نفح الطّيب - ج ٤

الشيخ أحمد بن محمد المقري التلمساني

نفح الطّيب - ج ٤

المؤلف:

الشيخ أحمد بن محمد المقري التلمساني


المحقق: يوسف الشيخ محمّد البقاعي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٣٠

فقال : لأي شيء بخلت عليهم أن يسقوا بكفّه؟ فقلت : إذن كان يلحقني من النقد ما لحق ذا الرمة في قوله : [الطويل]

ولا زال منهلّا بجرعائك القطر (١)

وكان طوفان نوح أهون عليهم من ذلك ، فتألّقت غرّته ، وبدت مسرّته ، وقال : إنّا لله على أن لم يعنّا الزمان على مكافأة مثلك.

قال : وكنت ممّن زاره بسجنه بأغمات ، وحملتني شدّة الحميّة له والامتعاض (٢) لما حلّ به أن كتبت على حائط سجنه متمثّلا : [الطويل]

فإن تسجنوا القسريّ لا تسجنوا اسمه

ولا تسجنوا معروفه في القبائل

ثم تفقدت الكتابة بعد أيام ، فوجدت تحت البيت : لذلك سجنّاه : [الطويل]

ومن يجعل الضّرغام في الصّيد بازه

تصيّده الضّرغام فيما تصيّدا (٣)

فما أدري من جاوب بذلك ، ثم عدت له ووجدته قد محي ، وأعلمت بذلك ابن عبّاد ، فقال : صدق المجاوب ، وأنا الجاني على نفسه ، والحافر بيده لرمسه ، ولمّا أردت وداعه أمر لي بإحسان على قدر ما استطاع ، فارتجلت : [السريع]

آليت لا أقبل إحسانكم

والدّهر فيما قد عراكم مسي (٤)

ففي الذي أسلفتم غنية

وإن يكن عندكم قد نسي

قال : وفيه أقول من قصيدة : [السريع]

يا طالب الإنصاف من دهره

طلبت أمرا غير معتاد

فلو يكون العدل في طبعه

لما عدا ملك ابن عبّاد

وللحجاري المذكور كتاب في البديع سماه «الحديقة» وأنشد لنفسه فيه (٥) : [السريع]

وشادن ينصف من نفسه

أمّنني من سطوة الدهر

__________________

(١) البيت لذي الرمة ، وهو :

ألا يا اسلمي يا دار ميّ على البلى

ولا زال منهلا بجرعائك القطر

(٢) الامتعاض : الغضب والتوجع.

(٣) الضرغام : الأسد. والباز : من أنواع الصقور.

(٤) آليت : حلفت.

(٥) انظر المغرب ج ٢ ص ٣٤.

٣٤١

ينام للشّرب على جنبه

ويصرف الذّنب إلى الخمر

وله في فرس : [الوافر]

ومستبق يحار الطّرف فيه

ويسلم في الكفاح من الجماح

كأنّ أديمه ليل بهيم

تحجّل باليسير من الصباح (١)

إذا احتدم التسابق صار جرما

تقلّب بين أجنحة الرياح

وكتب أبو العلاء إدريس بن أزرق إلى ابن رشيق ملك مرسية ، وقد طالت إقامته عند ابن عبد العزيز (٢) : [الطويل]

ألا ليت شعري هل أعود إلى الذي

عهدت من النّعمى لديكم بلا جهد

فو الله مذ فارقتكم ما تخلّصت

من الدهر عندي ساعة دون ما كدّ

فمنّوا بإذن كي أطير إليكم

فلا عار في شوق إلى المال والمجد (٣)

ووقف بعض أعدائه على هذه الأبيات ، فوشى بها إلى ابن عبد العزيز قاصدا ضرره ، وكان ذلك في محفل ليكون أبلغ ، فقال : والله لقد ذكرتني أمره ، ولقد أحسن الدلالة على حاله ، فإنّ الرجل كريم ، وعلينا موضع اللوم ، لا عليه ، وو الله لأوسعنّه مالا ووجدا بقدر وسعي ، ثم أخذ في الإحسان إليه حتى برّ يمينه رحمه الله تعالى : [الخفيف]

هكذا هكذا تكون المعالي

طرق الجدّ غير طرق المزاح

ولنذكر جملة من بني مروان بالأندلس ، فنقول :

قال محمد بن هشام المرواني صاحب كتاب «أخبار الشعراء (٤)» : [البسيط]

وروضة من رياض الحزن حالفها

طلّ أطلّت به في أفقها الحلل

كأنما الورد فيما بينها ملك

موف ونوّارها من حوله خول (٥)

__________________

(١) أديمه : جلده.

(٢) انظر ترجمته في الجذوة ص ٨٨.

(٣) في ه : «فلا عار في شوقي إلى المال والمجد».

(٤) انظر ترجمته في الجذوة ص ١٣٩.

(٥) الخول : الخدم.

٣٤٢

وكان في مدة الناصر ، وأدخل عليه يوما ليذاكره ، فاستحسنه ، وأمره بالتزام بنيه ليؤدّبهم بحسن أدبه ، ويتخلّقوا بخلقه ، فاستعفى من ذلك ، وقال : إنّ الفتيان لا يتعلّمون إلّا بشدّة الضبط والقيد والإغلاظ ، وأنا أكره أن أعامل بذلك أولاد الخليفة فيكرهوني ، وقد يحقد لي بعضهم ذلك إلى أن يقدر على النفع والضرر.

قالوا : وكان يتعشّق المستنصر بالله ولي عهد الناصر وهو غلام ، وله فيه : [المجتث]

متّع بوجهك جفني

يا كوكبا فوق غصن

يا من تحجّب حتى

عن كلّ فكر وأذن

وخامر الخوف فيه

فما يمر بذهن (١)

فليس للطّرف والقل

ب غير دمع وحزن

فإنني ذو ذنوب

وأنت جنّة عدن

وقال أخوه أحمد بن هشام : [الطويل]

قطعت الليالي بارتجاء وصالكم

وما نلت منكم غير متّصل الهجر

وما كنت أدري ما التصبّر قبلكم

فعلّمتموني كيف أقوى على الصبر

وما كنت ممّن يعلق الصبر فكره

ولكن خشيت الصبر يذهب بالعمر

ومن حكاياتهم في علوّ الهمة : أنه كان سبب قراءته واجتهاده أنه حضر مجلسا فيه القائد أحمد بن أبي عبدة ، وهو غلام ، فاستخبره القائد ، فرآه بعيدا من الأدب والظّرف ، ورأى له ذهنا قابلا للصلاح ، فقال : أيّ سيف لو كانت عليه حلية؟ فقامت من هذه الكلمة قيامته ، وثابت له همّة ملوكيّة عطف بها على الأدب والتعلّم (٢) ، إلى أن صار ابن أبي عبدة عنده كما كان هو عند ابن أبي عبدة أولا ، فحضر بعد ذلك معه ، وجالا في مضمار الأدب ، فرأى ابن أبي عبدة جوادا لا يشقّ غباره (٣) ، فقال : ما هذا؟ أين هذا مما كان؟ فقال : إن كلمتك عملت في فكري ما أوجب هذا ، فقال : والله إنّ هذه حلية تليق بهذا السيف ، فجزاك الله عن همّتك خيرا!.

ثم قال له : سر ، إنّ لي عليك حقا إذ بعثتك على التأدّب والتميز ، فإذا حضرنا في جماعة فلا تتطاول على تقصيري ، وحافظ على أن لا أسقط من العيون بإرباء (٤) غيري عليّ ، فقال : لك ذلك وزيادة.

__________________

(١) في ب ، ه : «فما يجول بذهن».

(٢) في ه : «على الأدب والتعليم».

(٣) لا يشق غباره : أي لا يسبق ولا يجارى.

(٤) الإرباء : الزيادة ، من الفعل أربى.

٣٤٣

وكان المنذر ابن الأمير عبد الرحمن الأوسط سيىء الخلق في أول أمره ، كثير الإصغاء إلى أقوال الوشاة ، مفرط القلق ممّا يقال في جانبه ، معاقبا على ذلك من (١) يقدر على معاقبته ، مكثر التشكّي ممّن لا يقدر عليه لوالده الأمير عبد الرحمن ، فطال ذلك على الأمير ، فقال لوكيل خاصّ به عارف بالقيام بما يكلّفه به : الموضع الفلاني الذي بالجبل الفلاني المنقطع عن العمران تبني (٢) فيه الآن بناء أسكن فيه ابني المنذر ، وأوصاه بالاجتهاد فيه ، ففرغ منه ، وعاد إليه ، فقال له : تعلم المنذر أني أمرته بالانفراد فيه ، ولا تترك أحدا من أصحابه ولا أصحاب غيره يزوره ، ولا يتكلّم معه البتّة ، فإذا ضجر من ذلك وسألك عنه فقل له : هكذا أمر أبوك ، فتولّى الثقة ذلك على ما أمر به ، ولمّا حصل المنذر في ذلك المكان وبقي وحده ، وفقد خوله ومن كان يستريح إليه (٣) ، ونظر إلى ما سلبه من الملك ضجر ، فقال للثقة : عسى أن يصلني غلماني وأصحابي أتأنّس بهم ، فقال له الثقة : إنّ الأمير أمر أن لا يصلك أحد وأن تبقى وحدك لتستريح ممّا يرفع لك أصحابك من الوشاية ، فعلم أن الأمير قصد محنته بذلك (٤) وتأديبه ، فاستدعى دواة وكتب إلى أبيه : أني قد توحّشت في هذا الموضع توحّشا ما عليه من مزيد ، وعدمت فيه من كنت آنس إليه ، وأصبحت مسلوب العزّ فقيد الأمر والنهي ، فإن كان ذلك عقابا لذنب كبير ارتكبته وعلمه مولاي ولم أعلمه فإني صابر على تأديبه ، ضارع إليه في عفوه وصفحه : [الطويل]

وإنّ أمير المؤمنين وفعله

لكالدهر ، لا عار بما فعل الدهر

فلمّا وقف الأمير على رقعته ، وعلم أنّ الأدب بلغ به حقّه ، استدعاه فقال له : وصلت رقعتك تشكو ما أصابك من توحّش الانفراد في ذلك الموضع ، وترغب أن تأنس بخولك وعبيدك وأصحابك ، وإن كان لك ذنب يترتّب عليه أن تطول سكناك في ذلك المكان ، وما فعلت ذلك عقابا لك ، وإنما رأيناك تكثر الضجر والتشكي من القال والقيل ، فأردنا راحتك بأن نحجب (٥) عنك سماع كلام من يرفع لك وينمّ ، حتى تستريح منهم ، فقال له : سماع ما كنت أضجر منه أخفّ عليّ من التوحّد والتوحّش والتخلّي ممّا أنا فيه من الرفاهية والأمر والنهي ، فقال له : فإذ قد عرفت وتأدبت فارجع إلى ما اعتدته ، وعوّل على أن تسمع كأنك لم تسمع ،

__________________

(١) في ب ، ه : «معاقبا على ذلك لمن يقدر على معاقبته» وما أثبتناه أقوى.

(٢) في ه : «نبني فيه».

(٣) في أ : «يستريح معه».

(٤) المحنة : الاختبار والابتلاء.

(٥) في ه : «بأن يحجب عنك».

٣٤٤

وترى كأنك لم تر ، وقد قال النبيّ صلى الله عليه وسلم «لو تكاشفتم ما تدافنتم» ، واعلم أنك أقرب الناس إليّ وأحبّهم فيّ ، وبعد هذا فما يخلو صدرك في وقت من الأوقات عن إنكار عليّ ، وسخط لما أفعله في جانبك أو جانب غيرك ، مما (١) لو أطلعني الله تعالى عليه لساءني ، لكن الحمد لله الذي حفظ ما بين القلوب بستر بعضها عن بعض فيما يجول فيها ، وإنك لذو همّة ومطمح ، ومن يكن هكذا يصبر ويغض ويحمل ، ويبدل العقاب بالثواب ، ويصير الأعداء من قبيل الأصحاب ، ويصبر من الشخص على ما يسوء ، فقد يرى منه بعد ذلك ما يسر ، ولقد يخف عليّ اليوم من قاسيت من فعله وقوله ، ما لو قطعتهم (٢) عضوا عضوا لما ارتكبوه مني ما شفيت منهم غيظي (٣) ، ولكن رأيت الإغضاء والاحتمال ، لا سيما عند الاقتدار ، أولى ، ونظرت إلى جميع من حولي ممّن يحسن ويسيء فوجدت القلوب متقاربة بعضها من بعض ، ونظرت إلى المسيء يعود محسنا ، والمحسن يعود مسيئا ، وصرت أندم على من سبق له منه عقاب ، ولا أندم على من سبق له مني ثواب ، فالزم يا بنيّ معالي الأمور ، وإن جماعها في التغاضي ، ومن لا يتغاضى لا يسلم له صاحب ، ولا يقرب منه جانب ، ولا ينال ما تترقى إليه همّته ، ولا يظفر بأمله ، ولا يجد معينا حين يحتاج إليه ، فقبّل المنذر يده ، وانصرف ، ولم يزل يأخذ نفسه بما أوصاه والده حتى تخلق بالخلق الجميل ، وبلغ ما أوصاه به أبوه ، ورفع قدره.

ومن شعره في ابن عمّ له : [الطويل]

ومولى أبى إلّا أذاي وإنني

لأحلم عنه وهو بالجهل يقصد

توددته فازداد بعدا وبغضة

وهل نافع عند الحسود التودّد

وقوله : [المجتث]

خالف عدوّك فيما

أتاك فيه لينصح

فإنما يبتغي أن

تنام عنه فيربح (٤)

ومن كرم نفسه أنّ أحد التجار أهدى له جارية بارعة الحسن ، واسمها طرب ، ولها صنعة في الغناء حسنة ، فعندما وقع بصره على حسنها ثم أذنه على غنائها أخذت بمجامع قلبه ، فقال

__________________

(١) في ب ، ه : «ما لو أطلعني الله عليه».

(٢) في ب : «ولو قطعتهم».

(٣) في ب ، ه : «ما شفيت فيهم غيظي».

(٤) في ب ، ه :

فإنما ينبغي أن

تنام عنه فتربح

٣٤٥

لأحد خدّامه : ما ترى أن ندفع لهذا التاجر عوضا عن هذه الجارية التي وقعت منّا أحسن موقع؟ فقال : تقدّر ما تساوي من الثمن وتدفع له بقدرها ، فقوّمت بخمسمائة دينار ، فقال المنذر للخديم : ما عندك فيما ندفع له؟ فقال : الخمسمائة ، فقال : إن هذا للؤم ، رجل أهدى لنا جارية ، فوقعت منّا موقع استحسان ، نقابله بثمنها ، ولو أنه باعها من يهودي لوجد عنده هذا ، فقال له : إن هؤلاء التجار لؤماء بخلاء ، وأقلّ القليل يقنعهم ، فقال : وإنّا كرماء سمحاء ، فلا يقنعنا القليل لمن نجود عليه ، فادفع له ألف دينار ، واشكره على كونه خصّنا بها ، وأعلمه بأنها وقعت منّا موقع رضا.

وفيها يقول : [المنسرح]

ليس يفيد السرور والطرب

إن لم تقابل لواحظي طرب

أبهت في الكأس لست أشربها

والفكر بين الضلوع يلتهب (١)

يعجب مني معاشر جهلوا

ولو رأوا حسنها لما عجبوا

وقال له أبوه يوما : إنّ فيك لتيها مفرطا ، فقال له : حقّ لفرع أنت أصله أن يعلو ، فقال له : يا بنيّ ، إن العيون تمجّ التّيّاه (٢) ، والقلوب تنفر عنه (٣) ، فقال : يا أبي ، لي من العزّ والنسب وعلوّ المكان والسلطان ما يجمّل عن ذلك ، وإني لم أر العيون إلّا مقبلة عليّ ، ولا الأسماع إلّا مصغية إليّ ، وإنّ لهذا السلطان رونقا يرنّقه (٤) التبذل ، وعلوا يخفضه الانبساط ، ولا يصونه ويشرفه إلّا التيه والانقباض ، وإنّ هؤلاء الأنذال لهم ميزان يسبرون (٥) به الرجل منّا ، فإن رأوه راجحا عرفوا له قدر رجاحته ، وإن رأوه ناقصا عاملوه بنقصه ، وصيّروا تواضعه صغرا ، وتخضّعه خسّة ، فقال له أبوه : لله أنت! فابق وما رأيت.

وكان له أخ أديب أيضا اسمه المطرف بن عبد الرحمن الأوسط ، ومن شعره : [المجتث]

أفنيت عمري في الشّر

ب والوجوه الملاح

ولم أضيّع أصيلا

ولا اطلاع صباح

__________________

(١) أبهت : أدهش ، أتحيّر.

(٢) في ب ، ه : «تمج التائه» والتياه : صيغة مبالغة من اسم الفاعل تائه على وزن فعّال ، أي كثير التيه والعجب.

(٣) في ه : «تنحرف عنه».

(٤) يرنقه : يكدره.

(٥) يسبرون الرجل منا : يخبرونه ليعرفوا عمقه ، ومنه : سبر الجرح.

٣٤٦

أحيي الليالي سهدا

في نشوة ومراح (١)

ولست أسمع ما ذا

يقول داعي الفلاح (٢)

والعياذ بالله من هذا الكلام ، وحاكي الكفر ليس بكافر.

وعتبه أحد إخوانه على هذا القول فقال : إني قلته وأنا لا أعقل ، ولا أعلم أنه يحفظ عني ، وأنا أستغفر الله تعالى منه ، والذي يغفر الفعل أكرم من أن يعاقب على القول.

ومن جيد شعره له : [الخفيف]

يا أخي ، فرّقت صروف الليالي

بيننا غير زورة الأحلام

فغدونا بعد ائتلاف وقرب

نتناجى بألسن الأقلام

وقال أخوهما الثالث هشام بن عبد الرحمن فيمن اسمه ريحان : [الطويل]

أحبّك يا ريحان ما عشت دائما

ولو لامني في حبّك الإنس والجان

ولولاك لم أهو الظلام وسهده

ولا حبّبت لي في ذرا الدار غربان

وما أعشق الريحان إلّا لأنه

شريكك في اسم فيه قلبي هيمان

على أنه لم يكمل الظرف مجلس

إذا لم يكن فيه مع الراح ريحان

وله فيه : [الطويل]

إذا أنا مازحت الحبيب فإنما

قصدت شفاء الهمّ في ذلك المزح

فما العيش إلّا أن أراه مضاحكا

كما ضحك الليل البهيم عن الصبح (٣)

وقال أخوهم الرابع يعقوب بن عبد الرحمن (٤) : [الوافر]

إذا أنا لم أجد يوما وقومي

لهم في الجود آثار عظام

فمن يرجى لتشييد المعالي

إذا قعدت عن الخير الكرام

ومدحه بعض الشعراء ، فأمر له بمال جزيل ، فلما كان مثل ذلك الوقت جاءه بمدح آخر ، فقال أحد خدام يعقوب : هذا اللئيم له دين عندنا جاء يقتضيه؟ فقال الأمير : يا هذا ، إن كان الله تعالى خلقك مجبولا على كره ربّ الصنائع فاجر على ما جبلت عليه في نفسك ، ولا تكن

__________________

(١) السهد : القلق والسهر.

(٢) داعي الفلاح : أراد المؤذن.

(٣) الليل البهيم : الشديد السواد.

(٤) انظر الحلة ج ١ ص ١٢٤.

٣٤٧

كالأجرب يعدي غيره ، وإنّ هذا الرجل (١) قصدنا قبل ، فكان منّا له ما أنس به وحمله على العودة ، وقد ظنّ فينا خيرا ، فلا نخيب ظنّه ، والحديث أبدا يحفظ القديم ، وقد جاءنا على جهة التهنئة بالعمر ، ونحن نسأل الله تعالى أن يطيل عمرنا حتى يكثر ترداده ، ويديم نعمنا حتى نجد ما ننعم به عليه ، ويحفظ علينا مروءتنا حتى يعيننا على التجمل معه ، ولا يبلينا بجليس مثلك يقبض أيدينا عن إسداء الأيادي (٢) ، وأمر الشاعر بما كان أمر له به قبل ، وأوصاه بالعود عند حلول ذلك الأوان ما دام العمر.

وقال أخوهم الخامس الأمير محمد بن الأمير عبد الرحمن (٣) لأخيهم السادس أبان وقد خلا معه على راحة : هل لك أمل نبلغك إياه؟ فقال : لم يبق لي أمل إلّا أن يديم الله تعالى عمرك ويخلد ملكك ، فأعجب ذلك الأمير ، وقال : ما مالت إليك نفسي من باطل ، وكان كل واحد منهما يهيم بالآخر ، وفي ذلك يقول أبان : [البسيط]

يا من يلوم ولا يدري بمن أنا مف

تون لو ابصرته ما كنت تلحاني (٤)

من مازجت روحه روحي وشاطرني

يا حسنه حين أهواه ويهواني

وكان للأمير محمد بن الأمير عبد الرحمن ثلاثة أولاد نجباء : القاسم ، والمطرف ، ومسلمة ، ولهم أخ رابع اسمه عثمان.

فمن نظم القاسم (٥) في عثمان أخيه ، وقد زاره فاستسقاه ماء ، فأبطأ عليه غلامه لعلّة لم يقبلها القاسم : [البسيط]

الماء في دار عثمان له ثمن

والخبز شيء له شأن من الشّان

فاسلح على كل عثمان مررت به

غير الخليفة عثمان بن عفان

وله : [مخلع البسيط]

شغلت بالكيمياء دهري

فلم أفد غير كلّ خسر

إتعاب فكر ، خداع عقل

فساد مال ، ضياع عمر

__________________

(١) في ه : «وإن هذا رجل قصدنا ...».

(٢) إسداء الأيادي : إعطاء المعروف ، الإحسان.

(٣) انظر ترجمته في الحلة ج ١ ص ١١٩.

(٤) يلحاني : يلومني.

(٥) انظر الحلة ج ١ ص ١٢٧.

٣٤٨

وقال شقيقه المطرف (١) ، ويعرف بابن غزلان ، وهي أمه ، وكانت مغنية بديعة محسنة عوّادة أديبة : [المنسرح]

هل أتّكي مشرفا على نهر

أرمي بطرفي إليه من قصري

عند أخ لو دهته حادثة

أعطيته ما أحبّ من عمري

وقال أخوهما مسلمة (٢) : [الخفيف]

إنّ شيبا وصبوة لمحال

أو لم يأن أن يكون زوال

فدع النفس عن مزاح ولهو

تلك حال مضت وجاءتك حال

وكان يقول : إني لا أفارق إلّا من اختار مفارقتي ، ومن خادعني انخدعت له ، وأريته أني غير فطن بخداعه ، ليعجبه أمره ، وأدخل عليه مسرّة بنفسه ورأيه.

وقال محمد بن الأمير المنذر بن الأمير محمد في جاريته الأراكة : [المجتث]

قل للأراكة قد زا

د بالدنوّ اشتياقي

وهاج ما بي إليها

تمثّلي للعناق

وإنني وبقلبي

جمر جرى في المآقي

طويت ما بي ليوم

يكون فيه التلاقي

فإن أعد لاجتماع

حرّمت يوم افتراق

لا يعرف الشوق إلّا

من ذاق طعم الفراق

وقال عبد الله بن الناصر (٣) ، وقد أهدى له سعيد بن فرج ياسمينا أبيض وأصفر ، وكتب معه : [الكامل]

مولاي قد أرسلت نحوك تحفة

بمراد ما أبغيه منك تذكّر

من ياسمين كاللّجين تبرّجت

بيضا وصفرا والسّماح يعبّر (٤)

فأجابه بما نصّه : [السريع]

__________________

(١) انظر ترجمته في الحلة السيراء ١ / ١٢٨.

(٢) انظر المقتبس ص ٢١١.

(٣) انظر الجذوة ص ٢٤٤. والمغرب ج ١ ص ١٨٢.

(٤) اللجين : الفضة ، وتبرجت : تزينت.

٣٤٩

أتاك تفسيري ولمّا يحل

منّي على أضغاث أحلام (١)

اجعله رسما دائما زائرا

مني ومنك غرّة العام (٢)

وبعث إليه بهذين البيتين مع ملء الطبق دنانير ودراهم ، فقال ابن فرج : [الخفيف]

قد سمعنا بجود كعب وحاتم

ما سمعنا جودا مدى العمر لازم (٣)

فدعائي بأن تدوم دعاء

لي ما زال طول ما عشت دائم

ما سمعنا كمثل هذا اختراعا

هكذا هكذا تكون المكارم

تشبه هذه الحكاية حكاية اتّفقت لبعض ملوك إفريقية ، وذلك أنّ رجلا أهدى لي في قادوس وردا أحمر وأبيض ، فأمر أن يملأ له دراهم ، فقالت له جارية من جواريه : إن رأى الأمير أن يلوّن ما أعطاه ، حتى يوافق ما أهداه ، فاستحسن ذلك الأمير ، وأمر أن يملأ دنانير ودراهم.

وكان المرواني المذكور يساير أحد الفقهاء الظرفاء ، فمرّا بجميل ، فمال عبد الله بطرفه إلى وجهه (٤) ، وظهر ذلك لمسايره ، فتبسّم ، ففهم عبد الله تبسمه (٥) ، فقال : إنّ هذه الوجوه الحسان خلّابة ، ولكنّا لا نتغلغل في نظرها ، ولا ندّعي العفّة عنها بالجملة ، وفيها اعتبار وتذكار بالحور العين التي وعد الله تعالى ، فقال له الفقيه : احتجّ لروحك بما شئت ، فقال : أو ما هي حجّة تقبل؟ فقال الفقيه : يقبلها من رقّ طبعه ، وكاد يضيق عن الصبر وسعه ، فقال : وأراك شريكا لي ، فقال : ولو لا ذلك للمتك ، فأطرق عبد الله ساعة ثم أنشد : [المنسرح]

أفدي الذي مرّ بي فمال له

لحظي ولكن ثنيته غصبا

ما ذاك إلّا مخاف منتقد

فالله يعفو ويغفر الذّنبا

فقال له الفقيه : إن كنت ثنيت لحظك خوف انتقادي فإني أدعوه إليك حتى تملأ منه ، ولا تنسب إليّ ما نسبت ، فتبسّم عبد الله وقال : ولا هذا كلّه ، وقال له : إنّ مثلك في الفقهاء لمعدوم ، فقال له : ما كنت إلّا أديبا ، ولكنّي لمّا رأيت سوق الفقه بقرطبة نافقة اشتغلت به ، فقال له : ومن عقل المرء أن لا يفني عمره فيما لا ينفقه عصره.

وكان عبد الله المذكور يسمّى الزاهد ، فبايع قوما على قتل والده الناصر وأخيه الحكم

__________________

(١) في ب ، ه : «ولما يحل عني على أضغاث أحلام».

(٢) في ب ، ه : «منك ومني غرة العام».

(٣) كعب : هو كعب بن مامة الإيادي. وحاتم : هو حاتم الطائي ، وهما مضرب المثل في الكرم.

(٤) في ب ، ه : «على وجهه».

(٥) في ب ، ه : «ففيهم عبد الله عنه».

٣٥٠

المستنصر ولي العهد ، فأخذ يوم عيد الأضحى سنة تسع وثلاثين وثلاثمائة ، فذبح بين يديه رحمة الله تعالى!.

وقال أخوه أبو الأصبغ عبد العزيز بن الناصر (١) ، وقد دخل ابن له الكتّاب ، فكتب أول لوح ، فبعثه إلى أخيه الحكم المستنصر ملك الأندلس ، ومعه : [مجزوء الرمل]

هاك يا مولاي خطّا

مطّه في اللوح مطّا

ابن سبع في سنيه

لم يطق للوح ضبطا

دمت يا مولاي حتى

يلد ابن ابنك سبطا (٢)

وله : [الرمل]

زارني من همت فيه سحرا

يتهادى كنسيم السّحر

أقبس الصبح ضياء ساطعا

فأضا والفجر لم ينفجر (٣)

واستعار الروض منه نفحة

بثّها بين الصّبا والزّهر

أيها الطالع بدرا نيرا

لا حللت الدهر إلّا بصري

وكان مغرى مغرما بالخمر والغناء ، فقطع الخمر ، فبلغه أنّ المستنصر لمّا بلغه تركه للخمر قال : الحمد لله الذي أغنانا عن مفاتحته ، ودلّه على ما نريد منه ، ثم قال : لو ترك الغناء لكمل خيره ، فقال : والله لا تركته حتى تترك الطيور تغريدها ، ثم قال (٤) : [الخفيف]

أنا في صحّة وجاه ونعمى

هي تدعو لهذه الألحان

وكذا الطير في الحدائق تشدو

للذي سرّ نفسه بالقيان

وقال أخوه محمد بن الناصر لمّا قدم أخوهما المستنصر من غزوة (٥) : [الطويل]

قدمت بحمد الله أسعد مقدم

وضدّك أضحى لليدين وللفم (٦)

__________________

(١) انظر ترجمته في الجذوة ص ٢٧٠.

(٢) السبط : ولد الابن والابنة.

(٣) فأضا : أصلها : فأضاء ، فحذف الهمزة ، وهو جائز.

(٤) انظر المغرب ص ١٨٤.

(٥) ترجمة محمد بن الناصر في المغرب ج ١ ص ١٨٤.

(٦) أضحى لليدين وللفم : أي خرّ صريعا.

٣٥١

لقد حزت فيها السّبق إذ كنت أهله

كما حاز «بسم الله» فضل التقدّم (١)

وأما أخوهما محمد بن عبد الملك بن الناصر (٢) فقال الحجاري فيه : إنه لم يكن في ولد الناصر ممّن لم يل الملك أشعر منه ومن ابن أخيه ، وكتب إلى العزيز صاحب مصر : [الطويل]

ألسنا بني مروان كيف تبدّلت

بنا الحال أو دارت علينا الدوائر

إذا ولد المولود منّا تهلّلت

له الأرض واهتزّت إليه المنابر

وكان جواب العزيز له : أمّا بعد ، فإنك عرفتنا فهجوتنا ، ولو عرفناك لهجوناك (٣).

وله في الصّنوبر : [المجتث]

إنّ الصنوبر حصن

لديه حرز وباس

خفّت من اجل إرها

ب من عداه تراس

كأنما هو ضدّ

لما حواه الرياس

وبعض سيوف الأندلس محفور صدر الرياس على صورة قشور الصنوبر إلّا أنّ تلك ناتئة وهذه محفورة ، وقال : [الطويل]

أتاني وقد خطّ العذار بخدّه

كما خطّ في ظهر الصحيفة عنوان

تزاحمت الألحاظ في وجناته

فشقّت عليه للشقائق أردان

وزدت غراما حين لاح كأنما

تفتّح بين الورد والآس سوسان

وقال : [الطويل]

لئن كنت خلّاع العذار بشادن

وكأس فإني غير نزر المواهب (٤)

وإنّي لطعّان إذا اشتجر القنا

ومقحم طرفي في صدور الكتائب (٥)

وإني إذا لم ترض نفسي بمنزل

وجاش بصدري الفكر جمّ المذاهب

__________________

(١) استفاده من أن لفظ «بسم الله» يقدم على أي شيء.

(٢) انظر ترجمته في الحلة ج ١ ص ٢٠٨. والمغرب ج ١ ص ١٨٥.

(٣) في ب ، ه : «علمتنا فهجوتنا ولو علمناك لهجوناك».

(٤) خلع العذار : تهتك ومجن. والشادن : ولد الغزال ، وأراد الفتاة الجميلة.

(٥) اشتجر القنا : تشابكت الرماح.

٣٥٢

جليد يؤود الصّخر لو أنّ صبره

كصبري ، على ما نابني ، للنوائب (١)

وأسري إلى أن يحسب الليل أنني

لطول مسيري فيه بعض الكواكب

وأمّا ابن أخيه مروان بن عبد الرحمن بن عبد الملك بن الناصر فكان في بني أمية شبه عبد الله بن المعتز في بني العباس ، بملاحة شعره وحسن تشبيهه.

ومن شعره القصيدة المشهورة : [الرمل]

غصن يهتزّ في دعص نقا

يجتني منه فؤادي حرقا

سال لام الصّدغ في صفحته

سيلان التّبر وافى الورقا

فتناهى الحسن فيه إنما

يحسن الغصن إذا ما أورقا

ومنها :

أصبحت شمسا وفوه مغربا

ويد الساقي المحيّي مشرقا (٢)

فإذا ما غربت في فمه

تركت في الخدّ منه شفقا

ومنها :

وكأنّ الورد يعلوه النّدى

وجنة المحبوب تندى عرقا

قالوا : وهذا النمط قد فاق به (٣) أهل عصره ، ويظنّ أنه لا يوجد لأحد منهم أحلى وأكثر أخذا بمجامع القلوب من قوله : [الكامل]

ودّعت من أهوى أصيلا ، ليتني

ذقت الحمام ولا أذوق نواه

فوجدت حتى الشمس تشكو وجده

والورق تندب شجوها بهواه (٤)

وعلى الأصائل رقّة من بعده

فكأنها تلقى الذي ألقاه

وغدا النسيم مبلّغا ما بيننا

فلذاك رقّ هوى وطاب شذاه

ما الروض قد مزجت به أنداؤه

سحرا بأطيب من شذا ذكراه

والزهر مبسمه ونكهته الصّبا

والورد أخضله الندى خدّاه

__________________

(١) يؤود الصخر : يعجز ويضعف. والنوائب : المصائب.

(٢) أي أصبحت الخمر شمسا وفم الشادن مغربا ... الخ.

(٣) في ه : «فات به أهل عصره».

(٤) الوجد : الحزن. والورق : الحمائم. والشجو : الحزن والهم.

٣٥٣

فلذاك أولع بالرياض لأنها

أبدا تذكّرني بمن أهواه

ولله قوله : [الخفيف]

وعشيّ كأنه صبح عيد

جامع بين بهجة وشحوب

هبّ فيه النسيم مثل محبّ

مستعيرا شمائل المحبوب

ظلت فيه ما بين شمسين هذي

في طلوع وهذه في غروب

وتدلّت شمس الأصيل ولكن

شمسنا لم تزل بأعلى الجنوب (١)

ربّ هذا خلقته من بديع

من رأى الشمس أطلعت في قضيب

أي وقت قد أسعف الدهر فيه

وأجابت به المنى عن قريب

قد قطعناه نشوة ووصالا

وملأناه من كبار الذنوب

حين وجه السعود بالبشر طلق

ليس فيه أمارة للقطوب

ضيّع الله من يضيّع وقتا

قد خلا من مكدّر ورقيب

وبات عند أحد رؤساء بني مروان ، فقدّم إليه ذلك الرئيس (٢) قدحا من فضّة فيه راح أصفر (٣) ، وقال : اشرب وصف فداك ابن عمك ، فقام إجلالا وشرب صائحا بسروره ، ثم قال:الدواة والقرطاس ، فأحضرا ، وكتب : [السريع]

اشرب هنيئا لا عداك الطرب

شرب كريم في العلا منتخب

وافاك بالراح وقد ألبست

برد أصيل معلما بالحبب

في قدح لم يك يسقى به

غير أولي المجد وأهل الحسب

ما جار إذ سقّاك من كفّه

في جامد الفضّة ذوب الذهب

فقم على رأسك برا به

واشرب على ذكراه طول الحقب (٤)

ويحكى أنه لمّا قتل أباه وقد وجده مع جارية له كان يهواها سجنه المنصور بن أبي عامر مدة ، إلى أن رأى في منامه النبيّ ، صلى الله عليه وسلم ، يأمره بإطلاقه ، فأطلقه ، فمن أجل ذلك عرف بالطليق.

وقال أحمد بن سلمان بن أحمد بن عبيد الله بن عبد الرحمن الناصر في ابن حزم لمّا

__________________

(١) في ب : «بأعلى الجيوب».

(٢) في ه : «ذلك الرائس».

(٣) الراح : الخمر.

(٤) الحقب : جمع حقبة ، وهي الفترة من الزمن.

٣٥٤

عاداه علماء عصره (١) : [المجتث]

لمّا تحلّى بخلق

كالمسك أو نشر عود (٢)

نجل الكرام ابن حزم

وقام في العلم عودي (٣)

فتواه جدّد ديني

جدواه أورق عودي

وله في أبي عامر بن المظفر بن أبي عامر من قصيدة يمدحه بها : [الخفيف]

بأبي عامر وصلت حبالي

فزماني به زمان سعيد

فمتى زدت فيه ودا وشكرا

فنداه وقد تناهى يزيد

كيف لي وصفه وفي كلّ يوم

منه في المكرمات معنى جديد

وقال أبو عبد الله محمد بن محمد بن الناصر يرثي أبا مروان بن سراج : [الطويل]

وكم من حديث للنبيّ أبانه

وألبسه من حسن منطقه وشيا

وكم مصعب للنحو قد راض صعبه

فعاد ذلولا بعد ما كان قد أعيا (٤)

وقال عبيد الله بن محمد المهدي ، وهو من حسنات بني مروان ، ويعرف بالأقرع : [الطويل]

أقول لآمالي ستبلغ إن بدا

محيّا ابن عطّاف ونعم المؤمّل

فقالت دعاني كلّ يوم تعلّل

فقلت لها إن لاح يفنى التعلّل

لئن كان مني كلّ حين ترحّل

فإني إن أحلل به لست أرحل

فتى ترد الآمال في بحر جوده

وليس على نعمى سواه المعوّل

وقال هذه في الوزير ابن عطّاف ، فضنّ عليه حتى برجع الجواب (٥) ، فكتب إليه بقصيدة منها : [الرمل]

أيها الممكن من قدرته

لا يراك الله إلّا محسنا

__________________

(١) انظر ترجمته في الجذوة ص ١١٦.

(٢) النشر : طيب الرائحة. والعود : البخور.

(٣) عودي : فعل ماضي مبني للمجهول من الفعل عادى.

(٤) أعياه : أعجزه.

(٥) في ج ، ه : «يرجع الجواب» والأفضل ما أثبتناه. ورجع الجواب : ردّه.

٣٥٥

إنما المرء بما قدّمه

فتخيّر بين ذمّ وثنا

لا تكن بالدهر ، غرا وإذا

كنت فانظر فعله في ملكنا

كلّ ما خوّلت منه ذاهب

إنما تصحب منه الكفنا (١)

مدّ كفا نحو كفّ طالما

أمطرت منه السحاب الهتنا (٢)

أو أرحني بجواب مؤيس

فمطال البرّ من شرّ العنا

فلم يعطه شيئا ، وكان له كاتب فتحيّل في خمسين درهما فأعطاها له ، فلما سمع الوزير بذلك طرده ، وقال له : من أنت حتى تحمّل نفسك هذا وتعطيه؟ قال : فو الله ما لبث إلّا قليلا حتى مات الوزير ، وتزوّج الكاتب بزوجته ، وسكن في داره ، وتخوّل في نعمته ، فحملني ذلك على أن كتبت بالفحم في حائط داره : [الطويل]

أيا دار ، قولي أين ساكنك الذي

أبى لؤمه أن يترك الشّكر خالدا

تسمّى وزيرا والوزارة سبّة

لمن قد أبى أن يستفيد المحامدا

وولّى ولكن ليس يبرح ذمّه

فها هو قد أرضى عدوّا وناقدا

وأضحى وكيل كان يأنف فعله

نزيلك في الحوض الممنّع واردا

جزاء بإحسان لذا وإساءة

لذاك ، وساع ورّث الحمد قاعدا

والمثل السائر في هذا «ربّ ساع لقاعد».

وقال سليمان بن المرتضى بن محمد بن عبد الملك بن الناصر ، وكان في غاية الجمال ، ويلقّب بالغزال : [الكامل]

قدم الربيع عليك بعد مغيب

فتلقّه بسلافة وحبيب (٣)

فصل جديد فلتجدّد حالة

يأتي الزمان بها على المرغوب

الجوّ طلق فالقه بطلاقة

وإذا تقطّب فالقه بقطوب (٤)

لله أيام ظفرت بها ومن

أهواه منقاد بغير رقيب

__________________

(١) في ب : «والذي تصحب منه الكفنا».

(٢) السحاب الهتن : السحاب الممطر المنسكب.

(٣) السّلافة : بضم السين ـ الخمر.

(٤) القطوب : العبوس.

٣٥٦

وله : [الكامل]

لي في كفالات الرماح لو أنها

وفّت ضمان يبلغ الآمالا (١)

وكّلت دهري في اقتضاء ضمانها

ضنّا به أن لا يحول فحالا (٢)

وكان مولعا بالفكاهة والنادر ، محبّا للظرفاء (٣) ، وكان يلتزم خدمته المضحك المشهور بالزرافة ، ويحضر معه ، ولعبوا في مجلس سليمان لعبة أفضوا فيها إلى أن تقسّموا اثنين اثنين ، كل شخص ورفيقه ، فقال سليمان : ومن يكون رفيقي؟ فقال له المضحك : يا مولاي ، وهل يكون رفيق الغزال إلّا الزرافة؟ فضحك منه على عادته.

ودخل عليه وهو قاعد في رحبة قصره ، وقد أطلّ عذاره ، فقال له : ما تطلب الزرافة؟ فقال : ترعى الحشيش ، وأشار إلى عذاره ، فقال له : اعزب لعنك الله!

ومرّ سليمان به يوما وهو سكران ، وقد أوقف ذكره وجعل يقول له : ما ذا رأيت في القيام في هذا الزمان؟ أما رأيت كل ملك قام كيف خلع وقتل؟ والله إنك سيىء الرأي! فقال له سليمان : وبم لقبت هذا الثائر؟ فقال : يا مولاي ، بصفته القائم ، فقال : ويحتاج إلى خاتم؟ فقال : نعم ، ويكون خاتم سليمان ، فقال له : أخزاك الله! إنّ الكلام معك لفضيحة.

وقال سعيد بن محمد المرواني (٤) ، وقد هجره المنصور بن أبي عامر مدّة لكلام بلغه عنه ، فدخل والمجلس غاصّ (٥) ، وأنشد : [السريع]

مولاي مولاي ، أما آن أن

تريحني بالله من هجركا

وكيف بالهجر وأنّى به

ولم أزل أسبح في بحركا (٦)

فضحك ابن أبي عامر على ما كان يظهره من الوقار ، وقام وعانقه ، وعفا عنه ، وخلع عليه (٧).

__________________

(١) يريد : لي ضمان يبلغ الآمال في كفالات الرماح لو أنها وفت.

(٢) حال : تحول من حال إلى أخرى.

(٣) في ب ، ه : «محبا في الظرفاء».

(٤) انظر المغرب ج ١ ص ١٩٢.

(٥) والمجلس غاص : أين ممتلئ بالناس.

(٦) وأنى به : ومن أي لي به.

(٧) كان سبب ضحك ابن أبي عامر لأن سعيدا كان يلقب «البلينة» أي الحوت ، فلما قال : «ولم أزل أسبح» ، ضحك.

٣٥٧

وله : [الكامل]

والبدر في جوّ السماء قد انطوى

طرفاه حتى عاد مثل الزّورق

فتراه من تحت المحاق كأنما

غرق الكثير وبعضه لم يغرق

وهو مأخوذ من قول ابن المعتز : [الكامل]

وانظر إليه كزورق من فضّة

قد أثقلته حمولة من عنبر

وقال قاسم بن محمد المرواني (١) يستعطف المنصور بن أبي عامر ، وقد سجنه لقول صدر عنه : [الكامل]

ناشدتك الله العظيم وحقّه

في عبدك المتوسّل المتحرّم

بوسائل المدح المعاد نشيدها

في كلّ مجمع موكب أو موسم

لا تستبح مني حمى أرعاكه

يا من يرى في الله أحمى محتمي

وقال الأصم المرواني (٢) يمدح أمير المؤمنين عبد المؤمن بن علي بجبل الفتح معارضا بائية أبي تمام : [البسيط]

السيف أصدق أنباء من الكتب

بقصيدة طويلة منها : [البسيط]

ما للعدا جنّة أوقى من الهرب

أين المفرّ وخيل الله في الطلب (٣)

وأين يذهب من في رأس شاهقة

إذا رمته سماء الله بالشّهب

ومنها :

وطود طارق قد حلّ الإمام به

كالطّور كان لموسى أيمن الرّتب

لو يعرف الطّود ما غشّاه من كرم

لم يبسط النور فيه الكفّ للسّحب

ولو تيقّن بأسا حلّ ذروته

لصار كالعين من خوف ومن رهب

منه يعاود هذا الفتح ثانية

أضعاف ما حدّثوا في سالف الحقب

ويلبس الدين غضا ثوب عزّته

كأنّ أيام بدر عنه لم تغب

__________________

(١) انظر الجذوة ص ٣١٠.

(٢) انظر زاد المسافر ص ٨٤.

(٣) الجنة ـ بضم الجيم ـ الوقاية ، السلاح الواقي ، الترس.

٣٥٨

وقال في نارنجة : [البسيط]

وبنت أيك دنا من لثمها قزح

فصار منه على أرجائها أثر (١)

يبدو لعينيك منها منظر عجب

زبرجد ونضار صاغه المطر (٢)

كأنّ موسى نبيّ الله أقبسه

نارا وجرّ عليها كفّه الخضر

وقال : [السريع]

وشادن قلت له صف لنا

بستاننا هذا ونارنجنا

فقال لي بستانكم جنّة

ومن جنى النارنج نارا جنى

وقال في زلباني (٣) : [الكامل]

لله سفّاح بدا لي مسحرا

فأفاد علم الكيميا بيمينه (٤)

ذهّبت فضّة خدّه بلواحظي

وكذاك تفعل ناره بعجينه

وقال ، وقد نزل في فندق لا يليق بمثله : [مخلع البسيط]

يا هذه لا تفنّديني

أن صرت في منزل هجين (٥)

فليس قبح المحلّ ممّا

يقدح في منصبي وديني (٦)

فالشمس علويّة ولكن

تغرب في حمأة وطين (٧)

وقال أحمد المرواني : [الوافر]

حلفت بمن رمى فأصاب قلبي

وقلّبه على جمر الصدود

لقد أودى تذكّره بقلبي

ولست أشكّ أنّ النفس تودي (٨)

فقيد وهو موجود بقلبي

فواعجبا لموجود فقيد (٩)

__________________

(١) في ه : «فصار منها على أرجائها أثر».

(٢) الزبرجد : حجر كريم يشبه الزمرد.

والنضار : الذهب.

(٣) الزلباني : أراد : قالي الزلابية.

(٤) في ه : «فأفاد من علم الكيمياء بحسنه». ولا تتم قافيته مع البيت الثاني.

(٥) لا تفنديني : لا تخطئي رأيي.

(٦) يقدح في منصبي : يعيب فيه.

(٧) الحمأة : قطعة من الحمأ ، وهو الطين الأسود المنتن.

(٨) في ب ، ه : «لقد أودى تذكره بجسمي».

(٩) في ب ، ه : «بموجود فقيد».

٣٥٩

وقال الأصبغ القرشي يرثي ابن شهيد وهو من أصحابه : [الطويل]

نأى من به كان السرور مواصلا

وأسلم قلبي للصّبابة والفكر

ومنها :

لعمرك ما يجدي النعيم إذا نأت

وجوههم عني ولا فسحة العمر

وقال سليمان بن عبد الملك الأموي : [الوافر]

وذي جدل أطال القول منه

بلا معنى وقد خفي الصواب

فقلت أجيبه فازداد ردا

فقلت له قد ازدحم الجواب

ولم أر غير صمتي من مريح

إذا ما لم يفد فيه الخطاب

وقال أبو يزيد بن العاصي : [الخفيف]

عابه الحاسد الذي لام فيه

أن رأى فوق خدّه جدريّا

إنما وجهه هلال تمام

جعلوا برقعا عليه الثّريّا

وله : [الطويل]

إذا شئت أن يصفو صديقك فاطّرح

نزاع الذي يبديه في الهزل والجدّ

وإن كنت من أخلاقه في جهنّم

فأنزله من مثواك في جنّة الخلد

إلى أن يتيح الله من لطف صنعه

فراقا جميلا فاجعل العذر في البعد

وليكن هذا آخر ما نورده من كلام بني مروان رحمهم الله تعالى!.

ولنرجع إلى أهل الأندلس جملة ، فنقول :

أمر أبو الحجاج المنصفي أن يكتب على قبره (١) : [السريع]

قالت لي النّفس أتاك الرّدى

وأنت في بحر الخطايا مقيم

هلا ادّخرت الزاد قلت اقصري

لا يحمل الزاد لدار الكريم

وقد ذكرنا هذين البيتين في غير هذا الموضع.

__________________

(١) انظر المغرب ج ٢ ص ٣٥٤.

٣٦٠