نفح الطّيب - ج ٤

الشيخ أحمد بن محمد المقري التلمساني

نفح الطّيب - ج ٤

المؤلف:

الشيخ أحمد بن محمد المقري التلمساني


المحقق: يوسف الشيخ محمّد البقاعي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٣٠

غزيّل لم تزل في الغزل جائلة

بناته جولان الفكر في الغزل

جذلان تلعب بالمحواك أنمله

على السّدى لعب الأيام بالأمل (١)

ضمّا بكفّيه أو فحصا بأخمصه

تخبّط الظبي في أشراك محتبل (٢)

ومثل قوله في تغلّب مسكة الظلام على خلوق الأصيل (٣) : [الرمل]

وعشيّ رائق منظره

قد قطعناه على صرف الشّمول

وكأنّ الشمس في أثنائه

ألصقت بالأرض خدّا للنزول

والصّبا ترفع أذيال الرّبا

ومحيّا الجوّ كالنهر الصقيل

حبّذا منزلنا مغتبقا

حيث لا يطرقنا غير الهديل

طائر شاد وغصن منثن

والدّجى تشرب صهباء الأصيل

وهل منكم من يقول في موشّح فيما يجرّه هذا المعنى :

رداء الأصيل

تطويه كفّ الظلام

وهو أبو قاسم بن الفرس.

وهل منكم من وصف غلاما جميل الصورة راقصا بمثل قول ابن خروف (٤) : [الكامل]

ومنزع الحركات يلعب بالنّهى

لبس المحاسن عند خلع لباسه

متأوّدا كالغصن وسط رياضه

متلاعبا كالظبي عند كناسه (٥)

بالعقل يلعب مدبرا أو مقبلا

كالدهر يلعب كيف شاء بناسه (٦)

ويضمّ للقدمين منه رأسه

كالسيف ضمّ ذبابه لرياسه

وهل منكم من وصف خالا بأحسن من قول النشار : [الوافر]

ألوّامي على كلفي بيحيى

متى من حبّه ألقى سراحا

__________________

(١) في أ : «بالأجل».

(٢) المحتبل : الناصب الحبالة.

(٣) ديوان الرصافي ١٢٣.

(٤) ابن خروف : هو علي بن محمد بن يوسف بن خروف القيسي. رحل إلى الشرق وتوفي في حلب سنة ٦٢٠ (انظر الذيل والتكملة ج ٥ ص ٣٩٦).

(٥) كناسه : مولج في الشجر يأوي إليه الظبي ليستتر.

(٦) في ب : «مقبلا أو مدبرا».

٤١

وبين الخدّ والشفتين خال

كزنجيّ أتى روضا صباحا

تحيّر في جناه فليس يدري

أيجني الورد أم يجني الأقاحا

وهل منكم الذي اهتدى إلى معنى في لثم وردة الخدّ ورشف رضاب الثغر لم يهتد إليه أحد غيره ، وهو أبو الحسن سلام بن سلام المالقي في قوله (١) : [الكامل]

لمّا ظفرت بليلة من وصله

والصّبّ غير الوصل لا يشفيه

أنضجت وردة خدّه بتنفّسي

وطفقت أرشف ماءها من فيه

وهل منكم من هجا من غير النطق بإقذاع فبلغ ما لم يبلغه المقذع ، وهو المخزومي في قوله:[مخلع البسيط]

يودّ عيسى نزول عيسى

عساه من دائه يريح

وموضع الداء منه عضو

لا يرتضي مسّه المسيح

ولمّا أقذع أتى أيضا بأبدع ، فقال : [السريع]

يا فارس الخيل ولا فارس

إلّا على متن جواد الخصى

زدت على موسى وآياته

تفجّر الماء وتخفي العصا

وهل منكم من مدح بمعنى فبلغ به النهاية من المدح ، ثم نقله إلى الهجاء فبلغ به النهاية من الذمّ ، وهو البكي في قوله مادحا : [الكامل]

قوم لهم شرف العلا في حمير

وإذا انتموا لمتونة فهم هم

لمّا حووا أحراز كلّ فضيلة

غلب الحياء عليهم فتلثّموا (٢)

وفي قوله هاجيا : [الكامل]

إنّ المرابط باخل بنواله

لكنه بعياله يتكرّم

الوجه منه مخلّق لقبيح ما

يأتيه فهو من أجله يتلثّم (٣)

وهل منكم من هجا أشتر العين بمثل قول أبي العباس بن حنون (٤) الإشبيلي : [الكامل]

__________________

(١) انظر ترجمته في المغرب ج ١ ص ٤٣٤.

(٢) أحراز : جمع حرز : وهو الوعاء الحصين يحفظ فيه الشيء. وهو كذلك : العوذة.

(٣) في ب ، ه : «الوجه منه مخلق بقبيح ما ...».

(٤) أبو العباس أحمد بن حنون. انظر ترجمته في المغرب ج ١ ص ٢٤٤ وزاد المسافر ص ٥٠.

٤٢

يا طلعة أبدت قبائح جمّة

فالكلّ منها إن نظرت قبيح

أبعينك الشّتراء عين ثرّة

منها ترقرق دمعها المسفوح

شترت فقلنا : زورق في لجّة

مالت بإحدى دفّتيه الريح

وكأنما إنسانها ملّاحها

قد خاف من غرق فظلّ يميح

وهل منكم من حضر مع عدوّ له جاحد لما فعله معه من الخير ، وأمامهما زجاجة سوداء فيها خمر ، فقال له الحسود المذكور : إن كنت شاعرا فقل في هذه ، فقال ارتجالا ، وهو ابن مجبر(١): [الطويل]

سأشكو إلى النّدمان أمر زجاجة

تردّت بثوب حالك اللون أسحم (٢)

نصبّ بها شمس المدامة بيننا

فتغرب في جنح من الليل مظلم

وتجحد أنوار الحميّا بلونها

كقلب حسود جاحد يد منعم

وهل منكم من قال لفاضل جمع بينه وبين فاضل ، وهو أبو جعفر الذهبي (٣) : [الخفيف]

أيها الفاضل الذي قد هداني

نحو من قد حمدته باختبار

شكر الله ما أتيت وجازا

ك ولا زلت نجم هدي لساري

أيّ برق أفاد أيّ غمام

وصباح أدّى لضوء نهار

وإذا ما غدا النسيم دليلي

لم يحلني إلّا على الأزهار

وهل منكم أعمى قال في ذهاب بصره وسواد شعره ، وهو التّطيلي (٤) : [البسيط]

أما اشتفت منّي الأيام في وطني

حتى تضايق فيما عنّ من وطري (٥)

ولا قضت من سواد العين حاجتها

حتى تكرّ على ما طلّ في الشّعر

وهل منكم الذي طار في مشارق الأرض ومغاربها قوله ، وهو أبو القاسم محمد بن هانىء الإلبيري : [الكامل]

__________________

(١) في أ : «ابن مجير» والتصويب من ب ، ه. وهو يحيى بن مجبر أبو بكر من بلش توفي سنة ٥٨٨ بمراكش انظر زاد المسافر ص ٩.

(٢) الأسحم : الأسود.

(٣) التكملة ص ٩٥.

(٤) انظر ديوانه ص ٤٩.

(٥) الوطر : الحاجة فيها مأرب وهمة.

٤٣

فتقت لكم ريح الجلاد بعنبر

وأمدّكم فلق الصباح المسفر

وجنيتم ثمر الوقائع يانعا

بالنصر من ورق الحديد الأخضر

وقد سمعت فائيته في النجوم ، ولو لا طولها لأنشدتها هنا ، فإنها أحسن ما قيل في معناها.

وهل منكم من قال في الزهد مثل قول أبي وهب العباسي القرطبي (١) : [الخفيف]

أنا في حالتي التي قد تراني

إن تأمّلت أحسن الناس حالا

منزلي حيث شئت من مستقرّ ال

أرض أسقى من المياه زلالا

ليس لي كسوة أخاف عليها

من مغير ولن ترى لي مالا (٢)

أجعل الساعد اليمين وسادي

ثم أثني إذا انقلبت الشمالا

ليس لي والد ولا مولود

لا ولا حزت مذ عقلت عيالا (٣)

قد تلذّذت حقبة بأمور

فتأمّلتها فكانت خيالا

ومثل قول أبي محمد عبد الله بن لعسال الطليطلي (٤) : [مجزوء الرمل]

أنظر الدنيا فإن أب

صرتها شيئا يدوم

فاغد منها في أمان

إن يساعدك النعيم

وإذا أبصرتها من

ك على كره تهيم

فاسل عنها واطّرحها

وارتحل حيث تقيم

وهل نشأ عندكم من النساء مثل ولّادة المروانية التي تقول مداعبة للوزير ابن زيدون ، وكان له غلام اسمه «علي» : [السريع]

ما لابن زيدون علي فضله

يغتابني ظلما ولا ذنب لي

ينظرني شزرا إذا جئته

كأنما جئت لأخصي علي

ومثل زينب بنت زياد المؤدّب ، الوادي آشية التي تقول : [الطويل]

ولمّا أبى الواشون إلّا فراقنا

وما لهم عندي وعندك من ثار

__________________

(١) انظر ترجمته في المغرب ج ١ ص ٥٨.

(٢) في ب ، ه : «ولا ترى لي مالا».

(٣) في ب ، ه :

ليس لي والد ولا مولود

ولا حزت مذ عقلت عيالا

(٤) انظر المغرب ج ٢ ص ٢١.

٤٤

وشنّوا على أسماعنا كلّ غارة

وقلّ حماتي عند ذاك وأنصاري

غزوتهم من مقلتيك وأدمعي

ومن نفسي بالسيف والماء والنار

وأنا أختم هذه القطع المتخيّرة بقول أبي بكر بن بقي ليكون الختام مسكا (١) : [الكامل]

عاطيته والليل يسحب ذيله

صهباء كالمسك الفتيق لناشق

وضممته ضمّ الكميّ لسيفه

وذؤابتاه حمائل في عاتقي (٢)

حتى إذا مالت به سنة الكرى

زحزحته شيئا وكان معانقي

باعدته عن أضلع تشتاقه

كيلا ينام على وساد خافق

ويقول القاضي أبي حفص بن عمر القرطبي (٣) : [الوافر]

هم نظروا لواحظها فهاموا

وتشرب لبّ شاربها المدام

يخاف الناس مقلتها سواها

أيذعر قلب حامله الحسام

سما طرفي إليها وهو باك

وتحت الشمس ينسكب الغمام

وأذكر قدّها فأنوح وجدا

على الأغصان تنتدب الحمام

وأعقب بينها في الصدر غمّا

إذا غربت ذكاء أتى الظلام (٤)

وبقوله أيضا : [الوافر]

لها ردف تعلّق في لطيف

وذاك الرّدف لي ولها ظلوم

يعذّبني إذا فكّرت فيه

ويتعبها إذا رامت تقوم

وقد أطلت عنان النظم ، على أني اكتفيت عن الاستدلال على النهار بالصباح ، فبالله إلّا ما أخبرتني : من شاعركم الذي تقابلون به شاعرا ممّن ذكرت؟ لا أعرف لكم أشهر ذكرا ، وأضخم شعرا ، من أبي العباس الجراوي ، وأولى لكم أن تجحدوا فخره ، وتنسوا ذكره ، فقد كفاكم ما جرى من الفضيحة عليكم في قوله من قصيدة يمدح بها خليفة : [الطويل]

إذا كان أملاك الزمان أراقما

فإنك فيهم دائم الدهر ثعبان (٥)

__________________

(١) انظر المغرب ج ٢ ص ٢١.

(٢) الكمي : المحارب المدجج بالسلاح. وحمائل السيف : علائقه.

(٣) انظر زاد المسافر ص ١٠١.

(٤) ذكاء : الشمس.

(٥) الأملاك : هنا جمع ملك ،. والأراقم : جمع أرقم ، وهو أخبث الحيات.

٤٥

فما أقبح ما وقع «ثعبان» وما أضعف ما جاء «دائم الدهر» ولقد أنشدت أحد ظرفاء الأندلس هذا البيت ، فقال : لا ينكر هذا على مثل الجراوي ، فسبحان من جعل روحه ونسبه وشعره (١) تتناسب في الثقالة.

وإن أردت الافتخار بالفرسان ، والتفاضل بالشجعان ، فمن كان قبلنا منهم في مدة المنصور بن أبي عامر ومدة ملوك الطوائف أخبارهم مشهورة ، وآثارهم مذكورة ، وكفاك من أبطال عصرنا ما سمعت عن الأمير أبي عبد الله بن مردنيش وأنه كان يدفع في مواكب النصارى ويشقّها يمينا ويسارا منشدا (٢) : [الوافر]

أكرّ على الكتيبة لا أبالي

أحتفي كان فيها أم سواها

حتى أنه دفع يوما في موكب من النصارى فصرع وقتل ، وظهر منه ما أعجبت به نفسه ، فقال لشيخ من خواصّه ، عالم بأمور الحرب مشهور بها : كيف رأيت؟ فقال له : لو رآك السلطان زاد فيما لك في بيت المال ، وأعلى مرتبتك ، أمن يكون رأس جيش يقدم هذا الإقدام ، ويتعرّض بهلاك نفسه إلى هلاكهم (٣) ، فقال له : دعني فإني لا أموت مرتين ، وإذا متّ أنا فلا عاش من بعدي.

والقائد أبو عبد الله بن قادوس (٤) الذي اشتهر من شجاعته ومواقعه في النصارى وحسن بلائه ما صيّر النصارى من رعبه والإقرار بفضله في هذا الشأن أن يقول أحدهم لفرسه إذا سقاه فلم يقبل على الماء : مالك؟ أرأيت ابن قادوس في الماء ، وهذه مرتبة عظيمة : [الكامل]

والفضل ما شهدت به الأعداء

ولقد أخبرني من أثق به أنه خرج من عسكر في كتيبة مجرّدة برسم الغارة على بلاد النصارى ، فوقع في جمع كبير منهم ، فجهد جهده في الخلاص منهم والرجوع إلى العسكر ، فجعل يقاتل مع أصحابه في حالة الفرار إلى أن كبا بأحد جنده فرسه ، وفرّ عنه ، فناداه مستغيثا ، فقال : اصبر ، ثم نظر إلى فارس من النصارى قد طرق (٥) فقال : اجر إلى هذا النصراني ، فخذ فرسه ، وركض نحوه ، فأسقطه ، وقال لصاحبه : اركب ، فركب ونجا معه سالما.

__________________

(١) في ب «نسبه وروحه وشعره».

(٢) في ب ، ه : «وأنه كان يدفع في المواكب ويشقها».

(٣) في ب : «هلاك جيشه».

(٤) في ب ، ه : «بن قادس» في كل المواضع.

(٥) في ج : «قد طرف».

٤٦

وأمثال هذا كثير ، وإنما جئت بحصاة من ثبير (١).

وأمّا كرم النّفس وشمائل الرياسة فأنا أحكي لك حكاية تتعجّب منها ، وهي ممّا جرى في عصرنا ، وذلك أن أبا بكر بن زهر نشأت بينه وبين الحافظ أبي بكر بن الجد عداوة مفرطة للاشتراك في العلم والرياسة وكثرة المال والبلدية ، فأجرى ابن زهر يوما ذكره في جماعة من أصحابه ، وقال : لقد آذانا هذا الرجل أشدّ أذيّة ، ولم يقصر في القول عند أمير المؤمنين وعند خواصّ الناس وعوامّهم ، فقال له أحد عوامّهم : إني أذكر لك عليه عقدا فيه مخاصمة في موضع ممّا يعزّ عليه من مواضعه ، ومتى خاصمته في ذلك بلغت منه في النكاية أشدّ مبلغ ، فخرج ابن زهر ، وأظهر الغضب الشديد ، والإنكار لذلك ، وقال لوكيله : أمثلي يجازى على العداوة بما يجازى به السفل والأوباش؟ وإني أجعل ابن الجد في حل من موضع الخصام ، وأمر بأن يحمل له العقد ، ثم قال : وإني والله ما أروم بذلك أن أصالحه (٢) ، فإنّ عداوته من حسد ، وأنا أسأل الله تعالى أن يديمها ؛ لأنها مقترنة بدوام نعم الله عليّ.

وإن تعرضت إلى ذكر البلاد ، وتفسير محاسنها ، وما خصّها الله تعالى به ممّا حرمه (٣) على غيرها ، فاسمع ما يميت الحسود كمدا :

أما إشبيلية فمن محاسنها اعتدال الهواء ، وحسن المباني ، وتزيين الخارج والداخل ، وتمكن التمصّر ، حتى أنّ العامّة تقول : لو طلب لبن الطير في إشبيلية وجد ، ونهرها الأعظم الذي يصعد المدّ فيه اثنين وسبعين ميلا ثم يحسر ، وفيه يقول ابن سفر : [الكامل]

شقّ النسيم عليه جيب قميصه

فانساب من شطّيه يطلب ثاره

فتضاحكت ورق الحمام بدوحها

هزأ فضمّ من الحياء إزاره (٤)

وزيادته على الأنهار كون ضفّتيه مطرّزتين (٥) بالمنازه والبساتين والكروم والأنسام (٦) متّصل ذلك اتّصالا لا يوجد على غيره.

وأخبرني شخص من الأكياس دخل مصر وقد سألته عن نيلها أنه لا تتّصل بشطّيه البساتين

__________________

(١) ثبير ، بفتح الثاء : اسم جبل ، أراد أنه أتى بقليل من كثير.

(٢) في ه : «ما أروم بذلك أصالحه».

(٣) في ب : «حرّمها على غيرها».

(٤) في ب : «هزءا فضمّ ...» تسكين الثاني المتحرك ، وهو جواز في الوزن.

(٥) في ه : «مطرزة بالمنارة».

(٦) الأنسام : جمع نسيم على غير قياس. وفي ب «الأنشام» : والأنشام : أشجار تتخذ منها القسي.

٤٧

والمنازه اتّصالها بنهر إشبيلية ، وكذلك أخبرني شخص آخر دخل بغداد ، وقد سعد هذا الوادي بكونه لا يخلو من مسرّة ، وأنّ جميع أدوات الطرب وشرب الخمر فيه غير منكر لا ناه عن ذلك ولا منتقد ، ما لم يؤدّ السكر إلى شرّ وعربدة ، وقد رام من وليها من الولاة المظهرين للدين قطع ذلك ، فلم يستطيعوا إزالته ، وأهله أخفّ الناس أرواحا ، وأطبعهم نوادر ، وأحملهم لمزاح بأقبح ما يكون من السّبّ ، قد مرنوا على ذلك ، فصار لهم ديدنا حتى صار عندهم من لا يبتذل فيه ولا يتلاعن ممقوتا ثقيلا ، وقد سمعت عن شرف إشبيلية الذي ذكره أحد الوشاحين في موشحة مدح بها المعتضد بن عباد :

إشبيليا عروس وبعلها عبّاد

وتاجها الشرف وسلكها الواد (١)

أي شرف قد حاز ما شاء من الشرف إذ عمّ أقطار الأرض خيره ، وسفر ما يعصر من زيتونه من الزيت حتى بلغ الإسكندرية ، وتزيد قراه على غيرها من القرى بانتخاب مبانيها ، وتهمّم سكانها فيها داخلا وخارجا ، إذ هي من تبييضهم لها نجوم في سماء الزيتون.

وقيل لأحد من رأى مصر والشام : أيها رأيت أحسن هذان أم إشبيلية؟ فقال بعد تفضيل إشبيلية : وشرفها غابة بلا أسد ، ونهرها نيل بلا تمساح. وقد سمعت عن جبال الرحمة بخارجها ، وكثرة ما فيها من التين القوطي والشعري ، وهذان الصنفان أجمع المتجوّلون في أقطار الأرض أن ليس في غير إشبيلية مثل لهما ، وقد سمعت ما في هذا البلد من أصناف أدوات الطرب كالخيال والكريج والعود والروطة والرباب والقانون والمؤنس والكثيرة (٢) والفنار والزلامي والشقرة والنورة ـ وهما مزماران الواحد غليظ الصوت والآخر رقيقه ـ والبوق ، وإن كان جميع هذا موجودا في غيرها من بلاد الأندلس فإنه فيها أكثر وأوجد ، وليس في برّ العدوة من هذا شيء إلّا ما جلب إليه من الأندلس ، وحسبهم الدفّ وأقوال واليرا وأبو قرون ودبدبة السودان وحماقي البرابر ، وأمّا جواريها ومراكبها برّا وبحرا ومطابخها وفواكهها الخضراء واليابسة فأصناف أخذت من التفضيل بأوفر نصيب ، وأمّا مبانيها فقد سمعت عن إتقانها واهتمام أصحابها وكون أكثر ديارها لا تخلو من الماء الجاري والأشجار المتكاثفة كالنارنج والليم والليمون والزنبوع وغير ذلك ، وأمّا علماؤها في كل صنف رفيع أو وضيع جدا أو هزلا فأكثر من أن يعدّوا ، وأشهر من أن يذكروا ، وأما ما فيها من الشعراء والوشّاحين والزجّالين فما لو قسموا على برّ العدوة ضاق بهم ، والكل ينالون خير رؤسائها ورفدهم ، وما من جميع ما ذكرت في هذه البلدة الشريفة إلّا وقصدي به العبارة عن فضائل جميع الأندلس ، فما تخلو بلادها من

__________________

(١) في ب : «إشبيليا عروسا».

(٢) في ه : «والكبيرة والفنار».

٤٨

ذلك ، ولكن جعلت إشبيلية ، بل الله جعلها أمّ قراها ، ومركز فخرها وعلاها ، إذ هي أكبر مدنها ، وأعظم أمصارها.

وأما قرطبة فكرسي المملكة في القديم ، ومركز العلم ومنار التقى ومحلّ التعظيم والتقديم ، بها استقرّت ملوك الفتح وعظماؤه ، ثم الملوك المروانية ، وبها كان يحيى بن يحيى راوية مالك ، وعبد الملك بن حبيب ، وقد سمعت من تعظيم أهلها للشريعة ، ومنافستهم في السؤدد بعلمها ، وأنّ ملوكها كانوا يتواضعون لعلمائها ، ويرفعون أقدارهم ، ويصدرون عن آرائهم ، وأنهم كانوا لا يقدّمون وزيرا ولا مشاورا لما لم يكن عالما ، حتى أنّ الحكم المستنصر لمّا كره له العلماء شرب (١) الخمر همّ بقطع شجرة العنب من الأندلس ، فقيل له : فإنها تعصر من (٢) سواها ، فأمسك عن ذلك. وأنهم كانوا لا يقدمون أحدا للفتوى ولا لقبول الشهادة حتى يطول اختباره ، وتعقد له مجالس المذاكرة ، ويكون ذا مال في غالب الحال خوفا من أن يميل به الفقر إلى الطمع فيما في أيدي الناس فيبيع به حقوق الدين ، ولقد أخبرت أن الحكم الربضي أراد تقديم شخص من الفقهاء يختصّ به للشهادة ، فأخذ في ذلك مع يحيى بن يحيى وعبد الملك وغيرهما من أعلام العلماء ، فقالوا له : هو أهل ، ولكنه شديد الفقر ، ومن يكون في هذه الحالة لا تأمنه على حقوق المسلمين ، لا سيما وأنت تريد انتفاعه وظهوره في الدخول في المواريث والوصايا وأشباه ذلك ، فسكت ولم ير (٣) منازعتهم ، وبقي مهموما من كونهم لم يقبلوا قوله ، فنظر إليه ولده عبد الرحمن الذي ولي الملك بعده ، وعلى وجهه أثر ذلك ، فقال : ما بالك يا مولاي؟ فقال : ألا ترى لهؤلاء الذين نقدمهم وننوّه عند الناس بمكانهم ، حتى إذا كلفناهم ما ليس عليهم فيه شطط ، بل ما لا يعيبهم (٤) ، ولا ممّا هو يرزؤهم (٥) ، صدّونا عنه ، وغلقوا أبواب الشفاعة ، وذكر له ما كان منهم ، فقال : يا مولاي ، أنت أولى الناس بالإنصاف ، إنّ هؤلاء ما قدمتهم أنت ولا نوّهت بهم ، وإنما قدّمهم ونوّه بهم علمهم ، أو كنت تأخذ قوما جهالا فتضعهم في مواضعهم؟ قال : لا ، قال : فأنصفهم فيما تعبوا فيه من العلم لينالوا به لذة الدنيا وراحة الآخرة ، قال : صدقت ، ثم قال : وأمّا كونهم لم يقبلوا هذا الرجل لشدّة فقره فالعلّة في ذلك تنحسم بما يبقي لك في الصالحات ذكرا ، قال : وما هو؟ قال : تعطيه من مالك قدر ما يلحق به من الغنى ما يؤهّله لتلك المنزلة ، ويزيل عنك خجل ردّهم لك ، وتكون هذه مكرمة ما سبقك إليها أحد ، فتهلّل وجه الحكم وقال : إليّ إليّ ، إنها والله شنشنة عبشمية (٦) وإنّ الذي قال فينا لصادق : [الطويل]

__________________

(١) في ه : «بعض الخمر».

(٢) في ج : «تعصر في سواها».

(٣) في ج : «ولم يرد منازعتهم».

(٤) في ه : «بل ما لا يعنيهم».

(٥) في ب : «ولا هو مما يرزؤهم».

(٦) شنشنة : خلق. وعبشمية : نسبة إلى عبد شمس.

٤٩

وأبناء أملاك خضارم سادة

صغيرهم عند الأنام كبير

ثم استدعى عبد الملك بن حبيب وسأله عن قدر ما يؤهّله لتلك المرتبة من الغنى ، فذكر له عددا ، فأمر له به في الحين ، ونبّه قدره بأن أعطاه من إصطبله مركوبا ، وكانت هذه أكرومة لا خفاء بعظمها : [الكامل]

يفنى الزمان وما بنته مخلّد

ثم إنه إذا كان له من الغنى ما يكفّه (١) عن أموال الناس ، ومن الدين ما يصدّه عن محارم الله تعالى ، ومن العلم ما لا يجهل به التصرّف في الشريعة ، أباحوا له الفتوى والشهادة ، وجعلوا علامة لذلك بين الناس القلانس (٢) والرداء.

وأهل قرطبة أشدّ الناس محافظة على العمل بأصحّ الأقوال المالكية ، حتى أنهم كانوا لا يولّون حاكما إلّا بشرط أن لا يعدل في الحكم عن مذهب ابن القاسم.

وقال ابن سارة لمّا دخل قرطبة [البسيط] :

الحمد لله قد وافيت قرطبة

دار العلوم وكرسيّ السلاطين

وهي كانت مجمع جيوش الإسلام ، ومنها نصر الله على عبدة الصليب.

يقال : إن المنصور بن أبي عامر ـ حين تمّ له ملك البرّين ، وتوفّرت الجيوش والأموال ـ عرض بظاهر قرطبة خيله ورجله ، وقد جمع من أقطار البلاد ما ينهض به إلى قتال العدوّ وتدويخ بلاده ، فنيّف الفرسان على مائتي ألف ، والرّجّالة على ستمائة ألف. وبها حتى الآن من صناديد المسلمين وقوادهم من لا يفتر عن محاربة (٣) ، ولا يملّ من مضاربة ، من (٤) أسماؤهم بأقاصي بلاد النصارى مشهورة ، وآثارهم فيها مأثورة ، وقلوبهم على البعد بخوفهم معمورة.

ويحكى أن العمارة في مباني قرطبة والزهراء اتّصلت إلى أن كان يمشى فيها بضوء (٥) السّرج المتّصلة عشرة أميال ، وأمّا جامعها الأعظم فقد سمعت أنّ ثريّاته من نواقيس النصارى ، وأنّ الزيادة التي زاد في بنائه ابن أبي عامر من تراب نقله النصارى على رؤوسهم ممّا هدم من

__________________

(١) يكفه : يمنعه ويحجبه.

(٢) في ب ، ه : «القالس».

(٣) في ج : «ممن لا يفتر عن محاربة» وما أثبتناه من بقية النسخ ، وهو الصحيح.

(٤) كلمة «من» غير موجودة في ب. وقد أثبتناها من أ.

(٥) في ب ، ه : «لضوء السرج».

٥٠

كنائس بلادهم ، وقد سمعت أيضا عن قنطرتها العظمى وكثرة أرحيّ واديها ، يقال : إنها تنيّف على خمسة آلاف حجر ، وقد سمعت عن كنبانيّتها وما فضّل الله تعالى به تربها من بركة وما ينبت فيها من القمح وطيبه ، وفيها جبال الورد الذي بلغ الربع منه مرات إلى ربع درهم ، وصار أصحابه يرون الفضل لمن قطف بيده ما يمنحونه منه ، ونهرها إن صغر عندها عن عظمه عند إشبيلية فإنّ لتقارب برّيه هنالك وتقطّع غدره ومروجه معنى آخر وحلاوة أخرى ، وزيادة أنس ، وكثرة أمان من الغرق ، وفي جوانبه من البساتين والمروج ما زاده نضارة وبهجة.

وأما جيّان فإنها لبلاد الأندلس قلعة ، إذ هي أكثرها زرعا ، وأصرمها أبطالا ، وأعظمها منعة ، وكم رامتها عساكر النصارى عند فترات الفتن فرأوها أبعد من العيّوق ، وأعزّ منالا من بيض الأنوق ، ولا خلت من علماء ولا من شعراء ، ويقال لها «جيان الحرير» لكثرة اعتناء باديتها وحاضرتها بدود الحرير.

وممّا يعدّ في مفاخرها ما ببيّاسة إحدى بلاد أعمالها من الزعفران الذي يسفّر برّا وبحرا ، وما في أبدة من الكروم التي كاد العنب لا يباع (١) فيها ولا يشترى كثرة ، وما كان بأبدة من أصناف الملاهي والرواقص المشهورات بحسن الانطباع والصنعة ، فإنهنّ أحذق خلق الله تعالى باللعب بالسيوف والدك ، وإخراج القروى والمرابط والمتوجه.

وأما غرناطة فإنها دمشق بلاد الأندلس ، ومسرح الأبصار ، ومطمح الأنفس ، لها القصبة المنيعة ذات الأسوار الشامخة ، والمباني الرفيعة ، وقد اختصّت بكون النهر يتوزّع على ديارها وأسواقها وحماماتها (٢) وأرحاها الداخلة والخارجة وبساتينها ، وزانها الله تعالى بأن جعلها مرتّبة على بسيطها الممتدّ الذي تفرّعت فيه سبائك الأنهار بين زبرجد الأشجار (٣) ، ولنسيم نجدها وبهجة منظر حورها في القلوب والأبصار ، استلطاف يروق الطباع (٤) ، ويحدث فيها ما شاءه الإحسان من الاختراع والابتداع ، ولم تخل من أشراف أماثل ، وعلماء أكابر ، وشعراء أفاضل ، ولو لم يكن لها إلّا ما خصّها الله تعالى به من كونها قد نبغ فيها من الشواعر مثل نزهون القلاعية وزينب بنت زياد ، وقد تقدّم شعرهما ، وحفصة بنت الحاج ، وناهيك في الظرف والأدب ، وهل ترى أظرف منها في جوابها للحسيب الوزير (٥) الناظم الناثر أبي جعفر بن القائد الأجلّ أبي مروان بن سعيد ، وذلك أنهما باتا بحور مؤمّل على ما يبيت به الروض والنسيم ،

__________________

(١) في ب : «فيها لا يباع».

(٢) في ب : «وحماماتها وأسواقها».

(٣) الزبرجد : حجر كريم يشبه الزمرّد ، متعدد الألوان.

(٤) في ه : «يرق الطباع».

(٥) في ب : «للوزير الحسيب».

٥١

من طيب النفحة ونضارة النعيم ، فلمّا حان الانفصال قال أبو جعفر (١) : [الطويل]

رعى الله ليلا لم يرع بمذمّم

عشيّة وارانا بحور مؤمّل (٢)

وقد خفقت من نحو نجد أريجة

إذا نفحت هبّت بريّا القرنفل

وغرّد قمريّ على الدّوح وانثنى

قضيب من الريحان من فوق جدول (٣)

تريد الروض مسرورا بما قد بدا له

عناق وضمّ وارتشاف مقبّل

وكتبه إليها بعد الافتراق ، لتجاوبه على عادتها في ذلك ، فكتبت له ما لا يخفى فيه قيمتهأ : [الطويل]

لعمرك ما سرّ الرياض بوصلنا

ولكنّه أبدى لنا الغلّ والحسد

ولا صفّق النهر ارتياحا لقربنا

ولا صدح القمريّ إلّا بما وجد

فلا تحسن الظّنّ الذي أنت أهله

فما هو في كلّ المواطن بالرّشد

فما خلت هذا الأفق أبدى نجومه

لأمر سوى كيما تكون لنا رصد

وأما مالقة فإنها قد جمعت بين منظر البحر والبرّ بالكروم المتّصلة التي لا تكاد ترى فيها فرجة لموضع غامر ، والبروج التي شابهت نجوم السماء ، كثرة عدد وبهجة ضياء ، وتخلّل الوادي الزائر لها في فصلي الشتاء والربيع في سرر بطحائها ، وتوشيحه لخصور أرجائها (٤) ، وممّا اختصّت به من بين سائر البلاد التين الربي المنسوب إليها ؛ لأنّ اسمها في القديم ربة ، ولقد أخبرت أنه يباع في بغداد على جهة الاستطراف ، وأما ما يسفّر منه المسلمون والنصارى في المراكب البحرية فأكثر من أن يعبر عنه بما يحصره ، ولقد اجتزت بها مرّة ، وأخذت على طريق الساحل من سهيل إلى أن بلغت إلى بليش قدر ثلاثة أيام متعجّبا فيما حوته هذه المسافة من شجر التين ، وإنّ بعضها ليجتني جميعها الطفل الصغير من لزوقها بالأرض ، وقد حوت ما يتعب الجماعة كثرة ، وتين بليش هو الذي قيل فيه لبربري : كيف رأيته؟ قال : لا تسألني عنه ، وصبّ في حلقي بالقفة ، وهو لعمر الله معذور ؛ لأنه نعمة حرمت بلاده منها ، وقد خصّت بطيب الشراب الحلال والحرام ، حتى سار المثل بالشراب المالقي ، وقيل لأحد الخلعاء (٥) ،

__________________

(١) سيورد المقري في النفح أخبار أبي جعفر بن سعيد وحفصة بتفصيل في كتابه هذا.

(٢) ففي ه : «رعانا ووارانا بحور مؤمل».

(٣) قمريّ : نوع من الحمام حسن الصوت.

(٤) في أ«لحضور أرجائها».

(٥) في ج «لأحد الخلفاء» محرفا.

٥٢

وقد أشرف على الموت : اسأل ربّك المغفرة ، فرفع يديه وقال : يا ربّ ، أسألك من جميع ما في الجنّة خمر مالقة وزبيبيّ إشبيلية ، وفيها تنسج الحلل الموشيّة التي تجاوز أثمانها الآلاف ذات الصور العجيبة المنتخبة برسم الخلفاء فمن دونهم ، وساحلها محطّ تجارة لمراكب المسلمين والنصارى.

وأما المريّة فإنها البلد المشهور الذكر ، العظيم القدر ، الذي خصّ أهله باعتدال المزاج ، ورونق الديباج ، ورقّة البشرة ، وحسن الوجوه والأخلاق ، وكرم المعاشرة والصحبة. وساحلها أنظف السواحل وأشرحها وأملحها منظرا ، وفيها الحصا الملوّن العجيب الذي يجعله رؤساء مراكش في البراريد ، والرخام الصقيل الملوكي ، وواديها المعروف بوادي بجانة من أفرج الأودية ، ضفّتاه بالرياض كالعذارين حول الثغر ، فحق أن ينشد فيها : [الكامل]

أرض وطئت الدّرّ رضراضا بها

والتّرب مسكا والرياض جنانا (١)

وفيها كان ابن ميمون القائد الذي قهر النصارى في البحر ، وقطع سفرهم فيه ، وضرب على بلاد الرمانية ، فقتل وسبى ، وملأ صدور أهلها رعبا ، حتى كان منه كما قال أشجع (٢) : [الكامل]

فإذا تنبّه رعته وإذا غفا

سلّت عليه سيوفك الأحلام

وبها كان محطّ مراكب النصارى ، ومجتمع ديوانهم ، ومنها كانت تسفّر لسائر البلاد بضائعهم ، ومنها كانوا يوسقون جميع البضائع التي تصلح لهم ، وقصد بضبط ذلك بها حصر ما يجتمع في أعشارهم ، ولم يوجد لهذا الشأن مثلها ، لكونها (٣) متوسطة ومتسعة قائمة بالوارد والصادر ، وهي أيضا مصنع للحلل الموشية النفيسة.

وأما مرسية فإنها حاضرة شرق الأندلس ، ولأهلها من الصّرامة والإباء ما هو معروف مشهور ، وواديها قسيم وادي إشبيلية ، كلاهما ينبع من شقورة وعليه من البساتين المتهدبة الأغصان ، والنواعير المطربة الألحان ، والأطيار المغرّدة ، والأزهار المتنضدة ، ما قد سمعت ، وهي من أكثر البلاد فواكه وريحانا ، وأهلها أكثر الناس راحات وفرجا لكون خارجها معينا على ذلك بحسن منظره ، وهي بلدة تجهز منها العروس التي تنتخب شورتها لا تفتقر في شيء من ذلك إلى سواها. وهي للمرية ومالقة في صنعة الوشي ثالثة ، وقد اختصّت بالبسط التنتلية التي

__________________

(١) الرضراض : الحصى الرقاق في مجاري الماء.

(٢) هو أشجع السلمي.

(٣) كذا في أ، ب ، ج. وفي ه «لكونها موسطة».

٥٣

تسفّر لبلاد المشرق ، وبالحصر التي تغلّف (١) بها الحيطان المبهجة للبصر ، إلى غير ذلك ممّا يطول ذكره ، ولم تخل من علماء وشعراء وأبطال.

وأما بلنسية فإنها لكثرة بساتينها تعرف بمطيب الأندلس ، ورصافتها من أحسن متفرّجات الأرض ، وفيها البحيرة المشهورة الكثيرة الضوء والرونق ، ويقال إنه لمواجهة الشمس لتلك البحيرة يكثر ضوء بلنسية إذ هي موصوفة بذلك ، وممّا خصّت به النسيج البلنسي الذي يسفّر لأقطار المغرب ، ولم تخل من علماء ولا شعراء ، ولا فرسان يكابدون مضايقة الأعداء (٢) ، ويتجرعون فيها النعماء ممزوجة بالضرّاء ، وأهلها أصلح الناس مذهبا ، وأمتنهم دينا ، وأحسنهم صحبة ، وأرفقهم بالغريب.

وأما جزيرة ميورقة فمن أخصب بلاد الله تعالى أرجاء ، وأكثرها زرعا ورزقا وماشية ، وهي على انقطاعها من البلاد مستغنية عنها ، يصل فاضل خيرها إلى غيرها ، إذ فيها من الحضارة والتمكّن والتمصّر وعظم البادية ما يغنيها ، وفيها من الفوائد ما فيها ، ولها فضلاء وأبطال اقتصروا على حمايتها من الأعداء المحدقة بها : [الكامل]

من كلّ من جعل الحسام خليله

لا يبتغي أبدا سواه معينا (٣)

هذا ـ زان الله تعالى فضلك بالإنصاف ، وشرّف كرمك بالاعتراف! ـ ما حضرني الآن في فضل جزيرة الأندلس ، ولم أذكر من بلادها إلّا ما كلّ بلد منها مملكة مستقلّة يليها ملوك بني عبد المؤمن على انفراد ، وغيرها في حكم التبع.

وأمّا علماؤها وشعراؤها فإني لم أعرض منهم إلّا لمن هو في الشهرة كالصباح ، وفي مسير الذكر كمسير الرياح ، وأنا أحكي لك حكاية جرت لي في مجلس الرئيس الفقيه (٤) أبي بكر بن زهر ، وذلك أني كنت يوما بين يديه ، فدخل علينا رجل عجميّ من فضلاء خراسان ، وكان ابن زهر يكرمه ، فقلت له : ما تقول في علماء الأندلس وكتّابهم وشعرائهم؟ فقال : كبّرت ، فلم أفهم مقصده ، واستبردت ما أتى به ، وفهم مني أبو بكر بن زهر أني نظرته نظر المستبرد المنكر ، فقال لي : أقرأت شعر المتنبي؟ قلت : نعم ، وحفظت جميعه ، قال : فعلى نفسك إذن فلتنكر ، وخاطرك بقلّة الفهم فلتتّهم ، فذكرني بقول المتنبي : [الكامل]

__________________

(١) في ه «التي تقلف».

(٢) في ب ، ه «مصاقبة الأعداء». وفي بعض النسخ «مصاففة» وفي أخرى «مصادمة». وقد اخترنا ما في أ، ب.

(٣) الخليل : الصديق المخلص.

(٤) في ب : «الفقيه الرئيس».

٥٤

كبّرت حول ديارهم لمّا بدت

منها الشموس وليس فيها المشرق

فاعتذرت للخراساني ، وقلت له : قد والله كبرت في عيني بقدر ما صغرت نفسي عندي ، حين لم أفهم نبل مقصدك ، فالحمد لله الذي أطلع من المغرب هذه الشموس ، وجعلها بين جميع أهله بمنزلة الرءوس ، وصلّى الله على سيدنا محمد نبيّه المختار من صفوة العرب ، وعلى آله وصحبه ، صلاة متّصلة إلى غابر الحقب (١).

كملت رسالة الشّقندي. وهو أبو الوليد إسماعيل بن محمد ، وشقندة المنسوب إليها : قرية مطلّة على نهر قرطبة مجاورة لها من جهة الجنوب.

قال ابن سعيد (٢) : وهو ممّن كان بينه وبين والدي صحبة أكيدة ، ومجالسات أنس عديدة ، ومزاورات تتّصل ، ومحاورات لا تكاد تنفصل ، وانتفعت بمجالسته ، وله رسالة في تفضيل الأندلس يعارض بها أبا يحيى في تفضيل برّ العدوة ، أورد فيها من المحاسن ما يشهد له بلطافة المنزع ، وعذوبة المشرع ، وكان جامعا لفنون من العلوم الحديثة والقديمة ، وعني بمجلس المنصور ، فكانت له فيه مشاهد غير ذميمة. وولي قضاء بياسة (٣) وقضاء لورقة ، ولم يزل محفوظ الجانب (٤) ، محمود المذاهب ، سمعته ينشد والدي قصيدة في المنصور وقد نهض للقاء العدوّ ، منها : [البسيط]

إذا نهضت فإنّ السيف منتهض

ترمي السعود سهاما والعدا غرض (٥)

لك البسيطة تطويها وتنشرها

فليس في كلّ ما تنويه معترض

قال : وسمعته يقول له : أنشدت الوزير أبا سعيد بن جامع قصيدة أوّلها : [البسيط]

استوقف الركب قد لاحت لك الدار

واسأل بربع تناءت عنه أقمار

لا خفّف الله عني بعد بينهم

فإنني سرت والأحباب ما ساروا

ومنها :

__________________

(١) في ه : «على غابر الحقب».

(٢) انظر اختصار القدح المعلى ص ١٣٨.

(٣) بياسة : بالأندلس ، بينها وبين جيان عشرون ميلا ، وبياسة على كدية من تراب ، مطلة على النهر الكبير المنحدر إلى قرطبة ، وهي مدينة ذات أسوار ومتاجر ، وحولها زراعات (انظر صفة جزيرة الأندلس ص ٥٧).

(٤) في القدح : «ملحوظ الجانب».

(٥) في القدح : «إذا نهضت فإن السعد منتصر ..».

٥٥

ألا رعى الله ظبيا في قبابهم

منه لهم في ظلام الليل أنوار

وله : [الخفيف]

علّلاني بذكر من همت فيه

وعداني عنه بما أرتجيه (١)

وإذا ما طربتما لارتياحي

فاجعلا خمرتي مدامة فيه

ليت شعري وكم أطيل الأماني

أيّ يوم في خلوة ألتقيه

وإذا ما ظفرت يوما بشكوى

قال لي : أين كلّ ما تدّعيه (٢)

لا دموع ولا سقام فماذا

شاهد عنك بالذي تدّعيه (٣)

قلت دعني أمت بدائي فإنّي

لو براني الغرام لا أبديه

وقال في عوّاده لمّا مرض : [مجزوء الرجز]

إني مرضت مرضة

أسقط منها في يدي (٤)

فكان في الإخوان من

لم أره في العوّد

فقلت في كلّهم

قول امرئ مقتصد

أير الذي قد عادني

في است الذي لم يعد (٥)

مات بإشبيلية سنة ٦٢٩ انتهى.

وقال ابن سعيد : أنشدني والدي للحافظ أبي الطاهر السّلفي ، قال : وكفى به شاهدا ، وبقوله مفتخرا : [الطويل]

بلاد أذربيجان في الشرق عندنا

كأندلس بالغرب في العلم والأدب

فما إن تكاد الدهر تلقى مميزا

من اهليهما إلّا وقد جدّ في الطلب

وحكى غير واحد كابن الأبار أنّ عباس بن ناصح الشاعر لمّا توجّه من قرطبة إلى بغداد ، ولقي أبا نواس ، قال له : أنشدني لأبي الأجرب ، قال : فأنشدته ، ثم قال : أنشدني لبكر الكنانيّ ، فأنشدته ، وهذان شاعران من الأندلس.

__________________

(١) العلّة : ما يتلهّى به. وهمت فيه : شففت بحبه.

(٢) في القدح «وإذا ما ظهرت يوما».

(٣) في القدح «شاهد عنك بالذي تخفيه» وهو أحسن لئلا تتكرر القافية.

(٤) كذا في ب. وفي ه : «أسقطت منها في يدي». وهو تحريف.

(٥) كذا في أ، ب ، ج. وفي «في است من لم يعد».

٥٦

واعلم أننا (١) إن تتبّعنا كلام الأندلسيين وحكاياتهم الدالّة على سبقهم طال بنا الكتاب ، ولم نستوف المراد ، فرأينا أن نذكر بعضا من ذلك بحسب ما اقتضاه الحال وأبداه ، ليكون عنوانا دالا على ما عداه : [البسيط]

يكفي من الحلي ما قد حفّ بالعنق

ولنبدأ ما نسوقه من أخبار الأندلسيين وأشعارهم وحكاياتهم في الجدّ والهزل ، والتولية والعزل ، بقول الفقيه الزاهد أبي عمران موسى بن عمران المارتلي (٢) ، وكان سكن إشبيلية : [البسيط]

لا تبك ثوبك إن أبليت جدّته

وابك الذي أبلت الأيام من بدنك

ولا تكوننّ مختالا بجدّته

فربما كان هذا الثوب من كفنك (٣)

ولا تعفه إذا أبصرته دنسا

فإنما اكتسب الأوساخ من درنك (٤)

وقال أبو عمرو اليحصبي اللوشي : [الخفيف]

شرّد النوم عن جفونك وانظر

حكمة توقظ النفوس النياما

فحرام على امرئ لم يشاهد

حكمة الله أن يذوق المناما

وقال أيضا : [الرمل]

ليس للمرء اختيار في الذي

يتمنّى من حراك وسكون

إنما الأمر لربّ واحد

إن يشأ قال له : كن فيكون

وقال أبو وهب القرطبي : [الوافر]

تنام وقد أعدّ لك السهاد

وتوقن بالرحيل وليس زاد

وتصبح مثل ما تمسي مضيعا

كأنك لست تدري ما المراد

أتطمع أن تفوز غدا هنيئا

ولم يك منك في الدنيا اجتهاد

إذا فرّطت في تقديم زرع

فكيف يكون من عدم حصاد

__________________

(١) في ب ، ه «وأعلم أنّا إن تتبعنا ..».

(٢) انظر المغرب ج ١ ص ٤٠٦.

(٣) في ه : «فربّما كان ذاك الثوب من كفنك».

(٤) في ه : «فإنما اكتسب الأوساخ من بدنك». والدرن : الوسخ.

٥٧

وقيل : إنّ الأبيات السابقة التي أولها : أنا في حالتي التي ـ إلى آخره ، وجدت في تركته بخطّه في شقف ، وبعضهم ينسبها لغيره ، واسم أبي وهب المذكور عبد الرحمن ، وذكره ابن بشكوال في الصّلة ، وأثنى عليه بالزهد والانقطاع ، وكان في أول أمره قد حسب عامة الناس أنه مختلّ العقل ، فجعلوا يؤذونه ويرمونه بالحجارة ، ويصيحون عليه : يا مجنون ، يا أحمق ، فيقول : [السريع]

يا عاذلي ، أنت به جاهل

دعني به لست بمغبون

أما تراني أبدا والها

فيه كمسحور ومفتون (١)

أحسن ما أسمع في حبّه

وصفي بمختلّ ومجنون

وقال الخطيب أبو محمد بن برطلة : [الطويل]

بأربعة أرجو نجاتي وإنها

لأكرم مذخور لديّ وأعظم

شهادة إخلاصي وحبّي محمدا

وحسن ظنوني ثم أني مسلم (٢)

وقال ابن حبيش : [البسيط]

قالوا تصبّر عن الدنيا الدنيّة أو

كن عبدها واصطبر للذلّ واحتمل (٣)

لا بدّ من أحد الصّبرين ، قلت نعم

الصبر عنها بعون الله أوفق لي

وقال ابن الشيخ : [الكامل]

أطلب لنفسك فوزها واصبر لها

نظر الشفيق وخف عليها واتّق

من ليس يرحم نفسه ويصدّها

عمّا سيهلكها فليس بمشفق

وقال أبو محمد القرطبي (٤) : [الطويل]

لعمرك ما الدنيا وسرعة سيرها

بسكانها إلّا طريق مجاز

حقيقتها أنّ المقام بغيرها

ولكنهم قد أولعوا بمجاز

وقال الشميس (٥) : [السريع]

__________________

(١) الواله : الحزين حزنا شديدا.

(٢) في ب : «ثم إني مسلم».

(٣) في ه : «قالوا تصبر على الدنيا».

(٤) هو عبد الله بن الحسن بن أحمد الأنصاري القرطبي أبو محمد (انظر الذيل والتكملة ج ٤ ص ١٩١).

(٥) كذا في أ، ج ، ه. وفي ب «السميسر».

٥٨

لله في الدنيا وفي أهلها

معمّيات قد فككناها

من بشر ، نحن فمن طبعنا

نحبّ فيها المال والجاها

دعني من الناس ومن قولهم

فإنما الناس أخلّاها (١)

لم تقبل الدنيا على ناسك

إلّا وبالرحب تلقّاها

وإنما يعرض عن وصلها

من صرفت عنه محيّاها

وقال أبو القاسم بن بقي : [الطويل]

ألا إنما الدنيا كراح عتيقة

أراد مديروها بها جلب الأنس

فلمّا أداروها أثارت حقودهم

فعاد الذي راموا من الأنس بالعكس

وقال أبو محمد عبد الله بن العسال الطليطلي : [مجزوء الرمل]

انظر الدنيا فإن أب

صرتها شيئا يدوم

فاغد منها في أمان

إن يساعدك النعيم

وإذا أبصرتها من

ك على كره تهيم

فاسل عنها واطّرحها

وارتحل حيث تقيم

وقال ابن هشام القرطبي : [الكامل]

وأبي المدامة لا أريد بشربها

صلف الرقيع ولا انهماك اللاهي (٢)

لم يبق من عهد الشباب وطيبه

شيء كعهدي لم يحل إلّا هي

إن كنت أشربها لغير وفائها

فتركتها للناس لا لله

وقال أبو محمد بن السّيد البطليوسي مما نسبه إليه في «المغرب» : [الطويل]

أخو العلم حيّ خالد بعد موته

وأوصاله تحت التراب رميم

وذو الجهل ميت وهو ماش على الثرى

يظنّ من الأحياء وهو عديم

وقال أبو الفضل بن شرف : [الوافر]

لعمرك ما حصلت على خطير

من الدنيا ولا أدركت شيّا

__________________

(١) في ب ، ه : «فإنما الناسك خلّاها».

(٢) في ب ، ه : «وأبي المدامة ما أريد بشربها». والصلف : التكبر وادعاء ما فوق القدرة. والرقيع : الأحمق.

٥٩

وها أنا خارج منها سليبا

أقلّب نادما كلتا يديّا

وأبكي ثم أعلم أنّ مبكا

ي لا يجدي فأمسح مقلتيّا

ولم أجزع لهول الموت لكن

بكيت لقلّة الباكي عليّا

وأنّ الدهر لم يعلم مكاني

ولا عرفت بنوه ما لديّا

زمان سوف أنشر فيه نشرا

إذا أنا بالحمام طويت طيّا (١)

أسرّ بأنني سأعيش ميتا

به ويسوءني أن متّ حيّا

وقال الزاهد العارف بالله سيدي أبو العباس بن العريف (٢) نفعنا الله تعالى به : [البسيط]

سلوا عن الشوق من أهوى فإنّهم

أدنى إلى النفس من وهمي ومن نفسي

فمن رسولي إلى قلبي ليسألهم

عن مشكل من سؤال الصّبّ ملتبس

حلّوا فؤادي فما يندى ، ولو وطئوا

صخرا لجاد بماء منه منبجس

وفي الحشا نزلوا والوهم يجرحهم

فكيف قرّوا على أذكى من القبس (٣)

لأنهضنّ إلى حشري بحبّهم

لا بارك الله فيمن خانهم ونسي

قلت : وقد زرت قبره المعظم بمراكش سنة عشر وألف ، وهو ممّن يتبرّك به في تلك الديار ، ويستسقى به الغيث ، وهو من أهل المرية ، وأحضره السلطان إلى مراكش فمات بها ، وله كرامات شهيرة ومقامات كبيرة ، نفعنا الله تعالى به!.

واعلم أنّ أهل الأندلس كانوا في القديم على مذهب الأوزاعي ، وأهل الشام منذ أول الفتح ، ففي دولة الحكم بن هشام بن عبد الرحمن الداخل ـ وهو ثالث الولاة بالأندلس من الأمويين ـ انتقلت الفتوى إلى رأي مالك بن أنس وأهل المدينة ، فانتشر علم مالك ورأيه بقرطبة والأندلس جميعا ، بل والمغرب ، وذلك برأي الحكم واختياره ، واختلفوا في السبب المقتضي لذلك ، فذهب الجمهور إلى أن سببه رحلة علماء الأندلس إلى المدينة ، فلما رجعوا إلى الأندلس وصفوا فضل مالك وسعة علمه ، وجلالة قدره ، فأعظموه كما قدّمنا ذلك ، وقيل : إن الإمام مالكا سأل بعض الأندلسيين عن سيرة ملك الأندلس ، فوصف له سيرته ، فأعجبت مالكا لكون سيرة بني العباس في ذلك الوقت لم تكن بمرضية ، وكابد لما صنع أبو جعفر المنصور

__________________

(١) الحمام : الموت.

(٢) انظر في ترجمته وفيات الأعيان ج ١ ص ١٥١.

(٣) القبس : النار.

٦٠