نفح الطّيب - ج ٤

الشيخ أحمد بن محمد المقري التلمساني

نفح الطّيب - ج ٤

المؤلف:

الشيخ أحمد بن محمد المقري التلمساني


المحقق: يوسف الشيخ محمّد البقاعي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٣٠

وجلس المعتصم بن صمادح المذكور يوما وبين يديه ساقية قد أخمدت ببردهما حرّ الأوار (١) ، والتوى ماؤها فيها التواء فضّة السوار ، فقال ارتجالا : [البسيط]

انظر إلى الماء كيف انحطّ من صببه

كأنه أرقم قد جدّ في هربه (٢)

وقال السميسر : [المتقارب]

بعوض شربن دمي قهوة

وغنّينني بضروب الأغاني

كأنّ عروقي أوتارهنّ

وجسمي الرباب وهنّ القناني (٣)

[وقيل : [الطويل]

بعوض وبرغوث وبقّ لزمنني

حسبن دمي خمرا فلذّ لها الخمر

فيرقص برغوث لزمر بعوضة

وبقّهم سكت ليستمع الزمر

ومنه : [مجزوء الكامل]

بقّ وبرغوث أتوا

نحوي وقد شدّوا عذابي

وأتى البعوض بزمره

يا قوم أخرج من ثيابي](٤)

وأحسن منه قول ابن شرف القيرواني (٥) : [الكامل]

لك مجلس كملت بشارة لهونا

فيه ، ولكن تحت ذاك حديث

غنّى الذباب فظلّ يزمر حوله

فيه البعوض ويرقص البرغوث

والسابق إلى هذا المعنى أبو الحسن أحمد بن أيوب من شعراء اليتيمة إذ قال (٦) : [المنسرح]

لا أعذل الليل في تطاوله

لو كان يدري ما نحن فيه نقص (٧)

__________________

(١) الأوار : العطش.

(٢) كذا في أ، ب ، ج. وفي ه «في صببه» والأرقم : ذكر الحيات.

(٣) في ب ، ج : «وهن القيان».

(٤) ما بين حاصرتين من أ، ج. وساقط من بقية نسخ النفح.

(٥) انظر معجم الأدباء ج ١٩ ص ٣٨.

(٦) في نسخ النفح «أبو أحمد بن أيوب». وقد صوبنا الاسم من يتيمة الدهر ج ٤ ص ٣٨٣ والأبيات في اليتيمة.

(٧) في التيمة «لا أعذر الليل».

١٤١

لي والبراغيث والبعوض إذا

أجنّنا حندس الظلام قصص (١)

إذا تغنّى بعوضه طربا

أطرب برغوثه الغنا فرقص

ونحو هذا قول الحصري فيما نسبه إليه ابن دحية : [المجتث]

ضاقت بلنسية بي

وذاد عنّي غموضي

رقص البراغيث فيها

على غناء البعوض

رجع إلى أهل الأندلس ، فنقول :

كان ابن سعد الخير البلنسي الشاعر كثير الذهول ، مفرط النسيان ، ظاهر التغفّل ، على جودة نظمه ، ورطوبة طبعه ، وكان كثيرا ما يسلك سكة الإسكافيين الذين يعملون الخفاف على بغلة له ، فاتّخذت البغلة النفور من أطراف الأدم وفضلات الجلود الملقاة في السكة عادة لها ، واتّفق أن عبر في السكة راجلا ، ومعه جماعة من أصحابه ، فلمّا رأى الجلود الملقاة قفز ووثب راجعا على عقبيه ، فقال له أصحابه : ما هذا أيها الأستاذ؟ فقال : البغلة نفرت ، فعجبوا من تغفّله (٢) كيف ظنّ مع ما يقاسيه من ألم المشي ونصب التعب أنه راكب؟ وأنّ حركته الاختيارية منه حركة الدابة الضرورية له ، فكان تغفّله ربما أوقعه في تهمة عند من لم يعرفه ، فاقترح عليه بعض الأمراء أن يصنع بيتين أول أحدهما كتاب وآخره ذئب ، وأول الآخر جوارح وآخره أنابيب ، فصنع بديها : [الطويل]

كتاب نجيع لاح في حومة الوغى

وقارنه نسر هنالك أو ذيب (٣)

جوارح أهليه حروف وربّما

تولّته من نقط الطعان أنابيب

وقال الحميدي (٤) : ذكر لي أبو بكر المرواني أنه شاهد محبوبا الشاعر النحوي قال بديهة في صفة ناعورة : [الطويل]

وذات حنين ما تغيض جفونها

من اللّجج الخضر الصوافي على شطّ

وتبكي فتحيي من دموع جفونها

رياضا تبدّت بالأزاهر في بسط (٥)

__________________

(١) في التيمة «ألحفنا هندس».

(٢) في ب : «فعجبوا من تخلفه وتغفّله».

(٣) النجيع : الدم.

(٤) انظر الجذوة ص ٣٢٨.

(٥) في الجذوة : «رياضا تبدّت من أزاهير في بسط».

١٤٢

فمن أحمر قان وأصفر فاقع

وأزهر مبيضّ وأدكن مشمطّ

كأنّ ظروف الماء من فوق متنها

لآلي جمان قد نظمن على قرط (١)

وقال أبو الخطاب بن دحية (٢) : دخلت على الوزير الفقيه الأجلّ أبي بكر عبد الرحمن بن محمد بن مغاور السلمي ، فوقع الكلام في علوم لم تكن من جنس فنونه ، فقال بديهأ :[الخفيف]

أيها العالم ادّركني سماحا

فلمثلي يحقّ منك السماح

إن تخلني إذا نطقت عييّا

فبناني إذا كتبت وقاح

أحرز الشأو في نظام ونثر

ثم أثني وفي العنان جماح

فبهزل كما تأوّد غصن

وبجدّ كما تهزّ الصفاح (٣)

وقال (٤) : دخلت عليه منزله (٥) بشاطبة في اليوم الذي توفي فيه وهو يجود بنفسه ، فأنشد بديها : [الخفيف]

أيها الواقف اعتبارا بقبري

استمع فيه قول عظمي الرّميم

أودعوني بطن الضريح وخافوا

من ذنوب كلومها بأديمي

ودعوني بما اكتسبت رهينا

غلق الرهن عند مولّى كريم

وقال ابن طوفان : دعا أبي أبا الوليد النّحلي ، فلمّا قضوا وطرهم من الطعام سقيتهم ، وجعلت أترع الكاسات (٦) ، فلمّا مشت في النّحلي سورة الحميّا (٧) ارتجل : [مجزوء الرمل]

لابن طوفان أياد

قلّ فيها مشبهوه

ملأ الكاسات حتى

قيل في البيت أبوه

ونظيره قول المتفتل (٨) من شعراء الذخيرة في الشاعر ابن الفراء : [مجزوء الرمل]

__________________

(١) الجمان : اللؤلؤ. والقرط : ما يعلق في شحمة الأذن من حلي.

(٢) انظر بدائع البداءة ج ٢ ص ١٧١.

(٣) تأوّد : مطاوع أوّده ، تعوّج وتثنّى.

(٤) البدائع ج ٢ ص ١٧٢.

(٥) في ه : «دخلت عليه بمنزله».

(٦) أترع الكاسات : أملؤها.

(٧) سورة الحميّا : شدة الخمر وقوته وتأثيره.

(٨) في ب : «المنفتل».

١٤٣

فإذا ما قال شعرا

نفقت سوق أبيه

وذكر في «بدائع البداءة» أن جماعة من الشعراء في أيام الأفضل خرجوا متنزهين إلى الأهرام ليروا عجائب مبانيها ، ويتأمّلوا ما سطّره الدهر من العبر فيها ، فاقترح بعض من كان معهم العمل فيها ، فصنع أبو الصلت أمية بن عبد العزيز الأندلسي : [الطويل]

بعيشك هل أبصرت أعجب منظرا

على ما رأت عيناك من هرمي مصر

أنافا بأعنان السماء فأشرفا

على الجوّ إشراف السّماك أو النّسر (١)

وقد وافيا نشزا من الأرض عاليا

كأنهما نهدان قاما على صدر (٢)

وصنع أبو منصور ظافر الحداد : [الوافر]

تأمّل هيئة الهرمين وانظر

وبينهما أبو الهول العجيب

كعمار يتّين على رحيل

بمحبوبين بينهما رقيب (٣)

وفيض البحر عندهما دموع

وصوت الريح بينهما نحيب

وظاهر سجن يوسف مثل صبّ

تخلّف فهو محزون كئيب

وقال ابن بسام : كان للمتوكل بن الأفطس فرس أدهم أغرّ محجّل على كفله ست نقط بيض ، فندب المتوكل الشعراء لصفته ، فصنع النّحلي أبو الوليد فيه بديها : [الرمل]

ركب البدر جوادا سابحا

تقف الريح لأدنى مهله

لبس الليل قميصا سابغا

والثريّا نقط في كفله

وغدير الصبح قد خيض به

فبدا تحجيله من بلله

كلّ مطلوب وإن طالت به

رجله من أجله في أجله

ثم انتدب الشعراء بعد ذلك للعمل فيه ، فصنع ابن اللّبّانة : [الكامل]

لله طرف جال يا ابن محمد

فحبت به حوباؤه التأميلا (٤)

لمّا رأى أنّ الظلام أديمه

أهدى لأربعه الهدى تحجيلا

__________________

(١) في بدائع البداءة «أنافا بأكناف السماء».

(٢) النشز من الأرض : المرتفع منها.

(٣) في أ«كعماريتين على رحيل». والتصويب من ب. والعمارية : الهودج.

(٤) الطرف ـ بكسر الطاء وسكون الراء : الكريم من الخيل. والحوباء : النفس.

١٤٤

وكأنما في الردف منه مباسم

تبغي هناك لرجله تقبيلا

ويعني بعمر المتوكل المذكور لأنّ اسمه عمر.

وقال أحمد بن عبد الرحمن بن الصقر الخزرجي قاضي إشبيلية : [الكامل]

لله إخوان تناءت دارهم

حفظوا الوداد على النوى أو خانوا

يهدي لنا طيب الثناء ودادهم

كالندّ يهدي الطيب وهو دخان (١)

وحكي أن أيوب بن سليمان السهيلي المرواني حضر يوما عند ابن باجة (٢) ، والشاعر وأبو الحسن بن جودي هناك ، فتكلّم المرواني بكلام ظهر فيه نبل وأدب ، فتشوّف أبو الحسن بن جودي لمعرفته ، وكان إذ ذاك فتيّ السّنّ ، فقال له : من أنت أكرمك الله تعالى؟ فقال : هلا سألت غيري عني فيكون ذلك أحسن لك أدبا ولي توقيرا ، فقال ابن جودي : قد سألت من المعرف عنك فلم يعرفك ، فقال : يا هذا ، طالما مرّ علينا زمان (٣) يعرفنا من يجهل ، ولا يحتاج من يرانا فيه إلى أن يسأل ، وأطرق ساعة ، ثم رفع رأسه وأنشد : [الطويل]

أنا ابن الألى قد عوّض الدهر عزّهم

بذلّ وقلوا واستحبّوا التنكّرا

ملوك على مرّ الزمان بمشرق

وغرب دهاهم دهرهم وتغيّرا

فلا تذكرنهم بالسؤال مصابهم

فإنّ حياة الرّزء أن يتذكّرا (٤)

ففطن ابن جودي أنه من بني مروان ، فقام وقبّل رأسه ، واعتذر إليه ، ثم انصرف المرواني ، فقال ابن باجة لابن جودي : أساء أدبك (٥) بعدما عهدت منك؟ كيف تعمد إلى رجل في مجلسي تجدني (٦) قد قربته وأكرمته وخصصته بالإصغاء إلى كلامه فتقدّم عليه بالسؤال عن نفسه؟ فاحذر أن تكون لك عادة ، فإنها من أسوأ الأدب ، فقال ابن جودي : لم نزل (٧) من الشيخ على ما قاله أبو تمام : [المنسرح]

نأخذ من ماله ومن أدبه

__________________

(١) الندّ : نوع من البخور.

(٢) في ب ، ه «عن ابن باجة ، والشاعر أبو الحسن بن جودي هناك».

(٣) في ب ، ه : «لطالما مرّ علينا زمان».

(٤) الرّزء : المصيبة.

(٥) في ه : «ساءني أدبك».

(٦) في ب ، ه : «تراني قد قربته».

(٧) في ب ، ه : «لم أزل».

١٤٥

وحكي أن بكار المرواني لمّا ترك وطنه وخرج في الجهاد وقتل ، قال صاحب السقط : إنه اجتمع به في أشبونة فقال : قصدت منزله بها ، ونقرت الباب ، فنادى : من هذا؟ فقلت : رجل ممّن يتوسّل لرؤياك (١) بقرابة ، فقال : لا قرابة إلّا بالتقى ، فإن كنت من أهله فادخل ، وإلّا فتنحّ عنّي ، فقلت : أرجو في الاجتماع بك والاقتباس منك أن أكون من أهل التقى ، فقال : ادخل ، فدخلت عليه فإذا به في مصلّاه وسبحة أمامه ، وهو يعدّ حبوبها ويسبح فيها ، فقال لي : ارفق عليّ حتى أتمّم وظيفتي من هذا التسبيح ، وأقضي حقّك ، فقعدت إلى أن فرغ ، فلمّا قضى شغله عطف عليّ وقال : ما القرابة التي بيني وبينك؟ فانتسبت له ، فعرف أبي ، وترحّم عليه ، وقال لي : لقد كان نعم الرجل ، وكان لديه أدب ومعرفة ، فهل لديك أنت ممّا كان لديه شيء؟ فقلت له : إنه كان يأخذني بالقراءة وتعلّم الأدب ، وقد تعلّقت من ذلك بما أتميّز به ، فقال لي : هل تنظم شيئا؟ قلت : نعم ، وقد ألجأني الدهر إلى أن أرتزق به ، فقال : يا ولدي إنه بئسما يرتزق به ، ونعم ما يتحلّى به إذا كان على غير هذا الوجه ، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إنّ من الشّعر لحكمة» ولكن تحلّ الميتة عند الضرورة ، فأنشدني أصلحك الله تعالى ممّا على ذكرك من شعرك ، قال : فطلبت بخاطري شيئا أقابله به ممّا يوافق حاله فما وقع لي إلّا فيما لا يوافقه من مجون ووصف خمر وما أشبه ذلك ، فأطرقت قليلا ، فقال : لعلّك تنظم ، فقلت : لا ولكن أفكر فيما أقابلك به ، فقولي أكثره فيما حملني عليه الصّبا والسخف ، وهو غير لائق بمجلسك (٢) ، فقال : يا بني ، ولا هذا كلّه ، إنّا لا نبلغ من تقوى الله إلى حدّ نخرج به عن السلف الصالح ، وإذا صحّ عندنا أنّ عبد الله بن عباس ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومفسّر كتاب الله تعالى ينشد مثل قول القائل : [الرجز]

إن يصدق الطير ننك لميسا

فمن نحن حتى نأبى أن نسمع مثل هذا؟ والله لا نشذّ (٣) عن السلف الصالح ، أنشدني ما وقع لك غير متكلّف ، فلم يمدّني خاطري إلى غير قولي من شعر أمجن فيه : [المجتث]

أبطأت عنّي ، وإني

لفي اشتياق شديد

وفي يدي لك شيء

قد قام مثل العمود

لو ذقته مرّة لم

تعد لهذا الصدود

__________________

(١) في ب : «يتوسل لرؤيتك».

(٢) في ب : «وهو لائق بغير مجلسك» ، وقد أثبتنا ما في أ، وهو أفضل.

(٣) في ه : «ألا والله لأنشد عن السلف الصالح» محرفا.

١٤٦

فتبسّم الشيخ وقال : أما كان في نظمك أطهر من هذا؟ فقلت له : ما وفّقت لغيره ، فقال : لا بأس عليك ، فأنشدني غيره ، ففكّرت إلى أن أنشدته قولي : [المتقارب]

ولمّا وقفت على ربعهم

تجرّعت وجدي بالأجزع

وأرسل دمعي شرار الدموع

لنار تأجّج في الأضلع (١)

فقال عذولي ، لمّا رأى

بكائي : رفقا على الأدمع

فقلت له : هذه سنّة

لمن حفظ العهد في الأربع

قال : فرأيت الشيخ قد اختلط ، وجعل يجيء ويذهب ، ثم أفاق وقال : أعد بحقّ آبائك الكرام ، فأعدت ، فأعاد ما كان فيه وجعل يردّده ، فقلت له : لو علمت أنّ هذا يحرّكك ما أنشدتك إيّاه ، فقال : وهل حرّك منّي إلّا خيرا وعظة؟ يا بنيّ ، إنّ هذه القلوب المخلاة لله كالورق التي جفت ، وهي مستعدّة لهبوب الرياح ، فإن هبّ عليها أقلّ ريح لعب بها كيف شاء ، وصادف منها طوعه ، فأعجبني منزعه ، وتأنّست به ، ولم أر عنده ما يعتاد من هؤلاء المتدينين من الانجماع والانكماش ، بل ما زال يبسطني ويحدّثني بأخبار فيها هزل ، ويذكر لي من تاريخ بني أمية وملوكها ما أرتاح له ، ولا أعلم أكثره ، فلمّا كثر تأنسي به أهويت إلى يده كي أقبّلها ، فضمّها بسرعة ، وقال : ما شأنك؟ فقلت : راغبا لك في أن تنشدني شيئا من نظمك ، فقال : أما نظمي في زمان الصبا فكان له وقت ذهب ، ويجب للنظم أن يذهب معه ، وأمّا نظمي في هذا الوقت فهو فيما أنا بسبيله ، وهو يثقل عليك ، فقلت له : إن أنصف سيدي الشيخ نفعنا الله تعالى به أنشدني من نظم صباه ، ومن نظم شيخوخته (٢) ، فيأخذ كلانا بحظّه ، فضحك وقال : ما أعصيك وأنت ضيف وقريب ولك حرمة أدب (٣) ووسيلة قصد ، ثم أنشدني وقد بدا عليه الخشوع وخنقته العبرة : [مجزوء الكامل]

ثق بالذي سوّاك من

عدم فإنك من عدم

وانظر لنفسك قبل قر

ع السّنّ من فرط الندم

واحذر وقيت من الورى

واصحبهم أعمى أصمّ

قد كنت في تيه إلى

أن لاح لي أهدى علم

فاقتدت نحو ضيائه

حتى خرجت من الظّلم

__________________

(١) في ه : «وأرسل دمعي شداد الدموع» ، محرفا.

(٢) في ه : «ومن نظم شيخه» وليس بشيء.

(٣) في ه : «ولك حرمة وأدب».

١٤٧

لكن قناديل الهوى

في نور رشدي كالحمم

قال : فو الله لقد أدركني فوق ما أدركه ، وغلب على خاطري بما سمعت من هذه الأبيات ، وفعلت بي من الموعظة غاية لم أجد منها التخلّص إلّا بعد حين ، فقال لي الشيخ : إنّ هذه يقظة يرجى معها خيرك ، والله مرشدك ومنقذك ، ثم قال لي : يا بني ، هذا ما نحن بسبيله الآن ، فاسمع فيما مضى والله وليّ المغفرة ، وإنّا لنرجو منه غفران الفعل ، فكيف القول ، وأنشد : [المتقارب]

أطلّ عذار على خدّه

فظنّوا سلوّي عن مذهبي

وقالوا غراب لوشك النّوى

فقلت اكتسى البدر بالغيهب (١)

وناديت قلبي أين المسير

وبدر الدّجى حلّ بالعقرب (٢)

فقال ولو رمت عن حبّه

رحيلا عصيت ولم أذهب

قال : فسمعت منه (٣) ما يقصر عنه صدور الشعراء ، وشهدت له بالتقدّم ، وقلت له : لم أر أحسن من نظمك في جدّ ولا هزل ، ثم قلت له : أأرويه عنك؟ فقال : نعم ، ما أرى به بأسا بعد اطلاع من يعلم السرائر ، على ما في الضمائر ، فما قدر هذه الفكاهة في إغضاء (٤) من يغفر الكبائر؟ ويغضي عن العظائم؟ قال : فقلت له : فإن أسبغت عليّ النعمة بزيادة شيء من هذا الفن فعلت ما تملك به قلبي آخر الدهر ، فقال : يا بني ، لا ملك قلبك غير حبّ الله تعالى! ثم قال : ولا أجمع عليك ردّ قول ومنعا (٥) ، وأنشد : [مجزوء الخفيف]

أيها الشادن الذي

حسنه في الورى غريب (٦)

لحظ ذاك الجمال يط

فىء ما بي من اللهيب

وعليه أحوم ده

ري ولكنّني أخيب

كلّما رمت زورة

قيّض الله لي رقيب

قال : فمازج قلبي من الرقّة واللطافة لهذا الشعر ما أعجز عن التعبير عنه ، فقلت له : زدني زادك الله تعالى خيرا ، فأنشدني : [البسيط]

ما كان قلبي يدري قدر حبّكم

حتى بعدتم فلم يقدر على الجلد

__________________

(١) الغيهب : الظلمة ، جمعه : غياهب.

(٢) العقرب : برج في السماء.

(٣) في ب : «فسمعت ما يقصر».

(٤) في ه : «وفي إحصاء من يغفر الكبائر».

(٥) في ه : «قول ومعنى» محرفا.

(٦) الشادن : ولد الغزال.

١٤٨

وكنت أحسب أني لا أضيق به

ذرعا فما حان حتى فتّ في عضدي

ثم استمرّت على كره مريرته

فكاد يفرق بين الروح والجسد

عساكم أن تلاقوا باللقا رمقي

فليس لي مهجة تقوى على الكمد

ثم قال : حسبك ، وإن كلفتني زيادة فالله حسبك ، فقلت له : قد وكلتني إلى كريم غفور رحيم ، فبالله إلّا ما زدتني ، وأكببت لأقبّل رجليه ، فضمّهما وأنشد : [المجتث]

لله من قال لمّا

شكوت فيه نحولي

أمّا السبيل لوصل

فما له من وصول

فقلت حسبي التماح

بحسن وجه جميل

وجه تلوح عليه

علامة للقبول

فقال دعني فهذا

تعرّض للفضول

فقلت عاتب وخاطب

بالأمن أهل العقول

فملأ سمعي عجائب ، وبسط أنسي ، وكتبت كلّ ما أنشدني ، ثم قلت له : لولا خوفي من التثقيل عليك لم أزل أستدعي منك الإنشاد حتى لا تجد ما تنشد ، فقال : إن عدت إن شاء الله تعالى إلى هنا تذكرت ، وأنشدتك ، فما عندي ممّا أضيفك غير ما سمعته (١) ، وما تراه ، ثم قام وجاء من بيت آخر في داره بصحفة فيها حسا من دقيق وكسور باردة ، فجعل يفتّ فيها ، ثم أشار إليّ أن أشرب ، فشربت ، ثم شرب إلى أن أتينا على آخرها ، ثم قال لي : هذا غذاء عمّك نهاره ، وإنه لنعمة من الله تعالى أستديم بشكرها اتّصالها ، قال : فقلت له : يا عمّ ، ومن أين عيشك؟ فقال : يا بني ، عيشتي بتلك الشبكة أصطاد بها في سواحل البحر ما أقتات به ، ولي زوجة وبنت يعود من غزلهما مع ذلك ما نجد به (٢) معونة ، وهذا مع العافية والاستغناء عن الناس خير كثير ، جعلنا الله تعالى ممّن يلقاه على حالة يرضاها ، وختم لنا بخاتمة لا يخاف معها فضيحة! قال : فتركته وقمت وفي نيّتي أن أعود إلى زيارته ، ونويت أن يكون ذلك بعد أيام خوف التثقيل ، فعدت إليه بعد ثلاثة أيام ، فنقرت الباب ، فكلمتني المرأة بلسان عليه أثر الحزن ، وقالت : إنّ الشيخ خرج إلى الغزو ، وذلك بعد انفصالك عنه بيوم ، ناله كالجنون ، فقلت له : ما شأنك؟ فقال : إني (٣) أريد أن أموت شهيدا في الغزو ، وهؤلاء جيران لي قد

__________________

(١) في ب ، ه : «غير ما سمعت».

(٢) في ب ، ه : «ما نجد فيه معونة».

(٣) في ب : «فقال : أريد أن أموت شهيدا».

١٤٩

عزموا على الغزو ، وأنا إن شاء الله تعالى ماض معهم ، ثم احتال في سيف ورمح وتوجّه معهم ، وقال : نفسي هي التي قتلتني بهواها ، أفلا أقتصّ منها فأقتلها؟ قال : فقلت لها : من خلّف للنظر في شأنكم؟ فقالت : ليس ذلك لك ، فالذي خلفنا له لا نحتاج معه (١) إلى غيره ، فأدركني من جوابها روعة ، وعلمت أنها مثله زهدا وصلاحا ، فقلت : إني قريبه ، ويجب عليّ أن أنظر في حالكم بعده ، فقالت : يا هذا ، إنك لست بذي محرم ، ولنا من العجائز من ينظر منّا ويبيع غزلنا ويتفقّد أحوالنا ، فجزاك الله تعالى عنّا خيرا ، انصرف عنّا مشكورا ، فقلت لها : هذه دراهم خذوها لتستعينوا بها (٢) ، فقالت : ما اعتدنا أن نأخذ شيئا من غير الله تعالى ، وما كان لنا أن نخلّ بالعادة ، فانصرفت نادما على ما فاتني من الاستكثار من شعر الشيخ والتبرّك بزيادة دعائه ، ثم عدت بعد ذلك لداره سائلا عنه ، فقالت لي المرأة : إنه قد قبّله الله تعالى ، فعلمت أنه قد قتل ، فقلت لها : أقتل؟ فقرأت (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) سورة آل عمران ، الآية : ١٦٩] ـ الآية فانصرفت معتبرا من حاله ، رحمه الله تعالى ورضي عنه ونفعنا به!.

وكانت للمروانيين بالأندلس يد عليا ، في الدين والدنيا. انتهى.

وقال محمد بن أيوب المرواني ، لمّا كلّف قوما حاجة له سلطانية فما نهضوا بها فكلّفها رأس بني مروان القائد سعيد بن المنذر ، فنهض بها : [الوافر]

نهضت بما سألتك غير وان

وقد صعبت لسالكها الطريق

وليس يبين فضل المرء إلّا

إذا كلّفته ما لا يطيق

وعتبه يوما سعيد بن المنذر في كونه يتعرّض لمدح خدام بني مروان ، فقال له : أعزّ الله تعالى القائد الوزير! إنكم جعلتموني ذنبا وجعلوني رأسا ، والنفس تتوق إلى من يكرمها وإن كان دونها أكثر منها إلى من يهينها (٣) وإن كان فوقها ، وإني من هذا وهذا في أمر لا يعلمه إلّا الله الذي بلاني به (٤) ، ويا ويح الشجيّ من الخليّ ، وأنا الذي أقول فيما يتخلّل هذا المنزع : [الطويل]

نسبت لقوم ليتني نجل غيرهم

فلي نسب يعلو وحظّي يسفل

أقطّع عمري بالتعلّل والمنى

وكم يخدع المرء اللبيب التّعلّل

فما لي مكان أرتضيه لهمّة

ولا مال منه أستعفّ وأفضل

__________________

(١) في ه : «ولا يحتاج معه إلى غيره».

(٢) في ب ، ه : «خذوها تستعينوا بها».

(٣) في أ : «أكثر ممن يهينها».

(٤) في ه : «لا يعلمه إلّا الذي أبلاني به».

١٥٠

ولكنني أقضي الحياة تجمّلا

وهل يهلك الإنسان إلّا التّجمّل

فقال له سعيد : قصدنا لومك فعطفت اللائمة علينا ، ونحن أحقّ بها ، وسننظر ، إن شاء الله تعالى ، فيما يرفع اللوم عن الجانبين ، ثم تكلّم مع الناصر في شأنه ، فأجرى له رزقا أغناه عن التكفّف ، فكانت هذه من حسنات سعيد وأياديه.

وقال المطرف بن عمر المرواني يمدح المظفر بن المنصور بن أبي عامر : [الكامل]

إنّ المظفّر لا يزال مظفرا

حكما من الرحمن غير مبدّل

وهو الأحقّ بكلّ ما قد حازه

من رفعة ورياسة وتفضّل

تلقاه صدرا كلّما قلّبته

مثل السنان بمحفل وبجحفل (١)

وحضر يوما مع شاعر الأندلس في زمانه ابن دراج القسطلّي ، فقال له القسطلي : أنشدني أبياتك التي تقول فيها : [الطويل]

على قدر ما يصفو الخليل يكدّر

فأنشده : [الطويل]

تخيّرت من بين الأنام مهذّبا

ولم أدر أني خائب حين أخبر

فمازجني كالراح للماء ، واغتدى

على كلّ ما جشّمته يتصبر (٢)

إلى أن دهاني إذ أمنت غروره

سفاها ، وأدّاني لما ليس يذكر

وكدّر عيشي بعد صفو ، وإنما

على قدر ما يصفو الخليل يكدّر

فاهتزّ القسطلّي وقال : والله إنك في هذه الأبيات لشاعر ، وأنا أنشدك فيما يقابلها لبلال بن جرير : [الكامل]

لو كنت أعلم أنّ آخر عهدهم

يوم الفراق فعلت ما لم أفعل

ولكن جعل نفسه فاعلا وعرّضت نفسك لأن يقال : إنك مفعول ، فقال : ومن أين يلوح ذلك؟ فقال القسطلي : من قولك «وأدّاني لما ليس يذكر» فما يظنّ في ذلك إلّا أنه (٣) أداك إلى موضع فعل بك فيه ، فاغتاظ الأموي وقال : يا أبا عمر ، ومن أين جرت العادة بأن تمزح معي في هذا الشأن؟ فقال له : حلم بني مروان يحملنا على أن نخرق العادة في الحمل على مكارمهم ، فسكن غيظه.

__________________

(١) الجحفل : الجيش الجرار.

(٢) جشّمته : كلّفته ، حملته.

(٣) في ه : «إلا أنك أداك» وليس بشيء.

١٥١

وكتب المرواني المذكور إلى صاحب له يستعير منه دابّة يخرج عليها للفرجة والخلاعة : أنهض الله تعالى سيدي بأعباء المكارم ، إنّ هذا اليوم قد تبسّم أفقه ، بعد ما بكى ودقه (١) ، وصقلت أصداء أوراقه ، وفتّحت حدائق أحداقه (٢) ، وقام نوره خطيبا على ساقه ، وفضّضت غدرانه ، وتوّجت أغصانه ، وبرزت شمسه من حجابها ، بعد ما تلفّعت بسحابها ، وتنبّه في أرجاء الروض أرج النسيم ، وعرف في وجهه (٣) نضرة النعيم ، وقد دعا كلّ هذا ناظر أخيك إن أن يجيله في هذه المحاسن ، ويجدّد نظره في المنظر الذي هو غير مبتذل والماء الذي هو غير آسن (٤) ، والفحص اليوم أحسن ما ملح ، وأبدع ما حرن فيه وجمح ، فجد لي بإعارة ما أنهض عليه لمشاهدته ويرفع عني خجل الابتذال ، بمناكب (٥) الأنذال ، لا زلت نهّاضا بالآمال ، مسعفا بمراد كلّ خليل غير مقصّر ولا آل (٦).

وكتب الأمير هشام بن عبد الرحمن إلى أخيه عبد الله المعروف بالبلنسي حين فرّ كتابا يقول في بعض فصوله : والعجب من فرارك دون أن ترى شيئا.

فخاطبه بجواب يقول فيه : ولا تتعجّب من فراري دون أن أرى شيئا ؛ لأنني خفت أن أرى ما لا أقدر على الفرار بعده ، ولكن تعجب مني أن حصلت في يدك بعد ما أفلتّ منك.

وقال له وزيره أحمد بن شعيب البلنسي : أليس من العار أن يبلغ بك الخور من هذا الصبي أن تجعل بينك وبينه البحر ، وتترك بلاد ملكك وملك أبيك؟ فقال : ما أعرف ما تقول ، وكل ما وقي به إتلاف النفس ليس بعار ، بل هو محض العقل ، وأوّل ما ينظر الأديب في حفظ رأسه ، فإذا نظر في ذلك نظر فيما بعده.

وقال عبد الله بن عبد العزيز الأموي ويعرف بالحجر (٧) : [البسيط]

اجعل لنا منك حظّا أيها القمر

فإنما حظّنا من وجهك النظر

رآك ناس فقالوا إنّ ذا قمر

فقلت كفّوا فعندي منهما الخبر

البدر ليس بغير النّصف بهجته

حتى الصباح وهذا كلّه قمر

وقال أبو عبد الله محمد بن محمد بن الناصر يرثي أبا مروان بن سراج : [الطويل]

__________________

(١) الودق : المطر.

(٢) في ب ، ه : «حدائقه».

(٣) في ه : «وعرف في وجوهه».

(٤) ماء آسن : متغيّر من ركودة أو مما خالطه.

(٥) في ب : «بمناكفة الأنذال».

(٦) آل : مقصّر ، وهو اسم فاعل من ألا فلان يألو فهو آل.

(٧) انظر الجذوة : ص ٢٤٤.

١٥٢

وكم من حديث للنبيّ أبانه

وألبسه من حسن منطقه وشيا

وكم مصعب للنحو قد راض صعبه

فعاد ذلولا بعد ما كان قد أعيا (١)

وحكي أنه دخل بعض شعراء الأندلس على الفقيه سعيد بن أضحى ، وكان من أعيان غرناطة ، فمدحه بقصيدة ، ثم بموشّحة ، ثم بزجل ، فلم يعطه شيئا ، بل شكا إليه فقرا ، حتى إنه بكى ، فأخذ الدواة والقرطاس وكتب ووضع بين يديه : [البسيط]

شكا مثال الذي أشكوه من عدم

وساءه مثل ما قد ساءني فبكى

إنّ المقلّ الذي أعطاك دمعته

نعم الجواد فتى أعطاك ما ملكا

وقال ابن خفاجة (٢) : [الكامل]

نهر كما سال اللّمى سلسال

وصبا بليل ذيلها مكسال (٣)

ومهبّ نفحة روضة مطلولة

فيها لأفراس النسيم مجال

غازلته والأقحوانة مبسم

والآس صدغ والبنفسج خال (٤)

وقال (٥) : [الطويل]

وساق كحيل الطّرف في شأو حسنه

جماح ، وبالصبر الجميل حران

ترى للصّبا نارا بخدّيه لم يثر

لها من سوادي عارضيه دخان

سقاها وقد لاح الهلال عشيّة

كما اعوجّ في درع الكميّ سنان (٦)

عقارا نماها الكرم فهي كريمة

ولم تزن بابن المزن فهي حصان

وقد حان من جون الغمامة أدهم

له البرق سوط والعنان عنان (٧)

وضمّخ درع الشمس نحر حديقة

عليك وفي الطّلّ السقيط جمان (٨)

__________________

(١) ذلولا : سهل الانقياد. وأعيا : أعجز.

(٢) انظر ديوان ابن خفاجة ص ١١٩.

(٣) في الديوان : «نهر كما ساغ اللمى سلسال» ، والصبا : الريح الهابة من ناحية الشرق. والبليل : الذي أصيب بالبلل ، وأراد أنها ريح ندية.

(٤) الأقحوانة : نبات له زهرة صفراء صغيرة في الوسط تحيط بها أوراق من الزهر الأبيض الصغير. يشبه الشعراء بها الأسنان. والصدغ هنا : الشعر المتدلي على الصدغ. والخال : نكته سوداء تكون في الخد.

(٥) انظر ديوان خفاجة ص ٢٣٥.

(٦) في ب : «سقانا وقد لاح ..».

(٧) في ب : «وقد جال ..».

(٨) في ب : «وضمخ ردع الشمس ... عليه وفي الطلّ ..».

١٥٣

ونمّت بأسرار الرياض خميلة

لها النّور ثغر والنسيم لسان

وقال في وصف فرس أصفر ، ولم يخرج عن طريقته : [السريع]

وأشقر تضرم منه الوغى

بشعلة من شعل الباس

من جلّنار ناضر لونه

وأذنه من ورق الآس

يطلع للغرّة في شقرة

حبابة تضحك في الكاس

وقال أبو بكر يحيى بن سهل اليكي يهجو (١) : [الكامل]

أعد الوضوء إذا نطقت به

مستعجلا من قبل أن تنسى

واحفظ ثيابك إن مررت به

فالظّلّ منه ينجّس الشّمسا

وقال ابن اللّبّانة (٢) : [السريع]

أبصرته قصّر في المشيه

لمّا بدت في خدّه لحيه

قد كتب الشّعر على خدّه

(أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ)

وقال الوزير الكاتب أبو محمد (٣) عبد الغفور الإشبيلي في الأمير الكبير (٤) أبي بكر سير من أمراء المرابطين ، وكتب بها إليه في غزاة غزاها : [الكامل]

سر حيث سرت يحلّه النوّار

وأراك فيه مرادك المقدار (٥)

وإذا ارتحلت فشيّعتك سلامة

وغمامة لا ديمة مدرار

تنفي الهجير بظلّها وتنيم بال

رشّ القتام وكيف شئت تدار (٦)

وقضى الإله بأن تعود مظفّرا

وقضت بسيفك نحبها الكفّار (٧)

هذا غير ما تمنّاه الجعفي حيث قال : حيث ارتحلت وديمة ، وما تكاد تنفد معها عزيمة ، وإذا سفحت على ذي سفر ، فما أحراها بأن تعوق عن الظفر ، ونعتها بمدرار ، فكان ذلك أبلغ في الإضرار ، وما أحسن قول القائل : [الوافر]

__________________

(١) في أ«البكي».

(٢) انظر القلائد ص ٢٥٢.

(٣) في ب ، ه : «أبو محمد بن عبد الغفور الإشبيلي».

(٤) في ب : «الأمير أبي بكر ..».

(٥) انظر القلائد ص ١٦٣.

(٦) الهجير : شدة الحر في النهار عند زوال الشمس إلى العصر.

(٧) كذا في ب ، ه. وفي أ«نحرها الكفار».

١٥٤

فسر ذا راية خفقت بنصر

وعد في جحفل بهج الجمال

إلى حمص فأنت بها حليّ

تغاير فيه ربّات الحجال (١)

وقال الحجاري في «المسهب» : كتبت إلى القاضي أبي عبد الله محمد اللوشي أستدعي منه شعره لأكتبه في كتابي ، فتوقّف عن ذلك وانقبض عني ، فكتبت إليه : [البسيط]

يا مانعا شعره عن سمع ذي أدب

نائي المحلّ بعيد الشخص مغترب

يسير عنك به في كلّ متّجه

كما يمرّ نسيم الريح بالعذب

إنّي وحقّك أهل أن أفوز به

واسأل فديتك عن ذاتي وعن أدبي

فكان جوابه : [البسيط]

يا طالبا شعر من لم يسم في الأدب

ما ذا تريد بنظم غير منتخب

إني وحقّك لم أبخل به صلفا

ومن يضنّ على جيد بمخشلب

لكنني صنت قدري عن روايته

فمثله قلّ عن سام إلى الرّتب (٢)

خذه إليك كما أكرهت مضطربا

محلّلا ذمّ مولاه مدى الحقب

قال : ثم كتب لي ممّا أتحفني به من نظمه محاسن أبهى من الأقمار ، وأرقّ من نسيم الأسحار.

وقال صالح بن شريف في البحر وهو من (٣) أحسن ما قيل فيه : [البسيط]

البحر أعظم ممّا أنت تحسبه

من لم ير البحر يوما ما رأى العجبا

طام له حبب طاف على زرق

مثل السماء إذا ما ملّئت شهبا

وقال أيضا : [السريع]

ما أحسن العقل وآثاره

لو لازم الإنسان إيثاره

يصون بالعقل الفتى نفسه

كما يصون الحرّ أسراره

لا سيّما إن كان في غربة

يحتاج أن يعرف مقداره

وقال ابن برطلة : [الطويل]

__________________

(١) تغاير : تغالب في الغيرة. وربات الحجال : النساء.

(٢) في أ«لكنني صنت هذري».

(٣) في ب ، ج : «وهو أحسن ما قيل».

١٥٥

خطوب زماني ناسبتني غرابة

لذلك يرميني بهنّ مصيب

غريب أصابته خطوب غريبة

(وكلّ غريب للغريب نسيب) (١)

وهذا من أحسن التضمين ، الذي يزري بالدّرّ الثمين.

ودخل ابن بقي الحمّام وفيه الأعمى التّطيلي فقال له : أجز : [البسيط]

حمّامنا كزمان القيظ محتدم

وفيه للبرد صرّ غير ذي ضرر (٢)

فقال الأعمى : [البسيط]

ضدّان ينعم جسم المرء بينهما

كالغصن ينعم بين الشّمس والمطر

ولا يخفى حسن ما قال الأعمى.

وقد ذكر في «بدائع البداءة» (٣) البيتين معا منسوبين إلى ابن بقي ، ولنذكر كلامه برمّته لما اشتمل عليه من الفوائد ، ونصّه : ذكر ابن بسام قال : دخل الأديبان أبو جعفر بن هريرة التّطيلي المعروف بالأعمى وأبو بكر بن بقي الحمّام ، فتعاطيا العمل فيه ، فقال الأعمى : [المنسرح]

يا حسن حمّامنا وبهجته

مرأى من السّحر كلّه حسن

ماء ونار حواهما كنف

كالقلب فيه السرور والحزن

ثم أعجبه المعنى فقال : [مخلع البسيط]

ليس على لهونا مزيد

ولا لحمّامنا ضريب (٤)

ماء وفيه لهيب نار

كالشمس في ديمة تصوب

وابيضّ من تحته رخام

كالثّلج حين ابتدا يذوب

وقال ابن بقي :

حمّامنا فيه فصل القيظ

البيتين.

فقال الأعمى ، وقد نظر فيه إلى فتى صبيح : [البسيط]

__________________

(١) هذا عجز بيت ينسب لامرئ القيس ، وصدره : أجارتنا إنّا غريبان ههنا.

(٢) في ج «وفيه للبرد برد غير ذي ضرر». والصرّ : شدة البرد.

(٣) انظر بدائع البداءة ج ١ ص ٢٤٢.

(٤) ضريب : شبيه.

١٥٦

هل استمالك جسم ابن الأمير وقد

سالت عليه من الحمّام أنداء (١)

كالغصن باشر حرّ النار من كثب

فظلّ يقطر من أعطافه الماء

قلت : تذكّرت هنا عند ذكر الحمّام ما حكاه بدر الدين الحسن بن زفير الإربلي المتطبب إذ قال : رأيت ببغداد في دار الملك شرف الدين هارون ابن الوزير الصاحب شمس الدين محمد الجويني حمّاما متقن الصنعة ، حسن البناء ، كثير الأضواء ، قد احتفّت به الأزهار والأشجار ، فأدخلني إليه سائسه ، وذلك بشفاعة الصاحب بهاء الدين بن الفخر عيسى المنشئ الإربلي وكان سائس هذا الحمّام خادما حبشيّا كبير السّنّ والقدر ، فطاف بي عليه ، وأبصرت مياهه وشبابيكه وأنابيبه المتّخذ بعضها من فضّة مطليّة بالذهب وغير مطليّة وبعضها على هيئة طائر إذا خرج منها الماء صوّت بأصوات طيبة ، ومنها أحواض رخام بديعة الصنعة والمياه تخرج من سائر الأنابيب إلى الأحواض ومن الأحواض إلى بركة حسنة الإتقان ، ثم منها إلى البستان ، ثم أراني نحو عشر خلوات ، كلّ خلوة منها صنعتها أحسن من صنعة أختها ، ثم انتهى بي إلى خلوة عليها باب مقفل بقفل حديد ، ففتحه ، ودخل بي إلى دهليز طويل كلّه مرخم (٢) بالرخام الأبيض الساذج ، وفي صدر الدهليز خلوة مربعة تسع بالتقريب نحو أربعة أنفس إذا كانوا قعودا وتسع اثنين إذا كانوا نياما ، ورأيت من العجائب في هذه الخلوة أنّ حيطانها الأربعة مصقولة صقالا لا فرق بينه وبين صقال المرآة ، يرى الإنسان سائر بشرته في أي حائط شاء منها ، ورأيت أرضها مصوّرة بفصوص حمر وصفر وخضر ومذهّبة وكلّها متّخذة من بلّور مصبوغ بعضه أصفر وبعضه أحمر ، فأما الأخضر فيقال إنه حجارة تأتي من الروم ، وأما المذهّب فزجاج ملبّس بالذهب ، وتلك الصورة في غاية الحسن والجمال ، على هيئات مختلفة في اللون وغيره ، وهي ما بين فاعل ومفعول به ، إذا نظر المرء إليها تحرّكت شهوته ، وقال لي الخادم السائس : هذا صنع على هذه الصفة لمخدومي ، حتى أنه إذا نظر ما يفعل (٣) هؤلاء بعضهم مع بعض من المجامعة والتقبيل ووضع أيدي بعضهم على أعجاز بعض تتحرّك شهوته سريعا ، فيبادر إلى مجامعة من يحبّه.

قال الحاكي : وهذه الخلوة دون سائر الخلوات التي دخلت إليها هي مخصوصة بهذا الفعل ، إذا أراد الملك شرف الدين هارون الاجتماع في الحمّام بمن يهواه من الجواري الحسان والصور الجميلة والنساء الفائقات الحسن لم يجتمع به إلّا في هذه الخلوة ، من أجل أنه يرى

__________________

(١) في ه : «جسم ابن الأمين».

(٢) في ه : «كله رخم» وقد أثبتنا ما في أ، ب ، ج.

(٣) في ب ، ه : «إذا نظر إلى ما يفعله هؤلاء».

١٥٧

كل محاسن الصور الجميلة مصوّرة في الحائط ومجسّمة بين يديه ، ويرى كلّ منهما صاحبه على هذه الصفة ، ورأيت في صدر الخلو حوض رخام مضلّع وعليه أنبوب مركب في صدره ، وأنبوب آخر برسم الماء البارد ، والأنبوب الأول برسم الماء الفاتر ، وعن يمنة الحوض (١) ويساره عمدان صغار منحوتة من البلور يوضع عليها مباخر الندّ والعود ، وأبصرت منها خلوة شديدة الضياء مفرحة بديعة قد أنفق عليها أموال كثيرة ، وسألت الخادم عن تلك الحيطان المشرقة المضيئة : من أي شيء صنعت؟ فقال لي : ما أعلم.

قال الحاكي : فما رأيت في عمري ولا سمعت بمثل تلك الخلوة ، ولا بأحسن من ذلك الحمّام ، مع أني ما أحسن أن أصفهما كما رأيتهما ، فإنه لم تتكرّر رؤيتي لهما ، ولا اتّفق لي الظفر بصناعتهما ومباشرتهما ، وفي الذي ذكرت كفاية ، انتهى.

ولمّا اتّصل أبو القاسم علي بن أفلح البغدادي الكاتب بأمير المؤمنين المسترشد بالله العباسي ، ولقبه جمال الملك ، وأعطاه أربع ديار في درب الشاكرية اشترى دورا أخرى إلى جانبها ، وهدم الكلّ ، وأنشأ داره الكبيرة ، وأعانه الخليفة في بنائها ، وأطلق له أموالا وآلات البناء ، وكان في جملة ما أطلق له مائتا ألف آجرّة وأجريت الدار بالذهب ، وصنع فيها الحمّام العجيب الذي فيه بيت مستراح فيه أنبوب إن فركه الإنسان يمينا خرج ماء حار وإن فركه شمالا خرج ماء بارد ، وكان على إيوان الدار مكتوبا (٢) : [السريع]

إن عجب الراءون من ظاهري

فباطني لو علموا أعجب

شيّدني من كفّه مزنة

يهمل منها العارض الصّيّب (٣)

ودبّجت روضة أخلاقه

فيّ رياضا نورها مذهب

صدر كسا صدري من نوره

شمسا على الأيام لا تغرب

وكتب على الطرز : [مجزوء الكامل]

ومن المروءة للفتى

ما عاش دار فاخره

فاقنع من الدنيا بها

واعمل لدار الآخره

هاتيك وافية بما

وعدت ، وهذي ساخره

__________________

(١) في ب : «وعن يمين الحوض ويساره عمدان .. الخ». وفي ه : «وعن يمينه الحوض .. الخ» وليس بشيء.

(٢) في ه : «مكتوب».

(٣) المزنة : السحابة الممطرة. والعارض : السحاب المعترض الأفق.

١٥٨

وكتب على النادي : [المتقارب]

وناد كأنّ جنان الخلود

أعارته من حسنها رونقا

وأعطته من حادثات الزما

ن أن لا تلمّ به موثقا

فأضحى يتيه على كلّ ما

بنى مغربا كان أو مشرقا (١)

تظلّ الوفود به عكّفا

وتمسي الضّيوف به طرّقا

بقيت له يا جمال الملو

ك والفضل مهما أردت البقا

وسالمه فيك ريب الزمان

ووقّيت فيه الذي يتّقى

وعلى ذكر الحمّام فما أحكم قول ابن الوردي فيما أظنّ : [الطويل]

وما أشبه الحمّام بالموت لامرىء

تذكر! لكن أين من يتذكّر

يجرّد عن أهل ومال وملبس

ويصحبه من كلّ ذلك مئزر

وقال الشهاب بن فضل الله : [المتقارب]

وحمّامكم كعبة للوفود

تحجّ إليه حفاة عراه

يكرّر صوت أنابيبه

كتاب الطهارة باب المياه

وقد تمثّل بهذين البيتين البرهان القيراطي في جواب كتاب استدعاه فيه بعض أهل عصره إلى الحمّام ، وافتتح الجواب بقوله : [الخفيف]

قد أجبنا وأنت أيضا فصبّح

ت بصبحي سوالف وسلاف

وبساق يسبي العقول بساق

وقوام وفق العناق خلافي

ووصله بنثر تمثّل فيه بالبيتين كما مرّ.

ولبعضهم : [الخفيف]

إنّ حمّامنا الذي نحن فيه

أيّ ماء به وأيّة نار

قد نزلنا به على ابن معين

وروينا عنه صحيح البخاري

وألغز بعضهم في الحمّام بقوله : [الطويل]

ومنزل أقوام إذا ما تقابلوا

تشابه فيه وغده ورئيسه

__________________

(١) يتيه : يتكبّر.

١٥٩

ينفّس كربي إذ ينفّس كربه

ويعظم أنسي إذ يقلّ أنيسه (١)

إذا ما أعرت الجوّ طرفا تكاثرت

على من به أقماره وشموسه

رجع إلى ما كنّا فيه من كلام أهل الأندلس ، فنقول :

وكان محمد بن خلف بن موسى البيري متكلّما متحقّقا برأي الأشعرية ، وذاكرا لكتب الأصول في الاعتقاد (٢) ، مشاركا في الأدب ، مقدّما في الطب ، ومن نظمه يمدح إمام الحرمين رحمه الله تعالى : [الخفيف]

حبّ حبر يكنى أبا للمعالي

هو ديني ففيه لا تعذلوني (٣)

أنا والله مغرم بهواه

علّلوني بذكره علّلوني

وكتب أبو الوليد بن الجنان الشاطبي يستدعي بعض إخوانه إلى مجلس أنس بما صورته : نحن في مجلس أغصانه النّدامى ، وغمامه الصهباء ، فبالله إلّا ما كنت لروض مجلسنا نسيما ، ولزهر حديثنا شميما ، وللجسم روحا ، وللطيب ريحا ، وبيننا عذراء (٤) زجاجتها خدرها ، وحبابها ثغرها ، بل شقيقة حوتها كمامة ، أو شمس حجبتها غمامة ، إذا طاف بها معصم الساقي فوردة على غصنها ، أو شربها مقهقهة فحمامة على فننها ، طافت علينا طوفان القمر على منازل الحول ، فأنت وحياتك إكليلنا وقد آن حلولها في الإكليل ، انتهى.

وقال أبو الوليد المذكور : [مجزوء الكامل]

فوق خدّ الورد دمع

من عيون السّحب يذرف

برداء الشمس أضحى

بعدما سال يجفّف

وتذكّرت هنا بذكر الورد ما حكاه الشيخ أبو البركات هبة الله بن محمد النصيبي المعروف بالوكيل ، وكان شيخا ظريفا فيه آداب كثيرة ، إذ قال : كنت في زمن الربيع والورد في داري بنصيبين ، وقد أحضر من بستاني من الورد والياسمين شيء كثير ، وعملت على سبيل الولع دائرة من الورد تقابلها دائرة من الياسمين ، فاتّفق أن دخل عليّ شاعران كانا بنصيبين أحدهما يعرف بالمهذب والآخر يعرف بالحسن بن البرقعيدي ، فقلت لهما : اعملا في هاتين الدائرتين ، ففكّرا ساعة ثم قال المهذب : [مجزوء الكامل]

__________________

(١) نفّس كربه : فرّج عن همومه.

(٢) كذا في أ، ب ، ج. وفي ه «وذاكرا لكتب الأصول والاعتقادات».

(٣) الحبر ـ بفتح الحاء وسكون الباء : العالم ، وجمعه أحبار.

(٤) العذراء : هنا الخمر.

١٦٠