نفح الطّيب - ج ٤

الشيخ أحمد بن محمد المقري التلمساني

نفح الطّيب - ج ٤

المؤلف:

الشيخ أحمد بن محمد المقري التلمساني


المحقق: يوسف الشيخ محمّد البقاعي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٣٠

فاعمر له ربع ادّكا

رك في العشيّة والغداه

واكحل به طرف اعتبا

رك طول أيام الحياه

قبل ارتكاض النفس ما

بين الترائب واللهاه

فيقال هذا جعفر

رهن بما كسبت يداه

عصفت به ريح المنو

ن فصيّرته كما تراه

فضعوه في أكفانه

ودعوه يجني ما جناه

وتمتّعوا بمتاعه الم

حزون واحووا ما حواه

يا منظرا مستبشعا

بلغ الكتاب به مداه

لقّيت فيه بشارة

تشفي فؤادي من جواه

ولقيت بعدك خير من

نبّاه ربي واجتباه (١)

في دار خفض ما اشتهت

نفس المقيم بها أتاه

وقال في المطمح : إنه كهل الطريقة ، وفتى الحقيقة ، تدرّع الصيانة ، وبرع في الورع والديانة ، وتماسك عن الدنيا عفافا ، وما تماسك التماسا بأهلها والتفافا ، فاعتقل النّهى (٢) ، وتنقّل في مراتبها حتى استقرّ فيها في السّها (٣) ، وعطّل أيام الشباب ، ومطل فيها سعاد وزينب والرّباب ، إلّا ساعات وقفها على المدام ، وعطفها إلى النّدام ، حتى تخلّى عن ذلك واتّرك ، وأدرك من المعلومات ما أدرك ، وتعرّى من الشبهات ، وسرى إلى الرشد مستيقظا من تلك السّنات (٤) ، وله تصرّف في شتى الفنون ، وتقدّم في معرفة المفروض والمسنون ، وأمّا الأدب فلم يجاره في ميدانه أحد ، ولا استولى على إحسانه فيه حصر ولا حدّ ، وجدّه أبو الحجاج الأعلم هو خلّد منه ما خلّد ، ومنه تقلّد ما تقلّد ، وقد أثبتّ لأبي الفضل هذا ما يسقيك ماء الفضل زلالا ، ويريك سحر البيان حلالا ، فمن ذلك ما كتب به إليّ ، وقد مرت على شنت مرية بعد ما رحل عنها وانتقل ، واعتقل من نوانا (٥) وبيننا ما اعتقل ، وشنت مرية هذه داره ، وبها

__________________

(١) اجتباه : اختاره.

(٢) اعتقل النهى : أي لبس التعقل.

(٣) السها : كوكب خفي من بنات نعش الكرى.

(٤) السنات ـ بكسر السين ـ جمع سنة وهي النوم أو أوله خاصة.

(٥) في ه : «واعتقل من ثوانا».

٤٠١

كمل خلاله وإبداره ، وفيها استقضي ، وشيم مضاؤه وانتضي ، فالتقينا بها على ظهر ، وتعاطينا ذكر ذلك الدهر ، فجددت من شوقه ، ما كان قد شبّ على (١) طوقه ، فرامني على الإقامة ، وسامني على ذلك بكلّ كرامة ، فأبيت إلّا النوى ، وانثنيت عن الثّوى ، فودعني ، ودفع إليّ تلك القطعة حين شيّعني : [الكامل]

بشراي أطلعت السعود على

آفاق أنسي بدرها كملا

وكسا أديم الأرض منه سنا

فكست بسائطها به حللا

إيه أبا نصر ، وكم زمن

قصر ادكارك عندي الأملا

هل تذكرن والعهد يخجلني

هل تذكرن أيامنا الأولا

أيام نعثر في أعنّتنا

ونجرّ من أبرادنا خيلا

ونحلّ روض الأنس مؤتنقا

وتحلّ شمس مرادنا الحملا (٢)

ونرى ليالينا مساعفة

تدعو رفاقتنا لنا الجفلى (٣)

زمن نقول على تذكره

ما تمّ حتى قيل قد رحلا

عرضت لزورتكم وما عرضت

إلّا لتمحق كلّ ما فعلا

ووافيته عشية من العشايا أيام ائتلافنا ، وعودنا إلى مجلس الطلب واختلافنا ، فرأيته مستشرفا متطلّعا ، يرتاد موضعا يقيم به لثغور الأنس مرتشفا ولثديه مرتضعا ، فحين مقلني (٤) ، تقلّدني إليه واعتقلني ، وملنا إلى روضة قد سندس الربيع في بساطها ، ودبّج الزهر درانك أوساطها ، وأشعرت النفوس فيها بسرورها وانبساطها ، فأقمنا بها نتعاطى كؤوس أخبار ، ونتهادى أحاديث جهابذة وأحبار ، إلى أن نثر زعفران العشي ، وأذهب الأنس خوف العالم الوحشي ، فقمت وقام ، وعوّج الرعب من ألسنتنا ما كان استقام ، وقال : [الكامل]

وعشيّة كالسيف إلّا حدّه

بسط الربيع بها لنعلي خدّه

عاطيت كأس الأنس فيها واحدا

ما ضرّه إن كان جمعا وحده

__________________

(١) في ب : «شب عن طوقه».

(٢) الحمل : برج في السماء.

(٣) في ب ، ه : «تدعو إلى رفقنا الجفلى».

والجفلى : الدعوة العامة التي لا ينتقي صاحبها من يدعو.

(٤) مقلني : نظرني.

٤٠٢

وتنزّه يوما بحديقة من حدائق الحضرة قد اطّرد نهرها ، وتوقّد زهرها ، والريح يسقطه فينظم بلبّة الماء ، ويتبسّم به فتخاله كصفحة خضرة السماء ، فقال : [الكامل]

انظر إلى الأزهار كيف تطلّعت

بسماوة الروض المجود نجوما

وتساقطت فكأنّ مسترقا دنا

للسّمع فانقضّت عليه رجوما (١)

وإلى مسيل الماء قد رقمت به

صنع الرياح من الحباب رقوما

ترمي الرياح لها نثير أزاهر

فتمدّه في شاطئيه رقيما (٢)

وله يصف قلم يراعة ، وبرع في صفته أعظم براعة : [الكامل]

ومهفهف ذلق صليب المكسر

سبب لنيل المطلب المتعذّر

متألّق تنبيك صفرة لونه

بقديم صحبته لآل الأصفر

ما ضرّه أن كان كعب يراعة

وبحكمه اطّردت كعوب السّمهري (٣)

وله عندما شارف الكهولة ، واستأنف قطع صبوة (٤) كانت موصولة : [الكامل]

أمّا أنا فقد ارعويت عن الصّبا

وعضضت من ندم عليه بناني

فأطعت نصّاحي وربّ نصيحة

جاؤوا بها فلججت في العصيان

أيام أسحب من ذيول شبيبتي

مرحا وأعثر في فضول عناني

وأجلّ كأسي أن ترى موضوعة

فعلى يدي أو في يدي ندماني

أيام أحيا بالغواني والغنا

وأموت بين الراح والريحان

في فتية فرضوا اتّصال هواهم

فمناهم دنّ من الأدنان (٥)

هزّت علاهم أريحيّات الصّبا

فهي النسيم وهم غصون البان

من كلّ مخلوع الأعنّة لم يبل

في غيّه بمصارف الأزمان (٦)

إلى أن قال : ومن نثره يصف فرسا : انظر إليه سليم الأديم ، كريم القديم ، كأنما نشأ بين الغبراء واليحموم (٧) ، نجم إذا بدا ، ووهم إذا عدا ، يستقبل بغزال ، ويستدبر برال ، ويتحلّى

__________________

(١) رجوم : جمع رجم ، وهو اسم ما يرجم به.

(٢) في ب ، ه : «ترمي الرياح لها نثيرا زهره».

والرقيم : المرقوم.

(٣) السمهري : الرمح.

(٤) في ب ، ه : «واستأنف قطع صرة».

(٥) الدنّ : برميل الخمر وجمعها أدنان.

(٦) لم يبل : أي لم يبال ولم يهتم ، ولم يكترث.

(٧) في ج : «بين الغبراء والنجوم».

٤٠٣

بشيات (١) تقسيمات الجمال.

وله يصف سرجا : بزة جياد ، ومركب أجواد ، جميل الظاهر ، رحيب ما بين القادمة والآخر ، كأنما قدّ من الخدود أديمه ، واختصّ بإتقان الحبك تقويمه.

وله في وصف لجام : متناسب الأشلاء ، صريح الانتماء ، إلى ثريّا السماء ، فكلّه نكال ، وسائره جمال.

وله في وصف رمح : مطّرد الكعوب ، صحيح اتّصال الغالب والمغلوب ، أخ ينوب كلّما استنيب ويصيب.

وله في وصف قميص : كافوريّ الأديم ، بابليّ الرسوم ، تباشر منه الجسوم ، ما يباشر (٢) الروض من النسيم.

وله في وصف بغل : مترف النسب (٣) ، مستخبر الشرف ، آمن الكبب ، إن ركب امتنع اعتماله ، أو وكب (٤) استقلّ به أخواله.

وله في وصف حمار : وثيق المفاصل ، عتيق النهضة إذا ونت المراسل ، انتهى ببعض اختصار.

وقال الأديب الشاعر أبو عمر (٥) يوسف بن هارون الكندي ، المعروف بالرمادي : [الكامل]

أومى لتقبيل البساط خنوعا

فوضعت خدّي في التراب خضوعا (٦)

ما كان مذهبه الخنوع لعبده

إلّا زيادة قلبه تقطيعا

قولوا لمن أخذ الفؤاد مسلّما

يمنن عليّ بردّه مصدوعا

العبد قد يعصي ، وأحلف أنني

ما كنت إلّا سامعا ومطيعا

مولاي يحيى في حياة كاسمه

وأنا أموت صبابة وولوعا

لا تنكروا غيث الدموع فكلّ ما

ينحلّ من جسمي يكون دموعا

__________________

(١) في ه : «بشتات».

(٢) في ه : «على ما يباشر الروض من النسيم».

(٣) في ب : «مقرف النسب».

(٤) في ب ، ه : «أو ركب استقل الخ ..».

وركب : مشى.

(٥) في ج : «أبو عمرو».

(٦) أومى : أراد «أومأ».

٤٠٤

والرمادي المذكور عرّف به غير واحد ، منهم الحافظ أبو عبد الله الحميدي في كتابه «جذوة المقتبس» وقال (١) : أظن أن أحد آبائه كان من أهل الرمادة وهي موضع بالمغرب ، وهو قرطبي ، كثير الشعر ، سريع القول ، مشهور عند الخاصّة والعامة هنالك ، لسلوكه في فنون من المنظوم والمنثور مسالك ، حتى كان كثير من شيوخ الأدب في وقته يقولون : فتح الشعر بكندة ، وختم بكندة ، يعنون امرأ القيس والمتنبي ويوسف بن هارون ، على أنّ في كون المتنبي من كندة القبيلة كلاما مشهورا (٢).

وأخذ أبو عمر بن عبد البر عن الرمادي هذا قطعة من شعره ، وضمّنها بعض تأليفه.

قال ابن حيان : توفي الرمادي سنة ٤٠٣ (٣) ، وذكر ابن سعيد في «المغرب» أن الرمادي اكتسب صناعة الأدب من شيخه أبي بكر يحيى بن هذيل الكفيف عالم أدباء الأندلس ، وهو القائل رحمه الله تعالى : [الخفيف]

لا تلمني على الوقوف بدار

أهلها صيّروا السقام ضجيعي

جعلوا لي إلى هواهم سبيلا

ثم سدّوا عليّ باب الرجوع

وروى الرمادي عن أبي عليّ كتاب «النوادر» ومدح أبا علي بقصيدة كما أشرنا إليه في غير هذا الموضع.

وقال في المطمح (٤) : إنه شاعر مفلق ، انفرج له من الصناعة المغلق ، وومض له برقها المؤتلق. وسال بها طبعه كالماء المندفق ، فأجمع على تفضيله المختلف والمتّفق ، فتارة يحزن وأخرى يسهل ، وفي كلتاهما (٥) بالبديع يعلّ وينهل ، فاشتهر عند الخاصّة والعامّة بانطباعه في الفريقين ، وإبداعه في الطريقين ، وكان هو وأبو الطيب متعاصرين ، وعلى الصناعة متغايرين ، وكلاهما من كندة ، وما منها إلّا من اقتدح في الإحسان زنده ، وتمادى بأبي عمر (٦) ، طلق العمر ، حتى أفرده صاحبه ونديمه ، وهريق شبابه واستشن أديمه ، ففارق تلك الأيام وبهجتها ، وأدرك الفتنة فخاض لجّتها ، وأقام فرقا (٧) من هيجانها شرقا بأشجانها ، ولحقته فيها فاقة

__________________

(١) انظر الجذوة ص ٣٤٦.

(٢) وخلاصة ذلك أن المتنبي نسب إلى كندة ـ حي من أحياء الوكوفة ـ لا إلى قبيلة كندة.

(٣) في ه : «سنة ٤١٣».

(٤) انظر المطمح ص ٦٩.

(٥) في ب : «وفى كلتيهما».

(٦) في ج : «بأبي عمرو».

(٧) فرقا من هيجانها : خوفا من هيجانها.

٤٠٥

نهكته (١) ، وبعدت عنه الإفاقة حتى أهلكته ، وقد أثبتّ من محاسنه ما يعجبك سرده ، ولا يمكنك نقده ، فمن ذلك قوله : [البسيط]

شطّت نواهم بشمس في هوادجهم

لو لا تلألؤها في ليلهنّ عشوا (٢)

شكت محاسنها عيني وقد غدرت

لأنها بضمير القلب تنخمش (٣)

شعر ووجه تبارى في اختلافهما

بحسن هذا وذاك الروم والحبش

شككت في سقمي منها أفي فرشي

منها تنكست وإلّا الطيف والفرش (٤)

إلى أن قال : وكان كلفا بفتى نصراني استسهل لباس زنّاره ، والخلود معه في ناره وخلع بروده لمسوحه ، وتسوغ الأخذ عن مسيحه (٥) ، وراح في بيعته ، وغدا من شيعته ، ولم يشرب نصيبه ، حتى حطّ عليه صليبه ، فقال : [الوافر]

أدرها مثل ريقك ثم صلّب

كعادتهم على وهمي وكاسي (٦)

فيقضي ما أمرت به اجتلابا

لمسروري وزاد خضوع راسي

وله في مثله : [مجزوء الكامل]

ورأيت فوق النّحر در

عا فاقعا من زعفران

فزجرته لونا سقا

مي بالنوى والزّجر شاني

يا من نأى عنّي كما

تنأى العيون الفرقدان

فأرى بعيني الفرقدي

ن ولا أراه ولا يراني

لا قدّرت لك أوبة

حتى يؤوب القارظان (٧)

هل ثم إلّا الموت فر

دا لا تكون منيّتان

وله أيضا : [الخفيف]

__________________

(١) الفاقة : الفقر والحاجة.

(٢) شطت : بعدت. وعشوا : أصيبوا بالعشي ، وهو ضعف في البصر لا يرى المصاب به ليلا.

(٣) في ب : «تنجمش».

(٤) في ب : «منها نكست».

(٥) في أ : «وتشرع في صبيحه».

(٦) في ه : «كعادتهم على وجهي وكاسي».

(٧) الأوبة : الرجوع.

٤٠٦

اشرب الكاس يا نصير وهات

إنّ هذا النهار من حسناتي

بأبي غرّة ترى الشخص فيها

في صفاء أصفى من المرآة

تنزح الناس نحوها بازدحام

كازدحام الحجيج في عرفات (١)

هاتها يا نصير إنّا اجتمعنا

بقلوب في الدين مختلفات

إنما نحن في مجالس لهو

نشرب الراح ثم أنت مواتي

فإذا ما انقضت ديانة ذا الله

واعتمدنا مواضع الصلوات

لو مضى الدهر دون راح وقصف

لعددنا هذا من السيئات

وشاعت عنه أشعار في دولة الخلافة وأهلها ، سدّد إليهم صائبات نبلها ، وسقاهم كؤوس نهلها ، أوغرت عليه الصّدور ، ونعرت (٢) عليه المنايا ولكن لم يساعدها المقدور ، فسجنه الخليفة دهرا ، وأسكنه من النكبة وعرا ، فاستعطفه أثناء ذلك واستلطفه ، وأجناه كل زهر من الإحسان وأقطفه ، فما أصغى إليه ، ولا ألغى موجدته عليه (٣) ، وله في السجن أشعار صرّح فيها ببثّه ، وأفصح فيها عن جلّ الخطب لفقد صبره ونكثه ، فمن ذلك قوله : [الطويل]

لك الأمن من شجو يزيد تشوقي

ومنها :

فوافوا بنا الزهراء في حال خالع ال

أئمّة لاستيفائهم في التوثّق

وحولي من أهل التأدّب مأتم

ولا جؤذر إلّا بثوب مشقّق

فلو أنّ في عيني الحمام كروضها

وإن كان في ألوانه غير مشفق

ونادى حمامي مهجتي لتقلقلت

فهلّا أجابت وهو عندي بمحنق (٤)

أعينيّ إن كانت لدمعك فضلة

تثبّت صبري ساعة فتدفّقي (٥)

فلو ساعدت قالت أمن قلّة الأسى

تنقت دموعي أم من البحر تستقي (٦)

__________________

(١) في ب : «تنزع الناس نحوها».

(٢) في ب : «ونفرت عليه». وفي ه : «وتعرت عليه».

ونعرت عليه المنايا : صاحت وصوّتت.

(٣) الموجدة : الغضب.

(٤) في ب ، ه : «وهو عندي لمحنق».

(٥) في ب ، ه : «إن كانت لدمعي فضلة».

(٦) في ب ، ه : «أمن عدة الأسى».

٤٠٧

ومنها :

وقالت تظنّ الدهر يجمع بيننا

فقلت لها من لي بظنّ محقّق

ولكنني فيما زجرت بمقلتي

زجرت اجتماع الشمل بعد التفرّق

فقد كانت الأشفار في مثل بعدنا

فلمّا التقت بالطيف قالت سنلتقي

أباكية يوما ولم يأت وقته

سينفد قبل اليوم دمعك فارفقي (١)

إلى أن قال : وله أيضا : [الطويل]

على كمدي تهمي السحاب وتذرف

ومن جزعي تبكي الحمام وتهتف (٢)

كأنّ السحاب الواكفات غواسلي

وتلك على فقدي نوائح هتّف

ألا ظعنت ليلى وبان قطينها

ولكنني باق فلوموا وعنّفوا

وآنست في وجه الصباح لبينها

نحولا كأنّ الصبح مثلي مدنف (٣)

وأقرب عهد رشفة بلّت الحشا

فعاد شتاء باردا وهو صيّف

وكانت على خوف فولّت كأنها

من الرّدف في قيد الخلاخل ترسف

وله : [السريع]

قبّلته قدّام قسّيسه

شربت كاسات بتقديسه

يقرع قلبي عند ذكري له

من فرط شوقي قرع ناقوسه

وسجن معه غلام من أولاد العبيديّ (٤) فيه مجال ، وفي نفس متأمّله من لوعته أوجال ، فكتب يخاطب الموكل بالسجن بقطعة منها : [الطويل]

حبيسك ممّن أتلف الحبّ عقله

ويلذع قلبي حرقة دونها الجمر (٥)

هلال وفي غير السماء طلوعه

وريم ولكن ليس مسكنه القفر

تأمّلت عينيه فخامرني السكر

ولا شكّ في أنّ العيون هي الخمر

أناطقه كيما يقول ، وإنما

أناطقه عمدا لينتثر الدّرّ

أنا عبده وهو المليك كما اسمه

فلي منه شطر كامل وله شطر

انتهى باختصار.

__________________

(١) في ه : «ولم يأن وقته».

(٢) في ب ، ه : «على كبري».

(٣) المدنف : الذي أضناه المرض.

(٤) في ب ، ه : «من أولاد العبيد».

(٥) في ب ، ه : «جليسك من أتلف الحب قلبه».

٤٠٨

وقال محمد بن هانىء (١) : [الخفيف]

قد مررنا على مغانيك تلك

فرأينا بها مشابه منك

عارضتنا المها الخرائد سربا

عند أجراعها فلم نسل عنك (٢)

لا يرع للمها بذكرك سرب

أشبهتك في الوصف إن لم تكنك

كن عذيري لقد رأيت معاجي

يوم تبكي بالجزع ولهى وأبكي

بحنين مرجّع وتشكّ

وأنين موجع كتشكّي

وقال صاحب المطمح في حقّه : الأديب أبو القاسم محمد بن هانىء ، ذخر خطير ، وروض أدب مطير ، غاص في طلب الغريب حتى أخرج درّه المكنون ، وبهرج بافتنانه فيه كلّ الفنون ، وله نظم تتمنّى الثريا أن تتوّج به وتتقلّد ، ويودّ البدر أن يكتب ما اخترع فيه وولّد ، زهت به الأندلس وتاهت ، وحاسنت ببدائعه الأشمس (٣) وباهت ، فحسد المغرب فيه المشرق ، وغصّ به من بالعراق وشرق ، غير أنه نبت به أكنافها ، وشمخت عليه آنافها ، وبرئت منه ، وزويت الخيرات (٤) فيها عنه ، لأنه سلك مسلك المعرّي ، وتجرّد من التدين وعري ، وأبدى الغلوّ ، وتعدّى الحقّ المجلوّ ، فمجّته الأنفس ، وأزعجته الأندلس ، فخرج على غير اختيار ، وما عرّج على هذه الديار ، إلى أن وصل الزاب واتّصل بجعفر بن الأندلسية ، مأوى تلك الجنسية ، فناهيك من سعد ورد عليه فكرع ، ومن باب ولج فيه وما قرع ، فاسترجع عنده شبابه ، وانتجع وبله وربابه ، وتلقّاه بتأهيل ورحب ، وسقاه صوب تلك السّحب ، فأفرط في مدحه فيه في الغلوّ وزاد ، وفرّغ (٥) عنده تلك المزاد ، ولم يتورّع ، ولا ثناه ذو ورع ، وله بدائع يتحيّر فيها ويحار ، ويخال لرقّتها أنها أسحار ، فإنه اعتمد التهذيب والتحرير ، واتّبع في أغراضه الفرزدق مع جرير ، وأما تشبيهاته فخرق فيها المعتاد ، وما شاء منها اقتاد ، وقد أثبتّ له ما تحنّ له الأسماع ، ولا تتمكّن منه الأطماع ، فمن ذلك قوله : [الطويل]

__________________

(١) انظر المطمح ص ٧٤ ـ ٧٧

(٢) في ب : «المها الخواذل» وفي ج : «المها الجوادل».

والخرائد : جمع خريدة وهي البكر التي لم تمسس ، أو الخفرة الطويلة السكوت ، الخافضة الصوت ، والأجراع جمع جرعة ، وهي الرملة الطيبة المنبت لا وعوث فيها ، أو الأرض ذات الحزونة تشاكل الرمل.

(٣) في ه : «الشموس».

(٤) في ه : «وزويت الخطوة فيها عنه».

(٥) في ج : «وقرع عنده تلك المزاد» تصحيف.

والمزاد : جمع مزادة وهي الراوية.

٤٠٩

أليلتنا إذ أرسلت واردا وحفا

وبتنا نرى الجوزاء في أذنها شنفا

وبات لنا ساق يقوم على الدّجى

بشمعة صبح لا تقطّ ولا تطفا

أغنّ غضيض خفّف اللّين قدّه

وثقّلت الصهباء أجفانه الوطفا

ولم يبق إرعاش المدام له يدا

ولم يبق إعنات التثنّي له عطفا

نزيف نضاه السكر إلّا ارتجاجة

إذا كلّ عنها الخصر حمّلها الرّدفا

يقولون حقف فوقه خيزرانة

أما يعرفون الخيزرانة والحقفا (١)

جعلنا حشايانا ثياب مدامنا

وقدّت لنا الأزهار من جلدها لحفا (٢)

فمن كبد توحي إلى كبد هوى

ومن شفة تؤوي إلى شفة رشفا (٣)

ومنها :

كأنّ السّماكين اللّذين تراهما

على لبدتيه ضامنان له حتفا

فذا رامح يهوي إليه سنانه

وذا أعزل قد عضّ أنمله لهفا (٤)

كأنّ سهيلا في مطالع أفقه

مفارق إلف لم يجد بعده إلفا

كأنّ بني نعش ونعشا مطافل

بوجرة قد أضللن في مهمه خشفا (٥)

كأنّ سهاها عاشق بين عوّد

فآونة يبدو وآونة يخفى

كأنّ قدامى النّسر والنّسر واقع

قصصن فلم تسم الخوافي له ضعفا (٦)

كأنّ أخاه حين حوّم طائر

أتى دون نصف البدر فاختطف النصفا

كأنّ ظلام الليل إذ مال ميلة

صريع مدام بات يشربها صرفا

كأنّ عمود الصبح خاقان معشر

من الترك نادى بالنجاشيّ فاستخفى (٧)

__________________

(١) الحقف : المعوج من الرمل.

(٢) في ه : «وقدت لنا الظلماء».

(٣) في ب : «تومي إلى شفة رشعا».

(٤) الرامح : المتسلح بالرمح. والأعزل : الخالي من السلاح.

(٥) مطافل : جمع مطفل ، وهي ذات الطفل من الإنس والوحش : والمهمه : الصحراء الواسعة التي لا ماء فيها.

والخشف ـ بكسر الجيم وسكون الجيم ـ ولد الظبي أول مشيه.

(٦) في ه : «نهض فلم تسم الخوافي له ضعفا» وفي الديوان «به ضعفا».

(٧) في ه : «خاقان عسكر».

٤١٠

كأن لواء الشمس غرة جعفر

رأى القرن فازدادت طلاقته ضعفا

وله أيضا : [الكامل]

فتقت لكم ريح الجلاد بعنبر

وأمدّكم فلق الصباح المسفر (١)

وجنيتم ثمر الوقائع يانعا

بالنصر من ورق الحديد الأخضر (٢)

أبني العوالي السمهريّة والسيو

ف المشرفيّة والعديد الأكثر

من منكم الملك المطاع كأنه

تحت السوابغ تبّع في حمير (٣)

جيش تعدّ له الليوث وفوقها

كالغيل من قصب الوشيج الأخضر (٤)

وكأنما سلب القشاعم ريشها

ممّا يشقّ من العجاج الأكدر (٥)

لحق القبول مع الدّبور وسار في

جمع الهرقل وعزمة الإسكندر

في فتية صدأ الحديد لباسهم

في عبقريّ البيض جنّة عبقر

وكفاه من حبّ السماحة أنه

منها بموضع مقلة من محجر

ومنها :

نعماؤه من رحمة ، ولباسه

من جنّة ، وعطاؤه من كوثر (٦)

وله أيضا من قصيدة في جعفر بن علي : [الطويل]

ألا أيها الوادي المقدّس بالندى

وأهل الندى قلبي إليك مشوق (٧)

ويا أيها القصر المنيف قبابه

على الزاب لا يسدد إليك طريق

ويا ملك الزاب الرفيع عماده

بقيت لجمع المجد وهو فريق

فما أنس لا أنس الأمير إذا غدا

يروع بحور ملكه ويروق (٨)

__________________

(١) فتقت : أراد خلطت ومزجت.

(٢) في ب : «من علق الحديد الأحمر». وفي ج «من علو الحديد الأحمر». وقد أثبتنا ما في أ، والمطمح.

(٣) السوابغ : الدروع.

(٤) الغيل : الشجر الملتف. والوشيج : عرق الشجر.

(٥) القشاعم : النسور. والعجاج : الغبار.

(٦) الجنة : الدرع.

(٧) في الديوان «المقدس بالطوى».

(٨) في ب : «تروع بحورا فلكه وتروق».

٤١١

فللجود مجرى من صفيحة وجهه

إذا كان من ذاك الجبين شروق (١)

وهزّته للمجد حتى كأنما

جرت في سجاياه العذاب رحيق

أما وأبي تلك الشمائل إنها

دليل على أنّ النّجار عتيق (٢)

فكيف بصبر النفس عنه ودونه

من الأرض مغبّرّ الفجاج عميق (٣)

فكن كيف شاء الناس أو شئت دائما

فليس لهذا الملك غيرك فوق

ولا تشكر الدنيا على نيل رتبة

فما نلتها إلّا وأنت حقيق

وله من أخرى : [الطويل]

خليليّ ، أين الزاب مني وجعفر

وجنّات عدن بنت عنها وكوثر

فقبلي نأى عن جنّة الخلد آدم

فلما راقه من جانب الأرض منظر

لقد سرّني أني أمرّ بباله

فيخبرني عنه بذلك مخبر (٤)

وقد ساءني أني أراه ببلدة

بها منسك منه عظيم ومشعر

وقد كان لي منه شفيع مشفّع

به يمحص الله الذنوب ويغفر

أتى الناس أفواجا إليك كأنما

من الزاب بيت أو من الزاب محشر

فأنت لمن قد مزّق الله شمله

ومعشره والأهل أهل ومعشر

وله أيضا : [الطويل]

ألا طرقتنا والنجوم ركود

وفي الحيّ أيقاظ ونحن هجود (٥)

وقد أعجل الفجر الملمّع خطوها

وفي أخريات الليل منه عمود

سرت عاطلا غضبى على الدّرّ وحده

ولم يدر نحر ما دهاه وجيد (٦)

فما برحت إلّا ومن سلك أدمعي

قلائد في لبّاتها وعقود

ويا حسنها في يوم نضّت سوالفا

تروغ إلى أترابها وتحيد (٧)

ألم يأتها أنّا كبرنا عن الصّبا

وأنا بلينا والزمان جديد

ولا كالليالي ما لهنّ مواثق

ولا كالغواني ما لهنّ عهود

__________________

(١) في ب : «ولا الجود يجري من صفحة وجهه».

(٢) النجار : الأصل.

(٣) في ب : «من الأرض مغتر الفجاج».

(٤) في ج : «فيخبره عني بذلك مخبر».

(٥) في ب ، ه : «وهنّ هجود» وهجود : نائمون.

(٦) في ج «على الدهر وحده».

(٧) في ب «تريع إلى أترابها».

٤١٢

ولا كالمعزّ ابن النبيّ خليفة

له الله بالفخر المبين شهيد

وله من قصيدة يمدح بها يحيى بن علي بن رمان : [الطويل]

قفا بي فلا مسرى سرينا ولا نسري

وإلّا نرى مشي القطا الوارد الكدر (١)

قفا نتبيّن أين ذا البرق منهم

ومن أين تأتي الريح طيبة النّشر

لعلّ ثرى الوادي الذي كنت مرّة

أزورهم فيه تضوّع للسّفر

وإلّا فما واد يسيل بعنبر

وإلّا فما تدري الركاب ولا ندري

أكلّ كناس بالصريم تظنّه

كناس الظباء الدّعج والشّدن العفر (٢)

وهل عجبوا أني أسائل عنهم

وهم بين أحناء الجوانح والصّدر

وهل علموا أني أيمّم أرضهم

ومالي بها غير التعسّف من خبر

ولي سكن تأتي الحوادث دونه

فيبعد عن عيني ويقرب من فكري

إذا ذكرته النفس جاشت بذكره

كما عثر الساقي بجام من الخمر

فلا تسألاني عن زماني الذي خلا

فوالعصر إني قبل يحيى لفي خسر

وآليت لا أعطي الزمان مقادتي

على مثل يحيى ثم أغضي على الوتر

حنيني إليه ظاعنا ومخيّما

وليس حنين الطير إلّا إلى الوكر (٣)

وله من قصيدة : [الكامل]

فتكات طرفك أم سيوف أبيك

وكؤوس خمرك أم مراشف فيك

أجلاد مرهفة وفتك محاجر

لا أنت راحمة ولا أهلوك

يا بنت ذي السيف الطويل نجاده

أكذا يجوز الحكم في ناديك

عيناك أم مغناك موعدنا ، وفي

وادي الكرى ألقاك أم واديك (٤)

__________________

(١) ورد هذا البيت في ه ، والديوان هكذا :

قفا فلأمر ما سرينا وما نسري

وإلا فمشيا فوق مشي القطا الكدري

(٢) الكناس : مسكن الظباء. والدعج : جمع أدعج وهو ذو العين الواسعة الشديدة السواد. والشدن : جمع شادن ، وهو ولد الغزال.

والعفر : جمع أعفر ، وهو الغزال الذي تعلو بياضه حمرة.

(٣) ظاعنا : مرتحلا.

(٤) في ج : «عيناي أم مغناك موعدنا على وادي الكرى ..».

٤١٣

وله أيضا : [الكامل]

أحبب بهاتيك القباب قبابا

لا بالحداة ولا الركاب ركابا

فيها قلوب العاشقين تخالها

عنما بأيدي البيض أو عنّابا (١)

والله لو لا أن يعنّفني الهوى

ويقول بعض العاذلين تصابى (٢)

لكسرت دملجها بضيق عناقها

ورشفت من فيها البرود رضابا (٣)

بنتم فلو لا أن أغيّر لمّتي

عبثا وألقاكم عليّ غضابا

لخضبت شيبا في مفارق لمتي

ومحوت محو النّقس عنه شبابا (٤)

وخضبت مبيضّ الحداد عليكم

لو أنني أجد البياض خضابا

وإذا أردت على المشيب وفادة

فاحثث مطيّك دونه الأحقابا

فلتأخذنّ من الزمان حمامة

ولتدفعنّ إلى الزمان غرابا (٥)

ومنها :

قد طيّب الأقطار طيب ثنائه

من أجل ذا نجد الثغور عذابا

لم تدنني أرض إليك وإنما

جئت السماء ففتحت أبوابا

ورأيت حولي وفد كلّ قبيلة

حتّى توهّمت العراق الزبا

أرض وطئت الدّرّ من رضراضها

والمسك تربا والرياض جنابا (٦)

ورأيت أجبل أرضها منقادة

فحسبتها مدّت إليك رقابا

سدّ الإمام بك الثغور وقبله

هزم النبيّ بقومك الأحزابا (٧)

وقال ابن هانىء يصف الأسطول : [الطويل]

معطّفة الأعناق نحو متونها

كما نبّهت أيدي الحواة الأفاعيا (٨)

__________________

(١) العنم : شجرة صغيرة دائمة الخضرة لها ثمر أحمر يتخذ للصباغ.

(٢) في ه : «يسفهني الهوى». وتصابى : مال إلى الصبا والجهل.

(٣) الدملج : سوار يحيط بالعضد.

(٤) في ه «لخططت شيبا في عذاري كاذبا والنقس : الحبر.

(٥) في ب : «ولتبعثنّ إلى الزمان».

(٦) في ه ، والديوان : «وطئت الدر رضراضا بها».

(٧) في ب ، ه : «سد الإمام بها الثغور وقبلها».

(٨) الحواة : جمع حاوي ، وهو الذي يجمع الحيات.

٤١٤

إذا ما وردن الماء شوقا لبرده

صدرن ولم يشربن غرفا صواديا

إذا أعملوا فيها المجاذيف سرعة

ترى عقربا منها على الماء ماشيا

وقال الأديب أبو عمر أحمد بن فرج الجيّاني رحمه الله تعالى (١) : [الوافر]

وطائعة الوصال عدوت عنها

وما الشيطان فيها بالمطاع

بدت في الليل ساترة ظلام ال

دّياجي منه سافرة القناع (٢)

وما من لحظة إلّا وفيها

إلى فتن القلوب لها دواعي

فملّكت النّهى جمحات شوقي

لأجري بالعفاف على طباعي (٣)

وبتّ بها مبيت الطفل يظما

فيمنعه الفطام عن الرّضاع

كذاك الروض ليس به لمثلي

سوى نظر وشمّ من متاع

ولست من السوائم مهملات

فأتّخذ الرياض من المراعي

وقال : [مخلع البسيط]

للروض حسن فقف عليه

واصرف عنان الهوى إليه

أما ترى نرجسا نضيرا

يرنو إليه بمقلتيه

نشر حبيبي على رباه

وصفرتي فوق وجنتيه

وقال : [الطويل]

بمهلكة يستهلك الحمد عفوها

ويترك شمل العزم وهو مبدّد

ترى عاصف الأرواح فيها كأنها

من الأين تمشي ظالع أو مقيّد (٤)

وقال في المطمح : محرز الخصل ، مبرّز في كل معنى وفصل ، متميز بالإحسان ، منتم إلى فئة البيان ، ذكي الخلد مع قوة العارضة ، والمنّة الناهضة ، حضر مجلس بعض القضاة وكان مشتهر (٥) الضّبط ، منتصرا (٦) لمن انبسط فيه بعض البسط ، حتى إنّ أهله لا يتكلّمون فيه إلّا

__________________

(١) انظر المطمح ص ٨٠.

(٢) في ه : «ساترة ظلام الليالي وهي سافرة القناع». وفي المطمح «ساترة دياجي ظلام الليل».

(٣) في أ : «فملكت النهى حجاج شوقي».

(٤) الأرواح : جمع ريح ، والأين : الإعياء.

والظالع : الذي يميل في مشيته ، الأعرج.

(٥) في ه : «مشهور الضبط».

(٦) في ب : «منتهرا لمن انبسط» وفي ج : «مشهرا لمن نبسط».

٤١٥

رمزا ، ولا يخاطبون إلّا إيماء فلا تسمع لهم ركزا ، فكلّم فيه خصما له كلاما استطال به عليه لفضل بيانه ، وطلاقة لسانه ، ففارق عادة المجلس في رفض الأنفه ، وخفض الحجّة المؤتنفة ، وهزّ عطفه وحسر عن ساعده ، وأشار بيده ، مادا بها لوجه خصمه ، خارجا عن حدّ المجلس ورسمه ، فهمّ الأعوان بتقويمه وتثقيفه ، ووزعهم رهبة منه وخشية ، حتى تناوله القاضي بنفسه ، وقال له : مهلا ، عافاك الله ، اخفض صوتك ، واقبض يدك ، ولا تفارق مركزك ، ولا تعد حقّك ، وأقصر عن إدلالك ، فقال له : مهلا يا قاضي ، أمن المخدّرات أنا فأخفض صوتي وأستر يدي (١) ، وأغطي معاصمي لديك؟ أم من الأنبياء أنت فلا يجهر بالقول عندك؟ وذلك لم يجعله الله تعالى إلّا لرسوله عليه الصلاة والسلام ، لقول الله تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِ) [سورة الحجرات ، الآية : ٢] ـ إلى قوله : (تَشْعُرُونَ) [سورة الحجرات ، الآية : ٢] ولست به ولا كرامة ، وقد ذكر الله تعالى أنّ النفوس تجادل في القيامة في موقف الهول الذي لا يعدله مقام ، ولا يشبه انتقامه انتقام ، فقال تعالى (يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها) [ورة النحل ، الآية : ١١١] ـ إلى قوله تعالى : (وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) [سورة النحل ، الآية: ١١١] لقد تعديت طورك ، وعلوت في منزلك ، وإنما البيان ، بعبارة اللسان ، وبالنطق يستبين الحقّ من الباطل ، ولا بدّ في الخصام ، من إفصاح الكلام. وقام وانصرف. فبهت القاضي ، ولم يحر جوابا ، وكان في الدولة صدرا من أعيانها ، وناسق درر تبيانها ، نفق (٢) في سوقها وصنّف ، وقرّط محاسنها وشنّف ، وله الكتاب الرائق ، المسمّى بالحدائق ، وأدركه في الدولة سعي ، ورفض له فيها الرّعي ، واعتقله الخليفة وأوثقه في مكان أخيه فلم يومض له عفو ، ولم يشبّ كدر حاله صفو ، حتى قضى معتقلا ، ونعي للنائبات نعيا مثكلا ، وله في السجن أشعار كثيرة ، وأقوال مبدعات منيرة ، فمن ذلك ما أنشده ابن حزم يصف خيالا طرقه ، بعد ما أسهره الوجد وأرّقه : [الوافر]

بأيّهما أنا في الشّكر بادي

بشكر الطّيف أم شكر الرقاد (٣)

سرى وازداد في أملي ولكن

عففت فلم أجد منه مرادي

وما في النوم من حرج ولكن

جريت من العفاف على اعتيادي

وقال الشاعر المشهور أبو عبد الله محمد بن الحدّاد (٤) : [البسيط]

يا غائبا ، خطرات القلب محضره

الصّبر بعدك شيء لست أقدره

__________________

(١) في ه : «ولا أشير بيدي».

(٢) في ب : «ونفق في سوقها».

(٣) في ه : «بأيهما أنا في الشكر نادي» والرقاد : النوم.

(٤) انظر المطمح ص ٨٠ ـ ٨٣.

٤١٦

تركت قلبي وأشواقي تفطّره

ودمع عيني وأحداقي تحدّره

لو كنت تبصر في تدمير حالتنا

إذن لأشفقت مما كنت تبصره

فالعين دونك لا تحلى بلذّتها

والدّهر بعدك لا يصفو تكدّره

أخفي اشتياقي وما أطويه من أسف

عن البرية والأنفاس تظهره

قال في المطمح : هو شاعر مادح ، وعلى أيك الندى صادح ، لم ينطقه إلّا معن أو صمادح ، فلم يرم مثواهما (١) ، ولم ينتجع سواهما ، واقتصر على المرية ، واختصر قطع المهامه وخوض البرّيّة (٢) ، فعكف فيها ينثر درره في ذلك المنتدى ، ويرشف أبدا ثغور ذلك النّدى ، مع تميّزه بالعلم ، وتحيّزه إلى فئة الوقار والحلم ، وانتمائه إلى آية سلف ، ومذهبه مذاهب أهل الشّرف ، وكان له لسن ورواء (٣) يشهدان له بالنباهة ، ويقلّدان كاهله ما شاء من الوجاهة ، وقد أثبتّ له بعض ما قذفه من درره ، وفاه به من محاسن غرره ؛ فمن ذلك قوله : [الطويل]

إلى الموت رجعى بعد حين فإن أمت

فقد خلّدت خلد الزمان مناقبي

وذكراي في الآفاق طيبا كأنها

بكلّ لسان طيب عذراء كاعب (٤)

ففي أيّ علم لم تبرّز سوابقي

وفي أيّ فنّ لم تبرّز كتائبي

وحضر مجلس المعتصم بحضور ابن اللبّانة فأنشد فيه قصيدا أبرز به من عرا الإحسان ما لم ينفصم واستمرّ فيها يكمل (٥) بدائعها وقوافيها ، فإذا هو قد أغار على قصيد ابن الحداد الذي أوّله : [الكامل]

عج بالحمى حيث الظّباء العين (٦)

فقال ابن الحداد مرتجلا : [الكامل]

حاشا لعدلك يا ابن معن أن يرى

في سلك غيري درّي المكنون

وإليكها تشكو استلاب مطيّها :

عج بالحمى حيث الظّباء العين

__________________

(١) رام المكان يريمه : أقام به وثبت.

(٢) المهامه : جمع مهمه ، وهي الصحراء الواسعة التي لا ماء فيها. والبرية : الصحراء.

(٣) الرواء : حسن المنظر.

(٤) في ب ، ه : «وذكري في الآفاق طار كأنه».

والكاعب : الفتاة كعب ثدياها.

(٥) في ب ، ه : «يستكمل بدائعها».

(٦) في المطمح «حيث الخماص العين».

٤١٧

فاحكم لها واقطع لسانا لا يدا

فلسان من سرق القريض يمين

وله : [مجزوء الكامل]

إنّ المدامع والزّفير

قد أعلنا ما في الضّمير

فعلام أخفي ظاهرا

سقمي عليّ به ظهير

هب لي الرّضا من ساخط

قلبي بساحته الأسير (١)

وله أيضا : [مجزوء الرمل]

أيّها الواصل هجري

أنا في هجران صبري

ليت شعري أيّ نفع

لك في إدمان ضرّي

وله أيضا : [البسيط]

يا مشبه الملك الجعديّ تسمية

ومخجل القمر البدريّ أنوارا

وله : [الطويل]

تطالبني نفسي بما فيه صونها

فأعصي ، ويسطو شوقها فأطيعها

ووالله ما يخفى عليّ ضلالها

ولكنها تهوى فلا أستطيعها (٢)

وقال : [الطويل]

بخافقة القرطين قلبك خافق

وعن خرس القلبين دمعك ناطق

وفي مشرق الصّدغين للبدر مغرب

وللفكر إظلام وللعين شارق (٣)

وبين حصا الياقوت ماء وسامة

محلّأة عنه الظّباء السوابق (٤)

وحشو قباب الرّقم أحوى مقرطق

كما آس روض عطفه والقراطق

انتهى باختصار.

وقال الأسعد بن بليطة : [الطويل]

__________________

(١) في ه : «قلبي براحته الأسير».

(٢) في ه : «ولكنها تأبى فلا أستطيعها».

(٣) في ب : «وللفكر حالات ..». وفي ه «وللفكر حالات وللعين سارق».

(٤) الوسامة : الحسن والجمال. وفي ب : «محلأة» بالحاء المهملة ..

٤١٨

برامة ريم زارني بعدما شطّا

تقنّصته بالحلم في الشّطّ فاشتطّا

رعى من أفانين الهوى ثمر الحشا

جنيا ولم يرع العهود ولا الشرطا

خيال لمرقوم غرير برامة

تأوبني بالرقمتين لدى الأرطى (١)

فألثمني من خدّها روضة الجنى

وألذعني من صدغها حية رقطا (٢)

وباتت ذراعاها نجادا لعاتقي

إذا التقتا بالحلي غنى لها لغطا (٣)

وسلّ اهتصاري غصنها من مخصّر

طواه الضنى طيّ الطوامير فامتطّا

وقد غاب كحل الليل في دمع فجره

إلى أن تبدّى الصبح في اللّمّة الشمطا

ومنها في وصف الديك :

وقام لها ينعى الدجى ذو شقيقة

يدير لنا من عين أجفانه سقطا (٤)

إذا صاح أصخى سمعه لأذانه

وبادر ضربا من قوادمه الإبطا (٥)

كأنّ أنوشروان أعلاه تاجه

وناطت عليه كفّ مارية القرطا

سبى حلّة الطاووس حسن لباسها

ولم يكفه حتى سبى المشية البطّا

ومن غزلها :

غلاميّة جاءت وقد جعل الدجى

لخاتم فيها فصّ غالية خطّا

فقلت أحاجيها بما في جفونها

وما في الشفاه اللّعس من حسنها المعطى (٦)

مخمرة العينين من غير سكرة

متى شربت ألحاظ عينيك إسفنطا (٧)

أرى نكهة المسواك في حمرة اللّمى

وشاربك المخضرّ بالمسك قد خطّا

عسى قزح قبّلته فإخاله

على الشفة اللمياء قد جاء مختطّا

وقال في المطمح في تحلية الأسعد : إنه سرد البدائع أحسن السّرد ، وافترس المعاني كالأسد الورد (٨) وأبرز درر المحاسن من صدفها ، وحاز من فخر الإجادة وشرفها (٩) ، ومدح ملوكا طوّقهم من مدائحه قلائد ، وزفّ إليهم منها خرائد ، وجلاها عليهم كواعب ، بالألباب

__________________

(١) الأرطى شجر له ثمر كالعناب.

(٢) في ب ، ج : «فأكسبني من خدها».

(٣) في ب : «إذا التقاها الحلي غنى لها الغطا».

(٤) السّقط من كل شيء : جانبه.

(٥) في ب : «إذا صاح أصغى».

(٦) اللعس : سواد مستحسن في باطن الشفة.

(٧) في ب ، ه : «محيرة العينين من غيره سكرة».

والإسفنط : الخمر.

(٨) الورد : الأسد الشجاع.

(٩) في ب ، ه : «وحاز من بحر الإجادة وشرفها».

٤١٩

لواعب ، فأسالت العوارف ، وما تقلّص له من الحظوة ظلّ وارف ، وقد أثبتّ له ما يعترف بحقّه ، ويعرف به مقدار سبقه ، فمن ذلك قوله : [الكامل]

لو كنت شاهدنا عشية أمسنا

والمزن يبكينا بعيني مذنب

والشمس قد مدّت أديم شعاعها

في الأرض تجنح غير أن لم تغرب

وقوله : [الكامل]

وتلذّ تعذيبي كأنّك خلتني

عودا فليس يطيب ما لم يحرق

وهو مأخوذ من قول ابن زيدون : [الطويل]

تظنوني كالعود حقّا وإنما

تطيب لكم أنفاسه حين يحرق

انتهى ببعض اختصار (١).

وقال الأديب أبو بكر عبادة بن ماء السماء ، وهو كما في المطمح : من فحول الشعراء ، وأئمتهم الكبراء ، وكان منتجعا بشعره ، مسترجعا من صرف (٢) دهره ، وكانت له همّة أطالت همّه ، وأكثرت كمده وغمّه : [الطويل]

يؤرّقني الليل الذي أنا نائمه

فتجهل ما ألقى وطرفك عالمه (٣)

وفي الهودج المرقوم وجه طوى الغشا

عن الحسن فيه الحسن قد حار راقمه (٤)

إذا شاء وقفا أرسل الحسن فرعه

يضلّهم عن منهج القصد فاحمه

أظلما رأوا تقليده الدّرّ أم زروا

بتلك اللآلي أنهنّ تمائمه

__________________

(١) انظر المطمح ص ٨٤.

(٢) في ب ، ه : «مسترجعا من صروف دهره».

(٣) في ه : «وطرفي عالمه».

(٤) في ب ، ه : «وردت البيت كما يلي :

وفي الهودج المرقوم وجه طوى الحشا

عن الحزن فيه الحسن قد حار راقمه

٤٢٠