقال الخفاجي (٤) : [الطويل]

وميّاسة تزهو وقد خلع الحيا

عليها حلى حمرا وأردية خضرا (٥)

يذوب بها ريق الغمامة فضّة

ويجمد في أعطافها ذهبا نضرا (٦)

وقال ابن صارة أيضا : [المتقارب]

__________________

(١) الدنف ، كفرح : المريض ، وأراد بالعهد مساكن ألّافه. وبان : فارق.

(٢) انظر القلائد ص ٢٦٧.

(٣) الجذوة : النار. وقابسها : مضرمها.

(٤) ديوانه ص ٦٩.

(٥) في ه : «ومياسة تزهى» بالبناء للمجهول.

(٦) في ه : «ويجهر في أعطافها ذهبا نضرا».

٣٦٦

ونارنجة لم يدع حسنها

لعيني في غيرها مذهبا

فطورا أرى لهبا مضرما

وطورا أرى شفقا مذهبا (١)

وقال ابن وضاح في السرو : [الطويل]

أيا سرو ، لا يعطش منابتك الحيا

ولا يدعن أعطافك الخضل النضر (٢)

فقد كسيت منك الجذوع بمثل ما

تلفّ على الخطّيّ راياته الخضر

وقال أبو إسحاق الخولاني : [مخلع البسيط]

نيلوفر شكله كشكلي

يعوم في أبحر الدموع

قد ألبست عطفه دروعا

خوذ لريح الصّبا شموع (٣)

يلوح إذ لونه كلوني

من فوق فضفاضة هموع (٤)

مثل مسامير مذهبات

في حلقات من الدروع (٥)

وقال ابن الأبّار : [البسيط]

وسوسنات أرت من حسنها بدعا

ولم يزل عصر مولانا يري بدعه

شبيهة بالثّريّا في تألّفها

وفي تألّقها تلتاح ملتمعه (٦)

هامت بيمناه تبغي أن تقبّلها

واستشرفت تجتلي مرآه مطّلعه (٧)

ثم انثنى بعضها من بعضها غلبا

على البدار فوافت وهي مجتمعه

ورفع هذه الأبيات إلى الأمير أبي يحيى زكريا.

وقال حازم : [البسيط]

لا نور يعدل نور اللوز في أنق

وبهجة عند ذي عدل وإنصاف (٨)

نظام زهر يظلّ الدّرّ منتثرا

عليه من كلّ هامي القطر وكّاف (٩)

بينا ترى وهي أصداف لدّرّ حيا

بيض غدت دررا في خضر أصداف

__________________

(١) في ج : «فطورا أرى ذهبا مضرما».

(٢) الحيا : المطر.

(٣) الشّموع : اللعوب.

(٤) الهموع : السيّال.

(٥) في ه : «في محلقات من الدروع».

(٦) تلتاح : تظهر ، من الفعل لاح.

(٧) في ه : «واستبشرت تجتلي مرآة مطلعه».

(٨) الأنق : السرور والفرح.

(٩) وكاف : مبالغة من واكف. والمطر الواكف : المنهمل.

٣٦٧

وقال ابن سعد الخير في رمّانة (١) : [المتقارب]

وساكنة في ظلال الغصون

بروض يروقك أفنانه

تضاحك أترابها فيه إذ

غدا الجوّ تدمع أجفانه

كما فتح الليث فاه وقد

تضرّج بالدم أسنانه

وقال ابن نزار الوادي آشي : [الطويل]

ورمانة قد فضّ عنها ختامها

حبيب أعار البدر بعض صفاته

فكسّر منها نهد عذراء كاعب

وناولني منها شبيه لداته

وقال بعضهم في القراسيا ، ويقال له بالمغرب «حبّ الملوك» : [المتقارب]

ودوح تهدّل أشطانه

رعى الدهر من حسنه ما اشتهى (٢)

فما احمرّ منه فصوص العقيق

وما اسودّ منه عيون المها

وقال بعضهم : [الوافر]

وأين معاهد للحسن فيها

وللأنس التقاء البهجتين

وللأوتار والأطيار فيها

لدى الأسحار أطرب ساجعين (٣)

فكم بدر تجلّى من رباها

ومن بطحائها في مطلعين

وأغيد يرتعي من تلعتيها

ومن ثمر القلوب بمرتعين (٤)

إذا أهوى لسوسنة يمينا

عجبت من التقاء السوسنين

وكم يوم توشّح من سناه

ومن زهراتها في حلتين

وراح أصيله ما بين نهر

ودولاب يدور بمسمعين

بنهر كالسماء يجول فيه

سحائب من ظلال الدوحتين

تدرّع للنّواسم حين هزّت

عليه كلّ غصن كالرّديني (٥)

ملاعب في غرامي عند ذكري

صباه وغصنه المتلاعبين

__________________

(١) انظر التحفة ص ٥٣.

(٢) الأشطان : الحبال ، وفيه استعارة.

(٣) في ه : «أطرب سامعين».

(٤) التلعة : ما ارتفع من الأرض ، أو ما انخفض منها.

(٥) الرديني : الرمح ، منسوب إلى ردينة ، وهي امرأة كانت تصنع الرماح.

٣٦٨

وقال الوزير محمد بن عبد الرحمن بن هانىء : [السريع]

يا حرقة البين كويت الحشا

حتى أذبت القلب في أضلعه

أذكيت فيه النار حتى غدا

ينساب ذاك الذّوب من مدمعه

يا سؤل هذا القلب حتى متى

يؤسى برشف الريق من منبعه

فإنّ في الشهد شفاء الورى

لا سيما إن مصّ من مكرعه

والله يدني منكم عاجلا

ويبلغ القلب إلى مطمعه

ولو لم يكن للأندلسيين غير كتاب «شذور الذهب» لكفاهم دليلا على البلاغة ، ومؤلّفه هو علي بن موسى بن علي بن محمد بن خلف أبو الحسن الأنصاري ، الجيّاني ، نزيل فاس ، وولي خطابتها ، ولم ينظم أحد في الكيمياء مثل نظمه بلاغة معان وفصاحة ألفاظ ، وعذوبة تراكيب ، حتى قيل فيه : إن لم يعلّمك صناعة الذهب (١) علّمك الأدب. وفي عبارة بعضهم : إن فاتك ذهبه ، لم يفتك أدبه. وقيل فيه : إنه شاعر الحكماء ، وحكيم الشعراء. وتوفي رحمه الله تعالى سنة ثلاث وتسعين وخمسمائة.

ولنذكر هنا نبذة من سرعة بديهة أهل الأندلس ، وإن مرّت من ذلك جملة ، وستأتي أيضا زيادة على الجميع ، فنقول :

قال في «بدائع البداءة» ما صورته (٢) : روى عبد الجبار بن حمديس الصقلي قال : صنع عبد الجليل بن وهبون المرسي الشاعر لنا نزهة بوادي إشبيلية ، فأقمنا فيه يومنا ، فلما دنت الشمس للغروب هبّ نسيم ضعيف غضّن وجه الماء ، فقلت للجماعة : أجيزوا : [الرمل]

حاكت الريح من الماء زرد

فأجازه كلّ منهم بما تيسّر له ، فقال له أبو تمام غالب بن رباح الحجاج كيف قلت يا أبا محمد؟ فأعدت القسيم له ، فقال :

أيّ درع لقتال لو جمد

وقد ذكرنا في هذا الكتاب ما يخالف هذا فليراجع في محلّه.

ثم قال صاحب «بدائع البداءة» بعد ما سبق ما صورته (٣) : وقد نقله ابن حمديس إلى غير هذا الوصف ، فقال : [الرمل]

نثر الجوّ على الترب برد

أيّ درّ لنحور لو جمد

__________________

(١) في ه : «صنعة الذهب».

(٢) بدائع البداءة ج ١ ص ٦٣.

(٣) انظر بدائع البداءة ج ١ ص ٦٤ ـ ٦٥.

٣٦٩

فتناقض المعنى بذكر البرد ، وقوله «لو جمد» إذ ليس البرد إلّا ما جمده البرد ، اللهمّ إلّا أن يريد بقوله «لو جمد» دام جموده ، فيصحّ ، وينعقد عن التحقيق (١).

ومثل هذا قول المعتمد بن عباد يصف فوّارة : [الكامل]

ولربّما سلّت لنا من مائها

سيفا وكان عن النواظر مغمدا

طبعته لجيّا فزانت صفحة

منه ولو جمدت لكان مهنّدا (٢)

وقد أخذت أنا هذا المعنى فقلت أصف روضا : [الطويل]

فلو دام ذاك النبت كان زبرجدا

ولو جمدت أنهاره كنّ بلّورا (٣)

وهذا المعنى مأخوذ من قول علي التونسي الإيادي من قصيدته الطائية المشهورة : [البسيط]

ألؤلؤ قطر هذا الجوّ أم نقط؟

ما كان أحسنه لو كان يلتقط

وهذا المعنى كثير للقدماء ، قال ابن الرومي من قطعة في العنب الرازقي : [الرجز]

لو أنه يبقى على الدهور

قرّط آذان الحسان الحور

قال علي بن ظافر (٤) : وأخبرني من أثق به قال : ركب المعتمد على الله أبو القاسم ابن عبّاد للنزهة (٥) بظاهر إشبيلية في جماعة من ندمائه ، وخواصّ شعرائه ، فلمّا أبعد أخذ في المسابقة بالخيول ، فجاء فرسه بين البساتين سابقا ، فرأى شجرة تين قد أينعت وزهت وبرزت منها ثمرة قد بلغت وانتهت ، فسدّد إليها عصا كانت في يده فأصابها ، وثبتت على أعلاها ، فأطربه ما رأى من حسنها وثباتها ، والتفت ليخبر به من لحقه من أصحابه ، فرأى ابن جاخ (٦) الصباغ أول من لحق به فقال : أجز : [مجزوء الرجز]

كأنها فوق العصا

فقال :

هامة زنجيّ عصى

__________________

(١) في ب ، ه : «وينعقد على التحقيق».

(٢) المهند : السيف.

(٣) الزبرجد : من الأحجار الكريمة.

(٤) انظر بدائع البداءة ج ١ ص ٦٦.

(٥) في ب : «لنزهة بظاهر إشبيلية».

(٦) في أ : «ابن جامح» وهو خطأ ، والتصحيح من ب والبدائع ج ١ ص ٦٦.

٣٧٠

فزاد طربه وسروره بحسن ارتجاله ، وأمر له بجائزة سنيّة.

قال علي بن ظافر : وأخبرني أيضا أنّ سبب اشتهار ابن جاخ هذا أنّ الوزير أبا بكر بن عمار كان كثير الوفادة على ملوك الأندلس ، لا يستقرّ ببلدة (١) ، ولا يستفزّه عن وطره (٢) وطن ، وكان كثير التطلّب لما يصدر عن أرباب المهن ، من الأدب الحسن (٣) ، فبلغه خبر ابن جاخ هذا قبل اشتهاره ، فمرّ على حانوته وهو آخذ في صناعة صباغته (٤) ، والنيل قد جرّ على يديه ذيلا ، وأعاد نهارهما ليلا ، فأراد أن يعلم سرعة خاطره ، فأخرج زنده ويده بيضاء من غير سوء ، وأشار إلى يده ، وقال : [المجتث]

كم بين زند وزند؟

فقال :

ما بين وصل وصدّ

فعجب من حسن ارتجاله ، ومبادرة العمل واستعجاله ، وجذب بضبعه ، وبلغ من الإحسان إليه غاية وسعه.

وبلغني أيضا أنه دخل سرقسطة فبلغه خبر يحيى القصّاب السرقسطي ، فمرّ عليه ، ولحم خرفانه (٥) بين يديه ، فأشار ابن عمار إلى اللحم ، وقال : [المنسرح]

لحم سباط الخرفان مهزول

فقال :

يقول للمفلسين مه زولوا (٦)

__________________

(١) في ب : «لا يستقر ببلد». وكلاهما صحيح لورودهما في القرآن الكريم (إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ) [النمل : ٩١] وقوله (فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنا بِهِ الْأَرْضَ) [فاطر : ٩].

(٢) وطره : حاجته وهمته.

(٣) في ه : «من الأدب المحسن».

(٤) في ه : «صباغه».

(٥) في ه : «ولحم جزوره بين يديه».

(٦) في ب ، ه : «يقول يا مشترين مه زولوا».

٣٧١

ولمّا صنع المتوكل (١) على الله بن الأفطس صاحب بطليوس هذا القسيم : [المجتث]

الشّعر خطّة خسف

أرتج عليه ، فاستدعى أبا محمد عبد المجيد بن عبدون صاحب الرائية التي أوّلها : [البسيط]

الدهر يفجع بعد العين بالأثر

وقد تكرّر ذكره في هذا الكتاب ، وهو أحد وزراء دولته ، وخواصّ حضرته ، فاستجازه إيّاه ، فقال : [المجتث]

لكلّ طالب عرف

للشيخ عيبة عيب

وللفتى ظرف ظرف

وذكر ابن بسّام في الذخيرة أنّ قائل القسيم الأوّل الأستاذ أبو الوليد بن ضابط ، وأنّ عبد المجيد أجازه ارتجالا ، وهو ابن ثلاث عشرة سنة ، وقد ذكرنا ما يقرب من ذلك في هذا الكتاب.

وقال ابن الغليظ المالقي (٢) : قلت يوما للأديب أبي عبد الله بن السراج المالقي ، ونحن على جرية ماء : أجز : [الطويل]

شربنا على ماء كأنّ خريره

فقال بديها :

بكاء محبّ بان عنه حبيب

فمن كان مشغوفا كئيبا بإلفه

فإني مشغوف به وكئيب

وذكر ابن بسّام في الذخيرة أنه اجتمع ابن عبادة وابن القابلة السبتي بألمرية ، فنظر إلى وسيم يسبح في البحر ، وقد تعلّق بسكّان (٣) بعض المراكب ، فقال ابن عبادة : أجز : [السريع]

انظر إلى البدر الذي لاح لك

__________________

(١) انظر البدائع ج ١ ص ٧٢.

(٢) انظر البدائع ج ١ ص ٧٣.

(٣) السكان : بضم السين وفتح الكاف مشددة ، بوزن الرمان ـ ذيل السفينة سمي بذلك لأنها بها تقلع.

٣٧٢

فقال ابن القابلة : [السريع]

في وسط اللجّة تحت الحلك

قد جعل الماء سماء له

واتّخذ الفلك مكان الفلك

وقال أبو عامر بن شهيد : لمّا قدم زهير الصقلبي (١) إلى حضرة قرطبة من المرية وجّه وزيره أبو جعفر ابن عباس إلى لمّة من أصحابنا منهم ابن برد وأبو بكر المرواني وابن الحناط (٢) والطبني ، فحضروا إليه ، فسألهم عنّي ، وقال : وجّهوا إليه ، فوافاني رسوله (٣) مع دابة بسرج محلّى ثقيل ، فسرت إليه ، ودخلت المجلس ، وأبو جعفر غائب ، فتحرّك (٤) المجلس لدخولي ، وقاموا جميعا لي ، حتى طلع أبو جعفر علينا ساحبا ذيلا لم أر أحدا سحبه قبله ، وهو يترنّم ، فسلمت عليه سلام من يعرف قدر الرجال ، فردّ ردا لطيفا ، فعلمت أنّ في أنفه نعرة لا تخرج إلّا بسعوط الكلام ، ولا تراض (٥) إلّا بمستحصد النظام ، ورأيت أصحابي يصيخون إلى ترنّمه.

فقال لي ابن الحناط ، وكان كثير الإنحاء عليّ (٦) ، جالبا في المحافل ما يسوء إليّ : إنّ الوزير حضره قسيم ، وهو يسألنا إجازته ، فعلمت أني المراد ، فاستنشدته ، فأنشد : [الكامل]

مرض الجفون ولثغة في المنطق

فقلت لمن حضر : لا تجهدوا أنفسكم ، فما المراد غيري ، ثم أخذت الدواة فكتبت : [الكامل]

سببان جرّا عشق من لم يعشق

من لي بألثغ لا يزال حديثه

يذكي على الأحشاء جمرة محرق

ينبي فينبو في الكلام لسانه

فكأنه من خمر عينيه سقي

لا ينعش الألفاظ من عثراتها

ولو انها كتبت له في مهرق

ثم قمت عنهم ، فلم ألبث أن وردوا عليّ ، وأخبروني أنّ أبا جعفر لم ترض (٧) بما جئت

__________________

(١) في ج : «الصقلي» وهو خطأ ، وقد كان زهير هذا من فتيان الصقالبة بالأندلس.

(٢) في أ : «ابن الخياط» وصوبناه من ب.

(٣) في ه : «فوافاني رسول».

(٤) في ب ، ه : «فتحفّز».

(٥) في ب ، ه : «ولا ترام».

(٦) كثير الإنحاء علي : أي كثير اللوم لي.

(٧) في ب : «لم يرض».

٣٧٣

به من البديهة ، وسألوني أن أحمل مكاوي الهجاء على حتاره (١) ، فقلت : [المتقارب]

أبو جعفر كاتب محسن

مليح سنا الخطّ حلو الخطابه

تملّأ شحما ولحما وما

يليق تملّؤه بالكتابه

له عرق ليس ماء الحياء

ولكنه رشح ماء الجنابه (٢)

جرى الماء في سفله جري لين

فأحدث في العلو منه صلابه

وذكر الوزير أبو بكر بن اللبّانة الداني (٣) في كتابه «سقيط الدرر ، ولقيط الزهر» أنّ المعتمد بن عباد صنع قسيما في القبّة المعروفة بسعد السعود فوق المجلس المعروف بالزاهي ، وهو : [الكامل]

سعد السعود يتيه فوق الزاهي

ثم استجاز الحاضرين فعجزوا ، فصنع ولده عبد الله الرشيد : [الكامل]

وكلاهما في حسنه متناهي

ومن اغتدى سكنا لمثل محمد

قد جلّ في العليا عن الأشباه

لا زال يبلغ فيهما ما شاءه

ودهت عداه من الخطوب دواهي (٤)

وخرج القاضي الفقيه أبو الحسن علي بن القاسم بن محمد بن عشرة أحد رؤساء المغرب الأوسط في جماعة من أصحابه منهم محمد بن عيسى بن سوار الأشبوني ورجل يسمى بأبي موسى خفيف الروح ، ثقيل الجسم ، فجعل يعبث بالحاضرين بأبيات من الشعر يصنعها فيهم ، فصنع القاضي أبو الحسن معاتبا له (٥) : [السريع]

وشاعر أثقل من جسمه

ثم استجاز ابن سوار ، فقال :

تأتي معانيه على حكمه

يهجو فلا يهجى فهل عندكم

ظلامة تعدي على ظلمه

__________________

(١) في ه : «على جماره». والحتار : الإطار المحيط بالغربال ونحوه ، أو ما يحيط بالظفر من اللحم.

(٢) في ج : «ليس ماء الحياة».

(٣) انظر البدائع ج ١ ص ٧٨.

(٤) الدواهي : ما يصيب الناس من عظم نوب الدهر.

(٥) في ب : «معابثا له».

٣٧٤

لسانه في هجوه حيّة

منيّة الحيّة في سمّه

يصيب سرّ المرء في رميه

كأنما العالم في علمه

أمّا أبو موسى ففي كفّه

عصا ابنه والسحر في نظمه

وفي «المقتبس ، في تاريخ الأندلس» (١) أن الأمير عبد الرحمن خرج في بعض أسفاره فطرقه خيار جاريته طروب أمّ ولده عبد الله ، وكانت أعظم حظاياه عنده ، وأرفعهنّ لديه ، لا يزال كلفا بها ، هائما بحبّها ، فانتبه وهو يقول : [السريع]

شاقك من قرطبة الساري

في الليل لم يدر به الداري

ثم أنبه (٢) عبد الله بن الشمر نديمه فاستجازه كمال البيت ، فقال : [السريع]

زار فحيّا في ظلام الدّجى

أحبب به من زائر ساري (٣)

وصنع الأمير عبد الرحمن المذكور في بعض غزواته قسيما ، وهو : [الطويل]

نرى الشيء ممّا يتّقى فنهابه (٤)

ثم أرتج عليه ، وكان عبد الله بن الشمر نديمه وشاعره غائبا عن حضرته ، فأراد من يجيزه ، فأحضر بعض قوّاده محمد بن سعيد الزجالي ، وكان يكتب له ، فأنشده القسيم ، فقال : [الطويل]

وما لا نرى ممّا يقي الله أكثر

فاستحسنه وأجازه ، وحمله استحسانه على أن استوزره.

وذكر ابن بسّام (٥) أن المعتمد بن عباد أمر بصياغة غزال وهلال من ذهب ، فصيغا ، فجاء وزنهما سبعمائة مثقال ، فأهدى الغزال إلى السيدة ابنة مجاهد ، والهلال إلى ابنه الرشيد (٦) ، فوقع له إلى أن قال : [الوافر]

بعثنا بالغزال إلى الغزال

وللشمس المنيرة بالهلال

__________________

(١) انظر البدائع ج ١ ص ٨٧.

(٢) في ج «أتاه».

(٣) الدجى : الليل.

(٤) في ه : «نرى الشيء مما نتقي فنهابه».

(٥) انظر البدائع ج ١ ص ١٠٧.

(٦) في ه : «ابنة الرشيد» محرفا. ويظهر التحريف في قراءة القصة.

٣٧٥

ثم أصبح مصطبحا ، وجاء الرشيد فدخل عليه ، وجاء الندماء والجلساء ، وفيهم أبو القاسم بن المرزقان (١) فحكى لهم المعتمد البيت ، وأمرهم بإجازته ، فبدر ابن المرزبان (٢) فقال : [الوافر]

فذا سكني أبوّئه فؤادي

وذا نجلي أقلّده المعالي

شغلت بذا الطلا خلدي ونفسي

ولكني بذاك رخيّ بال (٣)

دفعت إلى يديه زمام ملكي

محلّى بالصوارم والعوالي (٤)

فقام يقرّ عيني في مضاء

ويسلك مسلكي في كلّ حال

فدمنا للعلاء ودام فينا

فإنا للسماح وللنزال

ولما أنشد أبو القاسم ابن الصير في قول عبد الله بن السمط : [مجزوء الخفيف]

حار طرف تأمّلك

ملك أنت أم ملك

قال بديها : [مجزوء الخفيف]

بل تعاليت رتبة

فلك الأرض والفلك

وذكر ابن بسام في الذخيرة (٥) أنه غنّي يوما بين يدي العالي بالله الإدريسي بمالقة بيت لعبد الله بن المعتز : [المديد]

هل ترين البين يحتال

أن غدت للحي أجمال

فأمر الفقيه أبا محمد غانم بن الوليد المالقي بإجازته ، فقال بديها : [المديد]

إنما العالي إمام هدى

حليت في عصره الحال

ملك أقيال دولته

لذوي الأفهام إقبال (٦)

قل لمن أكدت مطالبه

راحتاه الجاه والمال (٧)

__________________

(١) في ب : «ابن مرزقان». وفي أ : «ابن المرزبان».

(٢) في ب : «ابن مرزقان». وفي أ : «ابن المرزبان».

(٣) في ه : «شغلت بذا وذا خلدي ونفسي».

(٤) في ه : «رفعت إلى يديه زمام ملكي» وفيها «معلّى بالصوارم». والعوالي : الرماح.

والصوارم : السيوف.

(٥) انظر الذخيرة ١ / ٢ : ٣٥٥.

(٦) الأقيال : جمع قيل : وهي ملوك اليمن في الجاهلية دون الملك الأعظم.

(٧) أكدى : قل خيره.

٣٧٦

وغنّى أبو الحسن زرياب (١) يوما بين يدي الأمير عبد الرّحمن بن الحكم بن هشام بن عبد الرحمن الداخل بهذين البيتين ، وهما لأبي العتاهية : [الكامل]

قالت ظلوم سميّة الظّلم

مالي رأيتك ناحل الجسم

يا من رمى قلبي فأقصده

أنت الخبير بموقع السّهم (٢)

فقال عبد الرحمن : هذان البيان منقطعان ، فلو كان بينهما ما يوصلهما (٣) لكان أبدع ، فصنع عبيد الله بن فرناس (٤) بديها : [الكامل]

فأجبتها والدمع منحدر

مثل الجمان وهى من النّظم

فاستحسنه ، وأمر له بجائزة.

وذكر ابن بسام أيضا أن المعتمد بن عباد غنّي بين يديه بقول ابن المعتز : [المتقارب]

وخمّارة من بنات المجوس

ترى الزقّ في بيتها شائلا

وزنّا لها ذهبا جامدا

فكالت لنا ذهبا سائلا

فقال بديها يجيزه : [المتقارب]

وقلت خذي جوهرا ثابتا

فقالت خذوا عرضا زائلا (٥)

وركب المعتمد في بعض الأيام قاصدا الجامع ، والوزير أبو بكر بن عمار يسايره ، فسمع أذان مؤذن ، فقال المعتمد : [الكامل]

هذا المؤذن قد بدا بأذانه

فقال ابن عمار :

يرجو بذاك العفو من رحمانه

فقال المعتمد :

طوبى له من شاهد بحقيقة

__________________

(١) انظر البدائع ج ١ ص ١٥٥.

(٢) أقصده : أصابه.

(٣) في ب : «يصلهما».

(٤) كذا في ب ، ه ، وفي ج : «بن قرناس».

(٥) في ه : «وقلنا خذي». والعرض والجوهر من اصطلاحات الفلاسفة.

٣٧٧

فقال ابن عمار :

إن كان عقد ضميره كلسانه

وقال عبد الجبار بن حمديس الصقلي (١) : أقمت بإشبيلية لمّا قدمتها على المعتمد بن عباد مدّة لا يلتفت إليّ ولا يعبأ بي ، حتى قنطت لخيبتي مع فرط تعبي ، وهممت بالنكوص على عقبي ، فإني لكذلك ليلة من الليالي في منزلي إذا بغلام معه شمعة ومركوب ، فقال لي : أجب السلطان ، فركبت من فوري ، ودخلت عليه ، فأجلسني على مرتبة فنك ، وقال لي : افتح الطاق التي تليك ، ففتحتها فإذا بكور زجاج على بعد ، والنار تلوح من بابيه ، وواقدة تفتحهما تارة وتسدّهما أخرى ، ثم دام سدّ أحدهما وفتح الآخر ، فحين تأمّلتهما قال لي : أجز : [المنسرح]

انظرهما في الظلام قد نجما

فقلت :

كما رنا في الدّجنّة الأسد

فقال :

يفتح عينيه ثمّ يطبقها

فقلت :

فعل امرئ في جفونه رمد

فقال :

فابتزّه الدهر نور واحدة

فقلت :

وهل نجا من صروفه أحد؟

فاستحسن ذلك ، وأمر لي بجائزة سنيّة ، وألزمني خدمته.

وقد ذكرنا هذه الحكاية في هذا الكتاب ، ولكن ما هنا أتمّ مساقا فلذلك نبّهت عليه.

وذكر صاحب «فرحة الأنفس ، في أخبار أهل الأندلس» (٢) أنّ أمير المؤمنين عبد الرحمن

__________________

(١) انظر البدائع ج ١ ص ١٧١.

(٢) انظر البدائع ج ١ ص ١٨٥.

٣٧٨

الناصر جلس في جماعة من خواصه ومعهم أبو القاسم لب ، وكان يعدّه للمجون والتطايب ، فقال له : اهج عبد الملك بن جهور ، يعني أحد وزرائه ، فقال : أخافه ، فقال لعبد الملك : فاهجه أنت ، فقال : أخاف على عرضي منه ، فقال : أهجوه أنا وأنت ، ثم صنع : [السريع]

لبّ أبو القاسم ذو لحية

طويلة أزرى بها الطول (١)

فقال عبد الملك : [السريع]

وعرضها ميلان إن كسّرت

والعقل مأفون ومخبول (٢)

فقال الناصر للبّ : اهجه فقد هجاك ، فقال بديها : [السريع]

قال أمين الله في عصرنا

لي لحية أزرى بها الطول

وابن جهير قال قول الذي

مأكله القرضيل والفول (٣)

لو لا حيائي من إمام الهدى

نخست بالمنخس شو ...

ثم سكت ، فقال له الناصر : هات تمام البيت ، فامتنع ، فقال له «قولو» تمام البيت ، كلمة قالها الناصر مسترسلا غير متحفّظ من زيادة الواو وإبدال الهاء واوا ، إذ صوابها «قله» على حكم المشي مع الطبع والراحة من التكلّف ، فقال لب : يا مولانا ، أنت هجوته ، ففطن الناصر والحاضرون ، وضحكوا ، وأمر له بجائزة.

والقرضيل : شوك له ورق عريض تأكله البقر ، وقوله «شو» اسم لذكر الرجل بالرومية ، و «قولو» اسم للاست بها ، فكأنه قال : لو لا حيائي من إمام الهدى نخست بالمنخس ـ الذي هو الذّكر ـ استه.

وقال ابن ظافر (٤) : أخبرني من أثق به قال : اجتمع الوزير أبو بكر بن القبطرنة والأستاذ أبو العباس ابن صارة في يوم جلا ذهب برقه ، وأذاب ورق ودقه (٥) ، والأرض قد ضحكت لتعبيس السماء ، واهتزّت وربت عند نزول الماء ، فترافدا في صفتها ، فقال ابن صارة : [الكامل]

هذي البسيطة كاعب أبرادها

حلل الربيع وحليها النوّار

__________________

(١) في أ : «كبيرة في طولها ميل» وقد أثبتنا ما في ب ، ه.

(٢) في ج : «مأبون ومخبول». وفيه تحريف.

(٣) في ب ، ه : «مأكوله القرضيل والفول».

(٤) انظر البدائع ج ١ ص ١٨٦.

(٥) الودق : المطر.

٣٧٩

فقال ابن القبطرنة : [الكامل]

وكأنّ هذا الجوّ فيها عاشق

قد شفّه التعذيب والإضرار

فقال ابن صارة : [الكامل]

فإذا شكا فالبرق قلب خافق

وإذا بكى فدموعه الأمطار

فقال ابن القبطرنة : [الكامل]

فمن اجل عزّة ذا وذلّة هذه

تبكي الغمام وتضحك الأزهار

وقال أبو بكر محمد بن الحسن الزبيدي النحوي (١) صاحب الشّرطة يخاطب الوزير أبا الحسن جعفر بن عثمان المصحفي لمّا كتب كتابا له فيه «فاضت نفسه» بالضاد ـ مبينا له الخطأ دون تصريح : [المنسرح]

قل للوزير السنيّ محتده

لي ذمّة منك أنت حافظها (٢)

عناية بالعلوم معجزة

قد بهظ الأوّلين باهظها

يقرّ لي عمرها ومعمرها

فيها ونظّامها وجاحظها (٣)

قد كان حقا قبول حرمتها

لكنّ صرف الزمان لافظها

وفي خطوب الزمان لي عظة

لو كان يثني النفوس واعظها

إن لم تحافظ عصابة نسبت

إليك قدما فمن يحافظها

لا تدعن حاجتي بمطرحة

فإنّ نفسي قد فاظ فائظها (٤)

فأجابه المصحفيّ : [المنسرح]

خفّض فواقا فأنت أوحدها

علما ونقّابها وحافظها

كيف تضيع العلوم في بلد

أبناؤها كلّهم يحافظها

ألفاظهم كلّها معطّلة

ما لم يعوّل عليك لافظها

من ذا يساويك إن نطقت وقد

أقرّ بالعجز عنك جاحظها

__________________

(١) انظر الجذوة ص ٤٣.

(٢) المحتد : الأصل.

(٣) معمر : هو أبو عبيدة معمر بن المثنى. والنظام : هو إبراهيم النظام شيخ الجاحظ. وأما عمرو : فقد يكون أراد به الجاحظ.

(٤) فاظ : مات.

٣٨٠