نفح الطّيب - ج ٤

الشيخ أحمد بن محمد المقري التلمساني

نفح الطّيب - ج ٤

المؤلف:

الشيخ أحمد بن محمد المقري التلمساني


المحقق: يوسف الشيخ محمّد البقاعي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٣٠

بالعلوية بالمدينة من الحبس والإهانة وغيرهما على ما هو مشهور في كتب التاريخ ، فقال الإمام مالك ، رضي الله تعالى عنه ، لذلك المخبر : نسأل الله تعالى أن يزين حرمنا بملككم ، أو كلاما هذا معناه ، فنميت المسألة إلى ملك الأندلس ، مع ما علم من جلالة مالك ودينه ، فحمل الناس على مذهبه ، وترك مذهب الأوزاعي ، والله تعالى أعلم.

وحكي أنّ القاضي الزاهد أبا إسحاق إبراهيم بن عبد الله بن أبي يغمور لمّا ندبه أهل الأمر لولاية القضاء بمدينة فاس استعفى ، فلم يقبل منه ، وخرج إلى تلك الناحية ، وخرج الناس لوداعه ، فأنشد : [الطويل]

عليكم سلام الله إني راحل

وعيناي من خوف التفرّق تدمع

فإن نحن عشنا فهو يجمع بيننا

وإن نحن متنا فالقيامة تجمع

وأنشد أصحابه رحمه الله تعالى ، ولا أدري هل هي له أو لغيره : [البسيط]

كنّا نعظّم بالآمال قدركم

حتى انقضت فتساوى عندنا الناس

لم تفضلونا بشيء غير واحدة

هي الرجاء فسوّى بيننا الياس

وأنشد أيضا : [الطويل]

لوتهم مذ كنت طفلا فلم أجد

كما أشتهي منهم صديقا وصاحبا (١)

فصوّبت رأيي في فراري منهم

وشمّرت أذيالي وأمعنت هاربا

وأنشد لغيره في الكتمان : [الكامل]

أخفى الغرام فلا جوارحه

شعرت بذاك ولا مفاصله

كالسيف يصحبه الحمام ولم

يعلم بما حملت حمائله

وأنشد : [الكامل]

قد كنت أمرض في الشبيبة دائما

والموت ليس يمرّ لي في البال

والآن شبت وصحّتي موجودة

وأرى كأنّ الموت في أذيالي

ولمّا أنشده تاج الدين بن حمويه السّرخسي الوافد على المغرب من المشرق قول بعضهم : [المتقارب]

__________________

(١) بلوتهم : جربتهم وامتحنتهم.

٦١

فلا تحقرنّ عدوا رماك

وإن كان في ساعديه قصر

فإنّ السيوف تحزّ الرقاب

وتعجز عمّا تنال الإبر

قال : حسن جيّد ، ولكن اسمع ما قال شاعرنا القسطلّي (١) ، وأنشد : [الطويل]

أثرني لكشف الخطب والخطب مشكل

وكلني لليث الغاب وهو هصور

فقد تخفض الأسماء وهي سواكن

ويعمل في الفعل الصريح ضمير

وتنبو الرّدينيّات ، والطول وافر

ويبعد وقع السّهم وهو قصير (٢)

وكان الوزير الكريم أبو محمد عبد الرحمن بن مالك المعافري أحد وزراء الأندلس كثير الصنائع جزل المواهب عظيم المكارم ، على سنن عظماء الملوك وأخلاق السادة ، لم ير بعده مثله في رجال الأندلس ، ذاكرا للفقه والحديث ، بارعا في الآداب ، شاعرا مجيدا ، وكاتبا بليغا ، كثير الخدم والأهل ، ومن آثاره الحمّام بجوفيّ الجامع الأعظم من غرناطة ، وزاد في سقف الجامع من صحنه وعوّض أرجل قسيّه أعمدة الرخام ، وجلب الرءوس والموائد من قرطبة ، وفرش صحنه بكدان الصخر (٣). ووجّهه أميره علي بن يوسف بن تاشفين إلى طرطوشة برسم بنائها ، فلمّا حلّها سأل قاضيها فكتب له جملة من أهلها ممّن ضعفت حاله وقلّ تصرّفه من ذوي البيوتات ، فاستعملهم أمناء ، ووسّع أرزاقهم ، حتى كمل له ما أراد من عمله ، ومن عجز أن يستعمله وصله من ماله ، فصدر عنها وقد أنعش خلقا ، رضي الله تعالى عنه ورحمه!.

ومن شعره في مجلس أطربه سماعه ، وبسطه احتشاد الأنس فيه واجتماعه ، فقال(٤):[الخفيف]

لا تلمني إذا طربت لشجو

يبعث الأنس فالكريم طروب (٥)

ليس شقّ الجيوب حقّا علينا

إنّما الحق أن تشقّ القلوب

وقطف غلام من غلمانه نوّارة ومدّ بها يده إلى أبي نصر الفتح بن عبيد الله ، فقال أبو نصر: [الطويل]

وبدر بدا والطّرف مطلع حسنه

وفي كفّه من رائق النّور كوكب (٦)

__________________

(١) هو ابن دراج القسطلي. (انظر ديوان ص ٣٠٣).

(٢) الردينيات : الرماح.

(٣) في ب ، ج : «بكذان الصخر».

(٤) انظر القلائد ص ١٧٠.

(٥) في ب : «لا تلمني بأن طربت لشجو». والشجو : مصدر شجا ، أي أطرب ، أو أحزن ، أو هيّج الشوق.

(٦) النور ، بفتح النون وسكون الواو : الزهر الأبيض.

٦٢

يروح لتعذيب النفوس ويغتدي

ويطلع في أفق الجمال ويغرب

فقال أبو محمد بن مالك : [الطويل]

ويحسد منه الغصن أيّ مهفهف

يجيء على مثل الكثيب ويذهب

وقد سبق هذا.

وكتب إلى الفتح من غير تروّ : يا سيدي ، جرت الأيام بفراقك ، وكان الله جارك في انطلاقك ، فغيرك من روّع بالظّعن (١) ، وأوقد للوداع جاحم الشّجن ، فإنك من أبناء هذا الزمن ، خليفة الخضر لا يستقرّ على وطن ، كأنك ـ والله يختار لك ما تأتيه وما تدعه ـ موكل بفضاء الأرض تذرعه (٢) ، فحسب من نوى بعشرتك الاستمتاع ، أن يعدّك من العواري السريعة الارتجاع ، فلا يأسف على قلّة الثوا (٣) وينشد : [الطويل]

وفارقت حتى ما أبالي من النّوى (٤)

ومات رحمه الله تعالى بغرناطة سنة ٥١٨ ، وحضر جنازته الخاصّة والعامّة ، وهو من محاسن الأندلس ، رحمه الله تعالى!.

ومن نوادر الاتفاق أن جارية مشت بين يدي المعتمد ، وعليها قميص لا تكاد تفرق بينه وبين جسمها ، وذوائبها تخفي آثار مشيها ، فسكب عليها ماء ورد كان بين يديه ، وقال : [الكامل]

علّقت جائلة الوشاح غريرة

تختال بين أسنّة وبواتر (٥)

وقال لبعض الخدم : سر إلى أبي الوليد البطليوسي المشهور بالنحلي ، وخذه بإجازة هذا البيت ، ولا تفارقه حتى يفرغ منه ، فأجاب النحلي لأول وقوع الرقعة بين يديه : [الكامل]

راقت محاسنها ورقّ أديمها

فتكاد تبصر باطنا من ظاهر (٦)

وتمايلت كالغصن في دعص النّقا

تلتفّ في ورق الشباب الناضر (٧)

__________________

(١) في ب : «فغيرك روع بالظعن».

(٢) هذا عجز بيت لابن زريق البغدادي ، وصدره : كأنما هو في حلّ ومرتحل.

(٣) الثوا : الثواء أي الإقامة ، حذف الهمزة وهذا جائز في كلامهم.

(٤) في ج : «وفارقت حتى لا أبالي من الهوى».

(٥) كذا في أ، ب ، ج. وفي ه : «علقت جائلة الوشاح عزيزة». والغريرة : الفتاة الناعمة التي ليس لها تجربة.

(٦) أديمها : جلدها.

(٧) الدعص : تل الرمل المجتمع المستدير. والنقا : القطعة من الرمل المحدودب.

٦٣

يندى بماء الورد مسبل شعرها

كالطّلّ يسقط من جناح الطائر

تزهى برونقها وعزّ جمالها

زهو المؤيّد بالثناء العاطر

ملك تضاءلت الملوك لقدره

وعنا له صرف الزمان الجائر

وإذا لمحت جبينه ويمينه

أبصرت بدرا فوق بحر زاخر

فلما قرأها المعتمد استحضره ، وقال له : أحسنت ، أومعنا كنت؟ فقال له : يا قاتل المحل ، أما تلوت (فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ (٦٨)) [سورة النحل ، الآية : ٦٨].

وأصبح المعتمد يوما ثملا فدخل الحمّام ، وأمر أن يدخل النحليّ معه ، فجاء وقعد في مسلخ (١) الحمام حتى يستأذن عليه ، فجعل المعتمد يحبق في الحمام وهو خال وقد بقيت في رأسه بقيّة من السكر ، وجعل كلّما سمع دويّ ذلك الصوت يقول : الجوز ، اللوز ، القسطل ، ومرّ على هذا ساعة ، إلى أن تذكّر النحلي ، فصادفه (٢) ، فلمّا دخل قال له : من أيّ وقت أنت هنا؟ قال : من أول ما رتّب مولانا الفواكه في النصبة ، فغشي عليه من الضحك ، وأمر له بإحسان. والنصبة : مائدة يصبون فيها هذه الأصناف.

ولمّا استحسن المعتمد قول المتنبي : [الطويل]

إذا ظفرت منك المطيّ بنظرة

أثاب بها معيي المطيّ ورازمه

قال ابن وهبون بديهة (٣) : [الطويل]

لئن جاد شعر ابن الحسين فإنما

تجيد العطايا ، واللها تفتح اللها

تنبّأ عجبا بالقريض ولو درى

بأنك تروي شعره لتألّها (٤)

وقد تقدّم ذكرهما (٥) ، فأمر له بمائتي دينار.

ولمّا قال ابن وهبون المذكور : [البسيط]

غاض الوفاء فما تلقاه في رجل

ولا يمرّ لمخلوق على بال

__________________

(١) في ب : «مسيح».

(٢) في ه : «فصادمه».

(٣) في ب : «قال بن وهبون بديهة : «وقالوا أجاد ابن الحسين ... إلخ البيتين» ، وقد تقدم ذكرهما ، فأمر له بمائتي دينار. ولما قال ...».

(٤) القريض : الشعر ، والبيتان غير موجودين في ب.

(٥) انظر ص (١٥٠) من هذا الجزء.

٦٤

قد صار عندهم عنقاء مغربة

أو مثل ما حدّثوا عن ألف مثقال

فقال له المعتمد : عنقاء مغربة وألف مثقال يا عبد الجليل عندك سواء؟ فقال : نعم ، قال : قد أمرنا لك بألف دينار وبألف دينار أخرى تنفقها.

وذكر القرطبي صاحب «التذكرة» في كتابه «قمع الحرص بالزهد والقناعة» ما صورته: روينا أن الإمام أبا عمر بن عبد البر ، رضي الله تعالى عنه ، بلغه وهو بشاطبة أنّ أقواما عابوه بأكل طعام السلطان وقبول جوائزه ، فقال : [مجزوء الرمل]

قل لمن ينكر أكلي

لطعام الأمراء

أنت من جهلك هذا

في محلّ السّفهاء

لأنّ الاقتداء بالصالحين ، من الصحابة والتابعين ، وأئمّة الفتوى من المسلمين ، من السلف الماضين ، هو ملاك الدين ، فقد كان زيد بن ثابت ـ وكان من الراسخين في العلم ـ يقبل جوائز معاوية وابنه يزيد ، وكان ابن عمر ، رضي الله تعالى عنهما ـ مع ورعه وفضله ـ يقبل هدايا صهره المختار بن أبي عبيد ، ويأكل طعامه ، ويقبل جوائزه ، وقال عبد الله بن مسعود ـ وكان قد ملئ علما ـ لرجل سأله ، فقال : إنّ لي جارا يعمل بالربا ، ولا يجتنب في مكسبه الحرام ، يدعوني إلى طعامه ، أفأجيبه؟ قال : نعم ، لك المهنأ وعليه المأثم ، ما لم تعلم الشيء بعينه حراما ، وقال عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه ـ حين سئل عن جوائز السلاطين ـ : لحم ظبي ذكي ، وكان الشعبي ـ وهو من كبار التابعين وعلمائهم ـ يؤدّب بني عبد الملك بن مروان ، ويقبل جوائزه ويأكل طعامه ، وكان إبراهيم النخعي وسائر علماء الكوفة والحسن البصري ـ مع زهده وورعه ـ وسائر علماء البصرة وأبو سلمة بن عبد الرحمن وأبان بن عثمان والفقهاء السبعة بالمدينة ـ حاشا سعيد بن المسيّب ـ يقبلون جوائز السلطان ، وكان ابن شهاب يقبلها ، ويتقلّب في جوائزهم ، وكانت أكثر كسبه ، وكذلك أبو الزناد ، وكان مالك وأبو يوسف والشافعي وغيرهم من فقهاء الحجاز والعراق يقبلون جوائز السلاطين والأمراء ، وكان سفيان الثوري ـ مع ورعه وفضله ـ يقول : جوائز السلطان أحبّ إليّ من صلة الإخوان ؛ لأنّ الإخوان يمنّون والسلطان لا يمنّ ، ومثل هذا عن العلماء والفضلاء كثير ، وقد جمع الناس فيه أبوابا ، ولأحمد بن خالد فقيه الأندلس وعالمها في ذلك كتاب حمله على وضعه وجمعه طعن أهل بلده عليه في قبوله جوائز عبد الرحمن الناصر ، إذ نقله إلى المدينة بقرطبة ، وأسكنه دارا من دور الجامع قربه ، وأجرى عليه الرزق من الطعام والإدام والناضّ (١) ، وله ولمثله في بيت المال

__________________

(١) الإدام ، بكسر الهمزة : بزنة الكتاب : ما يؤكل من الخبز فيسهل بلعه ويطيبه. والناضّ : الدرهم والدينار.

٦٥

حظّ ، والمسؤول عن التخليط فيه هو السلطان ، كما قال عبد الله بن مسعود «لك المهنأ وعليه المأثم ، ما لم تعلم الشيء بعينه حراما» ، ومعنى قول ابن مسعود هذا قد أجمع العلماء عليه ، فمن علم الشيء بعينه حراما مأخوذا من غير حلّه كالجريمة (١) وغيرها وشبهها من الطعام أو الدابة وما كان مثل ذلك كلّه من الأشياء المتعيّنة غصبا أو سرقة أو مأخوذة بظلم بيّن لا شبهة فيه فهذا الذي لم يختلف أحد في تحريمه ، وسقوط عدالة آكله ، وأخذه وتملّكه ، وما أعلم من علماء التابعين أحدا تورّع عن جوائز السلطان ، إلّا سعيد بن المسيّب بالمدينة ، ومحمد بن سيرين بالبصرة ، وهما قد ذهبا مثلا في التورّع ، وسلك سبيلهما في ذلك أحمد بن حنبل وأهل الزهد والورع والتقشّف ، رحمة الله تعالى عليهم أجمعين! والزهد في الدنيا من أفضل الفضائل ، ولا يحلّ لمن وفّقه الله تعالى وزهد فيها أن يحرّم ما أباح الله تعالى منها ، والعجب من أهل زماننا يعيبون الشبهات ، وهم يستحلّون المحرّمات ، ومثالهم عندي كالذين سألوا عبد الله بن عمر ، رضي الله تعالى عنهما ، عن المحرم يقتل الفراد والحلمة ، فقال للسائلين له : من أنتم؟ فقالوا : من أهل الكوفة ، فقال : تسألونني عن هذا وأنتم قتلتم الحسين بن علي ، رضي الله تعالى عنهما؟ وروي ابن عمر عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال : «ما أتاك من غير مسألة فكله وتموّله» ، وروي هذا الحديث أيضا عن عبد الله بن عمر ، رضي الله تعالى عنهما «ما أتاك من غير مسألة فكله وتموّله» ، وروى أبو سعيد الخدري وجابر بن عبد الله عن النبيّ صلى الله عليه وسلم معناه ، وفي حديث أحدهما «إنما هو رزق رزقكه الله تعالى» ، وفي لفظ بعض الرواة «ولا تردّ على الله رزقه» وهذا كله مركب (٢) مبني على ما أجمعوا عليه ، وهو الحقّ ، فمن عرف الشيء المحرّم بعينه فإنه لا يحلّ له ، المسألة (٣) من كلام ابن عبد البرّ ، انتهى.

وحضر ابن مجبر (٤) مع عدوّ له جاحد لمعروفه ، وأمامهما زجاجة سوداء فيها خمر ، فقال له الحسود : إن كنت شاعرا فقل في هذه ، فقال ارتجالا :

«سأشكو إلى الندمان» إلى آخر الحكاية.

وقد تقدّمت في رسالة الشقندي (٥) رحمه الله تعالى.

__________________

(١) في ه : «كالحريمة» بالحاء المهملة ، وقد أثبتنا ما في أ، ب ، ج.

(٢) كلمة «مركب» غير موجودة في ج.

(٣) في ب : «فهذه المسألة».

(٤) في أ«ابن مجير».

(٥) انظر ص (١٦٠) من هذا الجزء.

٦٦

وابن مجبر هو أبو بكر يحيى بن عبد الجليل بن عبد الرحمن بن مجبر الفهري ، كان في وقته شاعر المغرب ، ويشهد له بقوّة عارضته وسلامة طبعه قصائده التي صارت مثالا ، وبعدت على قربها منالا ، وشعره كثير يشتمل على أكثر من تسعة آلاف وأربعمائة بيت ، واتّصل بالأمير أبي عبد الله بن سعد بن مردنيش ، وله فيه أمداح ، وأنشد يوسف بن عبد المؤمن يهنيه بفتح : [الخفيف]

إنّ خير الفتوح ما جاء عفوا

مثل ما يخطب الخطيب ارتجالا

وكان أبو العباس الجراوي حاضرا ، فقطع عليه لحسادة وجدها ، وقال : يا سيدنا ، اهتدم بيت وضاح : [الرجز]

خير شراب ما كان عفوا

كأنه خطبة ارتجالا

فبدر المنصور ، وهو حينئذ وزير أبيه وسنّه قريب العشرين ، وقال : إن كان اهتدمه فقد استحقّه لنقله إيّاه من معنى خسيس إلى معنى شريف ، فسرّ أبوه بجوابه ، وعجب الحاضرون.

ومرّ المنصور أيام إمرته بأونبة (١) من أرض شلب ، فوقف على قبر الحافظ أبي محمد بن حزم ، وقال : عجبا لهذا الموضع ، يخرج منه مثل هذا العالم ، ثم قال : كلّ العلماء عيال على ابن حزم ، ثم رفع رأسه وقال : كما أنّ الشعراء عيال عليك يا أبا بكر ، يخاطب ابن مجبر.

ومن شعر ابن مجبر يصف خيل المنصور من قصيدة في مدحه : [الطويل]

له حلبة الخيل العتاق كأنها

نشاوى تهاوت تطلب العزف والقصفا (٢)

عرائس أغنتها الحجول عن الحلى

فلم تبغ خلخالا ولا التمست وقفا

فمن يقق كالطّرس تحسب أنه

وإن جرّدوه في ملاءته التفّا (٣)

وأبلق أعطى الليل نصف إهابه

وغار عليه الصبح فاحتبس النصفا

وورد تغشّى جلده شفق الدّجى

فإذ حازه دلّى له الذيل والعرفا

وأشقر مجّ الراح صرفا أديمه

وأصفر لم يمسح بها جلده صرفا

وأشهب فضّيّ الأديم مدنّر

عليه خطوط غير مفهمة حرفا

كما خطّر الزاهي بمهرق كاتب

فجرّ عليه ذيله وهو ما جفّا (٤)

__________________

(١) في أ«بأوقبة».

(٢) في ج : «نشاوى تهادت».

(٣) اليقق : الشديد البياض.

(٤) في ب : «كما خطط الزاهي ...».

٦٧

تهبّ على الأعداء منها عواصف

ستنسف أرض المشركين بها نسفا

ترى كلّ طرف كالغزال فتمتري

أظبيا ترى تحت العجاجة أم طرفا (١)

وقد كان في البيداء يألف سربه

فربّته مهرا وهي تحسبه خشفا

تناوله لفظ الجواد لأنه

على ما أردت الجري أعطاكه ضعفا (٢)

ولمّا اتّخذ المنصور مقصورة الجامع بمراكش بدار ملكها ، وكانت مدبرة على انتصابها إذا استقرّ المنصور ووزراؤه بمصلّاه ، واختفائها إذا انفصلوا عنها ، أنشد في ذلك الشعراء فقال ابن مجبر من قصيدة أولها : [الكامل]

أعلمتني ألقي عصا التسيار

في بلدة ليست بدار قرار

إلى أن قال :

طورا تكون بمن حوته محيطة

فكأنها سور من الأسوار

وتكون حينا عنهم محبوّة

فكأنها سرّ من الأسرار (٣)

وكأنها علمت مقادير الورى

فتصرّفت لهم على مقدار

فإذا أحسّت بالإمام يزورها

في قومه قامت إلى الزّوّار

يبدو فتبدو ثم تخفى بعده

كتكوّن الهالات للأقمار

وممّن روى عنه أبو علي الشلوبين وطبقته ، وتوفّي بمراكش سنة ٥٨٨ ، وعمره ٥٣ سنة ، رحمه الله تعالى!

وقد حكى الشريف الغرناطي شارح المقصورة هذه الحكاية بأتمّ ممّا ذكرناه ، فقال عن الكاتب ابن عياش [كاتب المنصور الموحدي](٤) قال : كانت لأبي بكر بن مجير وفادة على المنصور في كل سنة ، فصادف في إحدى وفاداته فراغه من إحداث المقصورة التي كان أحدثها بجامعه المتّصل بقصره في حضرة مراكش ، وكانت قد وضعت على حركات هندسية ترفع بها لخروجه وتخفض لدخوله ، وكان جميع من بباب المنصور يومئذ من الشعراء والأدباء قد نظموا

__________________

(١) الطّرف : الكريم من الخيل.

(٢) في ب : «إذا ما أردت الجري ..».

(٣) في ب : «وتكون حينا عنهم مخبوءة».

(٤) لا توجد هذه الزيادة في أصل ه ، وهي موجودة في ج على ما أثبتناه ، وفي ب : «كاتب يعقوب المنصور والموحدي».

٦٨

أشعارا أنشدوه إياها في ذلك ، فلم يزيدوا على شكره ، وتجزيته الخير فيما جدّد من معالم الدين وآثاره ، ولم يكن فيهم من تصدّى لوصف الحال ، حتى قام أبو بكر بن مجبر فأنشد قصيدته التي أولها : «أعلمتني ألقي عصا التسيار» واستمرّ فيها حتى ألمّ بذكر المقصورة فقال يصفها «طورا تكون ـ إلخ» فطرب المنصور لسماعها ، وارتاح لاختراعها ، انتهى.

وقد بطلت حركات هذه المقصورة الآن ، وبقيت آثارها حسبما شاهدته سنة عشر وألف ، والله تعالى وارث الأرض ومن عليها.

ومن نظم ابن مجبر أيضا ما كتب به إلى السلطان ملك المغرب ـ رحمه الله تعالى! ـ وقد ولد له ولد (١) ، أعني لابن مجبر : [الرمل]

ولد العبد الذي إنعامكم

طينة أنشئ منها جسده

وهو دون اسم لعلمي أنه

لا يسمّي العبد إلّا سيّده

وقوله : [الرمل]

ملك ترويك منه شيمة

أنست الظمآن زرق النّطف

جمعت من كلّ مجد فحكت

لفظة قد جمّعت من أحرف

يعجب السامع من وصفي لها

ووراء العجز ما لم أصف

لو أعار السّهم ما في رأيه

من سداد وهدى لم يصف

حلمه الراجح ميزان الهدى

يزن الأشياء وزن المنصف

وقال ابن خفاجة (٢) : [السريع]

صحّ الهوى منك ولكنني

أعجب من بين لنا يقدر

كأننا في فلك دائر

فأنت تخفى وأنا أظهر

وهما الغاية في معناهما ، كما قاله ابن ظافر ـ رحمه الله تعالى! ـ

وقال الأعمى التّطيلي (٣) : [البسيط]

أما اشتفت مني الأيام في وطني

حتى تضايق فيما عزّ من وطري

__________________

(١) في ب ، ه : «وقد ولد له ابن».

(٢) لم أجد هذين البيتين في ديوان ابن خفاجة المطبوع.

(٣) انظر ديوان ص ٤٩.

٦٩

فلا قضت من سواد العين حاجتها

حتى تكرّ على ما طلّ في الشّعر

وقال القاضي أبو حفص بن عمر القرطبي : [الوافر]

هم نظروا لواحظها فهاموا

وتشرب لبّ شاربها المدام

يخاف الناس مقلتها سواها

أيذعر قلب حامله الحسام

سما طرفي إليها وهو باك

وتحت الشمس ينسكب الغمام

وأذكر قدّها فأنوح وجدا

على الأغصان تنتدب الحمام

فأعقب بينها في الصدر غمّا

إذا غربت ذكاء أتى الظلام (١)

وقال الحاجب عبد الكريم بن مغيث : [السريع]

طارت بنا الخيل ومن فوقها

شهب بزاة لحمام الحمام

كأنما الأيدي قسيّ لها

والطير أهداف وهنّ السّهام

وقال أخوه أحمد : [السريع]

اشرب على البستان من كفّ من

يسقيك من فيه وأحداقه

وانظر إلى الأيكة في برده

ولاحظ البدر بأطواقه

وقد بدا السّرو على نهره

كحائض شمّر عن ساقه

وقال أبو العباس أحمد بن أبي عبد الله بن أمية البلنسيّ : [الطويل]

إذا كان ودّي وهو أنفس قربة

يجازى ببغض فالقطيعة أحزم

ومن أضيع الأشياء ودّ صرفته

إلى غير من تحظى لديه وتكرم

ومن حكايات أهل الأندلس في خلع العذار والطرب والظرف وغير ذلك كسرعة الارتجال ما حكاه صاحب «بدائع البداءة» قال (٢) : أخبرني من أثق به بما هذا معناه ، قال : خرج الوزير أبو بكر بن عمار والوزير أبو الوليد بن زيدون ومعهما الوزير ابن خلدون من إشبيلية إلى منظرة لبني عباد بموضع يقال له لقنت (٣) تحفّ بها مروج مشرقة الأنوار ، متنسّمة الأنجاد والأغوار ، متبسّمة عن ثغور النّوّار ، في زمان ربيع سقت الأرض السّحب فيه بوسميّها ووليّها ،

__________________

(١) ذكاء ، بضم الذال : الشمس.

(٢) هنا ينقل المقري عن بدائع البداءة لابن ظافر الأزدي.

(٣) في ب ، ه : «الفنت» والتصويب عن الروض.

٧٠

وجلتها في زاهر ملبسها وباهر حليّها وأرداف الرّبا قد تأزّرت بالأزر الخضر من نباتها ، وأجياد الجداول قد نظم النّوّار قلائده حول لبّاتها ، ومجامر الزهر تعطر أردية النسائم عند هبّاتها ، وهناك من البهار ما يزري على مداهن النّضار ، ومن النرجس الريان ما يهزأ بنواعس الأجفان ، وقد نووا الانفراد للهو والطرب ، والتنزّه في روضي النبات والأدب ، وبعثوا صاحبا لهم يسمى خليفة هو قوام لذّتهم ، ونظام مسرّتهم ، ليأتيهم بنبيذ يذهبون الهمّ بذهبه في لجين زجاجه ، ويرمونه منه بما يقضي بتحريكه للهرب عن القلوب وإزعاجه ، وجلسوا لانتظاره ، وترقّب عوده على آثاره ، فلمّا بصروا به مقبلا من أوّل الفجّ بادروا إلى لقائه ، وسارعوا إلى نحوه وتلقائه ، واتّفق أنّ فارسا من الجند ركض فرسه فصدمه ووطئ عليه فهشم أعظمه وأجرى دمه ، وكسر قمعل (١) النبيذ الذي كان معه ، وفرق من شملهم ما كان الدهر قد جمعه ، ومضى على غلوائه راكضا حتى خفي عن العين ، خائفا من متعلّق به يحين بتعلّقه الحين ، وحين وصل الوزراء إليه ، تأسّفوا عليه ، وأفاضوا في ذكر الزمان وعدوائه (٢) ، والخطب وألوانه (٣) ، ودخوله بطوامّ المضرّات ، على تمام المسرّات ، وتكديره لأوقات المنعمات ، بالآفات المؤلمات ، فقال ابن زيدون : [الوافر]

أتلهو والحتوف بنا مطيفه

ونأمن والمنون لنا مخيفه (٤)

فقال ابن خلدون : [الوافر]

وفي يوم وما أدراك يوم

مضى قمعالنا ومضى خليفه

فقال ابن عمار : [الوافر]

هما فخّارتا راح وروح

تكسّرتا فأشقاف وجيفه (٥)

وذكر ابن بسام ما معناه أن أبا عامر بن شهيد حضر ليلة عند الحاجب أبي عامر بن المظفر بن المنصور بن أبي عامر بقرطبة ، فقامت تسقيهم وصيفة عجيبة صغيرة الخلق ، ولم تزل تسهر في خدمتهم إلى أن همّ جند الليل بالانهزام ، وأخذ في تقويض خيام الظلام ، وكانت تسمى أسيماء ، فعجب الحاضرون من مكابدتها السهر طول ليلتها على صغر سنها ، فسأله المظفر وصفها ، فصنع ارتجالا : [مخلع البسيط]

__________________

(١) القمعل ـ بزنة قنفذ ـ القدح الضخم ، ومثله القمعول كعصفور ، ووقع في ج «قمعال النبيذ».

(٢) في ب : «وعدوانه».

(٣) في أ : «والخطب وإلوائه».

(٤) في ب : «أنلهو ..».

(٥) الشّقف : الخزف أو مكسّره.

٧١

أفدي أسيماء من نديم

ملازم للكؤوس راتب

قد عجبوا في السّهاد منها

وهي لعمري من العجائب

قالوا تجافى الرّقاد عنها

فقلت لا ترقد الكواكب

وحكى ابن بسام ما معناه أن ابن شهيد المذكور كان يوما مع جماعة من الأدباء عند القاضي ابن ذكوان ، فجيء بباكورة باقلا ، فقال ابن ذكوان : لا ينفرد بها إلّا من وصفها ، فقال ابن شهيد : أنا لها ، وارتجل : [المنسرح]

إنّ لآليك أحدثت صلفا

فاتّخذت من زمرّد صدفا

تسكن ضرّاتها البحور وذي

تسكن للحسن روضة أنفا (١)

هامت بلحف الجبال فاتّخذت

من سندس في جنانها لحفا (٢)

شبّهتها بالثغور من لطف

حسبك هذا من رمز من لطفا (٣)

جاز ابن ذكوان في مكارمه

حدود كعب وما به وصفا (٤)

قدّم درّ الرياض منتخبا

منه لأفراس مدحه علفا

أكل ظريف وطعم ذي أدب

والفول يهواه كلّ من ظرفا

رخّص فيه شيخ له قدر

فكان حسبي من المنى وكفى

وقال ابن بسام (٥) : إن جماعة من أصحاب ابن شهيد المذكور قالوا له : يا أبا عامر ، إنك لآت بالعجائب ، وجاذب بذوائب الغرائب ، ولكنك شديد الإعجاب بما يأتي منك ، هازّ لعطفك عند النادر يتاح لك (٦) ، ونحن نريد منك أن تصف لنا مجلسنا هذا ، وكان الذي طلبوه منه زبدة التعنيت ؛ لأنّ المعنى إذا كان جلفا ثقيلا على النفس ، قبيح الصورة عند الحس ، كلّت الفكرة عنه وإن كانت ماضية ، وأساءت القريحة في وصفه وإن كانت محسنة ، وكان في

__________________

(١) روضة أنف : لم ترع.

(٢) لحف الجبل : أصله.

(٣) في ب : «حسبك هذا من بر من لطفا». وفي ج : «وحسبك هذا من رفد من لطفا».

(٤) أراد كعب بن مامة الإيادي الشهير بالكرم.

(٥) انظر الذخيرة ٤ / ١ : ٢٧.

(٦) يتاح لك : يتهيأ لك.

٧٢

المجلس باب مخلوع معترض على الأرض ، ولبد أحمر مبسوط قد صففت (١) خفافهم عند حاشيته ، فقال مسرعا : [مخلع البسيط]

وفتية كالنجوم حسنا

كلّهم شاعر نبيل

متّقد الجانبين ماض

كأنه الصارم الصّقيل

راموا انصرافي عن المعالي

والحدّ من دونها فليل (٢)

فالشدّ في أمرها فسيح

كلّ كثير له قليل

في مجلس زانه التصابي

وطاردت وصفه العقول

كأنما بابه أسير

قد عرضت دونه نصول

يراد منه المقال قسرا

وهو على ذاك لا يقول

ننظر من لبده لدينا

بحر دم تحتنا يسيل

كأنّ أخفافنا عليه

مراكب ما لها دليل

ضلّت فلم تدر أين تجري

فهل على شطّه تقيل

فعجب القوم من أمره ، ثم خرج من عندهم ، فمرّ على بعض معارفه من الطرائفيين وبين يديه زنبيل ملآن خرشفا (٣) ، فجعل يده في لجام بغلته ، وقال : لا أتركك أو تصف الخرشف فقد وصفه صاعد فلم يقل شيئا ، فقال له ابن شهيد : ويحك! أعلى مثل هذه الحال؟ قال : نعم ، فارتجل : [الرجز].

هل أبصرت عيناك يا خليلي

قنافذا تباع في زنبيل

من حرشف معتمد جليل

ذي إبر تنفذ جلد الفيل

كأنها أنياب بنت الغول

لو نخست في است امرئ ثقيل (٤)

لقفّزته نحو أرض النّيل

ليس يرى طيّ حشا منديل (٥)

نقل السخيف المائن الجهول

وأكل قوم نازحي العقول (٦)

أقسمت لا أطعمها أكيلي

ولا طعمتها على شمول

__________________

(١) في ه : «قد رصت خفافهم» وفي بدائع البداءة «قد صففت بغالهم».

(٢) في ب ، ه : «والغرب من دونها كليل».

(٣) في ب ، ه : «حرشفا».

(٤) في ه : «كأنها أنياب بنت الغول».

(٥) في نسخة عند ج : «لقذفته نحو أرض النيل».

(٦) المائن : الكاذب.

٧٣

وقال في «بدائع البداءة» : دخل الوزير أبو العلاء زهر ابن الوزير أبي مروان عبد الملك بن زهر على الأمير عبد الملك بن رزين في مجلس أنس ، وبين يديه ساق يسقي خمرين من كأسه ولحظه ، ويبدي درّين من حبابه ولفظه ، وقد بدا خطّ عذاره في صحيفة خدّه (١) ، وكمل حسنه باجتماع الضدّ منه مع ضدّه ، فكأنه بسحر لحظه أبدى ليلا في شمس ، وجعل يومه في الحسن أحسن من أمس ، فسأله ابن رزين أن يصنع فيه ، فقال بديها : [الطويل]

تضاعف وجدي أن تبدّى عذاره

ونمّ فخان القلب منّي اصطباره (٢)

وقد كان ظنّي أن سيمحق ليله

بدائع حسن هام فيها نهاره

فأظهر ضدّ ضدّه فيه إذ وشت

بعنبره في صفحة الخدّ ناره

واستزاده ، فقال بديها : [الخفيف]

محيت آية النهار فأضحى

بدر تمّ وكان شمس نهار

كان يعشي العيون نورا إلى أن

شغل الله خدّه بالعذار

وصنع أيضا : [المتقارب]

عذار ألمّ فأبدى لنا

بدائع كنّا لها في عمى

ولو لم يجنّ النهار الظلا

م لم يستبن كوكب في السّما

وصنع أيضا : [الكامل]

تمّت محاسن وجهه وتكاملت

لمّا استدار به عذار مونق (٣)

وكذلك البدر المنير جماله

في أن يكنّفه سماء أزرق

انتهى.

وحكى الحميدي (٤) وغيره أن عبد الله بن عاصم صاحب الشرطة بقرطبة كان أديبا شاعرا سريع البديهة ، كثير النوادر ، وهو من جلساء الأمير محمد بن عبد الرحمن الأموي ملك الأندلس ، وحكوا أنه دخل عليه في يوم ذي غيم ، وبين يديه غلام حسن المحاسن ، جميل الزي ، ليّن الأخلاق (٥) ، فقال الأمير : يا ابن عاصم ، ما يصلح في يومنا هذا؟ فقال : عقار ينفد

__________________

(١) في ه : «في صفحة خده».

(٢) في ب ، ه : «تضاعف وجدي إذ تبدى».

(٣) المونق : المعجب.

(٤) انظر الجذوة ص ٢٤٥.

(٥) في أ«كريم الأخلاق».

٧٤

الدنان (١) ، وتؤنس الغزلان ، وحديث كقطع الروض قد سقطت فيه مؤونة التحفّظ ، وأرخي له عنان التبسّط ، يديرها هذا الأغيد المليح ، فاستضحك الأمير ، ثم أمر بمراتب الغناء ، وآلات الصهباء ، فلمّا دارت الكأس ، واستمطر الأمير نوادره ، أشار إلى الغلام أن يلحّ في سقيه ، ويؤكّد عليه ، فلمّا أكثر رفع رأسه إليه وقال على البديهة : [المنسرح]

يا حسن الوجه لا تكن صلفا

ما لحسان الوجوه والصّلف

تحسن أن تحسّن القبيح ولا

ترثي لصبّ متيّم دنف (٢)

فاستبدع الأمير بديهته ، وأمر له ببدرة ، ويقال : إنه خيّره بينها وبين الوصيف ، فاختارها نفيا للظّنّة عنه ، انتهى.

قلت : أذكرتني هذه الحكاية ما حكاه علي بن ظافر عن نفسه إذ قال : كنت عند المولى الملك الأشرف بن العادل بن أيوب سنة ٦٠٣ بالرّها ، وقد وردت إليه في رسالة ، فجعلني بين سمعه وبصره ، وأنزلني في بعض دوره بالقلعة بحيث يقرب عليه حضوري في وقت طلبتي أو إرادة الحديث معي ، فلم أشعر في بعض الليالي وأنا نائم في فراشي إلّا به ، وهو قائم على رأسي ، والسكر قد غلب عليه ، والشمع تزهر حواليه ، وقد حفّ مماليكه به ، وكأنهم الأقمار الزواهر ، في ملابس كالرياض ذات الأزاهر ، فقمت مروّعا ، فأمسكني وبادر بالجلوس إلى جانبي بحيث منعني عن القيام عن الوساد ، وأبدى من الجميل ما أبدلني بالنّفاق بعد الكساد ، ثم قال : غلبني الشوق إليك ، ولم أرد إزعاجك والتثقيل عليك ، ثم استدعى من كان في مجلسه من خواصّ القوالين ، فحضروا وأخذوا من الغناء فيما يملأ المسامع التذاذا ، ويجعل القلوب من الوجد جذاذا ، وكان له في ذلك الوقت مملوكان هما نيّرا سماء ملكه ، وواسطتا درّ سلكه ، وقطبا فلك طربه ووجده ، وركنا بيت سروره ولهوه ، وكانا يتناوبان في خدمته ، فحضر أحدهما في تلك الليلة وغاب الآخر ، وكان كثيرا ما يداعبني في أمرهما ، ويستجلب مني القول فيهما والكلام في التفضيل بينهما ، فقلت للوقت : [الكامل]

يا مالكا لم يحك سيرته

ماض ولا آت من البشر

اجمع لنا تفديك أنفسنا

في الليل بين الشمس والقمر

فطرب ، وأمر في الحال بإحضار الغائب منهما (٣) ، فحضر والنوم قد زاد أجفانه تفتيرا،

__________________

(١) في ب ، ه : «عقار تنفر الذبان».

(٢) الدنف : الذي لزمه المرض الشديد.

(٣) في ب ، ه : «باستدعاء الغائب منهما».

٧٥

ومعاطفه تكسيرا ، فقلت بين يديه بديهة (١) في وصف (٢) المجلس : [الوافر]

سقى الرحمن عصرا قد مضى لي

بأكناف الرّها صوب الغمام

وليلا باتت الأنوار فيه

تعاون في مدافعة الظلام

فنور من شموع أو ندامى

ونور من سقاة أو مدام

يطوف بأنجم الكاسات فيه

سقاة مثل أقمار التمام

تريك به الكؤوس جمود ماء

فتحسب راحها ذوب الضّرام (٣)

يميل به غصونا من قدود

غناء مثل أصوات الحمام

فكم من موصليّ فيه يشدو

فينسي النفس عادية الحمام (٤)

وكم من زلزل للضرب فيه

وكم للزّمر فيه من زنام (٥)

لدى موسى بن أيوب المرجّى

إذا ما ضنّ غيث بانسجام

ومن كمظفّر الدين المليك ال

أجلّ الأشرف النّدب الهمام (٦)

فما شمس تقاس إلى نجوم

تحاكي قدره بين الكرام

فدام مخلّدا في الملك يبقى

إذا ما ضنّ دهر بالدوام

فلما أنشدتها قام فوضع فرجية من خاصّ ملابسه كانت عليه على كتفي ، ووضع شربوشه بيده على رأس مملوك صغير كان لي ، انتهى.

ولابن ظافر هذا بدائع : منها ما حكاه عن نفسه إذ قال : ومن أعجب ما دهيت به ورميت ، إلّا أنّ الله بفضله نصر ، وأعطى الظّفر ، وأعان خاطري الكليل ، حتى مضى مضاء السيف الصقيل ، أنني كنت في خدمة مولانا السلطان الملك العادل بالإسكندرية سنة إحدى وستمائة مع من ضمّته حاشية العسكر المنصور من الكتّاب والحواشي والخدام ، ودخلت سنة اثنتين وستمائة ونحن بالثغر مقيمون في الخدمة ، مرتضعون لأفاويق النعمة ، فحضرت في جملة

__________________

(١) في ب ، ه : «بديها».

(٢) في ب : «في صفة المجلس».

(٣) الضرام : الاضطرام والاتقاد.

(٤) الموصلي : هو إسحاق الموصلي وأباه إبراهيم الموصلي وهما من أهم المغنين في عصر الرشيد وأشهرهم. والحمام ، بكسر الحاء : الموت.

(٥) زمر : قلت مروءته. والزنيم : الدعي ، واللئيم المعروف بلؤمه وشرّه.

(٦) الندب : السريع إلى الفضائل.

٧٦

من حضر الهناء ، من الفقهاء بالثغر والعلماء ، والمشايخ والكبراء ، وجماعة الديوان والأمراء ، واتّفق أن كان اليوم من أيام الجلوس لإمضاء الأحكام والعرض لطوائف الأجناد ، فلم يبق أحد من أهل البلد ولا من أهل المعسكر إلّا حضر مهنّيا ، ومثل شاكرا وداعيا ، فحين غصّ المجلس بأهله ، وشرق بجمع السلطان وحفله ، وخرج مولانا السلطان إلى مجلسه ، واستقرّ في دسته ، أخرج من بركة قبائه كتابا ناوله للصاحب الأجلّ صفي الدين أبي محمد عبد الله بن علي وزير دولته ، وكبير جملته ، وهو مفضوض الختام ، مفكوك الفدام ، ففتحه فإذا فيه قطعة وردت من المولى الملك المعظّم كتبها إليه يتشوّقه ويستعطفه لزيارته ، ويرقّقه ويستحثّه على عود ركابه إلى بلاد الشام ، للمثاغرة (١) بها ، وقمع عدوّها ، ويعرض بذكر مصر وشدّة حرّها ، ووقد جمرها ، وذلك بعد أن كان وصل إلى خدمته بالثغر ثم رجع إليها ، والأبيات : [الكامل]

أروي رماحك من نحور عداكا

وانهب بخيلك من أطاع سواكا

واركب خيولا كالثعالي شزّبا

واضرب بسيفك من يشقّ عصاكا

واجلب من الأبطال كلّ سميدع

يفري بعزمك كلّ من يشناكا (٢)

واسترعف السّمر الطوال وروّها

واسق المنيّة سيفك السّفّاكا

وسر الغداة إلى العداة مبادرا

بالضرب في هام العدوّ دراكا (٣)

وانكح رماحك للثغور فإنها

مشتاقة أن تبتني بعلاكا

فالعزّ في نصب الخيام على العدا

تردي الطّغاة وتدفع الملّاكا

والنصر مقرون بهمّتك التي

قد أصبحت فوق السّماك سماكا

فإذا عزمت وجدت من هو طائع

وإذا نهضت وجدت من يخشاكا

والنصر في الأعداء يوم كريهة

أحلى من الكأس الذي روّاكا

والعجز أن تضحي بمصر راهنا

وتحلّ في تلك العراص عراكا

فأرح حشاشتك الكريمة من لظى

مصر لكي نحظى الغداة بذاكا

فلقد غدا قلبي عليك بحرقة

شغفا ولا حرّ البلاد هناكا

وانهض إلى راجي لقاك مسارعا

فمناه من كلّ الأمور لقاكا

__________________

(١) في أ«للمثاعرة». وفي ب «للمشاغرة». وليسا بشيء. والمثاغرة : المرابطة في الثغور ضد العدو.

(٢) السميدع : الشجاع. ويشناك : أصلها يشنؤك ، أي يكرهك ، وخفف الهمزة لضرورة القافية.

(٣) دراكا : متلاحقا.

٧٧

وابرد فؤاد المستهام بنظرة

وأعد عليه العيش من رؤياكا

واشف الغداة غليل صبّ هائم

أضحى مناه من الحياة مناكا

فسعادتي بالعادل الملك الذي

ملك الملوك وقارن الأفلاكا

فبقيت لي يا مالكي في غبطة

وجعلت من كلّ الأمور فداكا

فلمّا تلا الصاحب على الحاضرين محكم آياتها ، وجلا منها العروس التي حازت من المحاسن أبعد غاياتها ، أخذ الناس في الاستحسان لغريب نظامها ، وتناسق التئامها ، والثناء على الخاطر الذي نظم بديع أبياتها ، وأطلع من مشرق فكره آياتها ، فقال السلطان : نريد من يجيبه عنّا بأبيات على قافيتها ، فالتفت مسرعا إليّ وأنا عن يمينه ، وقال : يا مولانا ، مملوكك فلان هو فارس هذا الميدان ، والمعتاد للتخلّص من مضايق هذا الشان ، ثم قطع وصلا من درج كان بين يديه ، وألقاه إليّ ، وعمد إلى دواته فأدارها بين يديّ ، فقال له السلطان : أهكذا على مثل هذا الحال؟ وفي مثل هذا الوقت؟ فقال : نعم ، أنا قد جرّبته فوجدته متّقد الخاطر ، حاضر الذهن ، سريع إجابة الفكر ، فقال السلطان : وعلى كل حال قم إلى هنا لتنكفّ عنك أبصار الناظرين ، وتنقطع عنك ضوضاء الحاضرين ، وأشار إلى مكان عن يمين البيت الخشب الذي هو بالجلوس فيه منفرد ، فقمت وقد فقدت رجلي انخذالا ، وذهني اختلالا ، لهيبة المجلس في صدري ، وكثرة من حضره من المترقّبين لي ، المنتظرين حلول فاقرة الشماتة بي (١) ، فما هو إلّا أن جلست حتى ثاب إليّ خاطري (٢) ، وانثال الكلام على سرائري (٣) ، فكنت أتوهّم أنّ فكري كالبازي الصّيود لا يرى كلمة إلّا أنشب فيها منسره ، ولا معنى إلّا شكّ فيه ظفره ، فقلت في أسرع وقت : [الكامل]

وصلت من الملك المعظّم تحفة

ملأت بفاخر درّها الأسلاكا

أبيات شعر كالنجوم جلالة

فلذا حكت أوراقها الأفلاكا (٤)

عجبا وقد جاءت كمثل الروض إذ

لم تذوها بالحرّ نار ذكاكا

جلت الهموم عن الفؤاد كمثل ما

تجلو بغرّة وجهك الأحلاكا

كقميص يوسف إذ شفت يعقوب ري

ياه شفتني مثله ريّاكا

قد أعجزت شعراء هذا العصر كل

لهم فلم لا تعجز الأملاكا

__________________

(١) الفاقرة : الداهية التي تكسر فقار الظهر.

(٢) ثاب إليّ خاطري : رجع.

(٣) في البدائع «وانثال الشعر على ضمائري».

(٤) حكت : شابهت.

٧٨

ما كان هذا الفضل يمكن مثله

أن يحتويه من الأنام سواكا

لم لا أغيب عن الشآم وهل له

من حاجة عندي وأنت هناكا

أم كيف أخشى والبلاد جميعها

محميّة في جاه طعن قناكا (١)

يكفي الأعادي حرّ بأسك فيهم

أضعاف ما يكفي الوليّ نداكا

ما زرت مصر لغير ضبط ثغورها

فلذا صبرت فديت عن رؤياكا

أمّ البلاد علا عليها قدرها

لا سيما مذ شرّفت بخطاكا

طابت وحقّ لها ولم لا وهي قد

حوت المعلّى في القداح أخاكا

أنا كالسحاب أزور أرضا ساقيا

حينا وأمنح غيرها سقياكا

مكثي جهاد للعدوّ لأنني

أغزوه بالرأي السديد دراكا

لو لا الرباط وغيره لقصدت بال

سّير الحثيث إليك نيل رضاكا

ولئن أتيت إلى الشآم فإنما

يحتثّني شوق إلى لقياكا

إني لأمنحك المحبة جاهدا

وهواي فيما تشتهيه هواكا

فافخر فقد أصبحت بي وببأسك ال

حامي وكلّ مملّك يخشاكا

لا زلت تقهر من يعادي ملكنا

أبدا ، ومن عاداك كان فداكا

وأعيش أبصر ابنك الباقي أبا

وتعيش تخدم في السعود أباكا

ثم عدت إلى مكاني وقد بيّضتها ، وحليت بزهرها ساحة القرطاس وروّضتها ، فلمّا رآني السلطان قد عدت قال لي : هل عملت شيئا (٢)؟ ظنّا منه أنّ العمل في تلك اللمحة القريبة معجز متعذّر ، وبلوغ الغرض فيها غير متصوّر ، فقلت : قد أجبت ، فقال : أنشدنا (٣) ، فصمت الناس ، وحدّقت الأبصار ، وأصاخت الأسماع ، وظنّ الناس بي الظنون ، وترقّبوا مني ما يكون ، فما هو إلّا أن توالى الإنشاد لأبياتها حتى صفقت الأيدي إعجابا ، وتغامزت الأعين استغرابا ، وحين انتهيت إلى ذكر مولانا الملك الكامل ، بأنه المعلّى في البنين إذا ضربت قداحهم (٤) ، وسردت أمداحهم ، اغرورقت عيناه دمعا لذكره (٥) ، وأبان صمته مخفي المحبّة حتى أعلن بسرّه ، وحين انتهيت إلى آخرها فاض دمعه ، ولم يمكنه دفعه ، فمدّ يده مستدعيا للورقة ، فناولتها إلى يد

__________________

(١) القنا : الرمح الأجوف.

(٢) في ه : «قال : هل عملت شيئا؟».

(٣) في ه : «فقال : أنشد».

(٤) في ه : «إذا ضربت أقداحهم».

(٥) اغرورقت عيناه دمعا : امتلأت عيناه بالدمع.

٧٩

الصاحب ، فناولها له ، وعند حصولها في يده قام من غير إشعار لأحد بما دار من إرادة القيام في خلده ، سترا لما ظهر عليه من الرقة على الموالي الأولاد ، وكتما لما عليه من الوجد بهم والمحبّة لهم ، وانفضّ المجلس.

وإنما حمل الصاحب على هذا الفعل الذي غرّر بي فيه وخاطر بي بالتعريض له أشياء كان يقترحها عليّ فأنفذ فيها من بين يديه ، ويخف الأمر منها عليّ لدالّتي عليه ، منها أنني كنت في خدمته سنة ٥٩٩ بدمشق ، فورد عليه كتاب من الملك المنصور محمد ابن الملك المظفر تقي الدين صاحب حماة ، وقد بعث صحبته نسخة من ديوان شعره فتشاغل بتسويد جواب كتابه ، فلمّا كتب بعضه التفت إليّ وقال : اصنع أبياتا أكتبها إليه في صدر الجواب ، واذكر فيها شعره ، فقلت له : على مثل هذه الحال؟ فقال : نعم ، فقلت بقدر ما أنجز بقية النسخة : [الطويل]

أيا ملكا قد أوسع الناس نائلا

وأغرقهم بذلا وعمّهم عدلا

فديناك هب للناس فضلا يزينهم

فقد حزت دون الناس كلّهم الفضلا

ودونك فامنحهم من العلم والحجا

كما منحتهم كفّك الجود والبذلا

إذا حزت أوفى الفضل عفوا فما الذي

تركت لمن كان القريض له شغلا (١)

وما ذا عسى من ظلّ بالشعر قاصدا

لبابك أن يأتي به جلّ أو قلّا

فلا زلت في عزّ يدوم ورفعة

تحوز ثناء يملأ الوعر والسّهلا

ووقع لابن ظافر أيضا من هذا النمط أنه دخل في أصحاب له يعودون صاحبا لهم ، وبين يديه بركة قد راق ماؤها ، وصحت سماؤها ، وقد رصّ تحت دساتيرها نارنج فتن قلوب الحضّار ، وملأ بالمحاسن عيون النظّار (٢) ، فكأنما رفعت صوالج فضّة على كرات من النّضار (٣) ، فأشار الحاضرون إلى وصفها ، فقال بديها : [الكامل]

أبدعت يا ابن هلال في فسقيّة

جاءت محاسنها بما لم يعهد

عجبا لأمواه الدساتير التي

فاضت على نارنجها المتوقّد (٤)

فكأنهنّ صوالج من فضّة

رفعت لضرب كرات خالص عسجد

ومن بديع الارتجال ما حكاه المذكور عن ابن قلاقس الإسكندري رحمه الله تعالى إذ

__________________

(١) القريض : الشعر.

(٢) النظّار : المشاهدون.

(٣) النضار : الذهب.

(٤) الأمواه : جمع ماء.

٨٠