نفح الطّيب - ج ٤

الشيخ أحمد بن محمد المقري التلمساني

نفح الطّيب - ج ٤

المؤلف:

الشيخ أحمد بن محمد المقري التلمساني


المحقق: يوسف الشيخ محمّد البقاعي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٣٠

وألمى بقلبي منه جمر مؤجّج

تراه على خدّيه يندى ويبرد (١)

يسائلني : من أي دين؟ مداعبا

وشمل اعتقادي في هواه مبدّد

فؤادي حنيفيّ ، ولكنّ مقلتي

مجوسيّة من خدّه النار تعبد (٢)

ومنه قوله : [الكامل]

هذا أبو بكر يقود بوجهه

جيش الفتور مطرّز الرايات

أهدى ربيع عذاره لقلوبنا

حرّ المصيف فشبّها لفحات (٣)

خدّ جرى ماء النعيم بجمره

فاسودّ مجرى الماء في الجمرات

وذكر الحافظ أبو عبد الله محمد بن عمر بن رشيد الفهري في رحلته الكبيرة القدر والجرم المسماة ب «ملء العيبة ، فيما جمع بطول الغيبة ، في الوجهة الوجيهة إلى الحرمين مكة وطيبة» خلافا في إسلام ابن سهل باطنا ، وكتب على هامش هذا الكلام الخطيب العلامة سيدي أبو عبد الله بن مرزوق ما نصّه : صحّح لنا من أدركناه من أشياخنا أنه مات على دين الإسلام ، انتهى.

ورأيت في بعض كتب الأدب بالمغرب أنه اجتمع جماعة مع ابن سهل في مجلس أنس ، فسألوه لمّا أخذت منه الراح عن إسلامه : هل هو في الظاهر والباطن أم لا؟ فأجابهم بقوله : للناس ما ظهر ، ولله ما استتر ، انتهى.

واستدلّ بعضهم على صحّة إسلامه بقوله : [الطويل]

تسلّيت عن موسى بحبّ محمد

هديت ولو لا الله ما كنت أهتدي

وما عن قلى قد كان ذاك ، وإنما

شريعة موسى عطّلت بمحمد (٤)

وله ديوان كبير مشهور بالمغرب ، حاز به قصب السّبق في النظم والتوشيح.

وما أحسن قوله من قصيدة : [الطويل]

تأمّل لظى شوقي وموسى يشبّها

(تجد خير نار عندها خير موقد) (٥)

__________________

(١) الألمى : من كان بشفتيه لمى : وهو سمرة في باطن الشفتين تستحسن.

(٢) المجوسية : هم عبدة النار.

(٣) شبّها : أشعلها.

(٤) القلى : البغض.

(٥) اللظى : النار.

٣٠١

وأنشد بعضهم له قوله : [الطويل]

لقد كنت أرجو أن تكون مواصلي

فأسقيتني بالبعد فاتحة الرعد

فبالله برّد ما بقلبي من الجوى

بفاتحة الأعراف من ريقك الشهد

وقال الراعي رحمه الله تعالى : سمعت شيخنا أبا الحسن علي بن سمعة الأندلسي ، رحمه الله تعالى ، يقول : شيئان لا يصحّان : إسلام إبراهيم بن سهل ، وتوبة الزمخشري من الاعتزال ، ثم قال الراعي : قلت : وهما من (١) مروياتي ، أما إسلام إبراهيم بن سهل فيغلب علي ظنّي صحّته لعلمي بروايته ، وأما الثاني ـ وهو توبة الزمخشري ـ فقد ذكر بعضهم أنه رأى رسما بالبلاد المشرقية محكوما فيه (٢) يتضمّن توبة الزمخشري من الاعتزال فقوي جانب الرواية ، انتهى باختصار.

وقال الراعي أيضا ما نصّه : وقد نكت الأديب البارع إبراهيم بن سهل الإسرائيلي الأندلسي على الشيخ أبي القاسم في تغزّله حيث قال : [الطويل]

موسى ، أيا بعضي وكلّي حقيقة

وليس مجازا قولي الكلّ والبعضا

خفضت مكاني إذ جزمت وسائلي

فكيف جمعت الجزم عندي والخفضا

وفي هذا دليل على أن يهود الأندلس كانوا يشتغلون بعلم العربية ، فإنّ إبراهيم قال هذين البيتين قبل إسلامه ، والله تعالى أعلم.

وقد روينا أنه مات مسلما غريقا في البحر ، فإن كان حقا فالله تعالى رزقه الإسلام في آخر عمره والشهادة (٣) ، انتهى.

ومن نظم ابن سهل في التوجيه باصطلاح النحاة قوله :

رقّت عوامله وأحسب رتبتي

بنيت على خفض فلن تتغيّرا (٤)

ومنه :

تنأى وتدنو والتفاتك واحد

كالفعل يعمل ظاهرا ومقدّرا

وقوله : [الطويل]

إذا كان نصر الله وقفا عليكم

فإنّ العدا التنوين يحذفه الوقف

__________________

(١) في ب ، ه : «في مروياتي».

(٢) في ه : «محكوم فيه».

(٣) اعتمد على الحديث : «والغريق شهيد».

(٤) في ه : «فلم تتغيرا».

٣٠٢

وقوله (١) : [الخفيف]

وقرأنا باب المضاف عناقا

وحذفنا الرقيب كالتنوين

وقوله : [الطويل]

بنيت بناء الحرف خامر طبعه

فصرت لتأثير العوامل جازما (٢)

وقوله : [البسيط]

لك الثناء فإن يذكر سواك به

يوما فكالرابع المعهود في البدل (٣)

يعني الغلط ، وقوله : [الطويل]

إذ اليأس ناجى النفس منك بلن ولا

أجابت ظنوني ربما وعساني (٤)

وقوله : [الطويل]

وقلت عساه إن أقمت يرقّ لي

وقد نسخت «لا» عنده ما اقتضت«عسى»(٥)

وقوله : [السريع]

ينفي لي الحال ولكنه

يدخل لا في كلّ مستقبل

وقوله : [الطويل]

خفضت مقامي إذ جزمت وسائلي

فكيف جمعت الجزم عندي والخفضا

وقوله في غلام شاعر : [السريع]

كيف خلاص القلب من شاعر

رقّت معانيه عن النّقد

يصغر نثر الدّرّ عن نثره

ونظمه جلّ عن العقد

وشعره الطائل في حسنه

طال على النابغة الجعدي

__________________

(١) في ب ، ه : «ورد قبل هذا البيت قوله :

ليتني نلت منه وصلا وأجلى

ذلك الوصل عن صباح المنون

(٢) في أ : «نبات بناء الحرف» وما أثبتناه عن ب ، وهو أفضل.

(٣) أراد بدل الغلط ، أي أن اسم غيره يذكر في الثناء غلطا.

(٤) في الأصول «وعسائي» وفي أ«وعساي» وقبد أثبتنا ما في الديوان ص ٢١٤.

(٥) في ه : «قد نسخت لا عنده ما ادعت عسى». وأراد أن لا النافية قد نفت الرجاء الذي تدل عليه عسى.

٣٠٣

وحدّث أبو حيّان عن قاضي القضاة أبي بكر محمد بن أبي النصر (١) الفتح بن علي الأنصاري الإشبيلي بغرناطة أنّ إبراهيم بن سهل الشاعر الإشبيلي كان يهوديّا ثم أسلم ، ومدح رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، بقصيدة طويلة بارعة ؛ قال أبو حيان : وقفت عليها ، وهي من أبدع ما نظم في معناها ، وكان سنّ ابن سهل حين غرق نحو الأربعين سنة ، وذلك سنة تسع وأربعين وستمائة ، وقيل : إنه جاوز الأربعين ، وكان يقرأ مع المسلمين ويخالطهم ، وما أحسن قوله: [الطويل]

مضى الوصل إلّا منية تبعث الأسى

أداري بها همّي إذا الليل عسعسا (٢)

أتاني حديث الوصل زورا على النوى

أعد ذلك الزور اللذيذ المؤنسا

ويا أيها الشوق الذي جاء زائرا

أصبت الأماني خذ قلوبا وأنفسا

كساني موسى من سقام جفونه

رداء وسقّاني من الحبّ أكؤسا (٣)

ومن أشهر موشّحاته قوله :

ليل الهوى يقظان

والحبّ ترب السّهر (٤)

والصبر لي خوّان

والنوم عن عيني بري

وقد عارضه غير واحد فما شقّوا له غبارا.

وأما إبراهيم بن الفخار اليهودي (٥) فكان قد تمكّن عند الأذفونش ملك طليطلة النصراني ، وصيّره سفيرا بينه وبين ملوك المغرب ، وكان عارفا بالمنطق والشعر ؛ قال ابن سعيد : أنشدني لنفسه أديبا مسلما كان يعرفه قبل أن تعلو رتبته ويسفر بين الملوك ، ولم يزده على ما كان يعامله به من الإذلال ، فضاق ذرع ابن الفخار وكتب إليه : [الطويل]

أيا جاعلا أمرين شبهين ما له

من العقل إحساس به يتفقّد

جعلت الغنى والفقر والذلّ والعلا

سواء فما تنفكّ تشقى وتجهد

وهل يستوي في الأرض نجد وتلعة

فتطلب تسهيلا وسيرك مصعد (٦)

وما كنت ذا ميز لمن كنت طالبا

بما كنت في حال الفراغ تعوّد

__________________

(١) في ب ، ه : «أبي بكر بن أبي نصر ..».

(٢) عسعس الليل : أظلم.

(٣) التشديد في «سقّاني» يدل على التكثير.

(٤) الترب : المماثل في السن ، وجمعه أتراب ، للمذكر والمؤنث.

(٥) انظر المغرب ج ص ٢٣.

(٦) التلعة : هنا ما انخفض من الأرض.

٣٠٤

وقد حال ما بيني وبينك شاغل

فلا تطلبنّي بالذي كنت تعهد

فإن كنت تأبى غير إقدام جاهل

فإنك لا تنفكّ تلحى وتطرد (١)

ألا فأت في أبوابه كلّ مسلك

ولا تك محلا حيثما قمت تقعد (٢)

قال ابن سعيد : وأنشدني لنفسه : [الطويل]

ولمّا دجا ليل العذار بخدّه

تيقّنت أنّ الليل أخفى وأستر (٣)

وأصبح عذّالي يقولون صاحب

فأخلو به جهرا ولا أتستّر

وقال يمدح الأذفونش لعنهما الله تعالى : [المديد]

حضرة الأذفنش لا برحت

غادة أيامها عرس (٤)

فاخلع النّعلين تكرمة

في ثراها إنها قدس

قال : وأدخلوني إلى بستان الخليفة المستنصر ، فوجدته في غاية الحسن كأنه الجنّة ، ورأيت على بابه بوّابا في غاية القبح ، فلمّا سألني الوزير عن حال فرجتي قلت : رأيت الجنّة إلّا أني سمعت أنّ الجنّة يكون على بابها رضوان ، وهذه على بابها مالك ، فضحك وأخبر الخليفة بما جرى ، فقال له : قل له إنّا قصدنا ذلك ، فلو كان رضوان عليها بوّابا لخشينا أن يردّه عنها ، ويقول له : ليس هذا موضعك ، ولمّا كان هناك مالك أدخله فيها ، وهو لا يدري ما وراءه ، ويخيّل أنها جهنّم ، قال: فلمّا أعلمني الوزير بذلك قلت له : (اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ) [سورة الأنعام ، الآية : ١٢٤].

وكان في زمان إلياس بن المدور اليهودي (٥) الطبيب الرّندي طبيب آخر كان يجري بينهما من المحاسدة ما يجري بين مشتركين في صنعة ، فأصلح الناس بينهما مرارا ، وظهر لإلياس من ذلك الرجل الطبيب ما ينفّر الناس منه فكتب إليه : [الكامل]

لا تخدعنّ فما تكون مودّة

ما بين مشتركين أمرا واحدا

انظر إلى القمرين حين تشاركا

بسناهما كان التلاقي واحدا

يعني أنهما معا لما اشتركا في الضياء وجب التحاسد بينهما والتفرقة : هذا يطلع ليلا وهذه تطلع نهارا ، واعتراضهما يوجب الكسوف.

__________________

(١) تلحى : تلام.

(٢) في أ : «ولا تك فحلا».

(٣) دجا الليل : أظلم.

(٤) في ب : «غضة أيامها عرس».

(٥) انظر المغرب ج ١ ص ٣٣٦.

٣٠٥

وكتب أيوب بن سليمان المرواني (١) إلى بسام بن شمعون اليهودي الوشقي في يوم مطير : لمّا كنت ـ وصل الله تعالى إخاءك وحفظك! ـ مطمح نفسي ، ومنتزع اختياري (٢) من أبناء جنسي ، على جوانبك أميل (٣) ، وأرتع في رياض خلقك الجميل ، هزّتني خواطر الطرب والارتياح ، في هذا اليوم المطير ، الداعي بكاؤه إلى ابتسام الأقداح ، واستنطاق البمّ والزير (٤) ، فلم أر معينا على ذلك ، ومبلغا إلى ما هنالك ، إلّا حسن نظرك ، وتجشّمك من المكارم ما جرت به عادتك ، وهذا يوم حرم الطرف فيه الحركة ، وجعل في تركها الخير والبركة ، فهل توصل مكرمتك أخاك إلى التخلّي معك في زاوية؟. متّكئا على دنّ (٥) مستندا إلى خابية ، ونحن خلال ذلك نتجاذب أهداب الحديث التي لم يبق من اللذات إلّا هي (٦) ، ونجيل الألحاظ فيما تعوّدت عندك من المحاسن والأسماع في أصناف الملاهي ، وأنت على ذلك قدير ، وكرمك بتكلّفه جدير : [السريع]

ولا يعين المرء يوما على

راحته إلّا كريم الطباع

وها أنا والسمع مني إلى ال

باب وذو الشوق حليف استماع

فإن أتى داع بنيل المنى

ودّع أشجاني ونعم الوداع

وهذا المرواني من ذرّيّة عبد العزيز أخي عبد الملك بن مروان ، وهو من أهل المائة السادسة.

وكانت الأندلس شاعرة من اليهود يقال لها قسمونة بنت إسماعيل اليهودي ، وكان أبوها شاعرا ، واعتنى بتأديبها ، وربما صنع من الموشحة قسما فأتمتها هي بقسم آخر ، وقال لها أبوها يوما : أجيزي : [الكامل]

لي صاحب ذو بهجة قد قابلت

نعمى بظلم واستحلّت جرمها (٧)

__________________

(١) انظر المغرب ج ١ ص ٦٠.

(٢) في ب ، ه : «ومنزع اختياري».

(٣) أخذ هذه الفقرة من قول الشاعر :

نميل على جوانبه كأنا

إذا ملنا نميل على أبينا

(٤) البم والزير : من أسماء أوتار العود.

(٥) الدن : الوعاء الكبير للخمر وغيره.

(٦) في ب ، ه : «إلّا هو».

(٧) في أ : «منعا بظهر واستحلت جرمها». وقد أثبتنا ما في ب ، وهو أحسن.

٣٠٦

ففكرت غير كثير وقالت : [الكامل]

كالشمس منها البدر يقبس نوره

أبدا ويكسف بعد ذلك جرمها

فقام كالمختبل ، وضمّها إليه ، وجعل يقبّل رأسها ، ويقول : أنت والعشر كلمات أشعر مني.

ونظرت في المرآة فرأت جمالها وقد بلغت أوان التزوّج (١) ولم تتزوّج فقالت : [الطويل]

أرى روضة قد حان منها قطافها

ولست أرى جان يمدّ لها يدا

فوا أسفا يمضي الشباب مضيّعا

ويبقى الذي ما إن أسمّيه مفردا

فسمعها أبوها ، فنظر في تزويجها.

وقالت في ظبية عندها : [الكامل]

يا ظبية ترعى بروض دائما

إني حكيتك في التوحّش والحور

أمسى كلانا مفردا عن صاحب

فلنصطبر أبدا على حكم القدر

واستدعى أبو عبد الله محمد بن رشيق القلعي ثم الغرناطي (٢) بعض أصحابه إلى أنس ، بقوله : [مجزوء الرمل]

سيدي عندي أترج

ج ونارنج وراح

وجنى آس وزهر

وحمانا لا يباح

ليس إلّا مطرب يس

لي النّدامى ، والملاح

ومكان لانهتاك

قد نأى عنه الفلاح

لا يرى يطلع فيه

دون أكواس صباح

فيه فتيان لهم في

لذّة العيش جماح

طرحوا الدنيا يسارا

فاستراحت واستراحوا

لا كقوم أوجعتهم

لهم فيها نباح

وله : [المجتث]

قال العذول : إلى كم

تدعو لمن لا يجيب

فقلت : ليس عجيبا

أن لا يجيب حبيب

هوّن عليك فإني

من حبّه لا أتوب

__________________

(١) في ب ، ه : «أوان التزويج».

(٢) انظر ترجمته في المغرب ج ٢ ص ١٨٠.

٣٠٧

قال أبو عمران بن سعيد : دخلت عليه وهو مسجون بدار الأشراف بإشبيلية ، وقد بقي عليه من مال السلطان اثنا عشر ألف دينار قد أفسدها في لذّات نفسه ، فلمّا لمحني أقبل يضحك ويشتغل بالنادر والحكايات الظريفة (١) ، فقلت له : قالوا : إنك أفسدت للسلطان اثني عشر ألف دينار ، وما أحسبك إلّا زدت على هذا العدد لما أراك فيه من المسرّة والاستبشار ، فزاد ضحكا ، وقال : يا أبا عمران ، أتراني إذا لزمت الهمّ والفكر يرجع عليّ ذلك العدد الذي أفسدت؟ ثم فكر ساعة وأنشدني : [الخفيف]

ليس عندي من الهموم حديث

كلما ساءني الزمان سررت

أتراني أكون للدهر عونا

فإذا مسّني بضرّ ضجرت (٢)

غمرة ثم تنجلي فكأني

عند إقلاع همّها ما ضررت

وقال النحوي اللغوي أبو عيسى لب بن عبد الوارث القلعي (٣) : [الطويل]

بدا ألف التعريف في طرس خدّه

فيا هل تراه بعد ذاك ينكّر (٤)

وقد كان كافورا فهل أنا تارك

له عند ما حيّاه مسك وعنبر

وما خير روض لا يرفّ نباته

وهل أفتن الأثواب إلّا المشهّر (٥)

وقال : [الوافر]

أبى لي أن أقول الشعر أني

أحاول أن يفوق السحر شعري

وأن يصغي إليه كلّ سمع

ويعلق ذكره في كلّ صدر

قال الحجاري : أخبرني أنه أحبّ أحد أولاد الأعيان ممّن كان يقرأ عليه ، فلمّا خلا به شكا إليه ما يجده ، فقال له : الصبيان يفطنون بنا ، فإذا أردت أن تقول شيئا فاكتبه لي في ورقة ، قال : فلمّا سمعت ذلك منه تمكّن الطمع منّي فيه ، وكتبت له : [الكامل]

__________________

(١) في ب : «الطريفة».

(٢) ضجرت : يئست.

(٣) هو لب بن عبد الوارث أبو عيسى اليحصبي النحوي ، من أهل المائة السابعة. نظر في الفقه ثم مال إلى العربية فبلغ منها إلى غاية.

بغية الوعاة ج ٢ ص ٢٦٩.

(٤) الطرس : الصحيفة ، وفيها استعارة.

(٥) أفتن : اسم تفضيل من الفتنة.

٣٠٨

يا من له حسن يفوق به الورى

صل هائما قد ظلّ فيك محيّرا

وامنن عليّ بقبلة أو غيرها

إن كنت تطمع في الهوى أن تؤجرا (١)

وكتبت بعدها (٢) من الكلام ما رأيته ، فلمّا حصلت الورقة عنده كتب إليّ في غيرها : أنا من بيت عادة أهله أن يكونوا اسم فاعل لا اسم مفعول ، وإنما أردت أن يحصل عندي خطك شاهدا على ما قابلتني به لئلّا أشكوك إلى أبي فيقول لي : حاش لله أن يقع الفقيه في هذا ، وإنما أنت خبيث ، رأيته يطالبك بالتزام الحفظ فاختلقت عليك لأخرجك من عنده ، فأبقى معذّبا معك ومعه ، وإن أنا أوقفته على خطّك صدّقني واسترحت ، ولكن لا أفعل هذا إن كففت عني (٣) ، وإن انتهيت فلا أخبر به أحدا ، قال ابن عبد الوارث : فلمّا وقفت على خطّه علمت قدر ما وقعت فيه ، وجعلت أرغب إليه في أن يردّ الرقعة إليّ ، فأبى وقال : هي عندي رهن على وفائك بأن لا ترجع تتكلّم في ذلك الشأن ، قال : فكان والله يبطل القراءة فلا أجسر (٤) أكلّمه : لأني رأيت صيانتي وناموسي قد حصل في يده ، وتبت من ذلك الحين عن هذا وأمثاله.

وقال جابر بن خلف الفحصي ـ وكان في خدمة عبد الملك بن سعيد ، وقرأ مع أبي جعفر بن سعيد وتهذّب معه ـ يخاطبه حين عاثت الذئاب في غنمه : [المتقارب]

أيا قائدا قد سما في العلا

وساد علينا بذات وجد

غدا الذئب في غنمي عائثا

وقد جئت مستعديا بالأسد (٥)

وكثر عليه الدين ، فكتب إليه أيضا : [مجزوء الوافر]

أفي أيامك الغرّ

أموت كذا من الضّرّ

وأخبط في دجى همّي

ووجهك طلعة الفجر

فضحك وأدّى دينه.

ولمّا خلع أهل المرية طاعة عبد المؤمن ، وقتلوا نائبه ابن مخلوف ، قدّموا عليهم أبا

__________________

(١) في ب ، ه : «وامنن عليه بقبلة».

(٢) في ج : «وكتب بعدها».

(٣) في ب ، ه : «إلا إذا لم تنته عني».

(٤) في ب ، ه : «ولا أجسر» ، أي لا أقوى.

(٥) عاث الذئب في الغنم : أفسد فيها بالافتراس والتقتيل. ومستعديا بالأسد : مستنجدا به ليكون حليفي على العدو.

٣٠٩

يحيى بن الرميمي (١) ، ثم كان عليه من النصارى ما علم ، ففرّ إلى مدينة فاس ، وبقي بها ضائعا خاملا ، يسكن في غرفة ، ويعيش من النسخ ، فقال : [السريع]

أمسيت بعد الملك في غرفة

ضيّقة الساحة والمدخل (٢)

تستوحش الأرزاق من وجهها

فما تزال الدّهر في معزل

النسخ بالقوت لديها ولا

تقرعها كفّ أخ مفضل

وأنشدها لبعض الأدباء ، فبينما هو ليلة ينسخ بضوء السراج وإذا بالباب (٣) يقرع ، ففتحه ، فإذا شخص متنكّر لا يعرفه ، وقد مدّ يده إليه بصرّة فيها جملة دنانير ، وقال : خذها من كف أخ لا يعرفك ولا تعرفه ، وأنت المفضل بقبولها ، فأخذها ، وحسن بها حاله.

وقال له بعض : هذا شعرك أيام خلعك ، فهل قلت أيام أمرك؟ قال : نعم ، لمّا قتل أهل المرية ابن مخلوف عامل عبد المؤمن وأكرهوني أن أتولّى أمرهم قلت : [الوافر]

أرى فتنا تكشّف عن لظاها

رماد بالنّفاق له انصداع (٤)

وآل بها النظام إلى انتثار

وساد بها الأسافل والرعاع (٥)

سأحمل كل ما جشّمت منها

بصدر فيه للهول اتّساع

وأصل بني الرميمي من بني أمية ملوك الأندلس ، ونسبوا إلى رميمة قرية من أعمال قرطبة.

وقال أبو بحر يوسف بن عبد الصمد (٦) : [الكامل]

فوصلت أقطارا لغير أحبّة

ومدحت أقواما بغير صلات

أموال أشعاري نمت فتكاثرت

فجعلت مدحي للبخيل زكاتي

وهذا من غريب المعاني.

__________________

(١) انظر ترجمته في المغرب ج ٢ ص ١٩٢.

(٢) في ج : «ضيقة الساحل والمدخل» وفي نسخة أخرى «ضيقة الساحات والمدخل».

(٣) في ب : «إذا بالباب». بإسقاط الواو.

(٤) انصداع : من الفعل انصدع ، أي انشقّ.

(٥) الرعاع : العوام من الناس.

(٦) انظر ترجمته في الذخيرة ج ٣ ص ٢٥١ والمغرب ج ٢ ص ٢٠٣.

٣١٠

وفي بني عبد الصمد يقول بعض أهل عصرهم ، لمّا رأى من كثرة عددهم ، والتئامهم (١) بالسلطان : [الرمل]

ملأت قلبي هموما مثل ما

ملأ الدنيا بنو عبد الصّمد

كاثر الشيخ أبوهم آدما

فغدا أكثر نسلا وولد

كلّهم ذئب إذا آمنته

والرعايا بينهم مثل النّقد (٢)

وكان الوزير الكاتب أبو جعفر أحمد بن عباس وزير زهير الصقلي (٣) ملك ألمرية بذّ الناس في وقته بأربعة أشياء : المال ، والبخل ، والعجب ، والكتابة ؛ قال أبو حيان : وكان قبل محنته صيّر هجّيراه (٤) أوقات لعب الشطرنج أو ما يسنح له هذا البيت : [المتقارب]

عيون الحوادث عنّي نيام

وهضمي على الدهر شيء حرام

وذاع هذا البيت في الناس حتى قلب له مصراعه الأخير بعض الأدباء فقال :

سيوقظها قدر لا ينام

وكان حسن الكتابة ، جميل الخطّ ، مليح الخطاب ، غزير الأدب ، قوي المعرفة ، مشاركا في الفقه ، حاضر الجواب ، جمّاعا للدفاتر ، حتى بلغت أربعمائة ألف مجلّد ، وأمّا الدفاتر المخرومة فلم يوقف على عددها لكثرتها ، وبلغ ماله خمسمائة ألف مثقال جعفرية سوى غير ذلك ، وكان مقتله بيد باديس بن حبّوس (٥) ملك غرناطة ، وكفى دليلا على إعجابه قوله : [الخفيف]

لي نفس لا ترتضي الدّهر عمرا

وجميع الأنام طرا عبيدا

لو ترقّت فوق السّماك محلّا

لم تزل تبتغي هناك صعودا

أنا من تعلمون شيّدت مجدي

في مكاني ما بين قومي وليدا

وكان يتهّم بداء أبي جهل (٦) فيما ينقل ، حتى كتب بعض الأدباء على برجه بالمرية : [السريع]

__________________

(١) في ب ، ه : «والتباسهم بالسلطان».

(٢) النقد ـ بفتح النون والقاف ـ نوع من الغنم قبيح الشكل صغير الأرجل.

(٣) في ب ، ه : «الصقلبي».

(٤) هجيراه : دأبه وعادته وديدنه.

(٥) انظر تفصيل خبر مقتله في الذخيرة ١ / ٢ : ١٦٦.

(٦) داء أبي جهل : الابنة.

٣١١

خلوت بالبرج فما الذي

تصنع فيه يا سخيف الزمان

فلما نظر إليه أمر أن يكتب :

أصنع فيه كلّ ما أشتهي

وحاسدي خارجه في هوان

وكان الأعمى التطيلي شاعرا مشهورا ، وكان الصبيان يقولون له «تحتاج كحلا يا أستاذ» فكان ذلك سبب انتقاله من مرسية ، وقيل له : يا أبا بكر ، كم تقع في الناس؟ فقال : أنا أعمى ، وهم لا يبرحون حفرا فما عذري في وقوعي (١) فيهم؟ فقال له السائل : والله لا كنت قطّ حفرة لك ، وجعل يواليه برّه ورفده.

ومن شعره : [المتقارب]

وجوه تعزّ على معشر

ولكن تهون على الشاعر

قرونهم مثل ليل المحبّ

وليل المحبّ بلا آخر (٢)

وله : [مخلع البسيط]

زنجيّكم بالفسوق داري

يدلي من الحرص كالحمار

يخلو بنجل الوزير سرا

فيولج الليل في النهار (٣)

ومن شعر أبي جعفر أحمد بن الخيال الإستبي (٤) كاتب ابن الأحمر فيمن اسمه «فضل الله»:[الطويل]

من الناس من يؤتى بنقد ، ومنهم

بكره ، ومنهم من يناك إذا انتشى

ومنهم فتى يؤتى على كل حالة

وذلك فضل الله يؤتيه من يشا

ولعبد الملك بن سعيد الخازن (٥) : [الخفيف]

ما حمدناك إذ وقفنا ببابك

للذي كان من طويل حجابك

قد ذممنا الزمان فيك فقلنا

أبعد الله كلّ دهر أتى بك

__________________

(١) كذا ، ولعله «فها عذري في وقوعي فيهم» أو «فما ذنبي في وقوعي فيهم».

(٢) يريد أن قرونهم طويلة ، كناية عن أنهم لا يحمون نساءهم وأعراضهم ، ولا يأبهون لما أصابها من تلويث.

(٣) كنى بالليل عن الزنجي وبالنهار عن نجل الوزير.

(٤) انظر القدح ص ٦٦.

(٥) انظر ترجمته في الجذوة ص ٢٦٧. والمغرب ج ١ ص ٢٢٨.

٣١٢

وقال في «المسهب» : كنت بمجلس القاضي ابن حمدين ، وقد أنشده شعراء قرطبة وغيرها ، وفي الجملة هلال شاعر غرناطة ، ومحمد بن الإستجي شاعر إستجة الملقب بزحكون ، فقام الإستجي وأنشده (١) قصيدة ، منها : [الطويل]

إليك ابن حمدين انتخلت قصائدا

بها رقصت في القضب ورق الحمائم (٢)

أنا العبد لكن بالمودّة أشترى

إذا كان غيري يشترى بالدراهم

فشكره ابن حمدين ، ونبّه على مكان الإحسان ، فحسده هلال البياني على ذلك ، فلمّا فرغ من القصيدة قال له هلال : أعد عليّ البيت الذي فيه «رقص الحمام» فأعاده ، فقال له : لو أزلت النقطة عن الخاء كنت تصدق (٣) ، فقال له في الحين : ولو أزلت النقطة عن العين كنت تحسن.

وكانت على عين هلال نقطة فكان ذلك من الاتفاق العجيب والجواب الغريب ، وعمل فيه.

ولما قال المقدم بن المعافى (٤) في رثاء سعيد بن جودي : [السريع]

من ذا الذي يطعم أو يكسو

وقد حوى حلف الندى رمس (٥)

لا اخضرّت الأرض ولا أورق ال

عود ولا أشرقت الشمس

بعد ابن جوديّ الذي لن ترى

أكرم منه الجنّ والإنس

فقيل له : أترثيه وقد ضربك؟ فقال : إنه نفعني (٦) حتى بذنوبه ، ولقد نهاني ذلك الأدب عن مضار جمّة كنت أقع فيها على رأسي ، أفلا أرعى له ذلك؟ والله ما ضربني إلّا وأنا ظالم له ، أفأبقى على ظلمي له بعد موته؟

وقيل له : لم لا تهجو مؤمن بن سعيد؟ فقال : لا أهجو من لو هجا النجوم ما اهتدى أحد بها.

وقال أبو مروان عبد الملك بن نظيف (٧) : [المجتث]

لا أشرب الراح إلّا

مع كلّ خرق كريم (٨)

__________________

(١) في ب ، ه : «وأنشد».

(٢) انتخل : اصطفى ، وجوّد وانتخب.

(٣) أراد : «انتحلت» أي سرقت.

(٤) انظر ترجمته في الجذوة ص ٣٣٣.

(٥) الندى : الكرم ، والرمس : القبر.

(٦) في ب : «فقال : والله إنه نفعني».

(٧) انظر ترجمته في الجذوة ص ٢٦٨.

(٨) الخرق : الفتى الكريم الظريف.

٣١٣

ولست أعشق إلّا

ساجي الجفون رخيم

ومدح هلال البياني ابن حمدين بقصيدة أولها : [الكامل]

عرّج على ذاك الجناب العالي

واحكم على الأموال بالآمال

فيه ابن حمدين الذي لنواله

من كلّ أرض شدّ كلّ رحال

فقال له القاضي : ما هذا الوثوب على المدح من أوّل وهلة ، ألا تدري أنهم عابوا ذلك ، كما عابوا الطول أيضا؟ وأن الأولى التوسّط؟ فقال له : يا سيدي (١) ، اعذرني بما لك في قلبي من الإجلال والمحبّة ، فإني كلّما ابتدأت في مدحك لم يتركني غرامي في اسمك إلى أن أتركه عند أول بيت ، فاستحسن ذلك منه ، وأحسن إليه.

ومن هذه القصيدة :

قاض موال برّه ونواله

فله جميع العالمين موالي (٢)

وكان يهوى وسيما من متأدّبي قرطبة ، فصنع فيه شعرا أنشده منه : [البسيط]

وكّلت عيني برعي النجم في الظّلم

وعبرتي قد غدت ممزوجة بدم (٣)

فقال له الغلام : أنت لا تبرح بكوكب من عينك ليلا ولا نهارا ، وعاشقا وغير عاشق ، فخجل هلال ، وكان على عينه نقطة.

وحكى ابن حيان (٤) أنّ الأمير عبد الرحمن عثرت به دابته وهو سائر في بعض أسفاره ، وتطأطأت ، فكاد يكبو لفيه ، ولحقه جزع ، وتمثّل أثره (٥) بقول الشاعر : [الطويل]

وما لا ترى ممّا يقي الله أكثر

وطلب صدر البيت فعزب عنه ، وأمر بالسؤال عنه فلم يوجد من يحفظه إلّا الكاتب محمد بن سعيد الزجالي ، وكان يلقّب بالأصمعي لذكائه وحفظه ، فأنشد الأمير :

ترى الشيء ممّا يتّقى فتهابه (٦)

فأعجب الأمير ، واستحسن شكله ، فقال له : الزم السرداق. وأعقب ابنا يسمى حامدا.

وحضر مع الوزير عبد الواحد بن يزيد الإسكندراني في مجلس فيه رؤساء ، فعرض عليهم

__________________

(١) في ب ، ه : «فقال : يا سيدي».

(٢) موال بره : متابعه. وموالي : عبيد.

(٣) العبرة : الدمعة.

(٤) انظر المغرب ج ١ ص ٣٣٠.

(٥) في ب : «إثره».

(٦) في ج «نرى الشمس مما يتقى فتهابه».

٣١٤

فرس مطهّم (١) ، فتمثّل فيه عبد الواحد بقول امرئ القيس : [الطويل]

بريد السّرى بالليل من خيل بربرا

ففهم الزجالي بأنه عرض بأنه من البربر ، فلم يحتمل ذلك وأراد الجواب ، فقال مدبّجا لما أراده ومعرّضا : أحسن عندي من ليل يسري بي فيه على مثل هذا يوم على الحال التي قال فيها القائل : [الطويل]

ويوم كظلّ الرمح قصّر طوله

دم الزّقّ عنّا واصطفاق المزاهر (٢)

وإنّما عرّض للإسكندراني بأنه كان يشهد مجالس الراحات في أول أمره ومعرفة الغناء ، فقلق الوزير ، وشكاه إلى الحاجب عيسى بن شهيد ، فاجتمع مع الزجالي وأخذ معه في ذلك ، فحكى له الزجالي ما جرى من الأول إلى الآخر ، وأنشد : [الطويل]

وما الحرّ إلّا من يدين بمثل ما

يدان ومن يخفي القبيح وينصف

هم شرعوا التعريض قذفا فعندما

تبعناهم لاموا عليه وعنّفوا

ومن نوادر ابنه حامد أنه غلط أمامه في قوله تعالى (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي) [سورة النور ، الآية : ٢] بأن قال «فانكحوهما» فأنشده حامد : [مجزوء الرمل]

أبدع القارئ معنى

لم يكن في الثّقلين (٣)

أمر الناس جميعا

بنكاح الزانيين

وقال لبعض أصحابه حينئذ : أما سمعت ما أتى به إمامنا من تبديل الحدود؟ وتضاحكا.

وكتب الوزير أبو عبد الله بن عبد العزيز (٤) إلى المنصور صاحب بلنسية ، ويعرف بالمنصور الصغير ، قطعة أولها : [البسيط]

يا أحسن الناس آدابا وأخلاقا

وأكرم الناس أغصانا وأوراقا

ويا حيا الأرض لم نكّبت عن سنني

وسقت نحوي إرعادا وإبراقا (٥)

__________________

(١) الفرس المطهّم : المتناهي الحسن ، والكريم الحسب.

(٢) دم الزق : أراد الخمر.

(٣) الثقلان : الإنس والجن.

(٤) انظر المطمح ص ١١.

(٥) نكب عن سننه : حاد عن طريقه.

٣١٥

ويا سنى الشمس لم أظلمت في بصري

وقد وسعت بلاد الله إشراقا (١)

من أيّ باب سعت غير الزمان إلى

رحيب صدرك حتى قيل قد ضاقا (٢)

قد كنت أحسبني من حسن رأيك لي

أني أخذت على الأيام ميثاقا (٣)

فالآن لم يبق لي بعد انحرافك ما

آسى عليه وأبدي منه إشفاقا

فأجابه بهذه القطعة : [البسيط]

ما زلت أوليك إخلاصا وإشفاقا

وأنثني عنك مهما غبت مشتاقا

وكان من أملي أن أقتنيك أخا

فأخفق الأمل المأمول إخفاقا

فقلت غرس من الإخوان أكلؤه

حتى أرى منه أثمارا وأوراقا (٤)

فكان لمّا زها أزهاره ودنا

إثمارها حنظلا مرا لمن ذاقا (٥)

فلست أوّل إخوان سقيتهم

صفوي وأعلقتهم بالقلب إعلاقا

فما جزوني بإحساني ولا عرفوا

قدري ولا حفظوا عهدا وميثاقا

والوزير المذكور قال في حقه في المطمح : إنه وزير المنصور بن عبد العزيز ، وربّ السبق في ودّه والتبريز ، ومنقض الأمور ومبرمها ، ومحمد (٦) الفتن ومضرمها ، اعتقل بالدّهي ، واستقلّ بالأمر والنهي ، على انتهاض بين الأكفاء ، واعتراض المحو لرسومه والإعفاء ، فاستمرّ غير مراقب ، وأمر ما شاء غير ممتثل للعواقب ، ينتضي عزائم تنتضى ، فإن ألمت من الأيام مظلمة أضا ، إلى أن أودى ، وغار منه الكوكب الأهدى ، فانتقل الأمر إلى ابنه أبي بكر ، فناهيك من أي عرف ونكر ، فقد أربى (٧) على الدّهاة ، وما صبا إلى الظبية والمهاة (٨) ، واستقلّ بالهول يقتحمه ، والأمر يسديه ويلحمه ، فأيّ ندى أفاض ، وأيّ أجنحة بمدى هاض (٩) ، فانقلاب (١٠)

__________________

(١) سنا الشمس : ضوؤها.

(٢) غير الزمان : مصائبه.

(٣) في ب ، ه : «قد كنت أحسبني في حسن رأيك لي».

(٤) في أ : «عرش» وقد أثبتنا ما في ب ، وهو أفضل. في ب «وإيراقا».

(٥) في ب : «فكان لما زهت أزهاره ودنت».

(٦) في ب : «ومخمد الفتن».

(٧) أربى على الدهاة : زاد عليهم ، وفاقهم.

(٨) في ب ، ه : «وما صبا إلى الظبية ولا إلى المهاة».

(٩) هاض جناحه : كسره.

(١٠) في ب : «فانقادت إليه الآمال».

٣١٦

إليه الآمال بغير خطام ، ووردت من نداه ببحر طام ، ولم يزل بالدولة قائما ، وموقظا من بهجتها ما كان نائما ، إلى أن صار الأمر إلى المأمون بن ذي النون أسد الحروب ، ومسدّ الثغور والدروب ، فاعتمد عليه واتّكل ، ووكل الأمر إلى غير وكل ، فما تعدّى الوزارة إلى الرياسة ، ولا تردّى بغير التدبير والسياسة ، فتركه مستبدا ، ولم يجد من ذلك بدا.

وكان أبو بكر هذا ذا رفعة غير متضائلة ، وآراء لم تكن آفلة ، أدرك بها ما أحبّ ، وقطع غارب كل منافس وجبّ (١) ، إلى أن طلّحه العمر وأنضاه (٢) ، وأغمده الذي انتضاه ، فخلّى الأمر إلى ابنيه ، فتلبّدا في التدبير ، ولم يفرقا بين القبيل والدّبير ، فغلب عليهما القادر بن ذي النون ، وجلب إليهما كل خطب ما خلا المنون ، فانجلوا ، بعد ما ألقوا ما عندهم وتخلّوا ، وكان لأبي عبد الله نظم مستبدع ، يوضع بين الجوانح ويودع ، انتهى المقصود من الترجمة.

وكان للوزير أبي الفرج ابن مكبود (٣) قد أعياه علاجه ، وتهيّأ للفساد مزاجه ، فدلّ على خمر قديمة ، فلم يعلم بها إلّا عند حكم ، وكان وسيما ، وللحسن قسيما ، فكتب إليه : [المجتث]

أرسل بها مثل ودّك

أرقّ من ماء خدّك

شقيقة النّفس فانضح

بها جوى ابني وعبدك

وكتب رحمه الله تعالى معتذرا (٤) ، عما جناه منذرا : [الخفيف]

ما تغيّبت عنك إلّا لعذر

ودليلي في ذاك حرصي عليكا

هبك أنّ الفرار من عظم ذنب

أتراه يكون إلّا إليكا (٥)

وقال في المطمح في حقّ أبي الفرج : من ثنيّة (٦) رياسة ، وعترة نفاسة ، ما منهم إلّا من تحلّى بالإمارة ، وتردّى بالوزارة ، وأضاء (٧) في آفاق الدول ، ونهض بين الخيل والخول ، وهو

__________________

(١) جبّ : قطع.

(٢) طلّحه العمر : أتعبه. وأنضاه : أضعفه وأهزله وأتعبه.

(٣) مكبود : مصاب بمرض في كبده.

(٤) في ه : «معذرا».

(٥) في ج : «هبك أن الفرار من غريب ذنب».

(٦) في ه : «من نبتة» وفي المطمح «بيتة».

(٧) في ه : «وأومض».

٣١٧

أحد أمجادهم ، ومتقلّد نجادهم ، فاقهم (١) أدبا ونبلا ، وباراهم كرما تخاله وبلا (٢) ، إلّا أنه بقي وذهبوا ، ولقي من الأيام ما رهبوا ، فعاين تنكرها ، وشرب عكرها ، وجال في الآفاق ، واستدرّ أخلاف الأرزاق ، وأجال للرّجاء (٣) قداحا متواليات الإخفاق ، فأخمل قدره ، وتوالى عليه جور الزمان وغدره ، فاندفنت (٤) آثاره ، وعفت أخباره ، وقد أثبتّ له بعض ما قاله وحاله قد أدبرت ، والخطوب إليه قد انبرت ، أخبرني الوزير الحكيم أبو محمد المصري وهو الذي آواه ، وعنده استقرّت نواه ، وعليه كان قادما ، وله كان منادما ، أنه رغب إليه في أحد الأيام أن يكون من جملة ندمائه ، وأن لا يحجب عنه وتكون منّة من أعظم نعمائه ، فأجابه بالإسعاف ، واستساغ منه ما كان يعاف ، لعلمه بعلته (٥) ، وإفراط خلّته ، فلما كان ظهر ذلك اليوم كتب (٦) إليه : [الكامل]

أنا قد أهبت بكم وكلّكم هوى

وأحقّكم بالشكر منّي السابق

فالشمس أنت وقد أظلّ طلوعها

فاطلع وبين يديك فجر صادق

وقال الوزير أبو عامر بن مسلمة : [الكامل]

حجّ الحجيج مني ففازوا بالمنى

وتفرّقت عن خيفه الأشهاد

ولنا بوجهك حجّة مبرورة

في كلّ يوم تنقضي وتعاد

وقال الفتح في حقّه ما صورته : نبتة (٧) شرف باذخ ، ومفخر على ذوائب الجوزاء شامخ ، وزروا للخلفاء ، فانتجعتهم الأدباء واتّبعتهم العظماء ، وانتسبت لهم النعماء ، وتنفست عن نور بهجتهم الظّلماء ، وأبو عامر هذا هو جوهرهم المنتخل ، وجوادهم الذي لا يبخل (٨) ، وزعيمهم المعظّم ، وسلك مفخرهم المنظّم ، وكان فتى المدام ، ومستفتي النّدام ، وأكثر من النعت للراح والوصف ، وآثر (٩) الأفراح والقصف ، وأرى قينات السرور مجلوّة ، وآيات الحسن متلوّة ، وله كتاب سماه «حديقة الارتياح ، في وصف حقيقة الراح» ، واختصّ بالمعتضد اختصاصا جرّعه رداه ، وصرعه في مداه (١٠) ، فقد كان في المعتضد من عدم تحفّظه للأرواح ، وتهاونه باللّوّام في ذلك واللّواح (١١) ، فاطمأن إليه أبو عامر واغترّ ، وأنس إلى ما بسم له من مؤانسته وافترّ ، حتى أمكنته في اغتياله فرصة ، لم يعلق بها حصّة ، ولم يضيق (١٢) عليه إلّا أنه زلّت به قدمه فسقط

__________________

(١) في ب ، ه : «فاتهم أدبا».

(٢) الوبل : المطر الشديد.

(٣) في ج : «وآجال الرجاء».

(٤) في ب : «فاندفعت آثاره».

(٥) في ه : «لعلمه بغلته» وفي : «لعلمه بقلته».

(٦) في ه : «خطب إليه».

(٧) في ج ، وفي المطمح «بيت شرف باذج».

(٨) في ه : «وجوادهم الذي لم يبخل».

(٩) آثر : فضّل.

(١٠) في ه : «وصرعه في مبتداه».

(١١) اللوام : جمع لائم. واللواح : جمع لاح وهو اللائم.

(١٢) في ب ، ه : «ولم يطلق عليه».

٣١٨

في البحيرة وانكفا ، ولم يعلم به إلّا بعدما طفا ، فأخرج وقد قضى ، وأدرج منه في الكفن حسام المجد منتضى ، فمن محاسنه قوله يصف السوسن ، وهو ممّا أبدع فيه وأحسن : [البسيط]

وسوسن راق مرآه ومخبره

وجلّ في أعين النظار منظره

كأنه أكؤس البلّور قد صنعت

مسندسات تعالى الله مظهره

وبينها ألسن قد طوّقت ذهبا

من بينها قائم بالملك يؤثره

إلى أن قال : واجتمع بجنّة خارج إشبيلية مع أخدان (١) له علية ، فبينما هم يديرون الراح ، ويشربون من كأسها الأفراح ، والجوّ صاح ، إذ بالأفق قد غيّم ، وأرسل الدّيم ، بعدما كسا الجوّ بمطارف الرذاذ (٢) ، وأشعر الغصون زهر قباذ ، والشمس منتقبة بالسحاب ، والرعد يبكيها بالانتحاب ، فقال : [مجزوء الكامل]

يوم كأنّ سحابه

لبست عمامات الصوامت

حجبت به شمس الضّحى

بمثال أجنحة الفواخت (٣)

والغيث يبكي فقدها

والبرق يضحك مثل شامت

والرعد يخطب مفصحا

والجوّ كالمحزون ساكت

وخرج إلى تلك الخميلة والربيع قد نشر رداءه ، ونثر على معاطف الغصون أنداءه (٤) ، فأقام بها وقال : [الكامل]

وخميلة رقم الزمان أديمها

بمفضّض ومقسّم ومشوب

رشفت قبيل الصبح ريق غمامة

رشف المحبّ مراشف المحبوب

وطردت في أكنافها ملك الصّبا

وقعدت واستوزرت كلّ أديب

وأدرت فيها اللهو حقّ مداره

مع كلّ وضّاح الجبين حسيب (٥)

وقال الوزير الكاتب أبو حفص أحمد بن برد : [الكامل]

قلبي وقلبك لا محالة واحد

شهدت بذلك بيننا الألحاظ

__________________

(١) في ب ، ه : «مع إخوان له». والأخدان : جمع خدن ، وهو الصديق.

(٢) في ب : «بمطارف اللاذ» وفي ه : «بمطارف لاذ».

(٣) الفواخت : جمع فاختة ، وفي نوع من الحمام البري من ذوات الأطواق.

(٤) في ب ، ه : «قد نشر رداه ونثر على الغصون نداه».

(٥) في ج : «والمطمح «مهوب».

٣١٩

فتعال فلنغظ الحسود بوصلنا

إنّ الحسود بمثل ذاك يغاظ

وقال : [الكامل]

يا من حرمت لذاذتي بمسيره

هذي النوى قد صعّرت لي خدّها (١)

زوّد جفوني من جمالك نظرة

والله يعلم إن رأيتك بعدها

وقال في المطمح في ابن برد المذكور : إنه غذي بالأدب ، وعلا إلى أسمى الرتب ، وما من أهل بيته إلّا شاعر كاتب ، ملازم لباب السلطان مراقب (٢) ، ولم يزل في الدولة العامرية بسبق يذكر ، وحقّ لا ينكر ، وهو بديع الإحسان ، بليغ القلم واللسان ، مليح الكتابة ، فصيح الخطابة ، وله «رسالة السيف والقلم» ، وهو أوّل من قال بالفرق بينهما ، وشعره مثقف المباني ، مرهف كالحسام اليماني ، وقد أثبتّ منه ما يلهيك سماعا ، ويريك الإحسان لماعا ، فمن ذلك قوله يصف البهار : [الطويل]

تأمّل فقد شقّ البهار كمائما

وأبرز عن نوّاره الخضل الندي (٣)

مداهن تبر في أنامل فضّة

على أذرع مخروطة من زبرجد (٤)

وله يصف معشوقا ، أهيف القدّ ممشوقا ، أبدى صفحة ورد ، وبدا في ثوب لازورد : [مجزوء الكامل]

لمّا بدا في لازور

ديّ الحرير وقد بهر

كبّرت من فرط الجما

ل وقلت : ما هذا بشر

فأجابني : لا تنكرن

ثوب السماء على القمر

وقال الوزير الكاتب أبو جعفر بن اللمائي (٥) : [المتقارب]

ألمّا فديتكما نستلم

منازل سلمى على ذي سلم

منازل كنت بها نازلا

زمان الصّبا بين جيد وفم

أما تجدنّ الثرى عاطرا

إذا ما الرياح تنفسن ثم

__________________

(١) صعّر خدّه : أماله عجبا وكبرا.

(٢) في ب : «راتب» ، وفي ه : «مراتب».

(٣) الكمائم : أوعية الطلع.

(٤) التبر : الذهب. والزبرجد : حجر كريم يشبه الزمرد.

(٥) انظر المطمح : ٢٥ ـ ٢٦.

٣٢٠