نفح الطّيب - ج ٤

الشيخ أحمد بن محمد المقري التلمساني

نفح الطّيب - ج ٤

المؤلف:

الشيخ أحمد بن محمد المقري التلمساني


المحقق: يوسف الشيخ محمّد البقاعي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٣٠

أسد ولو أني أنا

قشه الحساب لقلت صخره

فكأنه أسد السما

ء يمجّ من فيه المجرّه (١)

قال ابن ظافر : صرنا في بعض العشايا على البساتين المجاورة للنيل ، فرأينا فيه بئرا عليها دولابان متحاذيان ، قد دارت أفلاكهما بنجوم القواديس ، ولعبت بقلوب ناظريهما لعب الأماني بالمفاليس (٢) ، وهما يئنّان أنين الأشواق ، ويفيضان ماء أغزر من دموع العشّاق ، والروض قد جلا للأعين زبرجده (٣) ، والأصيل قد راقه حسنه فنثر عليه عسجده (٤) ، والزهر قد نظم جواهره في أجياد الغصون ، والسواقي قد أذابت (٥) من سلاسل فضّتها كلّ مصون ، والنبت قد اخضرّ شاربه وعارضه ، وطرف النسيم قد ركضه في ميادين الزهر راكضه ، ورضاب الغيث قد استقرّ من الطين في لمى ، وحيّات المجاري حائرة تخاف من زمرّد النبات أن يدركها العمى ، والبحر قد صقل النسيم درعه ، وزعفران العشي قد ألقى في ذيل الجوّ ردعه ، فأوسعنا ذلك المكان حسنا وقلوبنا استحواذا ، وملأ أبصارنا وأسماعنا مسرّة والتذاذا ، وملنا إلى الدولابين شاكّين أزمرا حين سجعت (٦) قيان الطير بألحانها ، وشدت على عيدانها ، أم ذكرا أيام نعما وطابا ، وكانا أغصانا رطابا ، فنفيا عنهما لذيد الهجوع ، ورجّعا النوح وأفاضا الدموع طلبا للرجوع ، وجلسنا نتذاكر ما في تركيب الدواليب ، من الأعاجيب ، ونتناشد ما وصفت به من الأشعار ، الغالية الأسعار ، فأفضى بنا الحديث الذي هو شجون ، إلى ذكر قول الأعمى التّطيلي في أسد نحاس يقذف الماء :

أسد ولو أني ـ إلخ

فقال لي القاضي أبو الحسن علي بن المؤيد رحمه الله تعالى : يتولّد من هذا في الدولاب معنى يأخذ بمجامع المسامع ، ويطرب الرائي (٧) والسامع ، فتأمّلت ما قاله بعين بصيرتي البصيرة ، واستمددت مادة غريزتي الغزيرة ، فظهر لي معنّى ملأني أطرابا ، وأوسعني إعجابا ،

__________________

(١) المجرّة : نجوم في السماء لا ترى بالعين المجردة ، وإنما يرى ضوؤها كبقعة بيضاء.

(٢) المفاليس : جمع مفلس ، وهو الذي ليس لديه نقود.

(٣) الزبرجد : حجر كريم يشبه الزمرد ، متعدد الألوان.

(٤) العسجد : الذهب.

(٥) في ب : «أذالت».

(٦) في ج : «شجت».

(٧) في ب : «يطرب الراوي والسامع».

٢٨١

وأطرق كلّ منّا ما جاش به مدّ بحره ، وأنبأه به شيطان فكره ، فلم يكن إلّا كنقرة العصفور ، الخائف من الناطور (١) ، حتى كمل ما أردنا من غير أن يقف واحد منّا على ما صنعه الآخر ، فكان الذي قال : [الخفيف]

حبّذا ساعة العشيّة والدو

لاب يهدي إلى النفوس المسرّه

أدهم لا يزال يعدو ولكن

ليس يعدو مكانه قدر ذرّه (٢)

ذو عيون من القواديس تبكي

كل عين من فائض الدمع ثرّه (٣)

فلك دائر يرينا نجوما

كل نجم يبدي لدينا المجرّه

وكان الذي قلت : [الوافر]

ودولاب يئنّ أنين ثكلى

ولا فقدا شكاه ولا مضرّه (٤)

ترى الأزهار في ضحك إذا ما

بكى بدموع عين منه ثرّه

حكى فلكا تدور به نجوم

تؤثّر في سرائرنا المسرّه

يظلّ النجم يشرق بعد نجم

ويغرب بعدما تجري المجرّه

فعجبنا من اتفاقنا ، وقضى العجب منه سائر رفاقنا ، انتهى.

رجع : وكان لأبي محمد عبد الله بن شعبة الوادي آشي (٥) ابن شاعر ، فعرض عليه شعرا ، نظمه ، فأعجبه ، فقال : [السريع]

شعرك كالبستان في شكله

يجمع بين الآس والورد

فاصنع به إن كنت لي طائعا

ما يصنع الفارس بالبند (٦)

ولشاعر الأندلس أبي عبد الله بن الحداد الوادي آشي (٧) ، وهو من رجال الذخيرة : [الوافر]

__________________

(١) الناطور : حارس الزرع والبستان.

(٢) يعدو ، في صدر البيت : يسير سيرا سريعا. ويعدو في عجز البيت معناه يجاوز.

(٣) في ه : «تبدى كل عين من فائض الماء عبره». والثرة : الغزيرة.

(٤) أنّ يئنّ : تأوّه.

(٥) انظر الذخيرة ج ١ ص ٢٠١. والمغرب ج ٢ ص ١٤٣.

(٦) البند : العلم الكبير.

(٧) انظر الذخيرة ١ / ٢ : ٢٠١. والمغرب ج ٢ ص ١٤٣.

٢٨٢

لزمت قناعتي وقعدت عنهم

فلست أرى الوزير ولا الأميرا

وكنت سمير أشعاري سفاها

فعدت بها لفلسفتي سميرا

وله في العروض تأليف مزج فيه بين الأنحاء الموسيقية ، والآراء الخليلية ، وردّ فيه على السرقسطي المنبوز بالحمار.

وله في المعتصم بن صمادح (١) : [الطويل]

لعلّك بالوادي المقدّس شاطىء

فكالعنبر الهنديّ ما أنا واطئ

وإنّي في ريّاك واجد ريحهم

فجمر الأسى بين الجوانح ناشئ

ولي في السّرى من نارهم ومنارهم

هداة حداة والنجوم طوافىء

لذلك ما حنّت ركابي وحمحمت

عرابي وأوحى سيرها المتباطىء (٢)

فهل هاجها ما هاجني؟ ولعلّها

إلى الوخد من نيران قلبي لواجىء (٣)

رويدا فذا وادي لبينى وإنه

لورد لباناتي وإني لظامىء (٤)

موارد تهيامي ومسرح ناظري

فللشّوق غايات بها ومبادئ

واعترض عليه بعضهم بأنه همز في هذه القصيدة ما لا يهمز ، فقال : [الطويل]

عجبت لغمّازين علمي بجهلهم

وإنّ قناتي لا تلين على الغمز (٥)

تجلّت لهم آيات فهمي ومنطقي

مبيّنة الإعجاز ملزمة العجز (٦)

ولاحت لهم همزيّة أو حديّة

وويل بها ويل لذي الهمز واللّمز

رموها بنقص بيّنت فيه نقصهم

ومن لمس الأفعى شكا ألم النّكز (٧)

فإن أنكرت أفهامهم بعض همزها

فقد عرفت أكبادهم صحّة الهمز

__________________

(١) انظر الذخيرة ص ٢١٨.

(٢) حمحم الحصان : صات صوتا غير مرتفع ، وهو غير الصهيل. والعراب : الخيول الكريمة السالمة من الهجنة.

(٣) الوخد : ضرب من السير.

(٤) اللبانات : جمع لبانة ، وهي الحاجة.

(٥) في ج : «لا تلين من الغمز».

(٦) في ه : «تجلت لهم رايات فهمي».

(٧) نكزته الأفعى : لسعته.

٢٨٣

وله وهو مما يتغنّى به بالأندلس : [الكامل]

فذر العقيق مجانبا لعقوقه

ودع العذيب عذيب ذات الخال

أفق محلّى بالقواضب والقنا

للأغيد المعطار لا المعطال

حجبوك إلّا من توهّم خاطري

وحموك إلّا من تصوّر بالي

والقارظان جميل صبري والكرى

فمتى أرجّي منك طيف خيال (١)

ومن بدائعه قوله (٢) : [الكامل]

سامح أخاك إذا أتاك بزلّة

فخلوص شيء قلّما يتمكّن

في كلّ شيء آفة موجودة

إنّ السّراج على سناه يدخّن (٣)

وأنشد أحد الأدباء هذين البيتين متمثّلا ، فأعجبا المعتصم ، وسأل عن قائلهما ، فأخبر ، فتبسّم وقال : أتعرف إلى من أشار بهذا المعنى؟ قال : ما أعرف إلّا أنه مليح ، فقال المعتصم : كنت في الصّبا وهو معي ، ألقّب بسراج الدولة ، فقاتله الله ما أشعره ، فسلوه ، فلمّا باحثوه في ذلك أقرّ بحسن حدس المعتصم. واكتنفته سعايات ، وكان ممّن يغلب لسانه على عقله ، ففرّ من المريّة ، وحبس أخوه بها ، فقال : [الكامل]

الدهر لا ينفكّ من حدثانه

والمرء منقاد لحكم زمانه (٤)

وعلمت أنّ السّعد ليس بمنجح

ما لا يكون السّعد من أعوانه

والجدّ دون الجدّ ليس بنافع

والرّمح لا يمضي بغير سنانه

وبلغت الأبيات المعتصم فقال : شعره أعقل منه ، صدق فإنه لا يتهيّأ له صلاح عيش إلّا بأخيه ، وهو منه بمنزلة السّنان من الرمح ، ثم أمر بإطلاقه ولحاقه به.

ولمّا قال في المعتصم : [الكامل]

يا طالب المعروف دونك فاتركن

دار المريّة وارفض ابن صمادح

رجل إذا أعطاك حبّة خردل

ألقاك في قيد الأسير الطائح

لو قد مضى لك عمر نوح عنده

لا فرق بينك والبعيد النازح

__________________

(١) القارضان : يضرب بهما المثل فيمن لا يرجع.

(٢) انظر الذخيرة ص ٢٣٥.

(٣) السنا : الضوء.

(٤) حدثان الدهر : مصائبه.

٢٨٤

اغتاظ عليه ، وأبعده ، ففرّ من بلده (١).

ومن المنسوب إليه في النساء : [البسيط]

خن عهدها مثل ما خانتك منتصفا

وامنح هواها بنسيان وسلوان

فالغيد كالروض في خلق وفي خلق

إن مرّ جان أتى من بعده جان

وله : [الخفيف]

حيثما كنت ظاعنا أو مقيما

دم رفيعا وعش منيعا سليما (٢)

وقال ابن دحية في «المطرب» (٣) : إنّ من المجيدين في الجدّ والهزل ، ورقيق النظم والجزل ، صاحبنا الوزير أبا بلال (٤) ، وقال لي : إنه كان وبرد شبابه قشيب (٥) ، وغصن اعتداله رطيب ، بقميص النّسك متقمّص ، وبعلم الحديث متخصّص ، فاجتاز يوما وبيده مجلّد من صحيح مسلم بقصر بعض الملوك الأكابر ، ومن بعض مناظره ناظر ، ومجلسه بخواصّ ندمائه حال ، وصوت المثاني والمثالث عال ، فقال : أطلعوا لنا هذا الفقيه ، فلعلّنا نضحك منه. فلما مثل بين يديه وحيّا ، أمر الساقي بمناولته كأس الحميّا ، فتقبّض متأففا ، وأبدى تمعرا (٦) وتقشفا ، والسلطان يستغرب ضحكا بما هجم عليه ، ويد الساقي ممدودة إليه ، واتّفق أن انشقّت من ذاتها الزجاجة ، فظهر من السلطان التطيّر من ذلك ، فأنشد الفقيه مرتجلا : [المنسرح]

ومجلس بالسرور مشتمل

لم يخل فيه الزجاج من أدب

سرى بأعطافه يرنّحه

فشقّ أثوابه من الطرب (٧)

فسرّ السلطان وسرّي عنه ، واستحسن من الفقيه ما بدا منه ، وأمر له بجائزة سنيّة ، وخلعة رائقة بهيّة (٨).

وما أحسن قول ابن البراق (٩) : [مخلع البسيط]

__________________

(١) في ب : «ففر عن بلده».

(٢) الظاعن : المرتحل.

(٣) انظر المطرب ص ٢٤١.

(٤) في ه : «أبو بلال» وهو خطأ. وفي المطرب «كصاحبنا الوزير أبي القاسم ابن البراق».

(٥) القشيب : الجديد.

(٦) التمعّر : تغير الوجه وميله إلى الاصفرار.

(٧) يرنحه : يميّله.

(٨) في ب : «وخلعة رائقة بهية».

(٩) انظر المغرب ص ١٤٩.

٢٨٥

يا سرحة الحيّ يا مطول

شرح الذي بيننا يطول

ولي ديون عليك حلّت

لو أنه ينفع الحلول

وقوله : [الكامل]

انظر إلى الوادي إذا ما غرّدت

أطياره شقّ النسيم ثيابه

أتراه أطربه الهديل وزاده

طربا وحقّك أن حللت جنابه (١)

وله في غلام على فمه أثر المداد : [مخلع البسيط]

يا عجبا للمداد أضحى

على فم ضمّن الزّلالا

كالقار أضحى على المحيّا

والليل قد لامس الهلالا (٢)

وكتب أبو محمد عبد الله في معذرة (٣) إلى بعض أصحابه من الأسر في طليطلة : [مجزوء الكامل]

لو كنت حيث تجيبني

لأذاب قلبك ما أقول

يكفيك منّي أنني

لا أستقلّ من الكبول (٤)

وإذا أردت رسالة

لكم فما ألفي رسول

هذا وكم بتنا وفي

أيماننا كأس الشّمول

والعود يخفق والدخا

ن العنبريّ به يجول

حال الزمان ولم يزل

مذ كنت أعهده يحول (٥)

ولأبي الحسن علي بن مهلهل الجلياني (٦) في أبي بكر بن سعيد صاحب أعمال غرناطة في دولة الملثّمين : [الكامل]

لو لا النّهود لما عراك تنهّد

وعلى الخدود القلب منك يخدّد

يا نافذا قلبي بسهم جفونه

مالي على سهم رميت به يد

وقال أبو زكريا يحيى بن مطروح في غلام كاتب أطلّ عذاره (٧) : [البسيط]

__________________

(١) الهديل : صوت الحمام.

(٢) القار : الزفت. والحميا : الخمر.

(٣) في ب : «أبو محمد عبد الله بن عذرة».

(٤) الكبول : القيود ، واحدها كبل.

(٥) حال الزمان : تحول من حال إلى حال.

(٦) انظر ترجمته في المغرب ج ٢ ص ١٥٠.

(٧) انظر المغرب ج ٢ ص ١٥٥.

٢٨٦

يا حسنه كاتبا قد خطّ عارضه

في خدّه حاكيا ما خطّ بالقلم

لام العذول عليه حين أبصره

فقلت دعني فزين البرد بالعلم

وانظر إلى عجب ممّا تلوم به

بدر له هالة قدّت من الظّلم

قولوا عن البحر ما شئتم ولا عجب

من عنبر الشّحر أو من درّ مبتسم (١)

وله ، وقد عزل عن مالقة وال غير مرضيّ ، ونزل المطر على إثره ، وكان الناس في جدب : [السريع]

وربّ وال سرّنا عزله

فبعضنا هنّأه البعض

قد واصلتنا السّحب من بعده

ولذّ في أجفاننا الغمض

لو لم يكن من نجس شخصه

ما طهّرت من بعده الأرض

وكان الكاتب أبو بكر محمد بن نصر الأوسي (٢) مختصّا بوزير عبد المؤمن أبي جعفر بن عطية ، فقال فيه : [الطويل]

أبا جعفر نلت الذي نال جعفر

ولا زلت بالعليا تسرّ وتحبر (٣)

عليك لنا فضل وبرّ وأنعم

ونحن علينا كلّ مدح يحبّر (٤)

وحدّث من حضر مجلس الوزير ابن عطية وقد أحسّ من عبد المؤمن التغير الذي أفضى إلى قتله ، وقد افتتح ابن نصر مطلع هذه القصيدة ، فتغيّر وجه أبي جعفر ؛ لأنّ جعفر بن يحيى كان آخر أمره الصلب ، فكأنّ هذا عمّم الدعاء ، والعجب أنه قتل مثل جعفر بعد ذلك.

وهذا الشاعر هو القائل : [الطويل]

وما أنا عن ذاك الهوى متبدّل

وذا الغدر بالإخوان غير كريم

بغيرك أجري ذكر فضلك في الندى

كما قد جرى بالروض هبّ نسيم

وإن كان عندي للجديد لذاذة

فلست بناس حرمة لقديم

ولأبي عبد الله محمد بن علي اللوشي (٥) يخاطب صاحب «المسهب» : [الخفيف]

__________________

(١) الشّحر : الشطّ.

(٢) انظر المغرب ج ٢ ص ١٥٦.

(٣) أراد بجعفر : جعفر بن يحيى بن خالد البرمكي ، وتحبر ـ بالبناء للمجهول ـ تسرّ.

(٤) يحبّر ـ بتشديد الباء مبنيا للمجهول ـ ينمّق ويزيّن.

(٥) انظر المغرب لابن سعيد ٢ / ١٥٨. وقد ذكره باسم محمد بن عبد المولى ، وذكر له البيتين الأولين.

٢٨٧

بي إليكم شوق شديد ولكن

ليس يبقى مع الجفاء اشتياق

إن يغيّركم الفراق فودّي

لو خبرتم يزيد فيه الفراق (١)

وله : [مجزوء الكامل]

لو أنّ لي قلبا كقل

بك كنت أهجر هجركا

يكفيك أنك قد نسي

ت ولست أنسى ذكركا

ومن العجائب أنني

أفنى وأكتم سرّكا

كن كيفما تختاره

فالحبّ يبسط عذركا

وله : [الكامل]

هل عندكم علم بما فعلت بنا

تلك الجفون الفاتكات بضعفها

نصحا لكم أن تأمنوها أنها

سحر النّهى ما تبصرون بطرفها (٢)

ولابنه أبي محمد عبد المولى ، وكان ماجنا ، لمّا نعي إليه وهو على الشراب أحد أصحابه مرتجلا : [مجزوء الرمل]

إنّما دنياك أكل

وشراب وقحاب (٣)

ثم من بعد صراخ

ووداع وتراب

وله : [مجزوء الرمل]

يا نديم اشرب على أف

ق صقيل وحديقه (٤)

واسقني ثم اسقني

ثمّ اسقني خمرا وريقه

من غزال تطلع الشم

س بخدّيه أنيقه

لا تفوّت ساعة من

كأس خمر وعشيقه

واجتنب ما سخرت جه

لا له هذي الخليقه

رغبوا في باطل زو

ر بزهد في الحقيقه

__________________

(١) في ه : «لو جزيتم».

(٢) في ب : «إنها سحر النهى ..».

(٣) القحاب : جمع قحبه ، وهي المرأة البغي الفاجرة الفاسدة.

(٤) في ه : «يا نديمي اشرب».

٢٨٨

ليس إلّا ما تراه

أنا أدرى بالطريقه

قال أبو عمران موسى بن سعيد : قلنا له : ما هذا الاعتقاد الفاسد الذي لا ينبغي لأحد أن يصحبك به؟ فقال : هذا قول لا فعل ، وقد قال الله تعالى : (أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ (٢٢٥) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ (٢٢٦)) [سورة الشعراء ، الآية : ٢٢٥ ـ ٢٢٦].

ثم قال ابن سعيد : ولو لا أنّ حاكي الكفر ليس بكافر ما ذكرتها ، وهذا منزع من قال من المجوس : [مجزوء الرمل]

خذ من الدنيا بحظّ

قبل أن ترحل عنها

فهي دار لا ترى من

بعدها أحسن منها

وهذا كفر صراح ، وقائله قد تقمّص كفرا ، اللهم غفرا!

وطلب منه بعض الأرذال ، أن يكتب له شفاعة عند أحد العمّال ، فكتب له (١) رسالة فيها هذه الأبيات : [السريع]

كتبته مولاي في طالع

ما طار فيه طائر اليمن

وفكرة حائلة والحشا

ينهب بالهمّ وبالحزن (٢)

كلّفنيه ساقط أخرق

مشتهر بالطحن والقرن

أكذب خلق الله أرداهم

أخوفهم في الخوف والأمن

يكفر ما يسدى إليه ولا

يعذر خلقا سيء الظنّ

فإن صنعت الخير ألفيته

شرا وأضحى المجد ذا غبن (٣)

وانتقد الناس عليك الذي

تسدي له في أيّ ما فنّ

فافعل به ما هو أهل له

واسمعه تفسيرا ولا أكني

أهنه واصفعه ولا تترك ال

بوّاب يكرمه لدى الإذن

واقطع بفيه القول واحرمه من

ردّ جواب أنسه يدني

وكلّما استنبط رأيا فس

فّهه ودعه مسخن الجفن

__________________

(١) في ه : «فكتب معه رسالة».

(٢) حائلة : متغيرة.

(٣) ذا غبن : من الغبينة ، وهي الخديعة.

٢٨٩

فهو إذا أكرمته فاسد

وصالح بالهون واللّعن

شفاعتي في مثله هذه

فلا سقاه هاطل المزن (١)

ودفع إليه الكتاب مختوما ، فسرّ به ، وحمله إلى العامل ، وسافر إليه أياما ، فلمّا دفعه إليه قرأه وضحك ، ودفعه إلى من يشاركه في ذلك من أصحابه ، فوعده بخير وأخرجه إلى شغل لم يرضه ، فلمّا عاد منه قال له : أخرجتني لأرذل (٢) شغل وأخسّه فما فائدة الشفاعة إذن؟ فقال له : أو تريد أن أفعل معك ما تقتضيه شفاعة صاحبك؟ قال : لا أقلّ من ذلك ، فأمر من يأتيه بالأبيات ، فقرئت عليه ، فانصرف في أسوإ حال ، فلما دخل عليه (٣) غرناطة ـ وكان عبد المولى تزوّج فيها امرأة اغتبط بها ـ فتزيّا (٤) هذا الرجل بزي أهل البادية ، وزوّر كتابا على لسان زوجة لعبد المولى في بلدة أخرى ، وقال في الكتاب : وقد بلغني أنك تزوّجت غيري ، وأردت أن أكتب إليك في أن تطلقني ، فوصلني كتابك تعرفني فيه أن الزوجة الجديدة لم توافق اختيارك ، وأنك ناظر في طلاقها ، فردّني ذلك عمّا عزمت عليه ، فانظر في تعجيل ما وعدت به من طلاقها ، فإنك إن لم تفعل لم أبق معك أبدا ، فلمّا مرّ بدار عبد المولى رأى جارية زوجته فقال لها : أنا رجل بدوي أتيت من عند فلانة زوجة أبي محمد عبد المولى ، فعندما سمعت ذلك أعلمت ستها ، وأخذت الكتاب ، فوقفت على ما فيه غير شاكّه في صحّته ، فلمّا دخل عبد المولى وجدها على خلاف ما فارقها عليه ، فسألها عن حالها ، فقالت : أريد الطلاق ، فقال : ما سبب هذا وأنا أرغب الناس فيك؟ فألقت إليه الكتاب ، فلمّا وقف عليه حلف لها أن هذا ليس بصحيح ، وأنّ عدوّا له اختلقه عليه ، فلم يفد ذلك عندها شيئا ، ولم يطب له بعد ذلك معها عيش ، فطلّقها ، وعلم أن ذلك الرجل هو الذي فعل ذلك ، فقال له : لا جزاك الله خيرا ، ولا أصلح لك حالا! فقال : وأنت كذلك ، فهذه بتلك ، والبادي أظلم ، فما كان ذنبي عندك حين كتبت في حقّي ما كتبت؟ فقال له : مثلك لا يقول «ما ذنبي» أنت كلّك ذنوب : [الوافر]

ألست بألأم الثّقلين طرا

وأثقلهم وأفحشهم لسانا؟ (٥)

فمهما تبغ برا عند شخص

تزد منه بما تبغي هوانا

فانصرف عنه عالي اللسان بلعنته.

وكان أحد بني عبد المؤمن قد ألزمه أن ينسخ له كتابا بموضع منفرد ، فخطر له يوما جلد

__________________

(١) المزن : جمع مزنة ، وهي السحابة الممطرة.

(٢) أرذل شغل : أحطّه وأخسّه.

(٣) في ب : «فدخل غرناطة».

(٤) في ب : «تزيّا».

(٥) الثقلان : الإنس والجن.

٢٩٠

عميرة ، واتّفق أن مرّ السيد يوما بذلك الموضع ، فنظر إليه في تلك الحال (١) ، فقال له السيد (٢) : ما تصنع؟ فقال : الدواة جفّت ، ولم أجد ما أسقيها (٣) به إلّا ماء ظهري ، فضحك السيد ، وأمر له بجارية ، فقال : [المجتث]

قل للعميرة طلّق

ت بعد طول زواج

قد كان مائي ضياعا

يمرّ في غير حاج (٤)

حتى حباني بحسنا

ء قابل للنتاج

فكان ناقل خمر

من حنتم لزجاج (٥)

كانت تمرّ ضياعا

فأصبحت كالسراج

وقال حاتم بن سعيد : [الخفيف]

جنّبوني عن المدامة إلّا

عند وقت الصباح أو في الأصيل

واشفعوها بكلّ وجه مليح

ودعوني من كلّ قال وقيل

وإذا ما أردتم طيب عيشي

فاحجبوني عن كلّ وجه ثقيل (٦)

وقال مالك بن محمد بن سعيد (٧) : [الوافر]

أتاني زائرا فبسطت خدّي

له ويقلّ بسط الخدّ عندي

فقلت له أيا مولاي ألفا

فقال وأنت ألفا عبد عبدي

وعانقني وقبّلني ونادى

بلطف منه كيف رأيت وعدي

وقال في استهداء مقص : [الطويل]

ألا قل نعم في مطلب قد حكاه لا

يفصّل إذ نبغي الوصال موصّلا

نشقّ به صدر النهار وقد بدا

ظلاما بأمثال النجوم مكلّلا

__________________

(١) في ه : «في تلك الحالة».

(٢) في ه : «فقال له الخادم».

(٣) في ه : «ولم أجد ماء أسقيها به».

(٤) أراد ب : «مائي» ماء ظهره.

(٥) الحنتم : الجرّة الخضراء ، وكذلك شجرة الحنظل.

(٦) في ه : «طيب عيش». وفيها «فاحجبوني عن وجه كل ثقيل».

(٧) انظر ترجمته في المغرب ٢ / ١٧١.

٢٩١

وقال : [البسيط]

سارت كبدر وليل الخدر يسترها

ولو بدا وجهها جاءتك بالفلق (١)

ودونها من صليل اللامعات حمّى

فالبرق والرعد دون الشمس في الأفق (٢)

واجتمع بغرناطة محمد بن غالب الرصافي الشاعر المشهور ومحمد بن عبد الرحمن الكتندي (٣) الشاعر وغيرهما من الفضلاء والرؤساء ، فأخذوا يوما في أن يخرجوا لنجد أو لحوز (٤) مؤمل ، وهما منتزهان من أشرف وأظرف منتزهات غرناطة ، ليتفرجوا ويصقلوا الخواطر بالتطلّع في ظاهر البلد ، وكان الرصافي قد أظهر الزهد وترك الخلاعة ، فقالوا : ما لنا غنى عن أبي جعفر ابن سعيد ، اكتبوا له ، فصنعوا هذا الشعر وكتبوه (٥) له ، وجعلوا تحته أسماءهم : [الطويل]

بعثنا إلى ربّ السماحة والمجد

ومن ما له في ملّة الظرف من ندّ

ليسعدنا عند الصبيحة في غد

لنسعى إلى الحور المؤمّل أو نجد

نسرّح منّا أنفسا من شجونها

ثوت في شجون هنّ شرّ من اللحد (٦)

ونظفر من بخل الزمان بساعة

ألذّ من العليا وأشهى من الحمد

على جدول ما بين ألفاف دوحة

تهزّ الصّبا فيها لواء من الرّند

ومن كان ذا شرب يخلّى بشأنه

ومن كان ذا زهد تركناه للزهد

وما ظرفه يأبى الحديث على الطّلى

ولا أن يديل الهزل حينا من الجدّ

تهزّ معاني الشعر أغضان ظرفه

ويمرح في ثوب الصبابة والوجد

وما نغّص العيش المهنّأ غير أن

يمازجه تكليف ما ليس بالود (٧)

نظمنا من الخلّان عقد فرائد

ولمّا نجد إلّاك واسطة العقد

فماذا تراه لا عدمناك ساعة

فنحن بما تبديه في جنّة الخلد

ورشدك مطلوب وأمرك نحوه ار

تقاب وكلّ منك يهدي إلى الرشد

__________________

(١) الفلق : الصبح.

(٢) اللامعات : السيوف. وصليلها : صوت وقع بعضها على بعض.

(٣) انظر ترجمته في المغرب ج ٢ ٢٦٤.

(٤) في ب : «لحور».

(٥) في ب ، ه : «وكتبوا له».

(٦) نسرّح الأنفس : نطلقها من سجنها.

(٧) في ه : «يمازحه تكليف» بالحاء مهملة.

٢٩٢

فكان جوابه لهم : [الطويل]

هو القول منظوما أو الدرّ في العقد

هو الزّهر نفّاح الصبا أم شذا الودّ

أتاني وفكري في عقال من الأسى

فحلّ بنفث السّحر ما حلّ من عقد

ومن قبل علمي أين مبعث وجهه

علمت جناب الورد من نفس الورد

وأيقنت أنّ الدهر ليس براجع

لتقديم عصر أو وقوف على حدّ

فكلّ أوان فيه أعلام فضله

ترادف موج البحر ردا إلى ردّ

فكم طيّها من فائت متردّم

يهزّ بما قد ضمرت معطف الصّلد (١)

فيا من بهم تزهى المعالي ومن لهم

قياد المعالي ما سوى قصدكم قصدي (٢)

فسمعا وطوعا للذي قد أشرتم

به لا أرى عنه مدى الدهر من بدّ

فقوموا على اسم الله نحو حديقة

مقلّدة الأجياد موشيّة البرد

بها قبّة تدعى الكمامة فاطلعوا

بها زهرا أذكى نسيما من النّدّ

وعندي ما يحتاج كلّ مؤمّل

من الراح والمعشوق والكتب والنرد (٣)

فكلّ إلى ما شاءه لست ثانيا

عنانا له إنّ المساعد ذو الودّ

ولست خليّا من تأنّس قينة

إذا ما شدت ضلّ الخليّ عن الرشد (٤)

لها ولد في حجرها لا تزيله

أوان غناء ثم ترميه بالبعد (٥)

فيا ليتني قد كنت منها مكانه

تقلّبني ما بين خضر إلى نهد

ضمنت لمن قد قال إني زاهد

إذا حلّ عندي أن يحول عن الزهد

فإن كان يرجو جنّة الخلد آجلا

فعندي له في عاجل جنّة الخلد

فركبوا إلى جنّته ، فمرّ لهم أحسن يوم على ما اشتهوا ، وما زالوا بالرصافي إلى أن شرب لمّا غلب عليه الطرب ، فقال الكتندي : [الطويل]

__________________

(١) يشير إلى قول عنترة :

هل غادر الشعراء من متردّم

أم هل عرفت الدار بعد توهّم

(٢) في ب : «قياد المعاني».

(٣) في ه : «وعندي ما يختار كل مؤمل».

(٤) القينة : الأمة ، وهنا الأمة المغنية.

(٥) أراد بالولد الذي في حجرها : العود.

٢٩٣

غلبناك عمّا رمته يا ابن غالب

براح وريحان وشدو وكاعب

فقال أبو جعفر : [الطويل]

بدا زهده مثل الخضاب فلم يزل

به ناصلا حتى بدا زور كاذب

فلمّا غربت الشمس قالوا : ما رأينا أقصر من هذا اليوم ، وما ينبغي أن يترك بغير وصف ، فقال أبو جعفر : أنا له ، ثم قال بعد فكرة ، وهو من عجائبه التي تقدم بها المتقدّمين وأعجز المتأخّرين (١) : [مجزوء الكامل]

الله يوم مسرّة

أضوا وأقصر من ذباله (٢)

لمّا نصبنا للمنى

فيه بأوتار حباله

طار النهار به كمر

تاع فأجفلت الغزاله (٣)

فكأننا من بعده

بعنا الهداية بالضلاله

والنهار : ذكر الحبارى ، وإليه أشار بقوله «طار النهار» والغزالة : الشمس ، ولا يخفى حسن التوريتين ، فسلّم له الجميع ، تسليم السامع المطيع.

وعلى ذكر الغزالة في هذا الموضع فلأبي جعفر أيضا فيها ، وهو من بدائعه ، قوله : [الطويل]

بدا ذنب السّرحان ينبئ أنه

تقدّم سبت والغزالة خلفه

ولم تر عيني مثله من متابع

لمن لا يزال الدهر يطلب حتفه (٤)

وقوله : [الخفيف]

اسقني مثل ما أنار لعيني

شفق ألبس الصباح جماله

قبل أن تبصر الغزالة تستد

رج منه على السماء غلاله

وتأمّل لعسجد سال نهرا

كرعت فيه ، أو تقضّى ، غزاله

__________________

(١) انظر المغرب ج ٢ ص ١٦٧.

(٢) أضوا : أصله أضوأ ، اسم تفضيل من الضوء ، فقلب الهمزة ألفا لانفتاح ما قبلها والذّبالة ـ بضم الذال المعجمة ـ فتيلة الشمعة وغيرها.

(٣) أجفلت الغزالة : مضت مسرعة من نضورها.

(٤) الحتف : الموت.

٢٩٤

ومن نظم أبي جعفر قوله : [الكامل]

لو لم يكن شدو الحمائم فاضلا

شدو القيان لما استخفّ الأغصنا (١)

طرب ثنى حتى الجماد ترنّحا

وأفاض من دمع السحائب أعينا

وقوله (٢) : [الكامل]

في الروض منك مشابه من أجلها

يهفو له طرفي وقلبي المغرم

الغصن قدّ ، والأزاهر حلية ،

والورد خدّ ، والأقاحي مبسم

وقوله : [الطويل]

ألا حبّذا نهر إذا ما لخظته

أبى أن يردّ اللحظ عن حسنه الأنس

ترى القمرين الدهر قد عنيا به

يفضّضه بدر وتذهبه شمس

وقوله ، وقد مرّ بقصر من قصور أمير المؤمنين عبد المؤمن وقد رحل عنه : [البسيط]

قصر الخليفة لا أخليت من كرم

وإن خلوت من الأعداد والعدد

جزنا عليك فلم تنقص مهابته

والغيل يخلو وتبقى هيبة الأسد (٣)

وقوله من أبيات : [الكامل]

سرّح لحاظك حيث شئت فإنه

في كلّ موقع لحظة متأمّل

وقوله أيضا : [الخفيف]

ولقد قلت للذي قال حلّوا

ههنا : سر فإننا ما سئمنا (٤)

لا تعيّن لنا مكانا ولكن

حيثما مالت اللواحظ ملنا

وقال : [الطويل]

ألا هاتها إنّ المسرّة قربها

وما الحزن إلّا في توالي جفائها

مدام بكى الإبريق عند فراقها

فأضحك ثغر الكاس عند لقائها

__________________

(١) القيان : الإماء المغنيات.

(٢) انظر المغرب ج ٢ ص ١٦٧.

(٣) في ج «جزنا عليه» وقد أثبتنا ما في أ، ب ، ه. وهو الأصح. والغيل : موضع الأسد.

(٤) ما سئمنا : ما مللنا.

٢٩٥

وقال : [السريع]

عرّج على الحور وخيّم به

حيث الأماني ضافيات الجناح

واسبق له قبل ارتحال الندى

ولا تزره دون شاد وراح

وكن مقيما منه حيث الصّبا

تمتار مسكا من أريج البطاح (١)

والقضب مال البعض منها على

بعض كما يثني القدود ارتياح

وشقّ جيب الصبر قصف إذا

شقّت جيوب الطّلّ منها الرياح (٢)

لم أحص كم غاديته ثابتا

واسترقصتني الراح عند الرواح

وقوله : [الطويل]

ألا حبّذا روض بكرنا له ضحى

وفي جنبات الروض للطلّ أدمع

وقد جعلت بين الغصون نسيمة

تمزّق ثوب الطّلّ منها وترقع

ونحن إذا ما ظلّت القضب ركّعا

نظلّ لها من هزّة السكر نركع

وكان ابن الصابوني (٣) في مجلس أحد الفضلاء بإشبيلية ، فقدّم فيما قدّم خيار ، فجعل أحد الأدباء يقشرها بسكين ، فخطف ابن الصابوني السكين من يده ، فألحّ عليه في استرجاعها ، فقال له ابن الصابوني : كفّ عنّي وإلّا جرحتك بها ، فقال له صاحب المنزل : اكفف عنه لئلّا يجرحك ويكون جرحك جبارا (٤) ، تعريضا بقول النبيّ صلى الله عليه وسلم «جرح العجماء جبار» فاغتاظ ابن الصابوني ، وخرج من الاعتدال ، وأخطأ بلسانه ، وما كفّ إلّا بعد الرغبة والتضرّع.

ومن نظم ابن الصابوني : [الطويل]

بعثت بمرآة إليك بديعة

فأطلع بسامي أفقها قمر السّعد

لننظر فيها حسن وجهك منصفا

وتعذرني فيما أكنّ من الوجد (٥)

فأرسل بذاك الخدّ لحظك برهة

لتجني منه ما جناه من الورد

مثالك فيها منك أقرب ملمسا

وأكثر إحسانا وأبقى على العهد (٦)

__________________

(١) تمتار : تجمع.

(٢) في ب : «وشق جيب الصبح نور كما».

(٣) انظر القدح ص ٦٩. والمغرب ج ١ ص ٢٦٣.

(٤) جبار ـ بضم الجيم ـ هدر لا شيء فيه ، والعجماء : البهيمة.

(٥) أكنّ : أخفي.

(٦) وأبقى : اسم تفضيل من الفعل بقي.

٢٩٦

وقوله في لابس أحمر : [المنسرح]

أقبل في حلّة مورّدة

كالبدر في حلّة من الشّفق

تحسبه كلّما أراق دمي

يمسح في ثوبه ظبا الحدق (١)

ورحل إلى القاهرة والإسكندرية فلم يلتفت إليه ، ولا عوّل عليه ، وكان شديد الانحراف ، فانقلب على عقبه يعضّ يديه ، على ما جرى عليه ، فمات عند إيابه إلى الإسكندرية كمدا ، ولم يعرف له بالديار المصرية مقدار.

وحضر يوما بين يدي المعتضد الباجي ملك إشبيلية وقد نثرت أمامه جملة من دنانير سكّت (٢) باسمه ، فأنشد : [السريع]

قد فخر الدينار والدّرهم

لمّا علا ذين لكم ميسم (٣)

كلاهما يفصح عن مجدكم

وكل جزء منه فرد فم

ومرّ فيها إلى أن قال في وصف الدنانير : [السريع]

كأنها الأنجم والبعد قد

حقق عندي أنها الأرجم

فأشار السلطان إلى وزيره ، فأعطاه منها جملة ، وقال له : بدّل هذا البيت لئلا يبقى ذما.

وكان يلقّب بالحمار ، ولذا قال فيه ابن عتبة الطبيب : [السريع]

يا عير حمص عيّرتك الحمير

بأكلك البرّ مكان الشعير (٤)

وهو أبو بكر محمد بن الفقيه أبي العباس أحمد بن الصابوني شاعر إشبيلية الشهير الذكر ، والذي أظهره مأمون بني عبد المؤمن ، وله فيه قصائد عدّة ، منها قوله في مطلع : [الكامل]

استول سبّاقا على غاياتها

نجح الأمور يبين في بدآتها (٥)

وله الموشحات المشهورة ، رحمه الله تعالى!

__________________

(١) الظبا : جمع ظبة ، وهي حد السيف.

(٢) في ه : «دنانير سكته باسمه».

(٣) ذين : إشارة للدرهم والدينار ، والميسم ـ بكسر الميم ـ العلامة.

(٤) العير : الحمار. و «حمص» مصروفة في ب.

(٥) سباقا : مبالغة اسم فاعل من سبق.

٢٩٧

ومن حكايات الصبيان أن ابن أبي الخصال (١) ، وهو من شقورة ، اجتاز بأبدة وهو صبيّ صغير يطلب الأدب ، فأضافه بها القاضي ابن مالك ، ثم خرج معه إلى حديقة معروشة ، فقطف لهما منها عنقودا أسود ، فقال القاضي : [مجزوء الرجز]

انظر إليه في العصا

فقال ابن أبي الخصال :

كرأس زنجيّ عصى

فعلم أنه سيكون له شأن في البيان.

وحدّث أبو عبد الله بن زرقون (٢) أن أبا بكر ابن المنخل وأبا بكر الملاح الشّلبيين كانا متواخيين متصافيين ، وكان لهما ابنان صغيران قد برعا في الطلب ، وحازا قصب السبق في حلبة الأدب ، فتهاجى الابنان بأقذع الهجاء (٣) ، فركب ابن المنخل في سحر من الأسحار مع ابنه عبد الله ، فجعل يعتبه على هجاء بني الملاح ويقول له : قد قطعت ما بيني وبين صديقي وصفيي أبي بكر في إقذاعك في ابنه (٤) ، فقال له ابنه : إنه بدأني والبادي أظلم ، وإنما يجب أن يلحى (٥) من بالشرّ تقدم ، فعذره أبوه ، فبينما هما على ذلك إذ أقبلا على واد تنقّ فيه الضفادع (٦) ، فقال أبو جعفر لابنه : أجز : [الهزج]

تنقّ ضفادع الوادي

فقال ابنه :

بصوت غير معتاد

فقال الشيخ :

كأنّ نقيق مقولها

فقال ابنه :

بنو الملاح في النادي

__________________

(١) انظر الشريشي ج ١ ص ٣٦٤.

(٢) انظر زاد المسافر ص ٨٨.

(٣) في ب : «بأقذع هجاء».

(٤) الإقذاع : الهجاء الممض ، والسبّ.

(٥) يلحى : يلام.

(٦) تنق الضفادع : تصوت ، والنقيق : صوتها.

٢٩٨

فلما أحسّت الضفادع بهما صمتت ، فقال أبو بكر :

وتصمت مثل صمتهم

فقال ابنه :

إذا اجتمعوا على زاد

فقال الشيخ :

فلا غوث لملهوف

فقال الابن :

ولا غيث لمرتاد

ولا خفاء أنّ هذه الإجازة لو كانت من الكبار لحصلت منها الغرابة ، فكيف ممّن هو في سنّ الصّبا؟

ومن حكايات النصارى واليهود من أهل الأندلس ـ أعادها الله تعالى إلى الإسلام عن قريب ، إنه سميع مجيب ـ ما حكي أنّ ابن المرعزي (١) النصراني الإشبيلي أهدى كلبة صيد للمعتمد بن عبّاد وفيها يقول : [مخلع البسيط]

لم أر ملهى لذي اقتناص

ومكسبا مقنع الحريص

كمثل خطلاء ذات جيد

أتلع في صفرة القميص (٢)

كالقوس في شكلها ولكن

تنفذ كالسّهم للقنيص

إن تخذت أنفها دليلا

دلّ على الكامن العويص (٣)

لو أنها تستثير برقا

لم يجد البرق من محيص (٤)

ومنها في المديح :

يشفع تنويله بودّ

شفع القياسات بالنصوص

__________________

(١) كثر التصحيف في أصول النفح ، ففي ب ، ج «المرغوي» وفي أصل ه «المرغري». وفي نسخة «المزعري» ، وفي نسخة «المغري» وجاء في المغرب ج ١ ص ٢٦٤ «المرعز» وقد أثبتنا ما في أ.

(٢) في الأصول «خطار» وقد أثبتنا ما في ب وهو الصحيح. والخطلاء : المسترخية الأذن.

(٣) العويص : الصعب ، الخفي عن الفهم.

(٤) محيص : محيد ، مهرب.

٢٩٩

وقال : [الكامل]

الله أكبر أنت بدر طالع

والنّقع دجن والكماة نجوم (١)

والجود أفلاك وأنت مديرها

وعدوّك الغاوي وهنّ رجوم

وقال : [البسيط]

نزلت في آل مكحول وضيفهم

كنازل بين سمع الأرض والبصر

لا تستضيء بضوء في بيوتهم

ما لم يكن لك تطفيل على القمر

وسببهما أنه نزل عندهم فلم يوقدوا له سراجا.

وقال نسيم الإسرائيلي : [المجتث]

يا ليتني كنت طيرا

أطير حتى أراكا

بمن تبدّلت غيرا

ولم نحل عن هواكا (٢)

وهو شاعر وشّاح من أهل إشبيلية ، وذكره الحجاري في المسهب.

وقال إبراهيم بن سهل الإسرائيلي في أصفر ارتجالا : [السريع]

كان محيّاك له بهجة

حتى إذا جاءك ماحي الجمال

أصبحت كالشمعة لمّا خبا

منها الضياء اسودّ فيها الذّبال (٣)

وهو شاعر إشبيلية ووشّاحها ، وقرأ على أبي علي الشلوبين وابن الدباج وغيرهما.

وقال العز في حقّه ، وكان أظهر الإسلام ما صورته : كان يتظاهر بالإسلام ، ولا يخلو مع ذلك من قدح واتّهام ، انتهى.

وسئل بعض المغاربة عن السبب في رقة نظم ابن سهل ، فقال : لأنه اجتمع فيه ذلّان : ذلّ العشق ، وذل اليهودية.

ولما غرق قال فيه بعض الأكابر : عاد الدّرّ إلى وطنه.

ومن نظم ابن سهل المذكور قوله : [الطويل]

__________________

(١) النقع : المعركة. والدجن : الظلام الشديد. والكماة : جمع كمي وهو المحارب المدجج بالسلاح.

(٢) ورد هذا البيت في ب ، ه :

بمن تبدلت غيري

أو لم تحل عن هواكا

(٣) خبا الضوء : خمد : والذبال : جمع ذبالة ، وهي الفتيلة.

٣٠٠